وبعض الناس أنكر الدوائر أصلًا ورأسًا، وجعل كل شعر قائمًا بنفسه، وأنكر أن تكون العرب قصدت شيئًا من ذلك، وقال إنا سمعناهم نطقوا بالمديد مسدسًا، وبالبسيط (فعلن) في العروض مثلًا، وبالوافر () فعولن (فيها، وبالهزج والمقتضب والمجتث مربعات، ومن أين لنا أن ندرك أن أصل عروض الطويل كان مفاعيلن بالياء؟ وأن المديد كان من ثمانية أجزاء؟ وأن فعلن في البسيط كان أصله فاعلن بالألف؟ وأن عروض الوافر كانت في الأصل مفاعلتين ثم صارت على فعولن؟ إلى غير ذلك.
والأكثرون على خلاف هذا لأن حصر جميع الشعر في الدوائر المذكورة واطراد جريه فيها دل على ما اختص الله به العرب دون من عداهم، فكان ذلك سرًا مكتما في طباعهم أطلع الله عليه الخليل واختصه بإلهام ذلك، وإن لم يشعروا هم به ولا نووه، كما لم يشعروا بقواعد النحو وأصول التصريف، و'نما ذلك مما فطرهم الله عليه. فالتثمين في المديد والتسديس في الهزج والمضارع وغيره من المجوزات أصل رفضه العرب كما رفضوا أصولًا كثيرةً من كلامهم على ما تقرر في علم النحو. وإذا تطرق الشك في ذلك إلى الشعر تطرق إلى الكلام حينئذ، فيتعذر باب كبير من أصول العربية، ولا خفاء بفساده، هكذا قرره بعض الفضلاء.
وقوله (أولات عد جزء لجزء ثنا ثنا) الظاهر فيه أن (أولات) منصوب على الحال، أي زن الدوائر الخمس المرموز لها بأحرف (خف لشق) حالة كونها أولات عد، أي مشتملة على أبحر معدودة مؤلفة من جزء مضموم لجزء آخر متكررين في كل بحر، وهو المراد بقوله ثنا ثنا، أي اثنين اثنين. يعني أن الأجزاء تتكرر في كل بحر من بحور الدوائر لأن كل بيت مصراعان يحتوي كل واحد منهما من الأجزاء في الأصل على مثل ما يحتوي عليه الآخر. عد مخفف من وعد المشدد، وحمله الشريف على أنه عامل الوصل معاملة الوقف، فخفف المضاعف كما يخفف في الوقف.
قال: ومثله ما أنشده أبو علي في التذكرة:
حتى إذا ما لم أجد غيرَ الشَّرِ
قال: فخفف وأطلق، ولم يكن ينبغي له إذ خفف أن يطلق، لأن التخفيف إنما هو لأجل الوقف. ونظيره قول الشاعر:
ببازلٍ وجناءَ أو عهيلِّ
فأجرى الوصل مجرى الوقف، إذ كان التشديد أيضًا جائرًا في الوقف.
قال: (وإنما ساغ عندي حمل كلام الناظم على هذا القدر من الشذوذ الذي لا يحتمل إلا في الضرائر، ويجب على المولد أن يجتنبه- مع أن البيتين اللذين أنشدهما الأمر فيهما أخف منه في بيت الناظم لأن حرف الإطلاق قد لا يعد به، ألا ترى أن من أنشد:
أقلىّ اللومَ عاذلَ والعتابُ
قد حذفه- لأن الناظم كثيرًا ما يرتكب مثل هذا القصيدة من الشذوذات) . قلت: قد وقع للمتقدمين ما يستند إليه قول الناظم، كقول الشاعر:
ألاَ ليت اللحَى كانت حشيشًا ... فنعلَفها دوابَ المسلمينا
وقول الآخر:
جَزَى الله الدّوابَ جزاء سوءٍ ... وألبسهن من جَرَبٍ قميصا
وقوله (ثنا ثنا) كل واحد منهما لفظ معدول عن اثنين اثنين، وقصره للضرورة، والأول منصوب على الحال، والثاني تأكيد له. ونظيره في استعمال المعدول تأكيدًا قوله ﷺ: (صلاة الليل مثنى مثنى)، فالأولى خبر المبتدأ، والثانية تأكيد لها. ووقع في شرح هذه المقصورة لمتأخر عصري النصف الثاني من هذا البيت على هذه الصورة:
أولاتِ عدا جزء كجزء ثنا ثنا
وفسره بأن قال. أي وهذا الرمز هو الآتي في البيتين الآتيين معدودًا فيهما، وجزء كل بحر من الأجزاءمكرر في دائرته مرتين، وإلى هذا أشار بقوله (ثنا ثنا) . قال الجواهري: الثنا، مقصور، الأمر يعاد مرتين. وفي الحديث. (لا ثنا في الصدقة)، أي لا تؤخذ في السنة مرتين. وقال الشاعر:
لعمري لقد كانت زيارتُها ثنى
انتهى كلامه فتأمله. قال:
خَ ثَمن أَبِنْ زهرٌ ولهْ فلسِّتةٍ ... جَلَتْ حُضّ لُذْ بَل وفِّ زِنْ شِمِ وَوطَلاَ
وطولُ عزيزٍكم بِدعبلِكمْ طوَوا ... يعزِّزُ قسْ تثمينَ أشرفَ ما ترى
أقول. لما أشار إلى أن الدوائر خمس: شرع في ذكرها على التفصيل، وما اشتملت عليه كل دائرة من الأبحر، ووزن كل بحر.
فقوله: (خ) إشارة إلى الدائرة الأولى، زهي دائرة المختلف. وقوله (ثمن) إشارة إلى أنها مثمنة الأجزاء، فكل بحر من أبحرها بحسب الأصل مركب من ثمانية أجزاء، وهي مشتملة على ثلاثة أبحر مستعملة.
1 / 13