كتاب العثمانية
للجاحظ
ناپیژندل شوی مخ
- بسم الله الرحمن الرحيم -
عونك اللهم
ثم إنا مخبرون عن مقالة العثمانية،
وبالله نستهدي وإياه نستعين، وعليه نتوكل، وما توفيقنا إلا به.
رووا أن أفضل هذه الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة، وكان أول ما دلهم عند أنفسهم على فضيلته وخاصة منزلته، وشدة استحقاقه، إسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد من عالمه وفي عصره. وذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس إسلاما، فقال قوم: أبو بكر بن أبي قحافة، وقال آخرون: زيد بن حارثة، وقال نفر: خباب بن الأرت.
على أنه إذا تفقدنا أخبارهم، وأحصينا أحاديثهم وعدد رجالهم، و[نظرنا في] صحة أسانيدهم. كان الخبر في تقديم أبي بكر أعم، ورجاله أكثر، وإسناده أصح، وهم بذلك أشهر، واللفظ به أظهر، مع الأشعار الصحيحة والأخبار المستفيضة في حياة رسول الله ﷺ وبعد وفاته. وليس بين الأشعار وبين الأخبار فرق إذا امتنع في مجيئها وأصل مخرجها التباعد والاتفاق والتواطؤ، ولكنا ندع هذا المذهب [جانبا]، ونضرب عنه صفحا، اقتدارا على الحجة، وثقة بالفلج والقوة، ونقتصر على أدنى منازل أبي بكر، وننزل على حكم الخصم مع سرفه وميطه فنقول:
لما وجدنا من يزعم أن خبابا وزيدا أسلما قبله، فأوسط الأمور وأعدلها وأقربها من محبة الجميع ورضا المجادل أن نجعل إسلامهم كان معا، إذ ادعوا أن الأخبار في ذلك متكافئة، والآثار متدافعة، [وليس في الأشعار دلالة، ولا في الأمثال حجة]، ولم يجدوا إحدى القضيتين أولى في حجة العقل من الأخرى.
فصل: وقالوا: فإن قال قائل: فما بالكم لم تذكروا عليا في هذه الطبقة وقد تعلمون كثرة مقدميه والرواية فيه؟
قلنا: لأنا قد علمنا بالوجه الصحيح والشهادة القائمة أنه أسلم وهو حدث غرير وغلام صغير، فلم نكذب الناقلين، ولم نستطع أن ننزل أن إسلامه كان لاحقا بإسلام البالغين، لأن المقلل زعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين، والقياس أن يؤخذ بأوسط الروايتين، وبالأمر بين الامرين، وإنما تعرف [حق]
1 / 5
ذلك من باطله بأن تحصى سنيه التي ولي فيها، وسني عثمان وسني عمر وسني أبي بكر، وسني الهجرة، ومقام النبي - صلى الله عليه - بمكة بعد أن دعا إلى الله وإلى رسالته إلى أن هاجر إلى المدينة، ثم تنظر في أقاويل الناس في عمره، وفي قول المقلل والمكثر، فتأخذ أوسطها وهو أعدلها، وتطرح قول المقصر والغالي، ثم تطرح ما حصل في يديك من أوسط ما روى من عمره [و] سنيه، وسني عثمان وسني عمر وسني أبي بكر، والهجرة ومقام النبي ﷺ بمكة إلى وقت إسلامه، فإذا فعلت ذلك وجدت الأمر على ما قلنا وعلى ما فسرنا.
وهذه التأريخات والأعمار معروفة لا يستطيع أحد جهلها والخلاف عليها، لأن الذين نقلوا التاريخ لم يعتمدوا تفضيل بعض على بعض، وليس يمكن ذلك مع اختلاف عللهم وأسبابهم، فإذا ثبت عندك بالذي أوضحنا وشرحنا أنه كان يومئذ ابن سبع سنين أقل بسنة أو أكثر بسنة، علمت بذلك أنه لو كان أيضا ابن أكثر من ذلك بسنتين وثلاث وأربع لا يكون إسلامه إسلام المكلف العارف بفضيلة ما دخل فيه ونقصان ما خرج منه.
والتاريخ المجتمع عليه أن عليا قتل سنة أربعين في شهر رمضان.
وقالوا: فإن قالوا فلعله وهو ابن سبع سنين وثمان سنين قد بلغ من فطنته وذكائه وصحة لبه وصدق حسه وانكشاف العواقب له وإن لم يكن
1 / 6
جرب الأمور، ولا فاتح الرجال، ولا نازع الخصوم، ما يعرف جميع ما يجب على البالغ معرفته والإقرار به.
قلنا: إنما نتكلم على ظاهر الأحكام وما شاهدنا عليه طباع الأطفال. وجدنا حكم ابن سبع سنين، وثمان سنين وتسع سنين، حيث قرأناه وبلغنا خبره - ما لم يعلم مغيب أمره، وخاصة طباعه - حكم الأطفال، وليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه والذي نعرف من شكله بلعل وعسى، لأنا كنا لا ندري لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة، فلعله أن يكون ذا نقص فيها. أجاب منهم بهذا الجواب من يجوز أن يكون علي في المغيب قد أسلم إسلام البالغ المختار، غير أن الحكم فيه عنده على مجرى أمثاله وأشكاله الذين إذا أسلموا وهم في مثل سنه كان إسلامهم على تربية الحاضن، وتلقين القيم، ورياضة السائس.
فصل: فأما علماء العثمانية ومتكلموهم، وأهل القدم والرياسة منهم، فإنهم قالوا: إن عليا لو كان وهو ابن ست سنين وسبع سنين، وثمان سنين وتسع سنين، يعرف فصل ما بين الأنبياء والكهنة، وفرق ما بين الرسل والسحرة، وفرق ما بين خبر المنجم والنبي، وحتى يعرف الحجة من الحيلة، وقهر
1 / 7
الغلبة من قهر المعرفة، ويعرف كيد المريب وبعد غور المتنبي، وكيف يلبس على العقلاء، ويستميل عقول الدهماء، ويعرف الممكن في الطبائع من الممتنع فيها، وما يحدث بالاتفاق وما يحدث بالأسباب، ويعرف أقدار القوى في مبلغ الحيلة ومنتهى البطش، وما لا يحتمل إحداثه إلا الخالق، وما يجوز على الله مما لا يجوز في توحيده وعدله، وكيف التحفظ من الهوى، وكيف الاحتراس من تقدم الخادع في الحيلة - كان كونه بهذه الحال وعلى هذه الصفة مع فرط الصبا والحداثة، وقلة التجارب والممارسة، خروجا من نشوء العادة، والمعروف مما عليه تركيب الأمة. ولو كان على هذه الصفة ومعه هذه الخاصية، كان حجة على العامة، وآية تدل على المباينة، ولم يكن الله ليخصه بمثل هذه الآية وبمثل هذه الأعجوبة إلا وهو يريد أن يحتج بها له، ويخبر بها عنه، ويجعلها قاطعة لعذر الشاهد، وحجة على الغائب، ولا يضيعها هدرا، ولا يكتمها باطلا.
ولو أراد الاحتجاج بها شهر أمرها وكشف قناعها، وحمل النفوس على معرفتها، وسخر الألسنة لنقلها، والأسماع لإدراكها، لئلا يكون لغوا ساقطا، ونسيا منسيا، لأن الله لا يبتدع أعجوبة ولا يخترع آية ولا ينقض العادة إلا للتعريف والإعذار، والمصلحة والاستبصار. ولولا
1 / 8
ذلك لم يكن لفعلها معنى، ولا لرسالته حجة. والله يتعالى أن يترك الأمور سدى، والتدبير نشرا. ولا يصل أحد إلى معرفة صدق نبي وكذب متنبئ حتى تجتمع له هذه المعارف التي ذكرنا، وهذه الأسباب التي فصلنا.
ولولا أن الله سبحانه خبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبيا، وأنه أنطق عيسى في المهد رضيعا، ما كانا في الحكم ولا في المغيب إلا كسائر الرسل، وما عليه طبع البشر.
فإذ لم ينطق لعلي بذلك قرآن. ولا جاء الخبر به مجئ الحجة القاطعة، والشهادة الصادقة، فالمعلوم عندنا في الحكم وفي المغيب جميعا أن طباعه كطباع عميه حمزة والعباس، وهما أمس بمعدن جماع الخير منه، وكطباع جعفر وعقيل أخويه، وكطباع أبويه ورجال عصره وسادة رهطه. ولو أن إنسانا ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو لعمه حمزة أو لعمه العباس - وهو حليم قريش - ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه.
فصل: ولو لم تعرف الروافض ومن ذهب مذهبها في هذا باطل
1 / 9
هذه الدعوى، وفساد هذا المعنى إذا صدقت أنفسها ولم تقلد رجالها، وتحفظت من الهوى وآثرت التقوى، [إلا بترك] على ذكر ذلك لنفسه والاحتجاج به على خصمه وأهل دهره، منذ نازع الرجال، وخاصم الأكفاء، وجامع أهل الشورى وولي وولي عليه، والناس بين معاند يحتاج إلى التقريع، ومرادّ يحتاج إلى الإرشاد، وولي يحتاج إلى المادة، وغفل يحتاج إلى أن يكثر له من الحجة، ويتابع له بين الأمارات والدلالات مع حاجة القرن الثاني إلى معرفة الحق ومعدن الامر، لأن الحجة إذا لم تصح لعلي في نفسه، ولم يقو على أهل دهره، فهي عن ولده أعجز، وعنهم أضعف.
ثم لم ينقل ناقل واحد أن عليا احتج بذلك في موقف، ولا ذكره في مجلس، ولا قام به خطيبا، ولا أدلى به واثقا، ولا همس به إلى موافق، ولا احتج به على مخالف.
فصل: وقد ذكر فضائله وفخر بقرابته وسابقته، وكاثر بمحاسنه ومواقفه، منذ جامع الشورى وناضلهم. إلى أن ابتلي بمساورة معاوية له، وطمعه فيه، وجلوس أكثر أصحاب رسول الله عن عونه، والشد على عضده، كما قال عامر الشعبي: لقد وقعت الفتنة وبالمدينة عشرون ألفا من أصحاب رسول الله ﷺ، ما خف فيها منهم
1 / 10
عشرون، ومن زعم أنه شهد الجمل ممن شهد بدرا أكثر من أربعة فقد كذب، كان علي وعمار في شق وطلحة والزبير في شق.
وكيف يجوز عليه ترك الاحتجاج على المخالف وتشجيع الموافق وقد نصب نفسه للخاصة والعامة، وللخاذل والعادي، ومن لا يحل له في دينه ترك الإعذار إليهم، إذ كان يرى أن قتالهم كان واجبا، وقد نصبه الرسول مفزعا ومعلما، ونص عليه قائما، وجعله للناس إماما، وأوجب طاعته، وجعله حجة في الناس يقوم مقامه.
فصل: وأعجب من ذلك أنه لم يدع هذا له أحد في دهره كما لم يدعه لنفسه، مع عظيم ما قالوا فيه في عسكره وبعد وفاته، حتى يقول إنسان واحد إن الدليل على إمامته أن النبي ﷺ دعاه إلى الإسلام، فكلف التصديق قبل بلوغه وإدراكه، ليكون ذلك آية له في عصره، وحجة له ولولده على من بعده. وقد كان علي أعلم بالأمور من أن يدع ذكر أكبر حججه والذي بان به من شكله، ويذكر أصغر حججه والذي يشاركه فيه غيره، وقد كان في عسكره من لا يألو في الإفراط، ومن يحسب أن الإفراط زيادة في القدر.
والعجب له، إن كان الأمر كما ذكرتم، كيف لم يقف يوم الجمل ويوم صفين أو يوم النهر في موقف يكون من عدوه بمرأى ومسمع،
1 / 11
فيقول: "تبا لكم وتعسا، كيف تقاتلوني وتجحدون فضلي وقد خصصت بآية حتى كنت كيحيى بن زكريا وعيسى بن مريم" ولا يمتنع الناس من أن يقولوا ويموجوا، فإذا ماجوا تكلموا على أقدار عللهم، وعللهم مختلفة، ولا ينشب أمرهم أن يعود إلى فرقة، فمن ذاكر قد كان ناسيا، ومن نازع قد كان مصرا. وكم مترنح قد كان غالطا، مع ما كان يشيع من الحجة في الآفاق، ويستفيض في الأطراف، ويحتمله الركبان ويتهادى في المجالس.
فهذا كان أشد على طلحة والزبير، وعائشة ومعاوية، وعبد الله بن وهب، من مائة ألف سنان طرير، وسيف مشهور.
فصل: ومعلوم عند ذوي التجربة والعارفين بطبائع الأتباع وعلل الأجناد، أن العساكر تنتقض مرائرها وينتشر أمرها، وتنقلب على قادتها بأيسر من هذه الحجة، وأخفى من هذه الشهادة.
فصل: وقد علمتم ما صنعت المصاحف في طبائع أصحاب علي، حين رفعها عمرو بن العاص أشد ما كان أصحاب علي استبصارا في قتالهم،
1 / 12
ثم لم ينتقض على علي من أصحابه إلا أهل الجد والنجدة، وأصحاب البرانس والبصيرة.
وكما علمتم من تحول شطر عسكر عبد الله بن وهب حين اعتزلوا مع فروة بن نوفل، لكلمة سمعوها من عبد الله بن وهب كانت تدل عندهم على ضعف الاستبصار والوهن في اليقين.
وهذا الباب أكثر من أن يحتاج مع ظهوره ومعرفة الناس به إلى أن نحشوا به كتابنا.
فصل: فأما إسلامه وهو حدث غرير وغلام صغير، فهذا ما لا ندفعه، غير أنه إسلام تلقين وتأديب وتربية. وبين إسلام التكليف والامتحان وبين التلقين والتربية فرق عظيم، ومحجة واضحة.
وقالت العثمانية: إن قالت الشيع: إن الأمور ليس كما حكيتم، ولا كما هيأتموه لأنفسكم، بل نزعم أنه قد كانت هناك في أيام صباه وحداثته فضيلة فطنة، ومزية ذكاء، ولم يبلغ الأمر قدر الأعجوبة والآية.
قلنا: إن الذي ذهبتم إليه أيضا لا بد فيه من أحد وجهين:
إما أن يكون قد كان لا يزال يوجد في الصبيان مثله في الفطنة
1 / 13
والذكاء وإن كان ذلك عزيزا قليلا، أو كان وجود ذلك ممتنعا، ومن العادة خارجا. فإذا كان قد كان يوجد مثله على عزته وقلته فما كان إلا كبعض من نرى اليوم ممن يتعجب من حسه وفطنته، وحفظه وحكايته وسرعة قبوله على صغر سنه وقلة تجريبه. وإن كانت حاله هذه الحال، وطبيعته على هذا المثال، فإنا لم نجد صبيا قط وإن أفرط كيسه وحسنت فطنته وأعجب [به] أهله يحتمل ولاية الله سبحانه وعداوته، والتمييز بين الأمور التي ذكرنا. مع أنه ما جاءنا ولا صح عند أحد منا بخبر صادق، ولا كتاب ناطق، أنه كان لعلي خاصة دون قريش عامة في صباه من إتقان الأمور وصحة المعارف وجودة المخارج ما لم يكن لأحد من إخوته وأعمامه وآبائه.
وإن كان القدر الذي كان عليه على من الذكاء والمعرفة القدر الذي لم نجد له [فيه] مثلا، ولا رأينا له شكلا - وهذا هو البديع الذي به يحتج على المنكرين، ويفلج على المعارضين، ويبين للمسترشدين - فهذا باب قد فرغنا منه مرة.
فصل: ولو كان الأمر في علي على ما يقولون لكانت في ذلك حجة للرسول في رسالته، ولعلي في إمامته. والآية إذا كانت للرسول وخليفة
1 / 14
الرسول كان أشهر لها، لأن وضوح أمر الرسول يزيد على ما للامام ويزيده إشراقا واستنارة وبيانا. ولا يجوز أن يكون الله قد عرف أهل عصرهما ذلك، وهم الشهداء على من بعدهم من القرون ثم يسقط حجته، فلا تخلو تلك الحجة وتلك الشهادة من ضربين: إما أن تكون ضاعت وضلت، وإما أن تكون قد قامت وظهرت.
فإن كانت قد ضاعت فلعل كثيرا من حجج الرسول ﷺ قد ضاع معها، وما جعل الباقي منها أولى بالتمام من الساقط، والساقط من شكل الثابت. على أن مع الساقط خاصة ليست مع الثابت لأنه حجة على شيئين، والثابت حجة على شئ. ولا يخلو أمر الساقط من ضربين: إما أن يكون الله لم يرد تمامه، أو يكون قد أراده.
وأي ذين [كان] ففساده واضح عند قارئ الكتاب.
وإن كانت الآية قد تمت إذ كانت الشهادة قد قامت علينا بها كما كانت شهادة العيان قائمة عليهم [فيها] فليس في الأرض عثماني إلا وهو يكابر عقله ويجحد علمه.
ولعمري إنا لنجد في الصبيان من لو لقنته وسددته أو كتبت له أغمض المعاني وألطفها، وأغوص الحجج وأبعدها، وأكثرها لفظا
1 / 15
وألطفها، وأطولها، ثم أخذته بدرسه وحفظه لحفظه حفظا عجيبا، ولهذه هذا ذليقا. فأما معرفته صحيحه من سقيمه، وحقه من باطله، وفصل ما بين المقرب والدليل، والاحتراس من حيث يؤتى المخدوعون، والتحفظ من مكر الخادعين، وتأتي المجرب، ورفق الساحر، وخلابة المتنبئ، وزجر الكاهن وإخبار المنجمين، وفرق ما بين نظم القرآن وتأليفه ونظم سائر الكلام وتأليفه - فليس يعرف فروق النظر واختلاف البحث إلا من عرف القصيد من الزجر، والمخمس من الأسجاع، والمزاوج من المنثور، والخطب من الرسائل، وحتى يعرف العجز العارض الذي يجوز ارتفاعه من العجز الذي هو صفة في الذات.
فإذا عرف صنوف التأليف عرف مباينة نظم القرآن لسائر الكلام، ثم لم يكتف بذلك حتى يعرف عجزه وعجز أمثاله عن مثله، وأن حكم البشر حكم واحد في العجز الطبيعي وإن تفاوتوا في العجز العارض.
وهذا ما لا يوجد عند صبي ابن سبع سنين وثمان سنين وتسع سنين أبدا، عرف ذلك عارف أو جهله جاهل. ولا يجوز أن يعرف عارف معنى الرسالة إلا بعد الفراغ من هذه الوجوه، إلا أن يجعل جاعل
1 / 16
التقليد والنشو والألف لما عليه الآباء وتعظيم الكبراء، معرفة ويقينا.
وليس بيقين ما اضطرب ودخله الخلاج عند ورود معاني لعل وعسى، وما لا يمكن في العقول إلا بحجة تخرج القلب إلى اليقين عن التجويز.
ولقد أعيانا أن نجد هذه المعرفة إلا في الخاص من الرجال وأهل الكمال في الأدب، فكيف بالطفل الصغير والحدث الغرير؟ مع أنك لو أدرت معاني بعض ما وصفت لك على أذكى صبي في الأرض وأسرعه قبولا وأحسنه حكاية وبيانا، وقد سويته [له] ودللته، وقربته [منه] وكفيته مؤونة الروية ووحشة الفكرة. لم يعرف قدره ولا فصل بين حقه من باطله، ولا فرق بين الدلالة وشبيه الدلالة، فكيف له بأن يكون هو المتولي لتجربته وحل عقده، وتخليص متشابهه، واستثارته من معدنه؟
وكل كلام خرج من التعارف فهو رجيع بهرج، ولغو ساقط.
فصل: وقد نجد الصبي الذكي يعرف من العروض وجها، ومن النحو صدرا، ومن الفرائض أبوابا، ومن الغناء أصواتا. فأما العلم بأصول الأديان ومخارج الملل، وتأويل الدين، والتحفظ من البدع، وقبل ذلك الكلام في حجج العقول، والتعديل والتجوير، والعلم بالأخبار وتقدير
1 / 17
الاشكال فليس هذا موجودا إلا عند العلماء. فأما الحشوة والطغام فإنما هم أداة للقادة، وجوارح للسادة. وإنما يعرف شدة الكلام في أصول الأديان من قد صلى به وعجمه، وسلك في مضايقه، وجاثى الأضداد، ونازع الأكفاء.
فإن قالت الشيع: الدليل على أن إسلام علي كان اختيارا ولم يكن تلقينا، أن عليا أسلم بدعاء النبي ﷺ له، وفي ذكر الدعاء والإقرار به دليل على أن الإجابة اختيار، لأن المسلم بالدعاء مجيب للدعاء. ولا نعلم الدعاء يكون من حكيم لمدعو لا يختار ولا تحتمل فطرته تمييز الأمور وفضل ما بين ما دعا إليه وبين ما دعا إليه غيره. وليس بين قول القائل: دعا النبي - صلى الله عليه - فلانا إلا الإسلام وبين قوله: كلف النبي ﷺ فلانا الإسلام فرق. وقول المسلمين: دعا النبي ﷺ عليا كقولهم: دعا جميع العرب فمن مجيب طائع كعلي، ومن ممتنع عاص كفلان وفلان.
1 / 18
قالت العثمانية عند ذلك: قد عرفنا أن بعضهم قد نقل أن عليا كان أول من أسلم، وقد نقلوا بأجمعهم أنه كان أول من أسلم. وبين قول القائل أسلم فلان أول الناس وبين أن يقول أسلم في أوائل الناس فرق. فأما أن يكون واحد من جميع الصنفين من البعض والجميع فسر مع روايته ومخرج خبره كيف كان إسلامه، أعلى وجه الدعاء والتكليف أم على وجه التلقين والتربية، فلم نر أحدا منهم ميز ذلك ولا فرقه في مخرج الخبر. ونحن لم ندع أن إسلامه كان إسلام تلقين من قبل تفسير الناقلين وتمييز المحدثين، ولكنا نظرنا في التاريخ فعرفنا عمره وابن كم كان يوم توفي، وعرفنا موضع اختلافهم واجتماعهم، فأخذنا أوسطه إذ كان أعدل ما فيه، وأسقطنا قول من كثر وقلل، ثم ألقينا منه سنيه إلى عام إسلامه، فوجدنا ذلك يوجب أنه كان ابن سبع. ولو أخذنا أيضا بقول المكثر فجعلناه ابن تسع، وتركنا قول من قلل وقول المقتصد، علمنا بذلك أيضا أن إسلامه كان إسلام تربية وتأديب وتلقين، كما أخذ الله على المسلمين أن يأخذوا به أولادهم.
وقالت العثمانية للعلوية: إنا لم ندع أنه أسلم وهو ابن سبع فإنا وجدنا ذلك قائما في خبرهم مفسرا في شهادتهم، ولكنه علم مستنبط من أخبارهم، ومستخرج من آثارهم عند المقابلة والموازنة. ومثل ذلك لو أن رجلا قال لرجل: خذ عشرة في عشرة، كان ذلك في المعنى كقوله: "خذ مائة" وإن لم يكن سماها له ولا ذكرها بلسانه.
وقالوا: ولولا أن من شأننا الأخذ بالقسط والحكم بالعدل لأخذنا الشيع بقولهم في عمره وبقول ولده، فإن أحدهما يزعم أن عليا توفي وهو ابن سبع وخمسين. وقال الآخرون: بل توفي وهو ابن ثمان
1 / 19
وخمسين. ولو كان كما تقول الرافضة وولده ما كان أسلم إلا وهو ابن خمس أو ابن ست. وهم لا يألون ما نقصوا من عمره وصغروا من سنه لكي يجعلوا إسلامه آية له وحجة على إمامته.
ولعمري لو كان الذين نقلوا أنه كان أول من أسلم نقلوا مع خبرهم أنه أسلم بالدعاء والتكليف، لقد كان ما ذهبتهم إليه مذهبا، وما اعتصمتم به متعلقا، ولكن ما في الأرض كلها حامل خبر ولا صاحب أثر كان في خبره أنه أسلم بدعاء، ولا أنه أسلم بتلقين، وإنما هذا مستخرج من الأخبار.
فإن قالت الروافض: بل الدليل على أن إسلامه كان طاعة ولم يكن تلقينا قول جميع الأمة إن عليا كان من أول من أسلم، فنفس قولهم أسلم هو كقولهم أطاع واختار، وكذلك قولهم إذا قالوا: كفر فلان، فهو كقولهم: عصا واختار، وإن لم يفسروا. وليس بين قولهم أسلم فلان وكفر فلان فرق، لأن المخبر الصادق إذا قال كفر فلان فحكمه عند السامع العداوة والبراءة. ولو قال أسلم فلان كان حكمه المحبة والولاية: فإذا كانوا كلهم قد قالوا: أسلم علي، وحكم "أسلم" يثبت الاختيار وإجابة الولاية، قبل أن يجمعوا على أنه كان على التلقين والتربية. فعلي على هذا القياس مطيع في إسلامه، مختار له على غيره. وكذلك لو قالوا: كفر فلان، كان حكمه حكم العاصي المختار حتى
1 / 20
يجمعوا أن كفره كان عن إكراه أو غلط أو هيج مرة، أو هجر النائم أو تلقين المؤدب. فلما كان هذا قياسا موجبا صحيحا، لم يكن لأحد أن يجعل إسلام علي إسلام تلقين إلا بمثل الحجة التي جعله بها مسلما، لأنهم قد أطبقوا بأجمعهم على إسلامه واختلفوا في السنة. فيجب ألا نزيل حكم أسلم إلا بإجماع منهم أنه كان عن تلقين وتربية.
قلنا لهم: لعمري لو لم يكن ها هنا إجماع يخبر أن إسلامه كان إسلام تلقين ونشو، كان حكم قولهم أسلم علي على ما قلتم، لا تجحدون حكمه ولا تظلمون معناكم فيه، ولكن الذين قالوا إنه توفي وهو ابن كذا وكذا فأخذنا بأوسطها نقصوا من سنيه فإذا هو قد أسلم وهو ابن سبع سنين. ولو أخذنا بقول المكثر وبخسنا القياس حظه كان أيضا إسلامه وهو ابن تسع سنين إسلام تلقين. فبهم عرفنا تقدمه في الإسلام، وبهم عرفنا صغر سنه وحداثته، إذ كان الصبي إذا كان ابن خمس سنين إلى عشر سنين لا يستتاب إن كفر، ولا يلام إن جهل، ولا يعذب إن ضيع. فإذا كانوا بأجمعهم قد قالوا إنه أسلم وهو ابن خمس أو ست أو ثمان أو سبع، فقد قالوا بأجمعهم إنه أسلم إسلام تلقين وإن لم يقولوا بأفواههم، كما قلتم إن قول القائل كفر فلان وأسلم فلان - وإن لم يذكره -[حكم] بالطاعة والمعصية.
قلنا: فكذلك إذا قال رجل أسلم فلان وهو ابن سبع سنين أو ثمان
1 / 21
أو تسع، فقد قال إن إسلامه كان إسلام تلقين وإن لم يذكره ولم يتفوه به كما قلتم، حذو القذة بالقذة، والنعل بالنعل. فإذا ثبت أن إسلام علي إسلام تلقين في ذلك الدهر، فإسلام زيد وخباب أفضل من إسلامه. ولو أن عليا كان أيضا بالغا كان إسلام زيد وخباب أفضل من إسلامه، لأن إسلام المقتضب الذي لم يغذ به ولم يعوده ولم يمرن عليه أفضل من إسلام الناشئ الذي قد ربي فيه ونشأ عليه وحبب إليه، لأن خبابا وزيدا يعانيان من الفكر ويتخلصان إلى أمور، وصاحب التربية يبلغ حين يبلغ وقد أسقط إلفه عنه مؤونة الروية، والخطار بالجهالة، وقد أورثه الألف السكون، وكفاه اختلاج الشك واضطراب النفس وجولان القلب.
فصل: ولو كان علي أيضا بالغا وكان مقتضبا كزيد وخباب لم يكن إسلامه ليبلغ قدر إسلامهما، لأن إسلام التربية يكفي مؤونتين: إحداهما الخطار والتغرير، والأخرى شدة فراق الألف ومكابدة العادة ونزاع الطبيعة، مع أن من كان بحضرة الأعلام وفي منزل الوحي وفي رحال الرسل فالأعلام له أشد انكشافا، والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا. وعلى قدر الكلفة في دفع الشبهة والإقرار بخلاف الألف والعادة، والمخاطرة باعتقاد الجهالة، يعظم الفضل، ويكثر الأجر.
1 / 22
ولو كان أيضا علي أسلم بالغا مدركا، وكان مع إدراكه وبلوغه كهلا، وكان مع كهولته مقتضبا، كان إسلام زيد وخباب أفضل من إسلامه، لأن من أسلم وهو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب، وردءا كبني هاشم، وموضعا في بني عبد المطلب، ليس كالحليف ولا المولى، والنزيل والتابع والعسيف، وكالرجل من عرض قريش وقاطني مكة. [أ] وما علمت أن قريشا خاصة وأهل مكة عامة لم يقدروا على أذى النبي - صلى الله عليه - ما كان أبو طالب حيا قائما؟ ولقد منع أبو طالب أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي لأنه كان ابن أخته، فما قدرت بنو مخزوم مع خيلائها وعرام شبابها ومع عزها وشدة عداوتها أن تحص منه شعرة ولا تسمعه كلمة حتى مشت إليه بأجمعها، للذي ترى له في أنفسها، فكان من قولهم له: هذا ابن أخيك قد فرق جماعتنا وسفه أحلامنا وشتم آلهتنا وقد منعته منا، فما بال صاحبنا؟ قال: من لم يمنع ابن أخته لم يمنع ابن أخيه!
فإذا كانت قريش وأهل مكة لا يقدرون على ابن أخيه وابن أخته معه فهم عن ابنه أعجز، وعنه أقعد، وله أعفى، وهو لابنه أحضر نصرا وأشد غضبا، وأحمى أنفا، وليس الممنوع كالمخذول، ولا الضعيف
1 / 23