عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
ژانرونه
كانت ولاية أذربيجان وما والاها من ناحية الغرب آخر ما أخضعه المسلمون من ولايات فارس في عهد عمر. وتقع أذربيجان إلى الجنوب الغربي من بحر قزوين، وهي بلاد جبلية ترتفع أرضها فوق سطح البحر نحو خمسمائة متر وألف متر، وبها قمم يبلغ ارتفاعها أربعة آلاف من الأمتار. وكان بها معابد كثيرة للنار حين غزاها المسلمون. وقد أخضعها عتبة بن فرقد وصالح أهلها بإذن حذيفة بن اليمان، وأعطاهم كتابا بالأمان على سهلهم وجبلهم وشعائرهم وأهل ملتهم، وعلى أنفسهم وأموالهم وعقائدهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم.
وامتد الفتح من أذربيجان إلى الباب وإلى موقان. فلما أخضعهما المسلمون تحول عبد الرحمن بن ربيعة عنهما يريد غزو الترك المجاورين لها فاعتصموا منه بالجبال. وإنه ليعد للسير إليهم حيث اعتصموا إذ جاءته الأنباء بمقتل عمر فترك الترك لم يتعقبهم، وأقام حيث كان ينتظر أوامر عثمان.
أفأصدر عثمان إليه أمرا بمتابعة الغزو؟ لا تسعفنا روايات المؤرخين بما تطمئن له النفس. فقد اختلفوا في هذا الأمر كما اختلفوا في تاريخ الغزوات من بعد رسول الله. وأنت ترى في الكتاب الواحد من اختلاف الروايات ما تقف أمامه حائرا؛ أي رواية تأخذ وأي رواية تدع. فقد قيل: إن أذربيجان منعت في عهد عثمان ما كانت صالحت عليه حذيفة من جزية قدرها ثمانمائة ألف درهم، وإن الوليد بن عقبة سار إليها فردها إلى الطاعة وفرض عليها جزية حذيفة. وذهاب الوليد بن عقبة يكاد يتفق عليه جميع المؤرخين. لكنهم يختلفون؛ أذهب إلى أذربيجان سنة أربع وعشرين للهجرة، أي: بعد بيعة عثمان بأشهر، أم ذهب إليها سنة خمس وعشرين، أم سنة ست وعشرين. ويرجع اختلاف الرواة إلى قولهم: إن الوليد إنما غزا أذربيجان بعد أن ولاه عثمان الكوفة، وهو قد تولاها بعد سعد بن أبي وقاص. والرواة يختلفون: أتولى سعد الكوفة توا بعد مقتل عمر، أم أقر عثمان المغيرة بن شعبة عليها سنة ثم ولاها سعدا سنة وأشهرا، ثم تولاها الوليد بن عقبة من بعده. فإذا كان الوليد لم يذهب إلى أذربيجان إلا بعد ولايته الكوفة، فهو قد ذهب إليها سنة خمس وعشرين إن كان المغيرة بن شعبة قد عزل عن الكوفة إثر مقتل عمر، وسنة ست وعشرين إن كان سعد لم يتولها إلا بعد أن أقام المغيرة بن شعبة سنة على ولايتها.
على أن الطبري وابن الأثير، ومن جروا مجراهما يذكرون أن الوليد بن عقبة ذهب إلى أذربيجان سنة أربع وعشرين، أي: قبل ولايته الكوفة. وهذا ممكن، وأراني أميل إليه وإن كنت لا أقطع به. ويدعوني إلى هذا الميل أن أهل أذربيجان كانوا أقرب أهل فارس عهدا بغزو المسلمين، وأنهم رأوهم رجعوا عن الغزو حين جاءهم النبأ بمقتل عمر، فأدخل ذلك في روعهم أن سياسة الخليفة الجديد تخالف سياسة سلفه. ولما لم يكونوا قد تعودوا من أداء الجزية ما تعوده الذين أدوها سنوات عدة في عهد عمر، فقد منعوا ما صالحوا عليه حذيفة بن اليمان. ولم يتردد عثمان حين عرف أمرهم أن بعث الوليد بن عقبة لغزوهم فغزاهم وردهم إلى الطاعة، وإلى أداء الجزية. ثم إن الوليد بعث عبد الله بن شبيل بن عوف الأحمسي إلى موقان، والبير، والطيلسان، وكلها تجاوز أذربيجان، فغزاها وسبى وغنم من أهلها، ورد إلى قلوبهم الإيمان ببأس المسلمين وعظيم سلطانهم.
تجاور أرمينية هذه البلاد التي تغلب عليها الوليد بن عقبة ومن سار تحت لوائه من الأمراء والجنود. وكانت أرمينية قبل خلافة عمر مستقلة في بعض العهود، مقسمة بين الفرس والروم في عهود أخرى. وكانت أفسح رقعة من أرمينية التي نعرفها اليوم. روى البلاذري أنها كانت مقسمة إلى أرمينية الأولى، وأرمينية الثانية، وأرمينية الثالثة، وأرمينية الرابعة. وذكر أسماء البلاد التي كانت واقعة في كل منها، وأنها كانت تمتد من شمشاط غربا إلى تغلب، وإلى بلاد بحر الخزر شرقا. فلما كانت خلافة عمر، وأجلى المسلمون هرقل عن الشام، واستولوا على أنطاكية وحمص وشمال الشام كله سار خالد بن الوليد في بلاد أرمينية، فغزا مرعش وشمشاط وما والاها من البلاد التي كانت في حكم الروم، وعاد منها إلى الشام بالغنائم والأسلاب من غير أن يصالح أهلها على أمان أو جزية. وعلى أثر عودته ولاه عمر إمارة قنسرين. فلما بعث الروم بعد ذلك بالجنود على السفن إلى أنطاكية فانتقضت، وانتقضت حمص وحلب وبلاد الشمال من أرض الشام، أجلب المسلمون بخيلهم ورجلهم على هذه البلاد، وحصروها وطردوا الروم منها، ثم تجاوزها عياض بن غنم، وخالد بن الوليد إلى أرمينية فساروا فيها حتى بلغ خالد آمد والرهاء. وكان خالد في مسيرته يفتح البلاد ويستفيء الغنائم ويلقي في القلوب الرعب. واجتمع له من الفيء شيء عظيم عاد به إلى قنسرين من غير أن يعقد هو أو يعقد عياض بن غنم صلحا مع أهل أرمينية على أمان أو جزية. وكذلك ظلت أرمينية وليس للمسلمين فيها سلطان، وإن كانت قد ذاقت من بأسهم ما جعلها تتربص بهم الدوائر.
ترى أوجد أهل أرمينية في ثورة أذربيجان، بعد قليل من بيعة عثمان، فرصة الثأر لأنفسهم من المسلمين فانضموا إلى ما جاورهم من أرض فارس وشجعوهم على الانتفاض، فقاتلهم المسلمون وأخضعوهم؟ أم ترى المسلمين حين أخضعوا أذربيجان وما والاها، فلم يقف في سبيلهم أحد اندفعوا في أرض أرمينية كذلك فأخضعوها لسلطانهم؟ أم تحرك الروم في أرمينية وأرادوا السير منها لغزو الشام فلم يكن بد من أن يواجههم المسلمون؟ الاتفاق بين المؤرخين قائم على أن المسلمين غزوا أرمينية وأخضعوها. على أن الروايات تختلف في المقدمات ثم تتفق في النتيجة. يقول الطبري ومن أخذ عنه: إن الوليد بن عقبة حين فرغ من إخضاع أذربيجان وموقان والطيلسان بعث سلمان بن ربيعة الباهلي، فسار في أرض أرمينية، فقتل وسبى وغنم وانصرف وقد ملأ يده حتى أتى الوليد، فانصرف الوليد ودخل الموصل فنزل الحديثة. ويقول البلاذري:
1
إن عثمان لما استخلف كتب إلى معاوية بن أبي سفيان يأمره أن يوجه حبيب بن مسلم الفهري إلى أرمينية، أو إن عثمان كتب إلى حبيب نفسه يأمره بغزو أرمينية، وإن حبيبا نهض إليها في ستة آلاف، فقاتل أهل (قاليقلا) فطلبوا الأمان على الجلاء والجزية، وجلا كثير منهم فلحقوا ببلاد الروم. وبلغ حبيبا بعد أشهر أن أهل أرمينية استعانوا بالروم، وجمعوا للمسلمين جمعا عظيما فاستمد حبيب عثمان، فكتب عثمان إلى معاوية، فأمده بألفي رجل أسكنهم (قاليقلا)، وأقطعهم القطائع وجعلهم مرابطة بها.
هاتان روايتان مختلفتان في ظاهرهما، لكنك تستطيع التوفيق بينهما، فأرمينية كما ذكرنا كانت ممتدة في أرض فارس وفي أرض الروم، فلا عجب أن يكون سلمان بن ربيعة الباهلي قد سار بأمر الوليد بن عقبة في جانبها الفارسي، وأن يكون حبيب بن مسلم الفهري قد سار في جانبها الرومي، بأمر عثمان أو أمر معاوية. وهذا ما نرجحه. وهو لا يخالف سياق الوقائع من بعد وإن اختلف الرواة في تفصيل هذه الوقائع.
فقد ذكر الطبري أن الوليد بن عقبة حين دخل الموصل أتاه كتاب من عثمان يقول فيه: «أما بعد فإن معاوية بن أبي سفيان كتب إلي يخبرني أن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع عظيمة. وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة. فإذا أتاك كتابي هذا فابعث رجلا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وإسلامه في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف من المكان الذي يأتيك فيه رسولي والسلام.» فقام الوليد في الناس، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: «أما بعد فإن الله قد أبلى المسلمين في هذا الوجه بلاء حسنا، ورد عليهم بلادهم التي كفرت، وفتح بلادا لم تكن افتتحت، وردهم سالمين غانمين مأجورين، فالحمد لله رب العالمين. وقد كتب إلي أمير المؤمنين يأمرني أن أندب منكم ما بين العشرة آلاف إلى الثمانية آلاف تمدون إخوانكم من أهل الشام، فإنهم قد جاشت عليهم الروم، وفي ذلك الأجر العظيم والفضل المبين. فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة الباهلي.» ولم تمض ثلاثة أيام حتى خرج ثمانية آلاف رجل من أهل الكوفة بإمرة سلمان بن ربيعة، فدخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهري، فشنوا الغارات معا على أرض الروم، فأصابوا ما شاءوا من السبي وملئوا أيديهم من الغنم وافتتحوا حصونا كثيرة.
ناپیژندل شوی مخ