تلك آيات الكتاب الحكيم، تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، ولا يرتاب فيها إلا القوم الضالون، هل يخلف الله وعده ووعيده وهو أصدق من وعد وأقدر من أوعد؟ هل كذب الله رسله؟ هل ودع أنبياءه وقلاهم؟ هل غش خلقه وسلك به طريق الضلال؟ نعوذ بالله! هل أنزل الآيات البينات لغوا وعبثا؟ هل افترت عليه رسله كذبا؟ هل اختلقوا عليه إفكا؟ هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها، وإشارات لا يدركونها؟ هل دعاهم إليه بما لا يعقلون؟ نستغفر الله! أليس قد أنزل القرآن عربيا غير ذي عوج، وفصل فيه كل أمر وأودعه تبيانا لكل شيء؟ تقدست صفاته وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، هو الصادق في وعده ووعيده، ما اتخذ رسولا كذابا، ولا أتى شيئا عبثا، وما هدانا إلا سبيل الرشاد، ولا تبديل لآياته، تزول السماوات والأرض ولا يزول حكم من أحكام كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يقول الله:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (الأنبياء: 105)، ويقول:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين (المنافقون: 8)، وقال:
وكان حقا علينا نصر المؤمنين (الروم: 47)، وقال:
ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (الفتح: 28). هذا ما وعد الله في محكم الآيات مما لا يقبل تأويلا، ولا ينال هذه الآيات بالتأويل إلا من ضل عن السبيل، ورام تحريف الكلم عن مواضعه، هذا عهده إلى تلك الأمة المرحومة، ولن يخلف الله عهده، وعدها بالنصر والعزة وعلو الكلمة، ومهد لها سبيل ما وعدها إلى يوم القيامة، وما جعل لمجدها أمدا، ولا لعزتها حدا.
هذه أمة أنشأها الله عن قلة، ورفع شأنها إلى ذروة العلى، حتى ثبتت أقدامها على قنن الشامخات، ودكت لعظمتها عوالي الراسيات، وانشقت لهيبتها مرائر الضاريات، وذابت للرعب منها أعشار القلوب، هال ظهورها الهائل كل نفس وتحير في سببه كل عقل، واهتدى إلى السبب أهل الحق فقالوا: قوم كانوا مع الله فكان الله معهم، جماعة قاموا بنصر الله واسترشدوا بسنته فأمدهم بنصر من عنده.
هذه أمة كانت في نشأتها فاقدة الذخائر، معوزة من الأسلحة وعدد القتال، فاخترقت صفوف الأمم واختطت ديارها، ولا دفعتها أبراج المجوس وخنادقهم، ولا صدتها قلاع الرومان ومعاقلهم، ولا عاقها صعوبة المسالك، ولا أثر في همتها اختلاف الأهوية، ولا فعل في نفوسها غزارة الثروة عند من سواها، ولا راعها جلالة ملوكهم، وقدم بيوتهم، ولا تنوع صنائعهم، ولا سعة دائرة فنونهم، ولا عاق سيرها أحكام القوانين، ولا تنظيم الشرائع، ولا تقلب غيرها من الأمم في فنون السياسة.
كانت تطرق ديار القوم فيحتقرون أمرها، ويستهينون بها، وما كان يخطر ببال أحد أن هذه الشرذمة القليلة تزعزع أركان تلك الدول العظيمة، وتمحو أسماءها من لوح المجد، وما كان يختلج بصدر أن هذه العصابة الصغيرة تقهر تلك الأمم الكبيرة، وتمكن في نفوسها عقائد دينها، وتخضعها لأوامرها وعاداتها وشرائعها؛ لكن كان كل ذلك، ونالت تلك الأمة المرحومة - على ضعفها - ما لم تنله أمة سواها، نعم قوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفاهم أجورهم مجدا في الدنيا، وسعادة في الآخرة.
هذه الأمة يبلغ عددها اليوم زهاء أربعمائة مليون من النفوس، وأراضيها آخذة من المحيط الأطلسي إلى أحشاء بلاد الصين، تربة طيبة ، ومنابت خصبة، وديار رحبة، ومع ذلك نرى بلادها منهوبة، وأموالها مسلوبة، تتغلب الأجانب على شعوب هذه الأمة شعبا شعبا، ويتقاسمون أراضيها قطعة بعد قطعة، ولم يبق لها كلمة تسمع، ولا أمر يطاع، حتى إن الباقين من ملوكها يصبحون كل يوم في ملمة، ويمسون في كربة مدلهمة، ضاقت أوقاتهم عن سعة الكوارث التي تلم بهم، وصار الخوف عليهم أشد من الرجاء لهم.
ناپیژندل شوی مخ