التعصب كما يطلق ويراد منه النعرة على الجنس، ومرجعها رابطة النسب والاجتماع في منبت واحد. كذلك توسع أهل العرف فيه، فأطلقوه على قيام الملتحمين بصلة الدين لمناصرة بعضهم بعضا، والمتنطعون من مقلدة الإفرنج يخصون هذا النوع منه بالمقت، ويرمونه بالتعس، ولا نخال مذهبهم هذا مذهب العقل، فإن لحمة يصير بها المتفرقون إلى وحدة تنبعث عنها قوة لدفع الغائلات وكسب الكمالات؛ لا يختلف شأنها إذا كان مرجعها الدين أو النسب، وقد كان من تقدير العزيز العليم وجود الرابطتين في أقوام مختلفة من البشر، وعن كل منهما صدرت في العالم آثار جليلة يفتخر بها الكون الإنساني، وليس يوجد عند العقل أدنى فرق بين مدافعة القريب عن قريبه ومعاونته على حاجات معيشته، وبين ما يصدر من ذلك عن المتلاحمين بصلة المعتقد ورابطة المشرب.
فتعصب المشتركين في الدين المتوافقين في أصول العقائد - بعضهم لبعض - إذا وقف عند الاعتدال ولم يدفع إلى جور في المعاملة، ولا انتهاك لحرمة المخالف لهم أو نقض لذمته؛ فهو فضيلة من أجل الفضائل الإنسانية، وأوفرها نفعا وأجزلها فائدة، بل هو أقدس رابطة وأعلاها، إذا استحكمت صعدت بذوي المكنة فيها إلى أوج السيادة وذروة المجد، خصوصا إن كانوا من قبيل قوي فيهم سلطان الدين، واشتدت سطوته على الأهواء الجنسية حتى أشرف بها على الزوال كما في أهل الديانة الإسلامية - على ما أشرنا إليه في العدد الثاني من جريدتنا.
ولا يؤخذ علينا في القول بأنه من أقدس الروابط؛ فإنه كما يطمس رسوم الاختلاف بين أشخاص وآحاد متعددة، ويصل ما بينهم في المقاصد والعزائم والأعمال، وكذلك يمحو أثر المنابذة والمنافرة بين القبائل والعشائر، بل الأجناس المتخالفة في المنابت واللغات والعادات، بل المتباعدة في الصور والأشكال، ويحول أهواءها المتضاربة إلى قصد واحد، وهو: تأصيل المجد وتأييد الشرف وتخليد الذكر تحت الاسم الجامع لهم، هذا الأثر الجليل عهد لقوة التعصب الديني، وشهد عليه التاريخ بعدما أرشد إليه العقل الصحيح، وما كانت رابطة الجنس لتقوى على شيء منه.
ثغثغ جماعة من متزندقة هذه الأوقات في بيان مفاسد التعصب الديني، وزعموا أن حمية أهل الدين لما يؤخذ به إخوانهم من ضيم، وتضافرهم لدفع ما يلم بدينهم من غاشية الوهن والضعف، هو الذي يصدهم عن السير إلى كمال المدنية، ويحجبهم عن نور العلم والمعرفة، ويرمي بهم في ظلمات الجهل، ويحملهم على الجور والظلم والعدوان على من يخالفهم في دينهم، ومن رأي أولئك المثغثغين أن لا سبيل لدرء المفاسد واستكمال المصالح إلا بانحلال العصبية الدينية ومحو أثرها، وتخليص العقول من سلطة العقائد، وكثيرا ما يرجفون بأهل الدين الإسلامي، ويخوضون في نسبة مذام التعصب إليهم.
كذب الخراصون، إن الدين أول معلم وأرشد أستاذ وأهدى قائد للأنفس إلى اكتساب العلوم والتوسع في المعارف، وأرحم مؤدب وأبصر مروض بطبع الأرواح على الآداب الحسنة والخلائق الكريمة، ويقيمها على جادة العدل، وينبه فيها حاسة الشفقة والرحمة، خصوصا دين الإسلام؛ فهو الذي رفع أمة كانت من أعرق الأمم في التوحش والقسوة والخشونة، وسما بها إلى أرقى مراقي الحكمة والمدنية في أقرب مدة، وهي الأمة العربية.
قد يطرأ على التعصب الديني من التغالي والإفراط مثل ما يعرض على التعصب الجنسي فيفضي إلى ظلم وجور، ربما يؤدي إلى قيام أهل الدين بإبادة مخالفيهم ومحق وجودهم، كما قامت الأمم الغربية واندفعت على بلاد الشرق لمحض الفتك والإبادة لا للفتح ولا للدعوة إلى الدين في الحرب الهائلة المعروفة بحرب الصليب، وكما فعل الإسبانيوليون بمسلمي الأندلس، وكما وقع قبل هذا وذاك في بداية ما حصلت الشوكة للدين المسيحي، أن صاحب السلطان من المسيحيين جمع اليهود في القدس وأحرقهم، إلا أن هذا العارض لمخالفته لأصول الدين قلما تمتد له مدة، ثم يرجع أرباب الدين إلى أصوله القائمة على قواعد السلم والرحمة والعدل.
أما أهل الدين الإسلامي فمنهم طوائف شطت في تعصبها في الأجيال الماضية، إلا أنه لم يصل بهم الإفراط إلى حد يقصدون فيه الإبادة وإخلاء الأرض من مخالفيهم في دينهم، وما عهد ذلك في تاريخ المسلمين بعدما تجاوزوا حدود جزيرة العرب، ولنا الدليل الأقوم على ما نقول، وهو وجود الملل المختلفة في ديارهم إلى الآن حافظة لعقائدها وعوائدها من يوم تسلطوا عليها وهم في عنفوان القوة وهي في وهن الضعف، نعم كان للمسلمين ولع بتوسيع الممالك وامتداد الفتوحات، وكانت لهم شدة على من يعارضهم في سلطانهم، إلا أنهم كانوا - مع ذلك - يحفظون حرمة الأديان، ويرعون حق الذمة، ويعرفون لمن يخضع لهم من الملل المختلفة حقه، ويدفعون عنه غائلة العدوان، ومن العقائد الراسخة في نفوسهم: «أن من رضي بذمتنا فله ما لنا وعليه ما علينا» ولم يعدلوا في معاملتهم لغيرهم عن أمر الله في قوله:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، اللهم إلا ما لا تخلو عنه الطبائع البشرية.
ومن نشأة المسلمين إلى اليوم لم يدفعوا أحدا من مخالفيهم عن التقدم إلى ما يستحقه من علو الرتبة وارتفاع المكانة، ولقد سما في دول المسلمين - على اختلافها - إلى المراتب العالية؛ كثير من أرباب الأديان المختلفة، وكان ذلك في شبيبتها وكمال قوتها، ولم يزل الأمر على ما كان، وفي الظن أن الأمم الغربية لم تبلغ هذه الدرجة من العدل إلى اليوم «فسحقا لقوم يظنون أن المسلمين بتعصبهم يمنعون مخالفيهم من حقوقهم.»
لم يسلك المسلمون من عهد قريب مسلك الإلزام بدينهم والإجبار على قبوله مع شدة بأسهم في بدايات دولهم، وتغلغلهم في افتتاح الأقطار، واندفاع هممهم للبسطة في الملك والسلطة، وإنما كانت لهم دعوة يبلغونها، فإن قبلت وإلا استبدلوا بها رسما ماليا يقوم مقام الخراج عند غيرهم مع رعاية شروط عادلة تعلم من كتب الفقه الإسلامي، هذا على خلاف متنصرة الرومانيين واليونانيين أيام شوكتهم الأولى، فإنهم ما كانوا يطئون أرضا إلا ويلزمون أهلها بخلع أديانهم، والتطوق بدين أولئك المسلطين وهو الدين المسيحي؛ كما فعلوا في مصر وسورية، بل وفي البلاد الإفرنجية نفسها.
ناپیژندل شوی مخ