لعل الأقرب أن ناقلي تلك العلوم، وهم من أمة هذا شأنها مع ما ينعكس إليهم من الأوهام المألوفة فيها، وما رسخ في نفوسهم على عهد الصبا، وما يعظمونه من أمر الأمة التي تلقوا عنها علومهم؛ يكونون بين أمتهم كخلط غريب لا يزيد طبائعها إلا فسادا.
ماذا يكون من أولئك الناشئين في علوم لم تكن ينابيعها من صدورهم ولو صدقوا في خدمة أوطانهم، يكون منهم ما تعطيه حالهم، يؤدون ما تعلموه كما سمعوه، لا يراعون فيه النسبة بينه وبين مشارب الأمة وطباعها وما مرنت عليه من عاداتها، فيستعملونه على غير وضعه، ولبعدهم عن أصله ولهوهم بحاضره عن ماضيه وغفلتهم عن آتيه يظنونه على ما بلغهم هو الكمال لكل نفس والحياة لكل روح، فيرومون من الصغير ما لا يرام إلا من الكبير وبالعكس، غير ناظرين إلا إلى صور ما تعلموه ولا مفكرين في استعداد من يعرض عليهم وهل يكون له من طباعهم مكان يحمد أو يزيدها على ما بها أضعافا، وما هذا إلا لكونهم ليسوا أربابها، وإنما هم لها نقلة وحملة.
فهؤلاء الصادقون - إلا من وفقه الله منهم بعنايته الإلهية - يكون مثلهم كمثل والدة حنون يلذ لها غذاء فتفيض منه على ولدها وهو رضيع ليساهمها في اللذة، وسنه سن اللبان لا يقبل سواه، فيسرع إليه المرض وينتهي به إلى التلف، فتكون منزلتهم من الأمة منزلة الآلة المحللة يشتتون بقية الجمع ويبددون أخريات الالتئام، إن كان الفساد أبقى للقوم بعض الروابط، فهؤلاء المغرورون يغشونهم بما يذهلهم عنها، وما قصدوا إلا خيرا إن كانوا مخلصين، ويوسعون بذلك الخصاص
2
حتى تعود أبوابا، ويباعدون ما بين الضفاف حتى تصير ميادين لتداخل الأجانب فيهم تحت اسم النصحاء وعنوان المصلحين، ويذهبون بأمتهم إلى الفناء والاضمحلال وبئس المصير.
شيد العثمانيون والمصريون عددا من المدارس على النمط الجديد، وبعثوا بطوائف منهم إلى البلاد الغربية ليحملوا ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف والصنائع والآداب، وكل ما يسمونه تمدنا، وهو في الحقيقة تمدن للبلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني، هل انتفع المصريون والعثمانيون بما قدموا لأنفسهم من ذلك وقد مضت عليهم أزمان غير قصيرة؟ هل صاروا أحسن حالا مما كانوا عليه قبل التمسك بهذا الحبل الجديد؟ هل استنقذوا أنفسهم من أنياب الفقر والفاقة؟ هل نجوا بها من ورطات ما يلجئهم إليه الأجانب بتصرفاتهم؟ هل أحكموا الحصون وسدوا الثغور؟ هل نالوا بها من المنعة ما يدفع عنهم غارة الأعداء عليهم؟ هل بلغوا من البصر بالعواقب والتصرف في الأفكار حدا يميل عزائم الطامعين عنهم؟ هل وجدت فيهم قلوب مازجتها روح الحياة الوطنية فهي تؤثر مصلحة البلاد على كل مصلحة وتطلبها وإن تجاوزت محيط الحياة الدنيا، وإن بادت في سبيلها خلفها وارث على شاكلتها - كما كان في كثير من الأمم؟
نعم، ربما وجد بينهم أفراد يتفيهقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية وما شاكلها، ويصوغونها في عبارات متقطعة بتراء لا تعرف غايتها ولا تعلم بدايتها، ووسموا أنفسهم زعماء الحرية أو بسمة أخرى على حسب ما يختارون، ووقفوا عند هذا الحد، ومنهم آخرون عمدوا إلى العمل بما وصل إليهم من العلم فقلبوا أوضاع المباني والمساكن وبدلوا هيئات المآكل والملابس والفراش والآنية وسائر الماعون، وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية، وعدوها من مفاخرهم وعرضوها معرض المباهاة؛ فنسفوا بذلك ثروتهم إلى غير بلادهم، واعتاضوا عنها أعراض الزينة مما يروق منظره ولا يحمد أثره، فأماتوا أرباب الصنائع من قومهم وأهلكوا العاملين في المهن لعدم اقتدارهم أن يقوموا بكل ما تستدعيه تلك العلوم الجديدة من الحاجيات الجديدة والكماليات الجديدة؛ لأن مصانعهم لم تتحول إلى الطراز الجديد، وأيديهم لم تتعود على الصنع الجديد، وثروتهم لا تسع جلب الآلات الجديدة من البلاد البعيدة، وهذا جدع لأنف الأمة، يشوه وجهها ويحط شأنها، وما كان هذا إلا لأن تلك العلوم وضعت فيهم على غير أساسها وفجأتهم قبل أوانها.
علمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأن المقلدين من كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون، بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين قلدوهم واحتقار من لم يكن على مثالهم؛ شؤما على أبناء أمتهم يذلونهم ويحتقرون ويستهينون بجميع أعمالهم وإن جلت، وإن بقي في بعض رجال الأمة بقية من الشمم أو نزوع إلى معالي الهمم؛ انصبوا عليه وأرغموا من أنفه حتى يمحى أثر الشهامة وتخمد حرارة الغيرة ويصير أولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين، وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل ويفتحون الأبواب ثم يثبتون أقدامهم ويمكنون سلطتهم، ذلك بأنهم لا يعلمون فضلا لغيرهم ولا يظنون أن قوة تغالب قواهم.
أقول - ولا أخشى لوما: لو كان في البلاد الأفغانية عدد قليل من تلك الطلائع عندما تغلب على بعض أراضيها الإنجليز لما بارحوها أبد الآبدين، فإن نتيجة العلم عند هؤلاء ليست إلا توطيد المسالك والركون إلى قوة مقلديهم واستقبال مشارق فنونهم، فيبالغون في تطمين النفوس وتسكين القلوب حتى يزيلوا الوحشة التي قد يصون بها الناس حقوقهم ويحفظون بها استقلالهم؛ ولهذا، لو طرق الأجانب أرضا لأية أمة ترى هؤلاء المتعلمين فيها يقبلون عليهم، ويعرضون أنفسهم لخدمتهم بعد الاستبشار بقدومهم، ويكونون بطانة لهم ومواضع لثقتهم، كأنما هم منهم! ويعدون الغلبة الأجنبية في بلادهم مباركة عليهم وعلى أعقابهم. •••
فما الحيلة وما الوسيلة، والجرائد بعيدة الفائدة ضعيفة الأثر لو صحت الضمائر فيها، والعلوم الجديدة لسوء استعمالها رأينا ما رأينا من آثارها، والوقت ضيق والخطب شديد ... أي جهوري من الأصوات يوقظ الراقدين على حشايا الغفلات؟ أي قاصفة تزعج الطباع الجامدة وتحرك الأفكار الخامدة؟ أي نفخة تبعث هذه الأرواح في أجسادها وتحشرها إلى مواقف صلاحها وفلاحها؟ الأقطار فسيحة الجوانب بعيدة المناكب، المواصلات عسرة بين الشرقي والغربي والجنوبي والشمالي، الرءوس مطرقة إلى ما تحت القدم أو منغضة إلى ما فوق السماء، ليس للأبصار جولان إلى الأمام والخلف واليمين والشمال، ولا للأسماع إصغاء، ولا للنفوس رغبات وللأهواء تحكم وللوساوس سلطان.
ناپیژندل شوی مخ