إن النفوس الإنسانية، وإن بلغت من فساد الطبع والعادة ما بلغت، إذا كثر عديدها تحت جامعة معروفة لا تحتمل الضيم إلا إلى حد يدخل تحت الطاقة ويسعه الإمكان، فإذا تجاوز الاستطاعة كرت النفوس إلى قواها، واستأسد ذئبها، وتنمر ثعلبها، والتمست خلاصها، ولن تعدم عند الطلب رشادا.
ربما تخطئ مرة فتكون عليها الدائرة، لكن ما يصيبها من زلة الخطأ يلهمها تدارك ما فرط والاحتراس من الوقوع في مثله، فتصيب أخرى فيكون لهم الظفر والغلبة، وإن الحركة التي تنبعث لدفع ما لا يطاق إذا قام بتدبيرها قيم عليها، ومدبر لسيرها، لا يكفي في توقيف سريانها أو محو آثارها، قهر ذاك القيم وإهلاك ذاك المدبر، فإن العلة ما دامت موجودة لا تزال آثارها تصدر عنها، فإن ذهب قيم خلفه آخر أوسع منه خبرة وأنفذ بصيرة، نعم، يمكن تخفيف الأثر أو إزالته بإزالة علته ورفع أسبابه.
جرت عادة الأمم أن تأنف من الخضوع لمن يباينها في الأخلاق والعادات والمشارب، وإن لم يكلفها بزائد عما كانت تدين به لمن هو على شاكلتها، فكيف بها إذا حملها ما لا طاقة لها به؟ لا ريب أنها تستنكره، وإن كانت تستكبره، وكلما أنكرته بعدت عن الميل إليه، وكلما ابتعدت منه بجهة كونه غريبا تقرب بعضها من بعض، فعند ذلك تستصغره فتلفظه كما تلفظ النواة، وما كان ذلك بغريب.
إن مجاوزة الحد في تعميم الاعتداء تنسي الأمم ما بينها من الاختلاف في الجنسية والمشرب، فترى الاتحاد لدفع ما يعمها من الخطر ألزم من التحزب للجنس والمذهب، وفي هذه الحالة تكون دعوة الطبيعة البشرية إلى الاتفاق أشد من دعوتها إليه للاشتراك في طلب المنفعة.
أبعد هذا يأخذنا العجب إذا أحسسنا بحركة فكرية في أغلب أنحاء المشرق في هذه الأيام؟! كل يطلب خلاصا ويبتغي نجاة، وينتحل لذلك من الوسائل والأسباب ما يصل إليه فكره على درجته من الجودة والأفن، وإن العقلاء في كثير من أصقاعه يتفكرون في جعل القوى المتفرقة قوة واحدة يمكن لها القيام بحقوق الكل.
بلي، كان هذا أمرا ينتظره المستبصر وإن عمي عنه الطامع. وليس في الإمكان إقناع الطامعين بالبرهان، ولكن ما يأتي به الزمان من عاداته في أبنائه، بل ما يجري به القضاء الإلهي من سنة الله في خلقه؛ سيكشف لهم وهمهم فيما كانوا يظنون.
بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان فيهم نهايته، وأدرك المتغلب منهم نكايته، خصوصا في المسلمين منهم، فمنهم ملوك أنزلوا عن عروشهم جورا، وذوو حقوق في الإمرة حرموا حقوقهم ظلما، وأعزاء باتوا أذلاء وأجلاء أصبحوا حقراء، وأغنياء أمسوا فقراء، وأصحاء أضحوا سقاما، وأسود تحولت أنعاما، ولم تبق طبقة من الطبقات إلا وقد مسها الضر من إفراط الطامعين في أطماعهم، خصوصا من جراء هذه الحوادث التي بذرت بذورها في الأراضي المصرية من نحو خمس سنوات بأيدي ذوي المطامع فيها، حملوا إلى البلاد ما لا تعرفه فدهشت عقولها، وشدوا عليها بما لا تألفه فحارت ألبابها، وألزموها ما ليس في قدرتها فاستعصت عليه قواها، وخضدوا من شوكة الوازع تحت اسم العدالة ليهيئوا بكل ذلك وسيلة لنيل المطمع؛ فكانت الحركة العرابية العشواء فاتخذوها ذريعة لما كانوا طالبين، فاندفع بهم سيل المصاعب، بل طوفان المصائب، على تلك البلاد، وظنوا بلوغ الأرب، ولكن أخطأ الظن وهموا بما لم ينالوا.
لم تكد تخمد تلك الحركة في بادئ النظر حتى خلفتها حركة أخرى، وفتح باب كان مسدودا، وقام قائم بدعوة لها المكانة الأولى في نفوس المسلمين، بل هي بقية آمالهم، ولا ندري الآن ماذا تستعقبه هذه الحركة الجديدة، وربما يوجد من يدري أن مسببيها في حيرة من تلافيها، نعم إنهم غرسوا غرسا، إلا أنهم سيجنون، أو هم الآن يجنون منه حنظلا ويطعمون منه زقوما، لا جرم هذه هي العواقب التي لا محيص عنها لمن يغالي في طمعه ويغلغل في حرصه، ولو أنهم تركوا الأمر من ذاك الوقت لأربابه وفوضوا تدارك كل حادث للخبراء به والقادرين عليه العارفين بطرق مدافعته أو اقتناء فائدته؛ لحفظوا بذلك مصالحهم، ونالوا ما كانوا يشتهون من المنافع الوافرة بدون أن تزل لهم قدم أو ينكس لهم علم.
غير أنهم ركبوا الشطط وغرهم ما وجدوا من تفرق الكلمة وتشتت الأهواء، وهو أنفذ عواملهم وأقتلها، وما علموا أنه وإن كان ذريع الفتك إلا أنه سريع العطب، وما أسرع أن يتحول عند اشتداد الخطوب إلى عامل وحدة يسدد لقلوب المعتدين، فإن بلاء الجور إذا حل بشطر من الأمة وعوفي منه باقيها؛ كانت سلامة البعض تعزية للمصابين وحجاب غفلة للسالمين يحول بينهم وبين الإحساس بما أصاب إخوانهم، أما إذا عم الضرر فلا محالة يحيط بهم الضجر، ويعز عليهم الصبر فيندفعوا إلى ما فيه خيرهم، ولا خير فيه لغيرهم.
إن الحالة السيئة التي أصبحت فيها الديار المصرية لم يسهل احتمالها على نفوس المسلمين عموما. إن مصر تعتبر عندهم من الأراضي المقدسة ولها في قلوبهم منزلة لا يحلها سواها؛ نظرا لموقعها من الممالك الإسلامية، ولأنها باب الحرمين الشريفين، فإن كان هذا الباب أمينا كانت خواطر المسلمين مطمئنة على تلك البقاع، وإلا اضطربت أفكارهم وكانوا في ريب من سلامة ركن عظيم من أركان الديانة الإسلامية.
ناپیژندل شوی مخ