199

هل تهورت إنجلترا، وأغاظت جميع الدول العظام، وهيأت لنفسها خطر تألبهم عليها حبا في توفيق باشا ورغبة في حفظ مسنده؟! هذا مما لا يعقل، ربما تكون الدولة العثمانية والحكومة المصرية في رجاء أن الدول الأوروبية يستفزها الغضب فتندفع بقواها على دولة الإنجليز فتكبلها في سياستها وتلجئها للجلاء عن مصر فتتركها لأهلها وكفى الله المؤمنين القتال، إن كان ذلك سبب الفتور فهو ثقة في غير محلها ونوع من الطمع غريب.

قد يكون اتفاق الدول على معاكسة الإنجليز متعلقا بجهات أخرى ولا يكون إخلاء مصر من مواضيع الاتفاق - كما أشار إليه كثير من الجرائد - حيث ذكرت أن من المقاصد التي يجتمع لها القياصرة الثلاث كف روسيا عن مطامعها في أوروبا وإطلاق العنان لها في آسيا والأقطار الهندية، أليس من الممكن أن مناوأة الدول للإنجليز تنتهي بسلب جزء أو أجزاء من أراضي المسلمين في مقابلة تمكن الإنجليز في أراضي مصر؟

نبهت بعض الجرائد المهمة على شيء من هذا، وصرحت بما لا ينطق اللسان بذكره. إن للدول اهتماما بنكاية الإنجليز، ومن أعظم البواعث على اجتماع القياصرة خروج إنجلترا عن حدها في الاستئثار بالمنفعة على غيرها، لكن أليس من الواجب على صاحب البيت أن يبدأ بعمل في الذود عن بيته قبل أن يساعده الجيران؟ خصوصا إن كان للجيران أطماع متنوعة بعضها يمنع عن المساعدة وبعضها يحمل على التواني وتأجيل العمل لأوقات أخرى.

وما يدرينا لو حولنا الأمر إلى الجار لينقذ المغصوب من يد الغاصب لعله بعد استخلاصه يختص به لنفسه، فما الذي جنيناه من ثمار مساعيه وأية فائدة حصلناها؟ لو شحت الحكومة المصرية بحياتها، وأبصرت أن بقاءها في إبائها، وترفعت عن هذا الخضوع البارد، وتجافت عن تسهيل الطرق وتمهيد السبل لمسير العساكر الإنجليزية، ثم قامت الدولة العثمانية على المطالبة بحقوقها، وذهبت في الطلب مذهب العمل، ولم تكتف بلوائح تسطر، وحجج تنشر، ولم تستند على سفرائها الذين ليس لهم خوض حقيقي إلا في ملاذهم وشهواتهم.

لو كان كل هذا لشاركت الدولة العثمانية ومعها حكومة مصر سائر الدول في معاكسة إنجلترا، وحيث إن للدولة العثمانية والحكومة المصرية الحق الأول والملكية الشرعية في تلك الأقطار فما يكون منهما من الأعمال يكسبهما تخليص البلاد فإن الدول تكون في عونهما ولا حق لواحدة منها فيما بعد أن تستأثر عليهما.

إن إقدام الدولة على العمل وعدول الحكومة المصرية عن مسلكها المضر بها مما يقرب المسافة ويقصر المدة ويقوي حجة الدول في مطاردة إنجلترا، لو تساهلت الدولة العثمانية واطمأنت الحكومة المصرية لحالتها الحاصرة، فبأي وجه تؤمل الحكومتان نفعا من مطاردة الدول؟! على فرض لو استخلصت مصر من أيدي الإنجليز ماذا يبعث الدول على مقارعة دولة عظيمة كدولة بريطانيا لتسلبها ملكا عظيما ثم تسلمه للدولة العثمانية أو الحكومة المصرية؟

لا نتحاشى أن نقول: إن الدولة العثمانية والحكومة المصرية واقعتان بين خطرين عظيمين: إن فاز الإنجليز في السودان فقد ضاع القطر المصري، واستقر فيه السلطان لحكومة إنجلترا، سواء عارضت الدول أم لم تعارض، وضياع القطر المصري هو ضياع الكل - كما أشرنا إليه مرارا وكما يشهد به موقع البلاد المصرية من سائر بلاد المسلمين - وإن خاب الإنجليز في منازلة الثائرين فليس يخفى على عقل عاقل ما يترتب على هذه الخيبة، وما ينشأ عن غلبة محمد أحمد وأتباعه وانهزام العساكر الإنجليزية، وربما كان هذا الأمر الثاني، سببا لمداخلات أجنبية في جميع أقطارنا.

ليس من الصعب على الدولة العثمانية ولا على الحكومة المصرية أن تظهرا شيئا من الشدة وتأخذا بجانب من القوة، وتقفا على قدم الثبات؛ ودولة إنجلترا في تخبط مع الدول وارتباط بالسودان، والمسلمون من جميع الأقطار في هياج شديد، لو قامتا بها يسهل عليهما لحفظ لهما الموجود ورد المفقود، وسدت أبواب المطامع، وأخذت الدولة العثمانية مكانا من القوة تخشع له قلوب الجبارين، ولازدادت بذلك ثقة المسلمين وانبعثت آمالهم.

سلكت جريدتنا مذهب الصدق في بيان حال الإنجليز مع الدولة العثمانية، وأثبتت - عن بصيرة وكمال خبرة - أن الإنجليز يهابون منافرة الدولة ويخشون سوء مغبتها. جريدتنا تنادي بذلك، من يوم صدورها بينا أن للدولة سلطة معنوية في الهند لم تبلغها حكومة الإنجليز بعد إفراغ جهدها.

هذه حقيقة الأمر، ومع ذلك لا ندري سر هذه السياسة اللينة التي لا نرى لها أثرا إلا في الأوراق وتحت أسنة الأقلام، والإنجليز يقاتلون ويتملكون وتزداد أقدامهم رسوخا يوما بعد يوم، وانطلق بهم الغي إلى أن أطالوا أيديهم إلى الأوقاف المصرية يطلبون التصرف في خزينتها والقيام على إدارتها.

ناپیژندل شوی مخ