ظنت أنها ملكت أرض مصر، ووجدت عليها دينا ثقيلا فرغبت تخفيفه؛ لأنها ترى ما ينفق من خزانة مصر إنما ينقص من خزانة إنجلترا، ولم تقصد بتخفيفه رحمة الفلاحين، ولم يبعثها عليه الشفقة على المصريين، وعميت بصيرة من ظن بحكومة إنجلترا قصد المرحمة في هذا أو في غيره من الأعمال.
قصدت تعمية الأمر على الدول؛ لتنال منهم تصديقا على أعمالها، فيتسع لها المجال فيما بعد، وبدأت باستمالة فرنسا وعقدت معها اتفاقا يوطن نفوس السياسيين على الرضاء بما تريد، ثم أنشأ السير بارنج لائحة للمالية أثبت فيها عجز مصر عن أداء ديونها، إلا أن رجال الدول كانوا أحذق من أن ينخدعوا؛ لعلمهم أن وادي النيل أحوج إلى العدالة وحسن الإدارة من تخفيف الدين.
لم يخف على السياسيين أن مصر لو سلمت إدارتها لحاكم نافذ الكلمة قوي العزيمة واسع الخبرة بأحوال البلاد، لوسعت قدرتها أداء ما عليها بل وما يزيد عليه - وإن كان يثقل على دولة تجارية.
قررت في الاتفاق الفرنسي إطالة مدة حلولها العسكري إلى ثلاث سنوات ونصف ثم تخرج، على شرط اتفاق جميع الدول على خروجها، فعلقته بما يشبه المحال؛ لتسهل عليها المواربة، ولكن لم يذهب على رجال السياسة في سائر الدول أن بقاء إنجلترا في مصر لا يزيدها إلا خرابا.
ولما انعقد المؤتمر كشف مسيو دبلنيير الفرنسي ما في لائحة بارنج من الأغلاط، فشرعت إنجلترا في تهديد فرنسا بالميل إلى ألمانيا، إلا أن السفير الألماني، وهو تلميذ البرنس بسمارك ولا يعمل إلا بإشارته، كان أميل إلى فرنسا؛ فإن سياسة البرنس مبنية على التفريق بين فرنسا وإنجلترا (وقد حصل) فحصل اليأس لحكومة إنجلترا من تخفيف النفقة على الملك الذي زعمت أنها ملكته، فحلت المؤتمر، أو انحل بطبعه، وصارت الدول الأوروبية في جهة، وإنجلترا وحدها في جهة أخرى،
1
ولم يكن من رأي الدول أن يقعوا آلة في يد إنجلترا تستعملهم في قضاء أوطارها، فطاشت جرائد الإنجليز غضبا على ألمانيا وأخذت تذكرها بأن استيلاءها على الألزاس واللورين إنما كان بمساعدة إنجلترا المعنوية، وهاجت الجرائد النمساوية والألمانية، وصالت بالطعن والتجريح في السياسة الإنجليزية، واتفقت حكومة ألمانيا والنمسا على إلزام إنجلترا بتحديد أجل لدفع الخسائر التي نشأت عن ضرب الإسكندرية.
الحكومة الإنجليزية في رجفة شديدة، وخيفة من سوء العاقبة، إلا أنها على عادتها تظهر الإقدام وتنطق بالحماس وتوهم أنها غنية عن العالمين، عمدت إلى الاستقلال بتدويخ مصر، وتقرير سلطتها فيها وإخماد فتنة السودان، وظنت أنها قادرة على ذلك، فجهزت القواد وعينت اللورد نورثبروك، أعدى أعداء المسلمين ومخرب بيوت الشرقيين، ليتولى العمل لدولته في القطر المصري، ولكن هيهات وهيهات.
نترك الآن بيان ما يترتب على انفراد الإنجليز عن سائر الدول في أمر مصر إلى عدد آخر، ونقدم كشفا لجوهر حالهم العامة.
أولا:
ناپیژندل شوی مخ