وفي هذه الأزمان الأخيرة أخرجت حكومة إنجلترا من جرابها ألعوبة أخرى، ومثلت من ضيق جوردون في الخرطوم سببا عظيما لتمهيد طريق يوصل الجيوش لتخليصه، فأصدرت أوامرها إلى أحد المصانع الكبيرة بإعداد الآلات، وتعيين المهندسين والصناع، ليسيروا إلى سواحل البحر الأحمر ويباشروا مد سكة حديد من سواكن إلى بربر كما ذكرت ذلك جريدة «البال مال جازيت»، وتزعم أن لا باعث لها على ذلك إلا الرغبة في تخليص جوردون! إن كان جوردون في خطر ويحتاج في إنقاذه إلى إرسال الجيوش، فهل يبقى حيا إلى أن تمد سكة الحديد وتخرق الجبال والأودية وتسير عليها العربات حاملة الجيوش، مع أن الأخبار قد أشارت إلى وقوعه أسيرا أو هلاكه قتيلا؟!
إذا فرضنا هلاك جوردون - كما هو الغالب - أو خلاصه، فهل تهدم دولة إنجلترا طريق الحديد، وتنقض بناءها بعد إنفاق النفقات الواسعة عليها، أو تتبرع بهبتها للحكومة المصرية سخاء وجودا؟!
كلا والله، لا هذا ولا ذاك، ولكن أخذت أقرب الطريقين للاستيلاء على السودان، فإن مد الطريق الحديدية في تلك الجهة يسهل لها الولاية على السودان الشرقي، فإذا استقر لها الأمر فيه وصلته بالغربي ولم تلاق في ذلك صعوبة، على أنها في خلال المدة بعد مد السكك الحديدية تستفيد أعظم فائدة جوهرية من مواصلة البلاد السودانية، فإنها تفتح للتجارة الإنجليزية بابا وتغلق، بصفته باب المنفعة عن مصر فتأتي بضائع البن ونحوها مما يحتاج إليه السودانيون من إنجلترا إلى سواكن، ومن سواكن تذهب إلى السودان، بدون أن تصل إلى أيدي المصريين، وتنقل الأصناف التجارية السودانية من داخل السودان إلى بربر ثم تحمل إلى سواكن وتصدر إلى أوروبا ولا يراها مصري.
فإذا تولى الإنجليز مصر - لا قدر الله - حرموا الوطنيين من الاشتراك معهم في تجارة السودان - وهي من أغزر ينابيع ثروتهم التجارية - وإذا ألجأتهم الحوادث للجلاء عنها فقد اختصوا بمادة المنفعة التي يمكن أن تأتي من أقطار السودان، وبذلك يتقوض كثير من بيوت التجارة في الأقطار المصرية، ويعدم بخرابها آلاف مؤلفة من النفوس، فليس حقيقة الغرض من مد سكة الحديد من سواكن إلى بربر إلا التوصل إلى ينبوع متدفق من ينابيع الثروة المصرية، وتحويل مجراه عن مصر إلى جزائر بريطانيا، وسنأتي على تفصيل الخسائر التي تلم بأهالي مصر من مد هذه السكة في عدد آخر.
هذه إحدى خطيئات الإنجليز الذين بعد استيلائهم على الهند حظروا على الأهالي في جميع ممالكهم أن يعالجوا زراعة الأصناف التجارية كالنيلة ونحوها، واختصت الحكومة الإنجليزية بزراعتها، وزادوا في المظلمة فحكموا على جميع الحكومات المستقلة التي يتولاها النوابون والرجوات أن لا تزرع الأفيون بحجة أن الحكومة الهندية الإنجليزية تزرعه، فلا يجوز لغيرها العمل في زراعته؛ كي لا تقل الفائدة، أو لئلا تستفيد شيئا مما تستفيد.
هذه آثار جورها، يثبتها خراب البيوت القديمة وفاقة العائلات الشريفة، في كل بلد لها فيه أمر ونهي، ولا تزال ترد شرعتها هذه في كل قطر تطأه أرجل رجالها قريبا كان أو بعيدا، فعلى البصير أن ينظر وعلى اللبيب أن يحظر.
الفصل الثالث والثمانون
فرصة يجب أن لا تضيع
نشرت الدعوات وطلبت الدول العظام لعقد مؤتمر في لندن بعد مفاوضات طويلة بين حكومتي فرنسا وإنجلترا، ماذا كان المؤتمر، وماذا نوت الحكومة الإنجليزية بالدعوة إليه؟ وماذا كانت تقصد الدول من وجود نوابها فيه؟ وأية غاية كان يطلبها خريت السياسة اللورد بسمارك؟
انعقد المؤتمر ثم صار عقيما، وبقيت تلك المقاصد مكنونة في صدور أربابها، كانت حكومة إنجلترا تطمح للاستيلاء على مصر باسم أمير مصري، وحالت دون مطمحها المصاعب أزمانا، حتى سنحت لها الفرصة المشئومة بتشويه وجه الحركة العرابية، فتيسر لها بتلك الحركة إرضاء الدول، واستئذان الدولة العثمانية بالتداخل في توقيفها، فسهل لها دخول مصر على نية أن لا تخرج، وهل يمج الظمآن بارد الزلال من فيه؟!
ناپیژندل شوی مخ