155

هذا كله والإنجليز لا يريدون أن تكون مصر تحت سيادتهم ولا يحبون أن يرفع عليها علم حمايتهم، وليس يدرى ما الغرض من السيادة والحماية سوى التصرف في الإدارات والتحكم في أولياء الأمور، هذا وزير مصر الأكبر لا ينال رخصة سفر إلا بإذن من جرانفيل، ولا يأذن له، ويرى أن له أمرا على الخديو باستيزار فلان! فإن لم تكن هذه سيادة فما هي السيادة؟!

في خبر أن الأميرال هفت وصل إلى أدوفا (من البلاد الحبشية)، وأسلفنا أنه كان في نيته إغراء ملك الحبشة بإيقاد حرب صليبية يهلك بها أمم العالم فداء لشهوات الإنجليز، إلا أنه جاءت الأخبار بعد هذا أن الأميرال لم يصادف سعة من صدور الحبشيين وأن الملك يوحنا وقف على خديعة دولة إنجلترا، ولم يظهر عناية بما أتى إليه الأميرال ولم يبعث لملاقاته أحدا، بل أظهر الحبشيون غاية الخشونة في معاملة الوفد الإنجليزي حتى إنهم امتنعوا عن بيع المأكولات لهم، وقد ذكرت بعض الجرائد صورة المعاهدة التي يراد عقدها مع ملك الحبشة - ولا يهمنا الآن ذكرها.

هجم جماعة من الثائرين على سواكن في التاسع عشر من هذا الشهر، وزحفوا إلى المدينة حتى صاروا على خمسين مترا من أسوارها، ثم أطلقوا عليها النيران مدة ساعتين حتى أثر الرصاص في كثير من البيوت، ولم يتحرك جيش الحامية أدنى حركة لمدافعة هذا الهجوم العنيف، ويظهر من هذا أن انتصار الجنرال جراهام في سواحل البحر الأحمر لم يكن له أثر وإنما هو قول يذكر ورواية تؤثر وأن غزواته لم تزد الثائرين إلا إقداما.

كتب مراسل التان في القاهرة أن لا صحة لما أشاعته الجرائد من القبض على مسيو أوكلي، النائب الأيرلندي الذي حملته همته على السفر إلى الأبيض.

الفصل الستون

في التواني الهلكة!

هذا ما ساقت إليه الحوادث المصرية، وهي مفتاح الكوارث الشرقية وفيها مغلاقها، العظام من الدول في يقظة لا سنة معها، وحركة لا فتور فيها، مفاوضات متواصلة بينها قبل انعقاد المؤتمر، ومجادلات متلاحقة يدأب فيها السياسيون من كل أمة، بعضها بالمراسلة، وشيء منها بالمشافهة، كثرت خلوات السفراء من كل دولة مع وزراء الخارجية من سواها، يتهامسون ويتغامزون، ويسرون خلاف ما يعلنون، ويذهبون إلى ما لا يقصدون، وقد حملق كل بصره للآخر؛ لعله يلمح من كان وجهه ما ينبئ عن مضمرات سره.

ويصوب كل فكره إلى ما يريد الآخر من قوله، عسى أن لا يفوته شيء ربما يعتل به، وجل ما انصرفت إليه قواهم تمثيل الرغائب، وتخييل المطامع، في صور أبعدها عن الحقيقة أقربها إلى الخيال، يعظمون الحقير، ويحقرون العظيم، ويجسمون الموهوم، ويضلون عن المعلوم، ويقربون البعيد، ويبعدون القريب، يذهب كل بصاحبه إلى رياض من الأماني باهرة الأنوار بزهور الآمال، وما نبهت بهارها إلا على حبائل من المكر، وفخاخ من الخديعة، حتى إذا راقه المنظر وخطا خطوة سقط من حيث لا يشعر، هذا يسهل صعبا، والآخر يوعر سهلا، وكل يتبع لحاظ رصيفه إذا أحس منه لمحا لمقصده أبرز له ألوانا من الفوائد الموهومة ليستلفته عن مرامه، وإذا شعر منه بفكر يوصله إلى ما يمسه، فتح عليه أبوابا من الفزع ليزعجه عما يطلبه، ويشوش عليه سيره ويقطع سبيل فكره.

منهم من يكسب الأصدقاء بمال غيره، ومنهم من يستفيد الرفقاء بكف شره، ومن الناس أقوام آخرون على غوارب أمواج الحوادث نائمون، تقذفهم كريبة وتتلقفهم أخرى، وهم عنها غافلون، زلزلت بهم الأرض زلزالها، ودهمتهم الخطوب بأرزائها، وتوالت عليهم المزعجات، وتناولتهم عواصف المفزعات، وهم في سكنة تخيل لناظرها أنهم على بساط الراحة مطمئنون، والمقبل على الفوز من هؤلاء وأولئك إنما هو أحزمهم رأيا وأثبتهم عزيمة وأشدهم بشئونه بصيرة.

يقول الإنجليز: إنا عدونا على الهند من زمان طويل فاغتصبناه وحقت لنا الملكية عليه بما هو مقرر في شرائع القوة وقوانين التغلب، وأين ديارنا من هذا الملك العظيم في شرقي آسيا.

ناپیژندل شوی مخ