الوزارة الجلادستونية في المضي إلى نهايتها فسقطت مرارا ونهضت مرارا، وآل بها الأمر بعد هذا إلى عجز عن أداء ما تعهدت به للدول وللدولة العثمانية من إصلاح الأحوال المصرية، وفزع شديد من عقبى هذه الفتن التي تداعت لها أركان النظام المصري، فلجأت إلى الدول الأوروبية تستعين بها على تخفيف الوزر، والتمست منها عقد مؤتمر في لندن وتعللت في دعوتها إلى الاشتراك معها في الأمر بفراغ الخزينة المصرية لكثرة النفقات والنقص في الإيراد، فلا يمكن بقانون التصفية الذي وضع باتفاق من الدول العظام، إلا أنها شرطت على الدول أن تكون المداولة في المؤتمر منحصرة في المسائل المالية ولا يجوز لهم أن يتعدوها إلى ذكر شيء آخر في الأحوال المصرية الحاضرة أو الماضية.
أما الدول فقد قبلت الدخول في المؤتمر على شرط مبهم وهو أن نوابهم يبحثون فيما يبحث فيه المؤتمر، إلا دولة ألمانيا فإنها لم تجب إلى الآن جوابا رسميا، ويغلب على الظن في الدوائر السياسية أنها تتبع في جوابها دولة فرنسا واتفقت على ذلك أغلب الجرائد الألمانية، وزادت دولة فرنسا في جوابها أن طبيعة المسائل التي يجري فيها البحث ربما لا تقف بالباحثين عند حد النظر في المالية، بل تنجر بهم إلى ذكر كثير من المشكلات المصرية الحاضرة.
أما هذا فلم يكن خافيا على إنجلترا، فإن النظر في المالية مع الاضطراب الواقع في الديار المصرية وتزعزع أركان السلم فيها لا تخلو نتيجته من أحد أمرين:
إما تقدير الإيراد والمنصرف بمبالغ محدودة وتخصيص شيء معين من الإيراد لوفاء فائدة الدين، مع تخفيض الفائدة مثلا، ثم يوضع قانون تمضي عليه الدول كما فعل قانون التصفية، وهذا مما لا يتصوره العقل؛ فإن عساكر الحلول الإنجليزية لم تزل في أرض مصر ومصاريفها على الخزينة المصرية، ولم يعلم أجل إقامتها ولا مبلغ عددها، والفتن قائمة في الجهات السودانية والحكومة المصرية مكلفة بتوقيفها عند حد لا يخل براحة البلاد، ولهذا العمل مصاريف ونفقات لا يمكن تحديدها ولا تقديرها، فكيف يمكن للوصول إلى تعيين النفقات وإحصائها على وجه منضبط والاضطراب الداخلي والاختلال المتفشي في الإدارات ودوائر الحكومة العليا والدنيا الذي حدث بتخلل الإنجليز فيها وقف حركة الأعمال النافعة من زراعة وتجارة وصناعة، فكيف يمكن ضبط الإيراد على نمط يعرف ويؤلف، فلم يكن غرض إنجلترا من الدعوة إلى المؤتمر أن يصل إلى مثل هذه الغاية التي لا أهمية لها مع بعدها.
الأمر الثاني أن ينساق البحث في المسائل المالية والنظر في الإيراد والمنصرف إلى ما يلزم لاستقرار الراحة في مصر من العساكر وتطلبه من النفقات، وما يستدعيه إطفاء فتنة السودان، وما تحتاج إليه المحاكم الجديدة، وغير ذلك مما تعرضه إنجلترا وتبين للدول أن مالية مصر ليس في طاقتها أن تفي بجميع هذه النفقات الواسعة، ولو كلفت بأداء بعضها فضلا عن كلها، لحق الضرر بأرباب الديون، فأحسن وسيلة للتحفيف عن المالية المصرية مع حفظ الحقوق لأربابها أن تكون الديون المصرية تحت ضمانة إنجلترا وهي تؤدي فوائدها في أزمانها، تطلب من الدول بعد هذا أن تفوض إليها التصرف في الأقطار المصرية، وتأخذ التبعة على نفسها في بذل الأموال وقتل الأرواح، وهذا الذي يمكن أن تفعله إنجلترا بعد عجزها وربما مست حقوق الدولة العثمانية في مطالبها هذه.
إلا أن التلغرافات نقلت إلينا ما يتحدث به في الدوائر السياسية بالأستانة، وهو أن الدولة العثمانية ستشترط لقبول انتظامها في المؤتمر شروطا صعبة يعز على إنجلترا قبولها لينكشف الستار عن مقاصدها في مصر، ومن جملة تلك الشروط أن تستبدل العساكر الإنجليزية المحتلة في مصر بعساكر عثمانية؛ لأن نفقات الجيوش العثمانية أقل من نفقات الجيوش الإنجليزية، وهذا هو ما يؤمل في الدولة العثمانية في هذه الأوقات وإنها فرصة لو فاتت فقل أن يأتي مثلها، وللدولة العثمانية بسلطتها على قلوب المسلمين شرقا وغربا قوة ترتعد منها فرائص الإنجليز، فأمل أوليائها اليوم أن تستعمل تلك القوة الفائقة وتجعل لها أثرا في استرداد حقوقها، وعندنا أن رجال الدولة العثمانية لا يغفلون عن هذا.
أما الحكومة الفرنسية فقد عقدت عزيمتها على مطالبة إنجلترا بإعادة نفوذ الفرنسيين في مصر كما كان قبل المراقبة، والجرائد الفرنسية على اتفاق في تبيين خلل السياسة الإنجليزية وبيان سوء مقاصد الإنجليز، والإلحاح على حكومتهم ألا تعترف بأدنى امتياز بسبب ما فعلته في واقعة التل الكبير، وهذا ما ترتجف منه الجرائد الإنجليزية عموما وتخشى عاقبته، ونظنها أسوأ عاقبة عليهم.
هذا ما يتعلق بورطتهم الجديدة التي يظنون فيها خلاصهم، وبقي عليهم ما لا نظن ولا يظنون لهم منه نجاة، دخل الثائرون مدينة بربر كما أنبأت به أواخر الأخبار، ولعبت عواصف الفتنة بأطراف مصر العليا، وأكدت أخبار البرقيات أنها لم تقف عند حدها، بل حركت السواكن في مصر السفلى، ووراء ذلك من الويل ما وراءه، فأين الخلاص لدولة إنجلترا؟ نعم لمعت بارقة حق في عقول بعض ذوي الرأي من رجالها فطلبوا أن تكون العساكر التي تبعث إلى مصر مؤلفة من عثمانية وإنجليزية، وهو نوع تقرب لما قلناه مرارا من أن هذه الفتن لا يدفع غائلتها إلا المسلمون، ولكن عليهم أن يخلصوا آراءهم من الشائبة الإنجليزية وإلا فلا نجاح، والله يفعل ما يشاء.
الفصل الخامس والأربعون
العروة الوثقى توزع مجانا!
ناپیژندل شوی مخ