فأجابه سالم بصوت يتردد بين الصحو والسكر: ها أنا ذا يا سيد عزيز! ها أنا ذا! قال هذا وتبعه متمايلا من السكر؛ فعندما بلغا الرصيف كان الحر شديدا والسماء تلتهب على الرءوس والشمس تذيب الحمر تذويبا. وكان الريف كالحا عبوسا لا يسمع منه إلا أصوات الصراصير المملة تملأ بأزيزها مطارح الحقول؛ فقال سالم: إن في السماء لنارا تتساقط على الأرض، ثم انحنى ليلتقط طرف لفافة عن الرصيف.
تعود سالم أن يجمع فضلات لفائف يرميها المسافرون على الأرض ويعمل منها كتلة لغليونه.
فقال عزيز: ما لك تتردد يا سالم؟ إنك لكثير الضجر هذا النهار. أما سالم فلم يلتقط اللفافة وبقي منحنيا، وفجأة كبا كبوة وانطرح على الرصيف دفعة واحدة. فأسرع المدير الوقتي لدى صراخ عزيز وخف وراءه الأتباع الذين كانوا يدفعون إحدى العجلات إلى الخط الرابع. عند هذا كان الضجيج قد انتشر في الحانة فانتصب يوسف على عتبة الباب مع بعض العملة ينتظرون مرور المحمل.
في تلك الآونة كانت النساء مجتمعات تحت شجرة الطلح يتحدثن في شئون شتى فسمعن الضوضاء فهجن هياجهن ورفعن أذرعهن إلى السماء مستغيثات، وخف الأولاد الأحداث إلى مكان الحادثة ولبثوا مدهوشين أمام المحمل حيث كان عزيز وغيره ينقلون جثة سالم.
أما السيد أديب فقد امتطى جواده وأسرع إلى الإتيان بالطبيب من قصبة جونية، في حين كانت الأم سالم تنطرح على جثة زوجها وتحاول أن توقظه ببكائها؛ وأما السيدة فارس فقد كانت تهتم بالأولاد، والسيدة بطرس تتعهد المريض بعنايتها، والسيدة أديب تأتيه بلفائف الكتان والقطن فضلا عن السيدة عزيز التي كانت تضن بتقديم بعض ما يتسع لها من الخيرات، فتقدم له عنايتها وأتعابها وتقف نفسها لتصرف الليل أمام وسادته.
إن من الواجب المقدس عند القرويين أن يسرعوا إلى حيث تقع المصائب ليغيثوا مظلوما أو ينجدوا محزونا: إنهم يذهبون إلى الجهة التي تقودهم إليها عاطفة قلوبهم، فطرة عذبة تدفع الإنسان إلى معاضدة أخيه الإنسان، ميل شريف إلى الحب المجرد والمؤاساة المقدسة.
يجد الأغنياء خدما أجراء يقومون بواجبهم لقاء أثمان، ويجد الفقراء عضدا وجيرانا يندفعون بعطف وشفقة في سبيل المحبة التي تربطهم؛ فالمأوى الوضيع الذي تزوره الأوجاع والنكبات يعرف كما تعرف القصور معاني الإخاء وسلوى العطف والحنان.
جاء الطبيب بعد هنيهة فقطع الرجاء من شفاء المريض؛ لأن الفالج الذي تسلط على شطر كبير من الجسد كان قد امتد إلى الدماغ.
بقي المسكين ثمانية أيام يتردد بين الموت والحياة حتى فاجأته المنية قبل أن تمنحه ساعة يستفيق فيها فيرى أبناءه وامرأته.
وقفت الأم سالم أمام جثة زوجها وأخذت تقص على مسامع جاراتها المقاصد التي تنويها في المستقبل. كان لهذه الأم أخ بكر يحترف الحراثة في زحلة، وكان مضطرا إلى خادمة؛ لأنه أرمل، فعرض على شقيقته أن تحل محل تلك الخادمة، وقال لها إنه يهيئ عملا لأولادها ويؤجر فريدا لأحد المستكرين في الضواحي لكي يحرس مواشيه ومزروعاته. فسألت السيدة أديب فريدا يوما عما إذا كان يرضى بذلك، فأجابها بإشارة لم تفهمها السيدة، وأخذ يفكر قائلا في نفسه: أمن الممكن أن أذهب مع تلك المرأة وهؤلاء الأولاد، وأترك الذين يعطفون علي ويتعهدونني بعنايتهم كعائلة فارس وأديب وبطرس ونجيب ولبيب وراغب؟
ناپیژندل شوی مخ