Contentment: Its Concept, Benefits, and the Path to It
القناعة مفهومها منافعها الطريق إليها
خپرندوی
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٢٢هـ
د خپرونکي ځای
المملكة العربية السعودية
ژانرونه
القناعة مفهومها منافعها الطريق إليها
[المقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيزداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رزقوا إذا قلت فيهم القناعة. وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم، ولا مساكن تكنّهُم؛ إذ يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء، ولن يشبعهم شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم، ولا تبصر من هم تحتهم؛ فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد، فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي أبدًا.
ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبدًا؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء، وهذا من أبعد المحال؛ ذلك أن أي إنسان إن كَمُلت له أشياء قصُرَت عنه أشياء، وإن علا بأمور سَفُلَت به أمور، ويأبى الله- تعالى- الكمال المطلق لأحد من خلقه كائنا من كان؛ لذا كانت القناعة والرضى من النعم العظيمة، والمنح الجليلة التي يغبط عليها صاحبها.
ولأهمية هذا الموضوع- ولا سيما مع تكالب كثير من الناس على المادّيات، وانغماسهم في كثير من الشهوات- أحببت أن أذكر نفسي وإخواني؛ والذكرى تنفع المؤمنين.
1 / 3
[مفهوم القناعة]
مفهوم القناعة توجد علاقة متينة بين القناعة وبين الزهد والرضى، ولذلك عرف بعض أهل اللغة القناعة بالرضى، والقانع بالراضي (١) .
قال ابن فارس: "قَنع قناعةً: إذا رضي وسميت قناعة؛ لأنه يقبل على الشيء الذي له راضيًا" (٢) .
وأما الزهد فهو: ضد الرغبة والحرص على الدنيا، والزهادة في الأشياء ضد الرغبة (٣) وذكر ابن فارس أن مادة (زهد) أصل يدل على قلة الشيء، قال: والزهيد: الشيء القليل (٤) .
عرف شيخ الإسلام ابن تيمية- ﵀ الزهد بقوله: "ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله- ﷿ " (٥) .
ونحا فريق من أهل الاصطلاح إلى تقسيم القناعة، وجعل أعلى
_________
(١) لسان العرب، مادة (قنع) (١١ / ٣٢١) .
(٢) معجم مقاييس اللغة مادة (قنع) (٥ / ٣٣) .
(٣) لسان العرب، مادة (زهد) (٦ / ٩٧) .
(٤) معجم مقاييس اللغة، مادة (زهد) (٣ / ٣٠) .
(٥) مجموع الفتاوى (١١ / ٢٧) وانظر: مكارم الأخلاق عند ابن تيمية (٢٥٩) .
1 / 4
مراتبها الزهد كما هو صنيع الماوردي؛ حيث قال: "والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يقتنع بالبلغة من دنياه ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه؛ وهذا أعلى منازل أهل القناع. ثم ذكر قول مالك ابن دينار: "أزهدُ الناس من لا تتجاوز رغبته من الدنيا بلْغته".
الوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة. وهذا أوسط حال المقتنع، وذكر فيه قول بعضهم: "من رضي بالمقدور قنع بالميسور".
الوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سنح، فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيرًا، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيرا. وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة، فأما الرغبة: فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنحت، وأما الرهبة، فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت" (١) أهـ.
وبناء على تقسيم الماوردي فإن المنزلة الأولى هي أعلى منازل القناعة وهي الزهد أيضا، والمنزلة الثالثة هي التي عليها أكثر الذي عرفوا القناعة وهي مقصود رسالتنا تلك.
_________
(١) مختصرا من أدب الدنيا والدين (٣٢٨- ٣٢٩) .
1 / 5
وعلى هذا المعنى فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن يضرب المسلم في الأرض يطلب رزقه، ولا أن يسعى المرء فيما يعود عليه بالنفع؛ بل كل ذلك مطلوب ومرغوب. وإنما الذي يتعارض مع القناعة أن يغش التاجر في تجارته، وأن يتسخط الموظف من مرتبته، وأن يتبرم العامل من مهنته، وأن ينافق المسؤول من أجل منصبه، وأن يتنازل الداعية عق دعوته أو يميِّع مبدأه رغبة في مال أو جاه، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يذلّ المرء نفسه لغير الله- تعالى- لحصول مرغوب.
وليس القانع ذلك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رُتَب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى.
وفي المقابل فإن القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة، ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال، ولا أن تمسك يداه الملايين؛ ولكن القناعة تأبى أن تَلجَ هذه الأموال قلبه، وتملك عليه نفسه؛ حتى يمنع حق الله فيها، ويتكاسل عن الطاعات، ويفرط في الفرائض! من أجلها، ويرتكب المحرمات من ربًا ورشوة وكسب خبيث حفاظا عليها أو تنمية لها.
وكم من صاحب مال وفير، وخير عظيم، رُزق القناعة! فلا غشّ في تجارته، ولا منع أجَراءه حقوقهم، ولا أذل نفسه من أجل
1 / 6
مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق الله فيه فرضًا وندبًا، مع محافظةٍ على الفرائض، واجتناب للمحرمات. إن ربح شكر، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون. وكم من مستور يجد كفافًا؛ ملأ الطمع قلبه حتى لم يرضه ما قُسِم له! فجزع من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا بملك درهمًا ولا فلسًا.
[فوائد القناعة]
فوائد القناعة إن للقناعة فوائد كثيرة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة في الدنيا، ومن تلك الفوائد:
١ - امتلاء القلب بالإيمان بالله- سبحانه تعالى- والثقة به، والرضى بما قدر وقَسَم، وقوة اليقين بما عنده- ﷾ ذلك أن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله- تعالى- قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم حتى ولو كان ذلك القانع لا يملك شيئًا.
يقول ابن مسعود ﵁ "إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت دقيق ".
وقال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى-: "أسرُّ أيامي إليَّ يوم أصبح وليس عندي شيء ".
وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى-: "أصل الزهد
1 / 7
الرضى من الله- ﷿".
وقال أيضًا: "القُنُوع هو الزهد وهو الغنى".
وقال الحسن - رحمه الله تعالى-: "إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله- ﷿" (١) .
٢ - الحياة الطيبة: قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧] فَسر الحياة الطيبة علي وابن عباس والحسن ﵃ فقالوا: "الحياة الطيبة هي القناعة" (٢) وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى-: "من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه " (٣) .
٣ - تحقيق شكر المنعم- ﷾ ذلك أن من قنع برزقه شكر الله- تعالى- عليه، ومن تقالّه قصَّر في الشكر، وربما جزع وتسخط- والعياذ بالله- ولذا قال النبي ﷺ: «كن ورعا تكن
_________
(١) انظر هذه الآثار في جامع العلوم والحكم (٢ / ١٤٧) شرح حديث رقم (٣١) .
(٢) أخرجه عن علي والحسن الطبري في تفسيره (١٤ / ١٧) عند تفسير الآية (٩٧) من سورة النحل، وأخرجه الحاكم عن ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي (٢ / ٣٥٦) .
(٣) نزهة الفضلاء ترتيب سير أعلام النبلاء (١٥٠٤) .
1 / 8
أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس» (١) .
ومن تسخط من رزقه فإنما هو يسخط على من رزقه، ومن شكا قلّته للخلق فإنما هو يشكو خالقه- ﷾ للخلق. وقد شكا رجل إلى قوم ضيقًا في رزقه فقال له بعضهم: "شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك" (٢) .
٤ - الفلاح والبشرى لمن قنع: فعن فضالة بن عبيد- ﵁ أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: "طوبى لمن هدي إلى الإسلام، وكان عيشه كفافًا، وقنع" (٣) وعن عبد الله بن عمرو ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» (٤) .
٥ - الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات:
كالحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من
_________
(١) أخرجه ابن ماجه (٤٢١٧)، والبيهقي في الزهد الكبير (٨١٨)، وأبو نعيم في الحلية (١٠ / ٣٦٥)، وحسنه البوصيري في الزوائد (٣ / ٣٠٠) .
(٢) عيون الأخبار لابن قتيبة (٣ / ٢٠٦) .
(٣) أخرجه أحمد (٦ / ١٩)، والترمذي (٢٢٤٩) وقال: حسن صحيح والحاكم وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (١ / ٣٤) .
(٤) أخرجه مسلم (١٠٥٤)، والترمذي (٢٣٤٩) .
1 / 9
تلك الكبائر غالبًا ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها. فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له.
قال ابن مسعود ﵁ "اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله؛ ولا تحسد أحدًا على رزق الله، ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله ﵎ بقسطه وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح (١) والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط" (٢) .
وقال بعض الحكماء: "وجدت أطول الناس غما الحسود، وأهنأهم عيشًا القنوع " (٣) .
٦ - حقيقة الغنى في القناعة: ولذا رزقها الله- تعالى- نبيه محمدا ﷺ وامتن عليه بها فقال- تعالى- ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: ٨] فقد نزلها بعض العلماء على غنى النفس؛ لأن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه النبي ﷺ قبل أن تفتح عليه خيبر
_________
(١) أي: الراحة. انظر: القاموس (٢٨٢) مادة (روح) .
(٢) أخرجه ابن أبي الدنيا في اليقين (١١٨) .
(٣) القناعة لابن السني (٥٨) عن موسوعة نضرة النعيم (٣١٧٣) .
1 / 10
وغيرها من قلة المال (١) .
وذهب بعض المفسرين إلى أن الله- تعالى- جمع له الغنائين: غنى القلب، وغنى المال بما يسر له من تجارة خديجة.
وقد بين- ﵊ أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال ﷺ: «ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس» (٢) .
وعن أبي ذر ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟ " قلت: نعم يا رسول الله، قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟ " قلت: نعم يا رسول الله. قال: "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب» . الحديث (٣) .
وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه، ولو عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته، ويضحي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غدِه! فالعلة في القلوب: رضًى وجزعًا، واتساعًا وضيقًا، وليست في الفقر والغنى.
ولأهمية غنى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب -
_________
(١) انظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني (١١ / ٢٧٧) .
(٢) أخرجه البخاري (٦٤٤٦)، ومسلم (١٠٥١) .
(٣) أخرجه ابن حبان في صحيحه (٦٨٥) .
1 / 11
﵁ خطيبًا في الناس على المنبر يقول: "إن الطمع فقر، لان اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه " (١) .
وأوصى سعد بن أبي وقاص ﵁ ابنه فقال: "يا بني، إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة؛ فإنها مال لا ينفد" (٢) .
وسئل أبو حازم فقيل له: "ما مالك؟ " قال: "لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس" (٣) .
وقيل لبعض الحكماء: "ما الغنى؟ " قال: "قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك" (٤) .
٧ - العز في القناعة، والذل في الطمع: ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزًا بينهم، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعًا: «شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس» (٥) .
وكان محمد بن واسع - رحمه الله تعالى- يبل الخبز اليابس
_________
(١) أخرجه أحمد في الزهد (١١٧)، وأبو نعيم في الحلية (١ / ٥٠) .
(٢) عيون الأخبار (٣ / ٢٠٧) .
(٣) الحلية لأبي نعيم (٣ / ٢٣١) .
(٤) إحياء علوم الدين (٤ / ٢١٢) عن: نضرة النعيم (٣١٧٤) .
(٥) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٣ / ٢٥٣) والقضاعي في مسند الشهاب (١٥١) والحاكم وصححه (٤ / ٣٢٤) .
1 / 12
بالماء ويأكله ويقول: "من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد" (١) .
وقال الحسن - رحمه الله تعالى-: "لا تزال كريمًا على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك " (٢) .
وقال الحافظ ابن رجب ﵀: "وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي ﷺ بالأمر بالاستعفاف عن مسألة الناس، والاستغناء عنهم؛ فمن سأل الناس ما بأيدهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آم، فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك " (٣) .
والإمامة في الدين، والسيادة والرفعة لا يحصلها المرء إلا إذا استغنى عن الناس، واحتاج الناس إليه في العلم والفتوى والوعظ.
قال أعرابي لأهل البصرة: "من سيد أهل هذه القرية؟ " قالوا: " الحسن "، قال: "بم سادهم؟ " قالوا: "احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم" (٤) .
_________
(١) إحياء علوم الدين (٣ / ٢٩٣) .
(٢) الحلية (٣ / ٢٠) .
(٣) جامع العلوم والحكم (٢ / ١٦٨) .
(٤) جامع العلوم والحكم (٢ / ١٦٩) .
1 / 13
[صور من قناعة النبي ﷺ]
صور من قناعة النبي ﷺ لقد كان رسول الله ﷺ أكمل الناس إيمانًا ويقينًا، وأقواهم ثقة بالله- تعالى- وأصلحهم قلبًا، وأكثرهم قناعة ورضًى بالقليل، وأنداهم يدا، وأسخاهم نفسًا؛ حتى كان- ﵊ يفرق المال العظيم: الوادي والواديين من الإبل والغنم ثم يبيت طاويًا، وكان الرجل يسلم من أجل عطائه ﷺ ثم يَحسن إسلامه. قال أنس ﵁: "إن كان الرجل ليُسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها" (١) .
وقال صفوان بن أمية ﵁: «لقد أعطاني رسول الله ﷺ ما أعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليَّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي» . قال الزهري: "أعطاه يوم حنين مائة من النَّعم ثم مائة ثم مائة" (٢) وقال الواقدي: "أعطاه يومئذ واديًا مملوءًا إبلًا ونَعَمًا حتى قال صفوان ﵁: "أشهد، ما طابت بهذا إلا نفس نبي " (٣) .
وقال أنس ﵁: «ما سُئل رسول الله ﷺ على
_________
(١) أخرجه مسلم (٢٣١٢) .
(٢) أخرجه مسلم (٢٣١٣) .
(٣) مغازي الواقدي (٢ / ٨٥٤) .
1 / 14
الإسلام شيئا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: "يا قوم أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة» (١) .
إن تلك الصور الرائعة من بذله- ﵊ جعلت أقوامًا وسادة وعتادة من أهل الجاهلية تلين قلوبهم للإسلام وتخضع للحق، وأمامها صور عجيبة لا تقل في جمالها عنها من قناعته- ﵊ ورضاه بالقليل، وتقديم غيره على نفسه وأهله في حظوظ الدنيا؛ بل وترك الدنيا لأهل الدنيا، ومن ذلك:
[أولًا قناعته ﷺ في أكله]
أولًا: قناعته ﷺ في أكله: أ- روت عائشة ﵂ تخاطب عروة بن الزبير ﵄ فقالت: «ابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله ﷺ نار، فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان؛ التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله ﷺ جيران من الأنصار كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله ﷺ من أبياتهم فيسقيناه» (٢) .
ب- وعنها- ﵂ قالت: «لقد مات رسول الله ﷺ
_________
(١) أخرجه البخاري (٦٤٥٩)، ومسلم (٢٩٧٣) .
(٢) أخرجه مسلم (٢٩٧٤) .
1 / 15
وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين» (١) .
ج- وعن قتادة ﵁ قال: «كنا نأتي أنس بن مالك وخبازه قائم، وقال: "كلوا؛ فما أعلم النبي ﷺ رأي مرققا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطًا بعينه قط» (٢) .
[ثانيًا قناعته ﷺ في فراشه]
ثانيًا: قناعته- ﷺ في فراشه: أ- عن عائشة ﵂ قالت: «كان فراش رسول الله ﷺ من أدم وحشوه من ليف» .
ب- وعن ابن مسعود ﵁ قال: «نام رسول الله ﷺ على حصير فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاء؛ فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» (٣) .
ج- وعن عائشة ﵂ قالت: «كان لرسول الله ﷺ سرير مشبك بالبردي عليه كساء أسود قد حشوناه بالبردي، فدخل
_________
(١) أخرجه البخاري (٦٤٥٧) .
(٢) أخرجه أحمد (١ / ٣٩١)، والترمذي وقال: حسن صحيح (٢٣٧٨)، وابن ماجه (٤١٩)، والحاكم (٤ / ٣١٠) .
(٣) أخرجه ابن حبان (٧٠٤) ونحوه من حديث ابن عباس- ﵄ في قصة إيلائه من نسائه عند أحمد (١ / ٣٣)، والبخاري (٢٤٦٨)، ومسلم (١٤٧٩) .
1 / 16
أبو بكر وعمر عليه فإذا النبي ﷺ نائم عليه، فلما رآهما استوى جالسًا فنظر، فإذا أثر السرير في جنب رسول الله ﷺ فقال أبو بكر وعمر - وبكيا-: يا رسول الله، ما يؤذيك خشونة ما نرى من سريرك وفراشك، وهذا كسرى وقيصر على فرش الحرير والديباج؟ فقال: "لا تقولا هذا؛ فإن فراش كسرى وقيصر في النار، وإن فراشي وسريري هذا عاقبته الجنة» (١) .
[ثالثا تربيته ﷺ أهله على القناعة]
ثالثا: تربيته ﷺ أهله على القناعة: لقد ربى النبي ﷺ أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه البقاء معه، والصبر على القلة، والزهد في الدنيا حينما خيرهن بين الإمساك على ذلك أو الفراق والتمتع بالدنيا كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا - وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٢٨ - ٢٩]
فاخترن- ﵅ الآخرة، وصبرن على لأواء الدنيا، وضعف الحال، وقلة المال طمعًا في الأجر الجزيل من الله- تعالى - ومن صور تلك القلة الزهد إضافة لما سبق:
_________
(١) أخرجه البخاري (٦٤٥٥)، ومسلم (٢٩٧١) .
1 / 17
أ- ما روت عائشة ﵂ قالت: «ما أكل آل محمد ﷺ أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر» (١) .
ب- وعنها- ﵂ قالت: «ما شبع آل محمد ﷺ من خبز وشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله ﷺ» (٢) .
ولم يقتصر ﷺ في تربيته تلك على نسائه بل حتى أولاده رباهم على القناعة «فقد أتاه سبي مرة، فشكت إليه فاطمة ﵂ ما تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادمًا يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال: "لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع» (٣) .
ولم يكن هذا المسلك من القناعة إلا اختيارا منه ﷺ وزهدًا، في الدنيا، وإيثارًا للآخرة.
نعم! إنه ﷺ رفض الدنيا بعد أن عرضت عليه، وأباها بعد أن منحها. وما أعطاه الله من المال سلطه على هلكته في الحق، وعصب على بطنه الحجارة من الجوع ﷺ قال عليه الصلاة
_________
(١) أخرجه مسلم (٢٩٧٠) .
(٢) أخرجه البخاري (٦٤٥٤)، ومسلم (٢٩٧٠) .
(٣) جزء من حديث أخرجه أحمد واللفظ له (١ / ٩٧، ١٠٦، ١٥٣)، والبخاري (٣٧٠٥) .
1 / 18
والسلام: «عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا يا رب؛ ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا. فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك؛ وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» (١) .
[صورة من قناعة الصحابة والسلف الصالح]
صورة من قناعة الصحابة والسلف الصالح وسار على منهج رسول الله ﷺ صحابته الكرام- ﵃ والتابعون لهم بإحسان؛ فقد عاشوا أول الأمر على الفقر والقلة، ثم لما فتحت الفتوح واغتنى المسلمون بقوا على قناعتهم وزهدهم، وأنفقوا الأموال الطائلة في سبيل الله تعالى، وهذه نماذج من عيشهم وقناعتهم:
أ- عن أبي هريرة ﵁ قال: "رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته" (٢) .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى- قوله: "لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة " يُشْعِر بأنهم كانوا أكثر من
_________
(١) أخرجه أحمد (٥ / ٤٥٢)، والترمذي وحسنه (٢٣٤٨)، وأبو نعيم في الحلية (٨ / ٣٣١)، وفي سنده علي بن يزيد يضعف.
(٢) أخرجه البخاري (٤٤٢) .
1 / 19
سبعين (١) .
ب- وعن عائشة ﵂ قالت: «من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم، فلما افتتح ﷺ قريظة أصبنا شيئًا من التمر والودك» (٢) .
ثم فتح الله على المسلمين، وأصبح المال العظيم يرسل إلى عائشة ﵂ فبقيت على قناعتها وزهدها وأخذت تفرق المال على محتاجيه؛ فقد بعث إليها معاوية ﵁ بمائة ألف درهم. قال عروة بن الزبير: "فوالله ما أمست حتى فرقتها،، فقالت لها مولاتها: "لو اشتريت لنا منها بدرهم لحمًا"! فقالت: "ألا قلت لي؟ " (٣) .
لقد نسيت نفسها- ﵂، وفرقت مالها، واستمرت على قناعتها بعد وفاة رسول الله ﷺ.
وعن أم ذرة قالت: "بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين يكون مائة ألف، فدعت بطبق؛ فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: "هاتي يا جارية فطوري "، فقالت أم ذرة: "يا أم
_________
(١) فتح الباري (١ / ٦٣٩) .
(٢) أخرجه ابن حبان (٦٨٤) والودك: دسم اللحم.
(٣) أخرجه أبو نعيم (٢ / ٤٧)، والحاكم (٤ / ١٣) .
1 / 20
المؤمنين! أما استطعت أن تشتري لنا لحمًا بدرهم؟ " قالت: لا تعنفيني، لو أذكرتني لفعلت" (١) .
فهل تقتدي نساء المسلمين بعائشة ﵂ بدلًا من سرف الإنفاق على النفس وحظوظها والزينة؟! .
ج- وعن عامر بن عبد الله «أن سلمان الخير حين حضره الموت عرفوا منه بعض الجزع، قالوا: ما يجزعك يا أبا عبد الله، وقد كانت لك سابقة في الخير؟ شهدت مع رسول الله ﷺ مغازي حسنةً، وفتوحًا عظاما! قال: يجزعني أن حبيبنا ﷺ حين فارقنا عهد إلينا قال: "لَيكفِ اليوم منكم كزاد الراكب" فهذا الذي أجزعني؛ فجُمعَ مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر دينارًا، وفي رواية: خمسة عشر درهما» (٢) .
د- وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم - رحمه الله تعالى- يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه فكتب إليه: "قد رفعت حوائجي إلى مولاي، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك منها عني قنعت" (٣) .
_________
(١) أخرجه ابن سعد في الطبقات (٨ / ٦٧)، وأبو نعيم في الحلية (٢ / ٤٧) .
(٢) أخرجه الطبراني في الكبير والرواية الثانية له (٦١٨٢، وأبو نعيم في الحلية (١ / ١٩٧)، وصححه ابن حبان (٧٠٦) .
(٣) الإحياء (٣ / ٢٣٩)، والقناعة لابن السني (٤٣) عن نضرة النعيم (٣١٧٣) .
1 / 21
[أسباب تحول دون القناعة]
أسباب تحول دون القناعة ذكر الماوردي - رحمه الله تعالى- الأسباب التي تمنع القناعة بالكفاية، وتدعو إلى طلب الزيادة وهي- على سبيل الاختصار-:
١ - منازعة الشهوات التي لا تنال إلا بزيادة المال وكثرة المادة، فإذا نازعته الشهوة طلب من المال ما يوصله إليها، وليس للشهوات حد متناهٍ، فيصير ذلك ذريعة إلى أن ما يطلبه من الزيادة غير متناه، ومن لم يتَناهَ طلبه، استدام كده وتعبه، فلم يفِ التذاذه بنيل شهواته بما يعانيه من استدامة كده وأتعابه، مع ما قد لزمه من ذم الانقياد لمغالبة الشهوات، والتعرض لاكتساب التبعات، حتى يصير كالبهيمة التي قد انصرف طلبها إلى ما تدعو إليه شهوتها فلا تنزجر عنه بعقل، ولا تنكف عنه بقناعة.
٢ - أن يطلب الزيادة ويلتمس الكثرة ليصرفها في وجوه الخير، ويتقرب بها في جهات البر، ويصطنع بها المعروف، ويغيث بها الملهوف؛ فهذا أعذر، وبالحمد أحرى وأجدر، متى ما اتقى الحرام والشبهات، وأنفق في وجوه البر؛ لأن المال آلة المكارم وعون على الدين، ومتألف للإخوان. قال قيس بن سعد: "اللهم ارزقني حمدًا ومجدًا؛ فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال". وقيل لأبي الزناد: "لم تحب الدراهم وهي تدنيك من
1 / 22