Constancy and Inclusiveness in Islamic Law
الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية
خپرندوی
مكتبة المنارة
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
د خپرونکي ځای
مكة المكرمة - المملكة العربية السعودية
ژانرونه
الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية
تأليف
الدكتور عابد بن محمد السفياني
أستاذ مساعد بجامعة أم القرى
مكتبة المنارة
ناپیژندل شوی مخ
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الطبعة الأولى
١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
1 / 2
الثباتُ والشمول في الشَريعةِ الإسْلاميَّة
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 4
أصل هَذَا الْكتاب رِسَالَة دكتوراه فِي الشَّرِيعَة الإسلامية فرع الْفِقْه وَالْأُصُول قدمت لكلية الشَّرِيعَة بجامعة أم الْقرى بِمَكَّة المكرمة ١٤٠٧ هـ ومنحت الدرجَة العلمية بِتَقْدِير ممتاز.
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣].
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن عمدًا عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين.
وبعد: فإن الإنسان محتاج إلى مبادئ ثابتة تطمئن اليها نفسه، ذلك لأنه مخلوق مفطور على "التوحيد"، الذي هو دين الرسل جميعًا، وهو الحق الثابت الذي لا يتغير.
وهذه الفطرة السوية تكسب النفس الإنسانية ثباتًا في القيم والمفاهيم والمبادئ، وعن طريق ذلك يعمر الإنسان الأرض ويقوم بمهمة الخلافة، وهو يشعر بتكريم الله له، حيث أنزل له "الوحي" وضمنه جوابًا عن كل مسألة تحتاج الى جواب، فإذا به يملك صورة صحيحة عن عالم الغيب، وأحكامًا شرعية يحتكم إليها في عالم الشهادة، وكل ذلك متسق مع فطرته، ومع هذا الكون الذي يعيش فيه. فقد خلق الله هذا الكون حيًا متحركًا كما خلق الإنسان حيًا مريدًا همامًا، فها هنا مجموعة حركة متجددة تحتاج إلى توجيه وضوابط، والدوافع والرغبات والمتاع الذي خلقه الله أيضًا لهذا الإنسان يضمن نشاط تلك الحركة فإذا بها حركة مستمرة موارة متجددة.
1 / 7
وقد قدر الله سبحانه أن يذعن الكون كله فلا يخرج عن تلك الضوابط .. أما بنو آدم فقد خيرهم الله بين اتباع سبيل الرشد، أو الانحراف عنه فمنهم من ثبت على فطرته السوية والتزم الهدي الرباني، ومنهم من تحول عنها فانفلت من تلك الضوابط واستجاب للانحراف.
ومن رحمة الله سبحانه أن قوى صلاح الفطرة بتلك الضوابط والتوجيهات وإن هذه الضوابط هي الأحكام الشرعية من الحلال والحرام التي تشمل جميع شؤون الإنسان ومجتمعه الخاصة والعامة، واتصفت هذه الأحكام -بما يناسب الكون والإنسان- من الثبات والشمول والحركة والتجدد والعطاء. ولقد حققت الأجيال الأولى من البشرية -على مدى عشرة قرون (١) - هذه الصورة الشرعية بما فيها من ثبات وشمول وحركة وتجدد بالمستوى الذي كانت تعيشه في تلك الفترة، والمجتمعات الرعوية، أو الزراعية، أو الصناعية تحتاج إلى هذه الصورة الشرعية، وكل يعيش بها حسب ما آتاه الله من قوة.
ثم طرأ على البشرية حالة غير سوية ئما أعرضت عن الهدي الرباني وخرجت عن ضوابطه، فاجتالتها الشياطين وأفسدت فطرتها.
ولقد حرص أعداء البشرية -الشيطان وجنده- على تعميق هذا الانحراف، واستعملوا من الأسلحة أخطرها، فكان ذلك السلاح هو "التبديل" تبديل المفاهيم والقيم وتلبيس الحق على الناس واستحداث صورة جديدة للمفاهيم والقيم والأحكام، وتغييرها في كل عصر ومكان وتزيينها للناس، والحيلولة بينهم وبين الهدي الرباني.
وبدأ الصراع بين فريقين:
الأول: الأنبياء والرسل وأتباعهم من المصلحين:
ومهمتهم المحافظة على الفطرة السوية -وهي التوحيد- وإبعاد الشبهات
_________
(١) كما قاله ابن عباس ﵄. تفسير ابن كثير ١/ ٢٥٠.
1 / 8
عنها وتربية الناس على أحكامه، حرصًا على الاستقامة والثبات عليها، ومن ثم بناء حركة شاملة متجددة مع التزام للمنهج الرباني بشموله.
الثاني: الشيطان وأتباعه من المفسدين:
ومهمتهم إفساد الفطرة ونشر الشرك وأحكامه، حرصًا منهم على إفساد الأرض بتشريعات غريبة عن طبيعة الفطرة، يضعونها بأنفسهم، ويطلقون الإنسان مع رغباته وأهوائه بلا ضوابط شرعية، ويمدونه بأحكام متغيرة متبدلة لا تعرف ثباتًا ولا شمولًا ولا تحفظ الفطرة الإِنسانية من الفساد، لأنها موضوعة على مخالفة مقصد الشارع وهو الله سبحانه.
ولم يكتفوا بذلك، بل عادوا على "الوحي" الرباني يحاولون تبديله حتى لا يجد المصلحون مرجعًا يصححون عليه الفساد الذي طرأ على البشرية.
ولقد امتنع عليهم تبديل "الكتاب" و"السنة" وهما الحق الذي أنزله الله على نبينا محمد ﷺ وأرسله به إلى الناس كافة إلى يوم القيامة، ذلك بأنه وحي تكفل الله بحفظه نعمة منه وفضلًا كما قال تعالى:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (١).
فلجأ هذا الفريق إلى حيلة أخرى فأخذ في تبديل المعاني الشرعية فجعل السنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والتوحيد تخلفًا وخروجًا إلى الانحراف، والشرك تقدمًا وتوحيدًا، والفضيلة رذيلة، والرذيلة فضيلة وهكذا .. والكتاب والسنة بين يدي المسلمين يقرأون نصوصهما على غير مراد الله لا ينجو منهم من هذه الفتنة إلّا مارحم ربك، وصُدّر هذا الفهم إلى الأمم الأخرى، وتواصى على نشره أعداء البشرية سواء في داخل الأمة أو خارجها، فترى أئمة الغزو الفكري في العالم يقرأون الكتاب والسنة ويدرسونها ويحرفون معانيها ويسعون في فتنة التبديل ... وينشرون دراساتهم وكتبهم لتحقيق هذه الغاية.
_________
(١) سورة الحجر: الآية ٩.
1 / 9
وقبل ذلك وقعت البشرية في فتنة المخالفين من داخل هذه الأمة، فقد حرفت "الفرق الضالة" عقيدة الإسلام وشريعته، وسعت في فتنة التبديل مع استبقاء الانتساب للكتاب والسنة، وقد استفاد أئمة الغزو الفكري منهم وبنوا على تجربتهم واجتمع جهدهم -وهم في أمر مختلف- ولكنه يكون أقوى اجتماعًا وأشد تناصرا عند نشر فتنة التبديل والتغيير مع اختلاف الأساليب والمواقع والشارات والشعارات، وعدو البشرية الأول يرضى عن ذلك كله إذا ما كان الهدف واحدًا والغاية التي رسمها مطلوبة ومتحققة.
وإن المسلمين اليوم قد أحاطت بهم هذه الفتنة كما أحاطت بالبشرية في أكثر مراحلها وهي تحيط بها اليوم من جميع أقطارها، وليس لنا ولا لها أن ننتظر رسولًا جديدًا يرفع هذه الفتنة بإذن الله، ولكن علينا أن نستمسك بالكتاب والسنّة ونحذر من فتنة التبديل، ونتبع ما كان عليه نبي هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، وماربي عليه أصحابه رضوان الله عليهم لنكون بفضل من الله من الطائفة التي تقوم بالحق، وبهذا يتحقق لنا أهم أسباب النصر، ولم يبق بعد ذلك إلا الصبر على بذل الجهد وإحسان العمل لنتغلب على الأعداء، ونحول بين البشرية وفتنتهم.
إن الصراع بين أهل الحق والباطل ما زال قائمًا .. وقد انقطع في كثير من مراحل البشرية قبل بعثة النبي يكرِو عندما غلب أهل الباطل، ولكنه في هذه الأمة لن ينقطع، لأن المصدر الرباني للهدي محفوظ، وطائفة الحق لا تزول وأعداء الدين داخل الأمة وخارجها أمسكوا بالفتنة الجديدة فتنة تبديل المفاهيم والقيم والأحكام واجتمعوا على نصرتها، وتوافرت جهودهم على ذلك، وأمنتهم هذه الأمة -كما أمنتهم البشرية في جميع أقطار الأرض- لما دعوا إلى السلام وجمع العالم تحت رايته وكفوا عن محاربة الدين محاربة صريحة، وأخذوا في طرق أخرى ملتوية وقام أئمتهم المفكرون بدراسة الكتاب والسنّة وتاريخ الإسلام تمامًا كما انتسب إليها أئمة الفرق الضالة وسعوا إلى أغراضهمٍ تلك ... جهلًا أو عنادًا، وجعلوا العقل والبحث العلمي -بزعمهم- رائدًا لهم فوافقهم على ذلك كثير من الكتاب والباحثين في الدراسات الإِسلامية، فعمت تلك الفتنة في العالم
1 / 10
الإسلامي وأنشأت واقعًا أصبح فيه أهل الحق غرباء، وفرح أعداء الإسلام بتجهيل هذه الأمة بدينها، ونشطوا في نشر المذاهب الفكرية المعاصرة، التي تنادي بالفصل بين العقيدة والشريعة وفصل الحياة الدنيا عن الآخرة، وكان في مقدمتها "العلمانية" (١).
ولم تكن قدرات العقل الإسلامي من القوة والصفاء بحيث يرفض هذا الانحراف ويتمسك "بالوحي" وسبب ذلك يرجع إلى غزو ثقافي قديم تقبله "العقل الإسلامي" وخُدع به، فَسهُل عليه تقبل هذا الغزو الحديث المتمثل في المذاهب المعاصرة.
لقد أثر المنهج العقلي الذي دخل على الأمة الإسلامية من ثقافة اليونان عن طريق المعتزلة أثرًا بالغًا في الأصول والفروع، وقد شُغِلَت به المعتزلة كثيرًا في الأصول الاعتقادية، وأشْغَلت الناس به، وتركت في الأمة آثارًا بالغة السوء ما يزال المصلحون يعانون منها، وورّثت مسالك فاسدة في الأصول أثّرت على الفروع العملية وأضعفت من سلطان الشريعة، وجعلت للعقل منزلة تقارب الشرع أو تضاهيه، تركت هي الأخرى آثارًا بالغة السوء، تمثلت في بعض الأراء عند بعض الشذاذ .. ومن سار سيرتهم في الأمة بعد ذلك من الكتاب المحدثين، وانتهت هذه الكتابات يتأثر المتأخر منها بالمتقدم إلى أن العقل له حق تعطيل العمل بالنص بجميع أفراده بحكم "المصلحة". وذلك هو التغيير والتبديل.
ومن الأثار السيئة التي ترتبت على هذه الأفكار الخطيرة أن تزعزع مفهوم "الثبات في الشريعة" عند بعض الدارسين للفقه الإسلامي والمتصلين بالدراسات
_________
(١) نشأ هذا المذهب الذي أطلق عليه مصطلح "العلمانية" في أوروبا وهو "حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة ... باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية" ولذلك فإن أقرب ترجمة تؤدي المقصود به عند أهله هو "اللادينية". انظر بحثًا مفصلًا عن هذا في كتاب مذاهب فكرية معاصرة ص ٤٤٥ - ٤٤٦، للأستاذ محمد قطب، دار الشروق ١٤٠٣ هـ.
1 / 11
الشرعية، ثم انتشر هذا الأثر السيء في داخل الأمة، وخاصة بعد أن أصبح النظر في المسائل الدينية مشاعًا لكل أحد علم أوجهل، فضعف سلطان "الشريعة" على كثير من النفوس، وليس ذلك بعجيب لأنه إذا ضعف سلطانها على قلوب بعض المنتسبين للعلم، فأعطوا العقل حق الحكم على النص بإلغاء مقتضياته، فإنه لابد من أن يترك هذا المسلك الفاسد أثره داخل الأمة الإسلامية.
ومن هنا جُعل للعقل منزلة الحكم على الشريعة بالزيادة أو النقص، وفُتح باب البدع في الأصول والفروع، وكان تحقق هذا الأثر على صفات الشريعة سببًا في دراسة هذا الموضوع، لمعرفة الضوابط العلمية التي اتفق عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الإِسلام واستدلوا عليها بالكتاب والسنة والإجماع.
ويترتب على ذلك أن نتعرف على منهجهم في الاستدلال لأنه من "الدين" وكل ما يشمله مفهوم الدين ملزم لنا، ومن هنا نفرق بين منهج الاستدلال الإسلامي ومسالك النظر الفاسدة عند المخالفين قديمًا وحديثًا، ويتكفل البحث ببيان الفرق في كل موضع بما يناسبه، وفي هذا محافظة على ثبات الشريعة من جانب ومن جانب آخر فيه بيان لكيفية تحقق شمولها في الواقع.
والطريق المؤدي لذلك كله هو دراسة منزلة هذه الشريعة، وبيان أن الشارع إنما هو الله سبحانه، وأن النسخ والتبديل والتغيير ليس لغيره، كما أن إنشاء الحكم وإرسال الرسل ليس لسواه سبحانه، وهذه عقيدة من العقائد التي تحتاج إلى تجلية فقد قل الحديث عنها - وإن كانت موجودة في كتب الأصوليين تحت عنوان "من هو الحاكم"، فكان لا بد من الحديث عنها وتجليتها، لأنها ضرورية لإدراك الفرق بين الألوهية والعبودية، وبين الإسلام والجاهلية، وبين السنّة والبدعة، ولكل طوائف البشرية مواقف منها، يتحدد بعدها موقفهم من هذه الشريعة من حيث ثباتها وشمولها، قبولها أو رفضها، الزيادة فيها أو النقص منها.
ويتصل بهذا الضابط ضوابط أخرى لا بد من الحديث عنها، ذلك أن كثيرًا
1 / 12
من الباحثين المحدثين من الفقهاء وكثيرًا من المستشرقين ومن تابعهم، اضطربوا في تحديد منزلة "الفقه الإسلامي" فمنهم من أسقط الشرعية عنه باعتبار أنه عمل بشري وضعي، ومنهم من بالغ في متابعة المجتهدين حتى كف نفسه وغيره عن التصحيح الذي هو جزء من الاجتهاد، وأمام هذه المواقف المختلفة التبس مفهوم الفقه الإسلامي بمصطلح "الشريعة"، فكان لا بد من دراسة تفصيلية تبين الفوارق بين أهم المصطلحات المتصلة بهذا البحث ومن أهمها "الشريعة" و"الفقه" و"علم الكلام"، وذلك أمر ضروري حتى نتعامل مع كل مصطلح وهو في موضعه العلمي السليم ونعطيه حقه من الصفات الشرعية، وهذا طريق مهم لمعرفة منزلة هذه "الشريعة" على حقيقتها دون أن تلتبس بغيرها من المصطلحات، ولكي نحدد أيضًا مقصودنا بالثبات والشمول ونبين الأدلة عليه، لأن الثبات والشمول في "الشريعة" غير الثبات والشمول في "الفقه"، وقد كان المنهج الذي دُرست به هذه المسائل الخطيرة في الدين منهجًا تأثر أثرًا كبيرًا بمسالك أهل الكلام من المبتدعة قديمًا، ومن تابعهم من المحدثين، فانتشرت الدعوة لتغيير بعض أحكام الشريعة، وذلك بعد أن تكاثرت الأقوال التي انتشرت في كتب الأصول، من أن الأدلة النقلية لا تفيد العلم مطلقًا، وأن الفقه من باب الظنيات هكذا على الإطلاق، وأن الاجتهاد إنما يتبع ما اتفق للمجتهد دون اعتبار مرجح شرعي، ثم ازداد الأمر سوءًا عندما تكاثرت بحوث المحدثين على دعم هذه الآراء سواء في العموم، أو القياس، أو المصلحة، أو الإجماع، وهي أهم طرق الاجتهاد، فكان لا بد من دراسعة صلاحية المسلك العقلي غير الملتزم للشريعة وآثاره قديمًا وحديثًا، ودرامعة المنهج الشرعي في الاستدلال الذي ورثناه عن الصحابة - رضوان الله عليهم - والذي تعلموه من رسول الله القدوة العملية لتطبيق هذه الشريعة - ومعالجة أهم الشبه التي يمكن أن تثار حول هذه الدراسة، مع ملاحظة الآثار الإيجابية التي ينتجها الالتزام بالمنهج الشرعي في الاستدلال، وإبرازها وبيان دلالتها على ثبات، الشريعة وشمولها في كل موضع بحسبه، وفي المقابل بيان الآثار السلبية التي تنتج عن التزام ذلك المسلك العقلي المخالف للشريعة في الاستدلال -كله أو بعضه- وإبراز أخطاره وآثاره
1 / 13
السيئة على ثبات الشريعة وشمولها، وذلك في أسلوب ميسر بقدر الاستطاعة، ومتتبعًا في ذلك أهم طرق الاجتهاد وذلك بعد التعريف العلمي بهذه الشريعة ومقصدي من ثباتها وشمولها وبيان منزلتها.
ومما زادني اهتمامًا بدراسة هذا الموضوع ازدياد حدة هذا الانحراف فى عصرنا الحاضر، فقد التقى مع تلك الانحرافات انحراف أعتى وأشد، ذلك أنه انحراف آت من خارج هذه الأمة، ودخل إليها هذه المرة كما هو عند أعدائها دون تنقيح ولا تعديل، وهو ذات الانحراف الذي تلقته الأمة الإسلامية من قبل ولكنها نقلته تلك الحقبة من الزمن وهي على حال غير الحال التي هي عليه الأن، فقد كان إطاره محدودًا ممثلًا في بعض الطوائف، وتجابهه عوائق كثيرة جدًا أبعدته عن التأثير في أحكام الشريعة وذلك لرسوخها في عالم التطبيق دون منازعة من أي منهج خارجي، وألجأته لأسباب عدة إلى دراسات الغيبيات، ومع آثاره البالغة السوء في هذا الجانب إلا أن الشريعة الإسلامية كمنهج للحكم لم تتعرض لهجمات العقل اليوناني والمعتزلي، ومن ثم لم يكن لها شريك خارجي يضايقها أو يطاردها.
وقد كان من آثار هذا الانحراف -وهي كثيرة وبالغة الخطورة- أن التقى مع الانحراف الذي صدرته أوروبا الحديثة إلى الفكر الإسلامي، فقد عبدت أوروبا هذه المرة العقل عبادة مطلقة وأعطته جميع صفات الإله، ودفعت بفكرها إلى قلب العالم الإسلامي في شكل نظريات ومبادئ ومذاهب وأنظمة.
ولأن البشرية اليوم تعيش أكثر انحرافاتها في الواقع التطبيقي لا في مجرد الفلسفة -كما فعل اليونانيون وكما فعلت المعتزلة- فإن الانحراف السابق واللاحق وكلاهما قادم من تراث اليونان الوثني، السابق قدم عن طريق المعتزلة، واللاحق عن طريق الاستشراق، كان لكل منهما أثر سيء على واقع العالم الإسلامي، وتسلل إلى الواقع التطبيقي بقدر أكبر من تسلله إلى عقول الأمة وقلوبها، وكان من آثاره البالغة السوء أن جعل القوانين الوضعية مساوية للشريعة الإسلامية، بل ومقدمة عليها، حكم بذلك العقل الأوروبي اليوناني ومهد لهذا الحكم بمذاهب ونظريات ومؤلفات وواقع مشهود وهو في طريقه المحدد له مستمر في
1 / 14
التأثير، وكان أكبر تأثيره منصبًا على "الشريعة الإسلامية" من حيث ثباتها وشمولها وحاكميتها رغبة في انتشار عقيدة أهل التبديل وهي "ابتغاء غير الله حكمًا" وترك العبودية له، ورد أمره عليه، والإعراض عن متابعة رسوله محمد ﷺ، والتشكيك في صفات الشريعة، والعقل الأوروبي اليوناني يقدم السند لهذا الكفر والإلحاد، والغزو الفكري والاستشراق يصدره إلى حيث يستطيع ويربي لحمله المفكرين والباحثين.
وقد اتخذ لهذا طرقًا كثيرة للتأثير على العالم الإسلامي منها:
١ - جعل النهضة الصناعية الأوروبية سببًا لتغيير المفاهيم الدينية والإعراض عن الشريعة الخاتمة التي أرسل بها آخر الرسل نبينا محمد ﵊ وفي ذات الوقت جعلوا من التطور المادي الرهيب الذي تعيشه هذه البشرية سببًا في التشكيك في شمول الشريعة إذْ كيف تحكم هذه الشريعة الثابتة هذه الأحوال المتطورة المتشعبة التي لا تنقطع حوادثها والتي تمثل تطورًا ماديًا لم تشهد البشرية مثله من قبل، فكان لا بد من دراسة كيفية تحقق الشمول وأن ذلك هو مهمة الاجتهاد الذي لا ينقطع ما دام أن هذه الأمة قائمة برسالتها في هذه الأرض، وأن طرقه كفيلة بتحقيق ذلك الشمول، فقد أنزل الله هذه "الشريعة" شاملة، وكان منهج الاستدلال فيها على حال يحقق هذا الشمول في واقع البشرية وما يزال، وهذا البيان مستمر مع جميع موضوعات البحث كل موضع بما يناسبه.
٢ - إخضاع الدين والأخلاق والقيم لحكم العقل باعتبار أنه شب عن الطوق فلم يعد يحتاج إلى الله، وتقديم إنتاج المادية الأوروبية شاهدًا على قدرات العقل البشري غير المحدودة والالتزام بالمنهج المادي الصرف الذي لا يؤمن بالغيب ولا بالرسول ولا بالوحي، ويقف بالبشرية عند حد الإيمان بالمحسوس.
٣ - ربط الشريعة بالجيل الذي كان موجودًا حين نزولها، وجعل مفاهيمها وقيمها وأحكامها حكرًا على بيئة معينة، وإخضاعها للتبديل والتغيير إنْ أُريد نقلها إلى بيئة أخرى وزينوا للناس هذه الشبه بإخضاع مذاهبهم للتغيير بين آونة وأخرى ومن بيئة لبيئة وجعلوا الشريعة مماثلة لذلك خاضعة للحكم نفسه.
1 / 15
٤ - اعتمادهم على بعض الآراء والحركات المنحرفة التي نشأت داخل الأمة واتخذت التبديل لأصول السنة شعارًا وكذلك بعض المفكرين المحدثين الذين اتجهوا صوب الفكر الأوروبي وتأثروا به.
٥ - تأثيرهم النفسي على القراء والكتاب - المتمثل في الدراسات الاستشراقية التي غزت العالم من جميع أطرافه وقد زعم بعض المستشرقين أنها هي حصيلة البحث العلمي المجرد ذي الخصائص والقدرات التي لم تحظ بها أي دراسات أخرى، ذلك أن إدراك خصائص الفكر الإِسلامي أصبح قاصرًا عليهم كما زعم زاعمهم، وزُين ذلك لكثير من الباحثين حتى اتخذهم الغزو الفكري سلمًا لتحقيق مآربه ..
لهذه الأسباب مجتمعة عزمت على دراسة موضوع "الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية" وأرجو الله أن يجعله خالصًا صوابًا عسى أن يرحمني بقبوله ويمن عليّ بتيسيره، و"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ... " (١).
منهج البحث:
١ - الترتيب الموضوعي للبحث بحيث تُبنى قضاياه بعضها على بعض، حتى تنتهي موضوعاته، والقارئ ينتقل من موضوع إلى موضوع آخر ينبني عليه ويرتبط به ارتباطًا منطقيًا فلا يشعر بالانقطاع.
٢ - اهتممت اهتمامًا شديدًا بتحديد المصطلحات وخاصة تلك التي تَنْبني عليها مسائل أصلية، وطلبت فيها الأصالة وموافقة السلف الأول من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، وتجافيت عن مخلفات الفرق والمنهج العقلي وآثار الغزو الفكري الحديث.
٣ - دراسة الموضوعات ذات الصلة البارزة بموضوع البحث مع الاهتمام بالكليات وضرب الأمثلة الفقهية ذات الدلالة على المقصود في كل
_________
(١) الحديث من رواية عمر بن الخطاب ﵁، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ١/ ٩، الطبعة السلفية القاهرة ١٣٨٠ هـ.
1 / 16
موطن بحسب الحاجة، وتأسيس القواعد العلمية لموضوع الثبات والشمول على أصول أهل السنة حتى يستقر البحث على قاعدة راسخة يمكن بعدها معالجة الآراء المخالفة من داخل الأمة أو من خارجها.
٤ - معالجة الآراء المخالفة التي انبعثت من داخل الأمة وربطها باصولها سواء رجعت أصولها إلى الفرق الضالة -داخل الأمة- أو رجعت هي الأخرى إلى الأصول الفلسفية خارج الأمة، ثم تفنيدها وبيان الأسباب التي أدت إلى انتشارها سواء كانت هذه الأسباب من خارج الأمة أو من داخلها، مع الاهتمام بنقد أسسها ومعالجتها معالجة كلية وبيان خطورتها والطريق إلى السلامة من آثارها السلبية ووصفها بالوصف الذي تستحقه وتحديده لنعرف هل هو مجرد خطأ في الاجتهاد أو انحراف ناتج عن مسلك غريب في الاستدلال.
٥ - جعلت عرض ومناقشة الآراء المخالفة التي وقع فيها بعض الباحثين في الفقه والأصول قديمًا وحديثًا عند تأسيس قواعد البحث في كل موضع بحسبه مع ربطها بالتأثيرات الخارجية إن وجدت.
٦ - توثيق مسائل البحث، ما كان منها منسوبًا إلى الفقهاء والأصوليين فإلى كتبهم، وما كان منها منسوبًا إلى الكتاب المحدثين فإلى كتاباتهم.
٧ - التزام المنهج العلمي في المناقشة، والتأكيد على إسقاط الآراء الشاذة وكشف آثارها الخطيرة على الشريعة وتبرئة المنهج العلمي منها محافظة على أصول الدين ومقاصده.
٨ - حرصت على أن يكون أسلوب البحث سهل الفهم بعيدًا عن ما درج عليه كتّاب الأصول لأن المقصود من الكلام الإفهام.
٩ - وضعت "خاتمة" ذكرت فيها أهم نتائج هذه الدراسة.
١٠ - وضعت فهرسًا للمراجع والمصادر، وآخر لمحتويات الرسالة.
1 / 17
ومن المفيد أن أختم هذه المقدمة ببيان أن كيد الأعداء لم يكن لينفذ لولا أن المسلمين فرطوا فيما كلفهم الله به، فحقت عليهم سنة الله الجارية، فتغير حالهم من اجتماع إلى تفرق ومن قوة إلى ضعف، وكثرت فيهم طوائف أهل التبديل، ولم تسلم القرون المفضلة إلّا لأنها ثبتت على الأمر الأول، أما الأجيال المتأخرة فقد سقطت في فتنتهم لما كثُر الخبث فيها وفرط كثير من علمائها في إقامة الحق، بل وانتسب منهم خلق كثير إلى الفرق الضالة، ولا نتوقع بعد ذلك إلا تخلفًا عقائديًا كبيرًا -يقع في المجتمع الإسلامي- كانت خاتمته إسقاط الخلافة وإحلال أهواء البشر وأنظمتهم محل شريعة الله، وامتزجت أكثر أهواء الفرق مع أهواء المذاهب الفكرية المعاصرة والتيارات الجديدة المنحرفة.
وطريق العودة هو خروج هؤلاء من فتنة التبديل وفهم الإسلام عقيدة وشريعة كما فهمه رسول الإسلام وأصحابه عليهم رضوان الله ومن ثمَّ تخرج هذه
الأمة من هذه المرحلة الخطيرة وتخرج البشرية معها بإذن الله.
ومن المعلوم أن مجرد بقاء الوحي -كتابًا وسنة- بلا تحريف ولا تبديل لرسمه، لم يكن هو الذي بنى الجيل الأول والقرن الذي يليه والقرن الذي يليه، ولم يكن أيضًا مجرد الانتساب، بل كان وراء ذلك فهمٌ متوازنٌ متكاملٌ للعقيدة، وتطبيقٌ حيٌ واقعيٌ لأحكام الإسلام، ومنهج تربوي يحفظ هذا المجتمع على الصورة الصحيحة للإسلام فكرًا وعملًا، ومن ثم كان ذلك الجيل هو الحجة علينا وعلى البشرية جمعاء، وسبيله هو السبيل الوحيد لإقامة الحق والخير في هذه الأمة وفي البشرية بإذن الله.
وهذا الكتاب مساهمة متواضعة في هذه السبيل، يقصد لتحقيق تلك الغاية وينطلق من ذلك المنطلق ويعالج آثار تلك الفتنة العمياء .. من خلال دراسة قضية "الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية" وأرجو من الله سبحانه أن يكون مساعدًا على جمع الإِيجابيات الكثيرة لهذه الفترة التجديدية التي تعيشها
1 / 18
الصحوة الإسلامية (١) وإبعاد السلبيات عنها محاولة في جمع الطاقة الإسلامية والحيلولة بينها وبين متاهات الفكر وتشتت الجهد العلمي والنفسي. وإلى أن يأذن الله سبحانه بالتمكين للحق وإظهاره على أعدائه وإزالة الشبه التي انتشرت في هذه الأمة وأحاطت بالبشرية من كل جانب، إلى ذلك الحين لا بد من مواصلة الجهد وبذل الوسع ليحيى من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.
وإن هذه الدراسة التي تسعى لهذا الهدف قدر الله لها أن تكون رسالة علمية تقدم لجامعة أم القرى تتبع منهج البحث في التقسيم والترتيب والعرض والمناقشة ... وتستوعب موضوعات كثيرة ومناقشات مطولة قد يتعب معها بعض القراء ويعجزهم الربط بينها وبين الهدف المنشود.
والله أسأل أن يجزي عني كل من قدم لي معروفًا وأسدى لي نصحًا وعلمني علمًا أنتفع به في ديني وأخص بالذكر لجنة المناقشة الكريمة وفي مقدمتها فضيلة أستاذي الدكتور حسين حامد حسان المشرف على الرسالة وفضيلة الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، وفضيلة الشيخ الدكتور محمود عبد الدائم، فجزاهم الله كل خير وأجزل لهم المثوبة والعطاء.
وأشكر كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وأشكر أساتذتي الفضلاء، وأستغفر الله سبحانه عما عسى أن أقع فيه من الزلل والخطأ، وأرجو منه القبول والتوفيق "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مكة المكرمة ٢/ ١٤٠٨ هـ
عابد بن محمد السفياني
_________
(١) وكما أن صلاح هذه الأمة لا يتحقق إلّا إذا خرجت من فتنة أهل التبديل، فكذلك "الصحوة الإسلامية" في حاجة ماسة للحذر من فتنتهم، والاستمساك بالحق الذي كان عليه النبي ﷺ وأصحابه، وقد ظهر في هذه الفترة جهدٌ ضخم وتخطيط ماكر يريد أن يصرفها عن ذلك الأمر الأول، ثم يفتتها ويضرب بعضها ببعض.
1 / 19
تمهيد
في أهم خصائص الشريعة الإِسلامية بوجه عام
إن الشريعة الإسلامية تميزت بخصائص وسمات عن جميع القوانين البشرية التي تضعها طائفة من البشر أو يضعها الزعيم أو المفكر، وهذه الخصائص كثيرة منها الخاصية الأساسية وهي عموم الرسالة للإنس والجن وختمها الشرائع ومنها:
١ - أن هذه الشريعة هي شريعة الله أنزلها سبحانه بعلمه وليس له في وضعها شريك ولا ظهير.
٢ - أنها ثابتة ما دامت الحياة الدنيا.
٣ - أنها شاملة لجميع ما يحتاجه الناس من عقائد وشرائع وأحكام.
٤ - أنها متوازنة لا اضطراب فيها ولا عوج.
٥ - أنها تتميز عن شرائع البشر بكونها شريعة نُزلت لتحمل الناس على الخير وتحكم لهم واقعهم البشري الذي يعيشونه حسب اختلاف مجتمعاتهم (١).
ولكل خاصية من هذه الخواص تطبيقات لا تحضر تؤكدها وتبينها.
ولما كان موضوع هذه الدراسة الخاصية الثانية والثالثة استحسنت أن أمهد لذلك بالحديث عن ألصق تلك الخصائص بهاتين الخاصتين وهي كما أرى الخاصية الأولى.
_________
(١) انظر كتاب خصائص التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب ﵀
1 / 21