Collection of Arafat Sermons by Abdul Aziz Al-Sheikh
جامع خطب عرفة لعبد العزيز آل الشيخ
ژانرونه
كلمة سماحة المفتي
الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على عبدك ورسولك محمد أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن ليوم عرفة شرفا عظيما وفضلا كبيرا، ذلكم اليوم العظيم الذي نالت فيه الأمة المحمدية وسام الرفعة والشرف على سائر الأمم؛ إذ في ذلك اليوم أنزل على نبيه محمد ﷺ ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (١)، أنزلها على نبيه وهو واقف يوم عرفة في يوم الجمعة.
ولقد انتبه لهذا الفضل العظيم بعض أتباع الملل الأخرى كاليهود، «قال يهودي لعمر ﵁: آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأي آية؟ قال:. قال عمر: إني أعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه: نزلت على النبي ﷺ وهو واقف بعرفة يوم الجمعة (٣)»،
_________
(١) سورة المائدة الآية ٣
(٢) صحيح البخاري الإيمان (٤٥)، صحيح مسلم التفسير (٣٠١٧)، سنن الترمذي تفسير القرآن (٣٠٤٣)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (٥٠١٢)، مسند أحمد (١/٢٨) .
(٣) سورة المائدة الآية ٣ (٢) ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾
1 / 5
وكلاهما لنا عيد.
أخي المسلم، خطبة يوم عرفة خطبة تميزت بأنها خطبة تلقى على مسامع الحجيج على اختلاف بلادهم ولغاتهم، وزادت أهمية في هذا العصر الذي أصبحت تبث فيه بواسطة الأقمار الصناعية إلى أرجاء المعمورة، يسمعها العالم كله في آن واحد. إذا فلهذه الخطبة شانها وفضلها، وينبغي العناية بها قدر الإمكان.
ومن منة الله علينا وتوفيقه لنا أن هيأ لنا إلقاء الخطبة بمسجد نمرة يوم عرفة منذ عام (١٤٠٢ هـ)، فلقد تلقيت في خامس ذي القعدة عام (١٤٠٢ هـ) خطابا موجها لي من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته- تضمن هذا الكتاب العهد إلي بإلقاء خطبة يوم عرفة بنمرة، نيابة عن فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ -الذي طالما صعد هذا المنبر لعقود عديدة-، وباشرت الخطبة في ذلك العام، وفي العام التالي كذلك، ثم جاء التوجيه من خادم الحرمين الشريفين ﵀ في عام (١٤٠٤ هـ) بالخطابة في هذا المكان بصفة مستمرة، أرجو من الله أن نوفق فيها لكل خير.
أخي المسلم، إن هذه الخطبة بحق تهم من يلقيها ويتحدث
1 / 6
فيها، حيث إن الواقع يقتضي ذلك، فأنت تخاطب العالم لتوضح فيها شريعة الإسلام: محاسن هذه الشريعة، ومزاياها، وخصائصها، لتدعو العالم إلى التدبر والتعقل والتأمل، لتقول لهم: هذه شريعة الله، هذا دين الله، هذه أخلاق الإسلام، هذه مبادئ الإسلام تمسكوا بها أيها المسلمون، واقبلوا الإسلام يا من لم يعتنقه؛ فهو الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه.
إن محمدا ﷺ سيد خطباء يوم عرفة على الإطلاق، إنه خطب الناس في ذلك المجمع الكريم خطبة كانت وجيزة في لفظها، كثيرة في معانيها، ولا غرو فهو سيد أهل البيان ﷺ، وهو أفصح الخلق بيانا، وأحسنهم أداء، وأقدرهم على جمع المعاني في الكلمة الواحدة؛ حيث أعطاه الله جوامع الكلم، واختصر له اختصارا، ألقى تلك الخطبة العظيمة التي بين فيها حرمة أموالهم، وأن تحريم الدماء والأموال حرام كتحريم هذا اليوم العظيم في بيت الله الحرام، وفي الشهر الحرام، بين فيها ما للمرأة من حقوق وما عليها من واجبات، بين للأمة أن الله ألغى به مآثر الجاهلية التي قبل الإسلام، سواء في الأموال أو الدماء أو الأعراض. قال لهم: «إن كل أمر من أمور الجاهلية تحت قدمي موضوع (١)» . وحقا إنه قضى على ظلم الجاهلية
_________
(١) صحيح مسلم الحج (١٢١٨)، سنن أبي داود المناسك (١٩٠٥)، سنن ابن ماجه المناسك (٣٠٧٤)، سنن الدارمي المناسك (١٨٥٠) .
1 / 7
وضلالتها، وأقام المجتمع المسلم الوسطي القائم على العدل والخير والهدى، ألغى فيها ما كان بينهم من معاملات ربوية، وخص عمه العباس لأنه كان ممن يتعامل بالربا، وليكون أمر العباس أمرا شاملا للجميع.
ألغى فيها دعوات الجاهلية وآثارها السيئة في الدماء.
كل ذلك يبين أن الإسلام جاء لينقل العالم من حياة إلى حياة، من صورة قاتمة مظلمة إلى صورة مشرقة، ليستقبلوا عملا جديدا، ولينسوا الماضي اللئيم، وليستقبلوا عمرا جديدا وأياما سعيدة، حقا إنها أيام الخير والبركة، لقد ذكر الله الأمة بهذه النعمة فقال: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ (١)
إن الرعيل الأول من هذه الأمة يتذكرون تلك الضلالات التي كانوا يعيشونها، وتلك المصائب التي مرت بهم، ويتذكرون نعمة الله عليهم بهذا الدين الذي جمع بين قلوبهم، ووحد به صفوفهم، وأخرجهم به من ظلمات الجهل إلى نور العلم والهدى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (٢) .
_________
(١) سورة البقرة الآية ١٩٨
(٢) سورة آل عمران الآية ١٦٤
1 / 8
موقف يوم عرفة موقف إسلامي غيرته الجاهلية وحرفته عن سبيله، فكان سكان الحرم لا يقفون بعرفة ويقولون: نحن أهل الحرم نقف بالحرم. ويجعلون موقف عرفة للآفاقيين، فجاء محمد ﷺ وأعاد الحج على قواعد إبراهيم، فوقف بعرفة وقال: «الحج عرفة (١)» . وقال: «وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف (٢)» .
أخي المسلم، دونك خطبا جمعتها لمدة عشر سنوات، وهي من عام (١٤٠٢ هـ) إلى عام (١٤١١ هـ) ألقيتها بمسجد نمرة.
هذه الخطب المتواضعة التي حرصت فيها بتوفيق من الله أن تكون خطبا شاملة جامعة لأصول الدين، فتحدثت عن العبادة، وعن الأخلاق، وعن مناسك الحج، وماذا يجب على المسلمين نحو دينهم ونحو أنفسهم، هي خطب تعالج تلك القضايا، أسال الله أن أكون موفقا فيها للصواب.
وما وجدته يا أخي فيها من أسلوب قد لا يعجبك أحيانا، أو بعض الأخطاء التي ليست مقصودة، فإني أرجو أن تصحح هذا الخطأ، وأن تدعو لمن ألقاها بالمغفرة والرضوان، وأرجو من الله أن يعم نفعها وأن يكون في إخراجها خير للإسلام والمسلمين.
_________
(١) سنن الترمذي الحج (٨٨٩)، سنن النسائي مناسك الحج (٣٠١٦)، سنن أبي داود المناسك (١٩٤٩)، سنن ابن ماجه المناسك (٣٠١٥)، مسند أحمد (٤/٣٣٥)، سنن الدارمي المناسك (١٨٨٧) .
(٢) صحيح مسلم الحج (١٢١٨)، سنن أبي داود المناسك (١٩٠٧)، مسند أحمد (٣/٣٢١) .
1 / 9
وفي ختام كلمتي هذه أحب أن أنوه بأمر عظيم مهم، ألا وهو ما من الله به على العالم الإسلامي في هذه المائة عام المتأخرة، حيث هيأ الله لهم زيارة البيت الحرام لأداء العمرة والحج للوقوف بتلك المشاعر العظيمة، وزيارة مسجد محمد ﷺ، لقد كان الحج لبيت الله الحرام أمنية تختلج في نفس كل مؤمن يتمنى أن يزور البيت الحرام، ولو في عمره مرة، ولقد مضى على العالم الإسلامي بعد القرون الثلاثة المفضلة سنون عديدة تمر بهم، ما يأتي البيت الحرام من أرجاء العالم الإسلامي أحد إلا النزر من الناس، فيتعذر من المشرق الإسلامي أو من مغربها الوصول إلى الحج، لماذا؟
يتعذر أولا لصعوبة الوصول إلى البيت الحرام، ولاختلال الأمن في العالم الإسلامي، بعد ضعف الدولة الإسلامية ضعف الأمن وكثر الخوف وقطاع الطرق الذين ينهبون الناس ويسلبون أموالهم، وربما قتلوهم، وربما استرقوهم.
إن الحج أصبح مشكلة من أكبر المشاكل، ولقد مضى على بعض علماء الأمة ذوي المكانة والفضل عمرهم، ما تمكن واحد منهم من زيارة البيت الحرام، فسبحان الحكيم العليم!
ولكن في هذه العصور المتأخرة منذ أيام الملك عبد العزيز –غفر الله له– فإن الله جعل على يديه تسهيل أمر الحجيج، فأمن الوصول إلى البيت
1 / 10
الحرام.
ثم البيت الحرام – ولله الحمد – آمن في هذه الأزمنة شرعا وقدرا، آمن شرعا بما ألزم الله المسلم من احترام أمنه والتأدب فيه، وآمن قدرا بما هيأ الله له من أولئك القيادة الذين بذلوا كل غال ونفيس في سبيل تأمين راحة الحجيج.
إن تأمين راحة الحجيج أمر مهم، اعتنت به هذه الحكومة – وفقها الله -، اعتنت بالطرق الموصلة إلى البيت الحرام، ثم اعتنت بأمنه، واعتنت بعمارته، واعتنت برخائه، فأصبح البلد الأمين رخاء سخاء، يأتي الحاج من أقصى الدنيا لا سلاح يحمله، لا زاد يصحبه، ولهذا ترى العدد الكثير يأتون البيت الحرام من طريق الجو، وهؤلاء الذين يأتون من طريق الجو لا يحملون زادا ولا سلاحا؛ لأنهم يجدون أمنا ورخاء واستقرارا وطمأنينة.
إن من يشاهد الحرمين الشريفين، وهذه التوسعة العظيمة والمتوالية والخدمات المستمرة، ليسأل الله لأولئك القادة أن يوفقهم ويسدد خطاهم، ويجزيهم عما فعلوا خيرا.
لقد بذل الملك عبد العزيز – ﵀ – جهده العظيم في تأمين الحجيج، فيسر الله عليه هذه النعمة، ثم تعاقب أبناؤه الكرام: سعود،
1 / 11
وفيصل، والملك فهد بن عبد العزيز – رحم الله الجميع -، ثم دور خادم الحرمين الملك عبد الله – وفقه الله وأيده ونصره –، وما من أولئك إلا وله لمسات في تيسير أمر الحجيج وتذليل الصعاب: كالتوسعة في بيت الله الحرام، وفي مسجد رسول الله ﷺ، وما حصل أيضا في المشاعر من تسهيل وتيسير: أنفاق أقيمت، طرق هيئت، مياه كثيرة يسر الوصول إليها، وهذه الخيام المتعددة، كل ذلك من توفيق الله، فوفق الله خادم الحرمين، وشد أزره بصاحب السمو ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز ولي عهده الأمين، الذي ساعد وساهم في هذا الأمر العظيم، فجزى الله الجميع خيرا، ووفقهم لما يحبه ويرضاه.
وإنما قلت ذلك حقيقة، يشهدها كل من أتى إلى هذه البلاد المقدسة فرأى الأمن والاستقرار والطمأنينة والخدمة والرعاية، وبذل كل الوسائل في سبيل راحة الحجيج.
فالدولة تستنفر كل قواها وتبذل كل جهودها، وما من إدارة حكومية إلا ولها تعلق في هذا المسجد الحرام، تؤدي الواجب الذي عليها، وذلك بتوفيق الله، ثم بتوجيه قادة هذا البلد، وفقهم الله وسدد خطاهم، ورزقهم الاستقامة والسير على الخير والهدى، ووفق المسلمين جميعا لشكر نعمة الله وحسن عبادته.
1 / 12
وإني أشكر الله قبل كل شيء، ثم أشكر أخانا الشيخ بدر بن محمد الوهيبي، الذي انبرى لجمع هذه الخطب والإشراف عليها، فجزاه الله خيرا، ووفقنا وإياه لما يحب ويرضى.
وصلى الله وسلم وبارك عبده ورسوله محمد.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
1 / 13
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والحمد لله مستحق الحمد وموليه، الحمد لله الذي أعلى معالم العلم وأعلامه، وأظهر شعائر الشرع وأحكامه، وبعث رسله – صلوات الله عليهم – إلى سبيل الحق والهدى داعين، وأخلفهم علماء على سننهم ماضين، وجعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون على الأذى، ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، وجعلهم أهل خشية الله، واستشهدهم على توحيده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أعلم الخلق بالله، وأخشاهم لله، وأتقاهم له، بعث بالدين الحنيف الخاتم، ورفع شأن العلم، وقدم على العابد العالم، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وخلفائه وسائر أصحابه، والتابعين لهم بإحسان، ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن نعم الله ﷿ علي لا تحصى – ولا أحصي ثناء عليه سبحانه –، ومن النعم العظيمة، والهبات الجليلة، والمنح الكريمة، أن هيأ لي الاتصال بسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ، والقرب منه، أعب من معين علمه وكريم خلقه وأنهل، وهو على كثرة الوارد مبارك لا ينضب، فسبحان الملك الوهاب.
1 / 14
وكان من ثمرات هذا الاتصال والملازمة أن كلفني شيخي، بل وشرفني بجمع المواد العلمية لسماحته، من خطب ودروس وفتاوى ومحاضرات ولقاءات، تمهيدا لنشرها، فاستعنت بالله ﷿، وسألته –سبحانه- المدد والعون، فوجدت من لطيف صنعه وعظيم إنعامه ما لا أحصي له شكرا، فاللهم غفرا غفرا، وكان اختيار سماحة شيخنا – غفر الله له ولوالديه – أن يكون البدء بإخراج خطب عرفة، بدءا بعشر خطب منها تطبع في الجزء الأول، ثم يتبعها ما يتممها بإذن الله ﷿.
بدأنا العمل على إخراج هذه الخطب، بعد أن تم جمعها وتفريغها مع جملة كبيرة من المواد العلمية لسماحة والدنا – حفظه الله – بلغت ما يربو على ثمانية آلاف صفحة، استللت منها (الجامع لخطب عرفة) الذي بين يديك، بإشارة من سماحته – وفقه الله -، واستعنت بالله ﷿ في إعدادها للطباعة، وذلك بمراجعتها وتدقيقها، وتخريج أحاديثها وآثارها، وقرأتها على سماحة شيخنا – حفظه الله -، وإعادة الصياغة لبعض عباراتها، وإقرارها من قبل سماحته – حفظه الله –، إلى أن خرجت بهذه الحلة القشيبة – بحمد الله ﷿ بعد جهد استمر عاما كاملا.
وكان طريقنا في التخريج هي عزو الأحاديث إلى مصادرها، فإن وجد الحديث في (الصحيحين) أو أحدهما اكتفينا به، وإلا خرجناه من كتب السنن الأربعة و(مسند الإمام أحمد)، وإن لم نجده خرجناه من مصدره في باقي كتب السنن أو المعاجم وغيرها، وربما خرجنا بعض الآثار من كتب التفسير المسندة، كـ (تفسير ابن جرير)؛ لأنه مظنتها القريبة، وكان عزونا لأحاديث البخاري بالإشارة إلى (فتح الباري)؛ لانضباطه بترقيم الأحاديث، فيكون أيسر للقارئ، وإذا تكرر الحديث اكتفينا بالإشارة إلى مصادره، والإحالة إلى تخريجه كاملا عند أول ورود له
1 / 15
في الكتاب.
ومما استحسناه في هذا الكتاب أن تكون خطبة كل عام مفردة عن خطبة العام الذي يليه، وتكون الخطبة الواحدة مسرودة بفقراتها المتنوعة، مع ترقيم ما يحتاج إلى عزو، أو تعليق، بأرقام مسلسلة، وتكون الهوامش في آخر كل خطبة، ولا يخفى على فطنة القارئ الكريم أن هذه الطريقة أدعى لاستيعاب الخطبة بكامل فقراتها وتسلسل أفكارها ومحتوياتها، إضافة إلى أن الفاصل بين الخطبة والهوامش يسير، يسهل الرجوع إليه لمن أراده.
هذا، وإن مما يذكر فيشكر ما قام به الأخوان الفاضلان الشيخ عبد النافع زلال بن عبد الحي بن عبد الوهاب، وهو من طلاب سماحة شيخنا - حفظه الله - المميزين بالخلق الجم، والعقلية الناضجة، الذي كان خير معين لي في مراحل كثيرة من هذا العمل، فجزاه الله خير الجزاء، وفضيلة الشيخ محمد بن ناصر القحطاني، الباحث الشرعي بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، الذي لم يأل جهدا ولا نصحا، وقد عمل معنا في مراجعة هذا الكتاب، فجزاه الله عنا خير الجزاء، ولما كان الحديث عن عرفة، فإني أرى لزاما علي أن أشيد بالجهود العظمية والجبارة من قبل حكومة هذه البلاد المباركة، المملكة العربية السعودية، التي بذلت الغالي والنفيس، جهدا، ومالا، ووقتا، وخبرة، وكل ما يمكن للتسهيل على ضيوف الرحمن، من تهيئة للمشاعر على اختلافها، وعناية بالشعائر على تنوعها، وما أن ينقضي الموسم إلا وتجد العمل على قدم وساق لاستقبال الموسم المقبل بتدارك ما سبق وإنجازات جديدة لا تكاد تخطئها عين المنصف، مما كان له أثر كبير بفضل الله ﷿ على تيسير أداء هذه الفريضة العظيمة، التي كانت وعلى مر التاريخ من أعظم
1 / 16
فرائض الإسلام مشقة وعناء، بل وكان كثير من المسلمين من علماء كبار وغيرهم لا يستطيع أداءها للمشقة، وبعد الشقة، وخوف الطريق، وما يحدث أيضا في الحج بمنى أو غيرها من قتال ونحوه، مما تجده مسطورا في كتب التواريخ، بل وتجد فيها أعواما لم يحج فيها أحد من إقليم، وربما أقاليم من بلاد المسلمين
والآن بحمد الله ومزيد فضله وإنعامه، قد تيسرت السبل، وأمن الحاج على نفسه وأهله وماله، وهيأت له جميع الوسائل المعينة على أداء هذه الفريضة في راحة وأمن وطمأنينة، فلله الحمد ظاهرا وباطنا، ثم الشكر واجب علينا لهذه الدولة المباركة، أدام الله عزها بعز الإسلام، وأيد الله حكامها، وجعلهم مباركين أينما كانوا، ممتعين بالصحة والسلامة، مسددين بالتوفيق والإعانة.
ولما كان من المروءة والوفاء نسبة الفضل لأهله، فإني أشكر شيخي سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ - حفظه الله ورعاه ووفقه وأعانه - على ما وجدت منه، من كريم الأخلاق، وسعة الصدر، وندى في كفه وعلمه، لم يألني نصحا وتعليما وتوجيها، وما كان من جهد لي فإن كان صوابا فمن الله ﷿ التوفيق له، وسماحته - حفظه الله - هو السبب الموصل إليه، فكان هذا الكتاب كله من صنعه - حفظه الله - والفضل بعد الله تعالى له، فشكر الله
1 / 17
له، وبارك في عمره، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، ولا أخلاه من حمد يجدده على نعم يستجدها، وتابع عليه أفضاله، ورادف إليه آلاءه، ووصل له الطارف منها بالتليد، وأصلح له العقب والعاقبة، وختم لنا وله ولوالدينا وسائر قراباتنا بخاتمة السعادة، ورزقنا الحسنى وزيادة، إنه سبحانه سميع مجيب.
ولا يفوتني - وأنا في مقام الشكر - أن أشكر الإدارة العامة لمراجعة المطبوعات الدينية بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، ثم الشكر سلفا لكل من واصلنا بتنبه أو استدراك أو ملاحظة.
أسال الله العظيم أن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (١) .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين، اللهم احشرنا معهم وانظمنا في سلكهم يا كريم.
وكتبه راجيا عفو مولاه
بدر بن محمد بن إبراهيم الوهيبي
الباحث الشرعي بمكتب سماحة المفتي العام
غفر الله له ولوالديه
_________
(١) سورة الأحقاف الآية ١٥
1 / 18
خطبة عام ١٤٠٢ الهجري
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
أما بعد:
يا أيها الناس، أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا ربكم فهو أهل أن يتقى، وأهل أن يغفر، اتقوه تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بامتثال ما أمركم به واجتناب ما نهاكم عنه، اتقوه يا عباد الله تقوى عبد يعلم أن الله مطلع على سره وعلانيته، عالم بكل أحواله، اتقوه سبحانه، فبتقواه تنالون عز الدنيا وسعادة الآخرة، اتقوا ربكم يا عباد الله في كل أحوالكم تقوى من يعلم أنه موقوف بين يدي الله وأن الله محص عليه جميع أعماله، اتقوه تعالى وراقبوا أمره واجتنبوا نهيه.
إن التقوى يا عباد الله وصية أوصى بها الأولين والآخرين ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ (١)، التقوى يا عباد الله بها تنال ولاية الله، فإن ولاية الله لا ينالها إلا المتقون ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (٢) ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ (٣) ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ (٤)
_________
(١) سورة النساء الآية ١٣١
(٢) سورة يونس الآية ٦٢
(٣) سورة يونس الآية ٦٣
(٤) سورة يونس الآية ٦٤
1 / 19
وبالتقوى يا عباد الله تتحقق المودة الثابتة التي لا تنفصم عراها ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ (١)
[الحكمة من خلق الجن والإنس هي عبادة الله وحده لا شريك له]
عباد الله، خلق الله الخلق لحكمة عظيمة ليعبدوه وحده لا شريك له ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (٢)، أرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين ليردوا العباد إلى فطرة الله التي فطرهم عليها، بعد ما انحرف العباد عن فطرة الله، فالله ﷿ قد فطر الخلق على عبادته ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (٣)، فلما انحرف العباد عن هذه الفطرة أرسل الله الرسل ليردوا العباد إلى فطرة الله السليمة.
ذلكم يا عباد الله أن الخلق كانوا من لدن آدم ﵇ إلى نوح يعبدون الله لا يشركون به شيئا، باقون على الفطرة التي فطرهم الله عليها، فلما انحرفوا عن فطرة الله وعبدوا غير الله وأشركوا مع الله غيره، بعث الله نوحا ﵇ يدعو قومه إلى أن يعبدوا الله ولا يعبدوا معه غيره، قائلا لهم: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (٤)، فكذبه قومه ولم يستجب له إلا القليل، فأغرق الله من كذبه ونجى نوحا وأتباعه.
ثم تتابعت الرسل رسولا بعد رسول، ليقيموا الحجة على العباد، ولتنقطع معذرة العباد ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (٥) .
_________
(١) سورة الزخرف الآية ٦٧
(٢) سورة الذاريات الآية ٥٦
(٣) سورة الروم الآية ٣٠
(٤) سورة الأعراف الآية ٥٩
(٥) سورة النساء الآية ١٦٥
1 / 20
[جميع الرسل دعوا إلى إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه]
وإن دعوة جميع الرسل دعوة واحدة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه، هذه طريقة أنبياء الله ورسله من لدن نوح إلى سيدهم وأعظمهم وأكملهم وأفضلهم محمد ﷺ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (١)
وهكذا دعوة الرسل جميعا إلى هذا الأصل العظيم، إلى إفراد الله بالعبادة، وأن لا يكون مع الله في عبادته غيره.
وانتهت الرسالة إلى سيد الأولين والآخرين محمد ﷺ، فإن الله تعالى بعث محمدا ﷺ بالهدي ودين الحق، بعثه بما بعث به إخوانه الأنبياء والمرسلين، بعثه ليدعو الخلق إلى عبادة الله ويحذرهم من الإشراك بالله، بعثه الله وجعل رسالته شاملة عامة لكل الخلق عربهم وعجمهم، إنسهم وجنهم، افترض على العباد جميعا طاعته واتباع شريعته والانقياد لها، بعثه الله على حين فترة من الرسل واندراس من العلم والهدى، بعثه وقد طبق الأرض جهل عظيم، وفساد كبير، اختفت أعلام الملة الحنيفية، وانحرف الناس عن فطرة الله، يقول النبي ﷺ: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب (٢)» ... بعثه رب العالمين رحمة للعالمين، ليستنقذهم به مما أصابهم من الضلال والفساد، فكان الناس أحوج ما يكونون إليه صلوات الله وسلامه عليه.
بعثه الله برسالة شاملة إلى كل الخلق، واختار لمبعثه أم القرى مكة،
_________
(١) سورة الأنبياء الآية ٢٥
(٢) جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه ٤ \ ٢١٩٧، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة، ح (٢٨٦٥)
1 / 21
شرفها الله وزادها تشريفا وتعظيما؛ استجابة لدعاء الخليل ﵇: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (١)
فمكة – شرفها الله – خير أرض الله، ومختار الله من أرضه، كما أنه ﷺ خير خلق الله على الإطلاق، صلوات الله وسلامه عليه أبدا دائما إلى يوم الدين.
[أرسل الله محمدا ﷺ بالتوحيد الخالص بعدما أطبق الأرض الجهل والضلال وعبادة الأوثان]
بدأ ﷺ قومه العرب بدعوته، وكان العرب آنذاك قد انحرفوا عن فطرة الله، كانوا متباهين في ضلالاتهم، متفرقين في عباداتهم، يعبدون آلهة متعددة، لكل فئة منهم إله يعبدونه من دون الله، ويعظمونه من دون الله، منهم من يعبد المسيح، ومنهم من يعبد عزيرا، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، فدعا القوم جميعا إلى توحيد الله، دعاهم إلى إخلاص الدين لله، دعاهم إلى أن يتوجهوا بقلوبهم إلى ربهم وفاطرهم ليعبدوه وحده لا يشركون به شيئا.
وكان العرب كغيرهم من مشركي الأمم يزعمون أن تلك المعبودات التي يعبدونها من دون الله تقربهم إلى الله زلفى، وأنها تشفع لهم عند الله، وأنها ترفع إلى الله حاجاتهم وطلباتهم، ما كانوا يعتقدون فيها أنها تخلق وترزق وتدبر أمر الكون، فذاك متفق عليه بين أهل الأرض كلهم أنه من خصائص الله، لكن شركهم أنهم اتخذوا بينهم وبين الله وسائط يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، وأنها تشفع لهم عند الله، فصرفوا لها العبادة من دون الله، عظموها بقلوبهم، تألهتها قلوبهم خوفا وحبا ورجاء، صرفوا لها أنواع العبادة التي هي حق لله ولا حق لأحد
_________
(١) سورة البقرة الآية ١٢٩
1 / 22
فيها سوى الله، فجرد ﷺ نفسه، وقام بكل مستطاعه ليخلص العرب من الجهالات، ويرتقي بهم إلى الحرية، حرية العبودية لله، ويستأصل منهم تلك الخرافات والضلالات، فدعاهم إلى كلمة واحدة، إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، إلى أن يقولوا هذه الكلمة، تنطق بها ألسنتهم، وتعمل بمقتضاها جوارحهم، وتعتقد معناها قلوبهم، وهو أن الله وحده هو المعبود لا أحدا سواه، وأن العبادة حق لله لا حق لأحد فيها أبدا، لا نبيا ولا غيره، فلما عرف القوم مدلول هذه الكلمة وأن مدلولها إفراد الله بالعبادة، وأن لا يكون مع الله شريك في أي نوع من أنواع العبادة – أبوا أن ينطقوا بها قائلين ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ (١)
عرف القوم مدلول هذه الكلمة ومقتضاها وما دلت عليه، وأنها تدعو إلى إفراد الله بالعبادة، وأن يكون الله وحده هو المعبود الذي يخاف ويرجى ويتقرب إليه، ولا يكون لغيره شركة في ذلك، فاستكبروا عن قولها كما حكى الله عنهم: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (٢) ﴿وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ (٣) .
[دعا محمد ﷺ إلى تحقيق التوحيد قبل كل شيء]
إن محمدا ﷺ لم يدع ابتداء إلى الصلاة ولا إلى الزكاة ولا إلى الحج ولا إلى غيره، وإنما جعل أول أمره اهتمامه بتحقيق التوحيد، بتحقيق لا إله إلا الله، بإرسالها في النفوس، باستئصال الشرك وعبادة غير الله، فاهتم بهذا الأمر العظيم غاية الاهتمام؛ لأن هذا الأصل بتحقيقه وتصفيته وتنقيحه تستنير القلوب، وتستضيء بوحي الله، وتنقاد الجوارح لأوامر الله، أما إذا كان القلب
_________
(١) سورة ص الآية ٥
(٢) سورة الصافات الآية ٣٥
(٣) سورة الصافات الآية ٣٦
1 / 23
منصرفا لغير الله، آلها غير الله، راجيا غير الله، فإنه لن ينقاد للخير أبدا.
أقام الله ﷿ الأدلة الواضحة والبراهين الصادقة على فساد الشرك وضلال المشركين وفساد معبوداتهم من دون الله، فبين لهم تعالى وتقدس أن كل عابد لغير الله فإنه في ضلال مبين ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ (١)، وأن هؤلاء المدعوين غافلون عن دعاء من دعاهم، وأنهم يوم القيامة سيتبرءون من كل من عبدهم من دون الله ويكفرون بعبادتهم، وأخبر تعالى أن هذه المعبودات لا تملك شيئا في الكون، وليسوا أعوانا لله ولا شركاء لله، وأن الشفاعة التي يظنها المشركون أنها في يد من عبدوه وعظموه من دون الله أن ذلك ضلال مبين، فإن الشفاعة ملك لله، الله الذي يأذن للشافع بعدما يرضى -تعالى وتقدس- عن المشفوع له وهو لا يرضى إلا عمن وحده وعبده ولم يجعل مع الله شريكا في عبادته.
إن محمدا ﷺ مكث عشر سنين بعد البعثة مكرسا وباذلا قصارى جهده في تحقيق التوحيد وحماية هذا الأصل العظيم، وتثبيته في النفوس وإزالة الشرك والوثنية، ولم تفرض عليه الصلوات الخمس إلا قبل هجرته بسنتين، وهاجر إلى المدينة بعد ذلك ففرضت بقية الفرائض، وشرعت الحدود، وما زال ﷺ يحمي هذا التوحيد ويهتم بشأنه، ويدحض الشرك، ويزيل كل شبه المشبهين، ويحقق التوحيد حتى طهر الله به جزيرة العرب من كل الأوثان، وعاد إلى مكة فاتحا منتصرا، وأزال كل ما بها من شرك ووثنية، وأعادها
_________
(١) سورة الأحقاف الآية ٥
1 / 24