بسم الله الرحمان الرحيم [مقدمة المؤلف] الحمد لله المختص بصفات الإلهية والقدم (1)، المتعالي عن الحدوث والعدم، الذي لم يسبقه وقت ولا زمان، ولا تحويه جهة ولا مكان، جل سبحانه. دل على ذاته بما ابتدعه من غرائب مصنوعاته (2)، عجائب مخلوقاته، حتى نطق صامتها بالإقرار بربوبيته بغير مذود (3)، وبرز مجادلا لكل
مخ ۱۱
من عطل وألحد (1) وصلواته وسلامه على سيدنا محمد الذي هو بالمعجزات مؤيد، وفي المرسلين مرجب (2) ومسعود (3)، وعلى آله الغر الهداة، والولاة على جميع الولاة، وعلى صحابته المكرمين المؤيدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
(التوحيد) [الدلالة على أن الله تعالى خالق العالم] أيها الطالب للرشاد، والهارب بنفسه عن هوه الالحاد.
فإذا قيل لك: من ربك؟
مخ ۱۲
فقل: ربي الله فإن قيل لك بم عرفت ذلك؟ فقل لأنه خلقني، ومن خلق شيئا فهو ربه.
فإن قيل لك: بم عرفت أنه خلقك؟ قل: لأني لم أكن شيئا ثم صرت شيئا، ولم أكن قادرا ثم صرت قادرا، و [كنت] صغيرا ثم صرت كبيرا، ولم أكن عاقلا ثم صرت عاقلا، وشاهدت الأشياء تحدث بعد أن لم تكن، فرأيت الولد يخرج ولا يعلم شيئا، ثم يصير رضيعا، ثم طفلا، ثم غلاما، ثم بالغا، ثم شابا، ثم كهلا، ثم شيخا. ثم رأيت نحو ذلك من هبوب الرياح بعد أن لم تكن، وسكونها بعد هبوبها، طلوع الكواكب بعد أفولها، وأفولها بعد طلوعها، وظهور السحاب وزواله (1)، وكذلك المطر والنبات والثمار المختلفات. وكل ذلك (2) دلائل الحدوث.
مخ ۱۳
وإذا كانت محدثة فلا بد لها من محدث، لأنها وصورها، فننظر سماءا، وأرضا، وثمارا، وأشجارا، وآبارا، وبحورا، أنهارا، وإناثا، وذكورا، وأحياء وأمواتا، وجمعا، وأشتاتا.
وكذلك ننظر إلى الأعراض الضروريات المعلومات (1)، فإنها اشتركت في كونها أعراضا، ثم افترقت وانقسمت بين شهوة ونفرة، وحياة وقدرة، ويبوسة ورطوبة، وطعوم مكروهة ومحبوبة، وروائح شتى، وحر وبرد، ووجاء (2) وفناء، وألوان متضادة على المحل (3)، وموت يقطع الرزق والأمل.
مخ ۱۴
فنعرف أنه لا بد من مخالف خالف بينها، وأحدث ما شاهدنا حدوثه منها، وأنه غير لها، لأنها لا تحدث نفسها، إذ الشئ لا يحدث نفسه، لأنه (1) يؤدي إلى أن يكون (2) قبل نفسه، وغيرا لها، وكذلك لا تصور أنفسها، ولا تخالف بين هيئتها، ولا يقع ذلك مما يقوله الجاهلون، من طبع أو مادة، أو فلك، أو نجم، أو علة، أو عقل، أو روح، أو نفس، أو غير ذلك مما يقولونه، لأن ذلك إن كان من قبيل الموجبات (3) لم تخل: أن تكون موجودة، أو معدومة. والموجودة لا تخل: أن تكون قديمة، أو محدثة. ولا يجوز ثبوت ذلك لعله قديمة ولا معدومة، لأنه لو كان كما زعموا لكان يلزم وجود العالم بما فيه
مخ ۱۵
في الأزل (1)، واستغناؤه عن تلك العلل (2).
ولا يجوز أن يكون ثبوت ذلك لعلة محدثة، لأنها لا تخلو: إما أن تكون مماثلة لما تقدم [منها] أو مخالفة [له]، إن كانت مماثلة وجب أن يكون معلولها متماثلا، وفي علمنا باختلاف ذلك العالم دلالة على بطلان القول بأنه عن علة مماثلة أو علل متماثلات.
ولا يجوز أن يكون لعلة مخالفة، ولا علل مخالفة لأنها حينئذ تكون قد شاركت العالم في الاختلاف، الذي لأجله احتاج إليها، فيدور الكلام إلى ما لا يعقل ولا ينحصر من العلل (3).
مخ ۱۶
فيجب الاقتصار على المحقق المعلوم، والقضاء بأن الذي أحدثها وصورها، وخالف بينها هن الفاعل المختار، هو الحي القيوم.
فصل [في أن الله تعالى قادر] فإن قيل: ربك قادر، أم غير قادر؟ فقل: بل هو قادر، لأنه أوجد هذه الأفعال التي هي العالم، والفعل لا يصح إلا من قادر. أوجده تعالى لا بمماسة، ولا بآلة، * (إنما أمرة إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * [يس: 82].
فصل [في أن الله تعالى عالم] فإن قيل: أربك عالم، أم غير عالم؟
فقل بل هو عالم، وبرهان ذلك ما نشاهده فيما خلقه من بدائع الحكمة، وغرائب الصنعة، فإن فيها من الإحكام
مخ ۱۷
الترتيب، ما يعجز عن وصفه اللبيب (1) [وكل ذلك لا يصح إلا من عالم، كما أن الكتابة المحكمة لا تصح إلا من عالم بها، وهو تعالى لا يختص بمعلوم دون معلوم، فيجب أن يعلم جميع المعلومات، على كل الوجوه التي يصح أن تعلم عليها.
هو سبحانه يعلم ما أجنه الليل، وأضاء عليه النهار، ويعلم عدد قطر الأمطار، ومثاقيل البحار، ويعلم السر - وهو ما بين - وما هو - وهو ما لم يخرج من بين شفتين - * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم) * [المجادلة: 7] بعمله لا يلاصقهم، وهو شاخص عنهم ولا يفارقهم] (2).
فصل [في أن الله تعالى حي] فإن قيل: أربك حي، أم لا؟
مخ ۱۸
فقل: بل حي، لأنه تعالى لو لم يكن حيا لم يكن قادرا، ولا عالما، لأن الميت والجماد لا يفعلان فعلا، ولا يحدثان صنعا.
فصل [في أن الله تعالى قديم] فإن قيل: أربك قديم، أم غير قديم؟
فقل: هو موجود لا أول لوجوده، لأنه لو كان لوجوده أول لكان محدثا، ولو كان محدثا لاحتاج إلى محدث، إلى ما لا يتناهى، وذلك محال، فهو قديم، قادر، حي، عليم، لم يزل ولا يزال، ولا يخرج عن ذلك في حال من الأحوال، لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن له بد من فاعل فعله، وجاعل - على صفات الكمال - جعله أو يكون لعلة، وقد ثبت أنه تعالى قديم، فلا يصح القول بشئ من ذلك.
فصل [في أن الله سميع بصير] فإن قيل: أربك سميع بصير؟ فقل: أجل لأنه حي كما تقدم، ولا يعتريه شئ من
مخ ۱۹
الآفات، لأن الآفات لا تجوز إلا على الأجسام، وهو تعالى ليس بجسم، لأن الأجسام محدثة كما تقدم، وهو تعالى قديم أيضا (1).
فصل [في أن الله تعالى لا يشبه الأشياء] فإن قيل: أربك مشبه الأشياء؟
ربي لا يشبه الأشياء، لأن الأشياء سواه: جوهر، وعرض، وجسم. ولا يجوز أن يكون جوهرا، ولا عرضا، لأنهما غير حيين ولا قادرين، وهو تعالى حي قادر، ولأنهما محدثان وهو قديم، ولا يجوز أن يكون جسما، لأنا قد بينا أنه خالق الأجسام، والشئ لا يخلق مثله، ولأن الجسم مؤلف مصنوع، يفترق ويجتمع، ويسكن ويتحرك ، ويكون في الجهات، وتسبقه الأوقات، وكل ذلك شواهد الحدوث، وقد ثبت أنه تعالى قديم، فلا يجوز أن يكون
مخ ۲۰
محدثا بل ليس كمثله شئ وهو السميع البصير.
وإذا لم يكن جوهرا ولا جسما ولا عرضا لم يوصف بالكيف، ولا الأين، ولا الحيث، ولا البين، ولا الوجه، ولا الجنب، ولا اليدين، لم يقطعه بعد، ولم يسبقه قبل، ولم يجزئه بعض، ولا جمعه كل، ليس في الأرض ولا في السماء، ولا حل في متحيز أصلا، ولا حده فوق ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا خلف، ولا أمام، ولا يجوز عليه المجئ ولا الذهاب، ولا الهبوط ولا الصعود.
كان قبل خلق العالم ولا مكان، ويكون بعد فناء العالم ولا مكان، وهو خالق المكان مستغن عن المكان، وخالق الزمان فلم يتقدمه زمان، ليس بنور ولا ظلام، لأن جميع ما ذكر فان في القدم.
ولأجل ذلك نقول: إنه لا يجوز أن يقال: هو طويل، ولا قصير، ولا عريض ولا عميق، ولا شويه ولا مليح، ولا أن يقال: هو يستر أو يغتم، أو يظن أو يهتم، أو يعزم، أو يؤلم، أو يلتذ أو يشتهي، أو ينفر، لأن ذلك كله شواهد
مخ ۲۱
الوجود بعد العدم، ومناف لما هو عليه من صفات الكمال والعظمة والجلال.
فصل [في آيات الصفات] فإن قيل: إنه قد ذكر في القرآن: * (يداه مبسوطتان) * [المائدة: 64]، وأن له جنبا، وعينا، وأعينا، ونفسا، وأيد، لقوله: * (مما علمته أيدينا) * [يس: 71]، ووجها.
فقل: يداه نعمتاه، ويده قدرته (1)، والأيدي هي: القدرة، والقوة أيضا (2).
وجنبا في قوله تعالى: * (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) * [الزمر: 56]، أي: في طاعته (3).
مخ ۲۲
ونفسا في قوله تعالى: * (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) * [المائدة: 116]، المراد به: تعلم سري وغيبي، ولا أعلم سرك وغيبك (1).
ووجهه: ذاته (2) ونفسه: ذاته، وقوله تعالى: * (فثم وجه الله) * [المائدة: 115]، أي الجهة التي وجهكم إليها.
وما ذكر من العين والأعين فالمراد به الحفظ والكلاءة والعلم.
وقوله: * (استوى على العرش) * [الأعراف: 54]، استواؤه:
استيلاؤه بالقدرة والسلطان (3)، ليس كمثله شئ، ولا يشبه ميت ولا حي.
مخ ۲۳
فصل [أن الله تعالى غني] فإن قيل: أربك غني أم لا؟
فقل إنه غني لم يزل ولا يزال، ولا تجوز عليه الحاجة في حال من الأحوال، لأن الحاجة لا تجوز إلا على من جازت عليه المنفعة والمضرة، واللذة والألم، وهذه الأمور لا تجوز إلا على من جازت عليه الشهوة والنفرة، وهما لا يجوزان إلا على الأجسام، فيستر الجسم بإدراك ما يشتهيه ويلتذ به، وينمو ويزداد بتناوله. وقد ثبت أنه تعالى ليس بجسم، بل هو خالق الجسم، فكيف يخلق مثل ذاته، أو تشاركه الأجسام في صفاته؟! بل لا يجوز عليه شئ من ذلك.
فصل [في أن الله لا يرى بالأبصار] فإن قيل: أربك يرى بالأبصار، أم لا يرى؟
فقل: هذه مقالة باطلة عند أولى الأبصار، لأنه لو رئي في مكان لدل ذلك على حدوثه، لأن ما حواه محدود
مخ ۲۴
محدث (1).
فإن قيل: إنه يرى قس غير مكان. فهذا لا يعقل، بل فيه نفي الرؤية (2)، وقد قال تعالى: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * [الأنعام: 103]، فنفى نفيا عاما لجميع المكلفين، و [لجميع] أوقات الدنيا والآخرة (3).
مخ ۲۵
وقال الله تعالى لموسى - لما سأله الرؤية -: * (لن تراني) * [الأعراف: 143]، ولم يسأل موسى عليه السلام الرؤية لنفسه، بل عن سؤال قومه، كما حكاه الله في قصص قومه، * (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة) * [النساء: 153] ولو سألها لنفسه لصعق معهم (1). ولما لم يقع منه خطيئة إلا سؤاله لهم الرؤية من دون أذن، قال لربه عز وجل: * (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) * [الأعراف: 155].
مخ ۲۶
فصل [في أن الله تعالى واحد] فإن قيل: أربك واحد لا ثاني له في الجلال، متفرد هو بصفات الكمال، لأنه لو كان معه إله ثان لوجب أن يشاركه في صفات الكمال على الحد الذي اختص بها، ولو كان كذلك لكان على ما قدر قادرا (1)، ولو كان كذلك لجاز عليهما التشاجر والتنازع، ولصح بينهما التعارض والتمانع، ولو قدرنا هذا الجائز (2) لأدى إلى اجتماع الضدين من الأفعال، أو عجز القديم عن المراد (3)، وكل ذلك محال، تعالى عنه ذو الجلال، لقوله: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * [الأنبياء: 22]، * (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله
مخ ۲۷
خالق كل شئ وهو الواحد القهار) * [الرعد: 16]، فتبين أن هذا الخلق يشهد بإله واحد، وأنه ليس هناك خلق ثان يشهد بإله ثان، وهذا واضح، فإن هذا العالم دليل على إله واحد وهو الذي أرسل الرسل، وأوضح السبل.
ويدل على ذلك قوله عز وجل: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * [محمد: 19]، وقوله: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) * [آل عمران: 18]، وقوله: * (وإلهكم إله واحد) * [البقرة: 163]، وقوله: * (قل هو الله أحد) * [الصمد: 1].
مخ ۲۸
(العدل) فصل [في أن الله تعالى عدل حكيم] فإن قيل: أربك عدل حكيم؟
فقل: أجل، فإنه لا يفعل القبح ولا يخل بالواجب من جهة الحكمة (1)، وأفعاله كلها حسنة.
وإنما قلنا: إنه لا يفعل القبيح لأنه إنما يقع ممن جهل قبحه، أو دعته حاجة إلى فعله وإن علم قبحه، وهو تعالى عالم بقبح القبائح، لأنها من جملة المعلومات وهو عالم بجميعها كما تقدم، وغني عن فعلها كما تقدم أيضا، وعالم باستغنائه عنها، وكل من كان بهذه الأوصاف فإنه لا يفعل القبيح، ألا ترى أن من ملكه ألفي ألف قنطار من الذهب،
مخ ۲۹
فإنه لا يسرق الدانق (1)، لعلمه بقبح السرق، وغناه عن أخذ الدانق، وعلمه باستغنائه عنه، وكذلك لو قيل للعاقل:
إن صدقت أعطيناك درهما، وإن كذبت أعطيناك درهما، فإنه لا يختار الكذب - في هذه الحال - على الصدق، [وهما] على وتيرة واحدة (2)، وطريقة مستمرة، ولا علة لذلك إلا ما ذكرناه.
فصل [في أن أفعال العباد منهم] فإن قيل: هل ربك خلق أفعال العباد؟
فقل: لا يقول ذلك إلا أهل الضلال والعناد، كيف يأمرهم بفعل ما قد خلق وأمضى، أو ينهاهم عن فعل ما قد صور وقضى، ولأن الإنسان يلحقه حكم فعله من المدح والثناء، والذم والاستهزاء، والثواب والجزاء، فكيف يكون
مخ ۳۰