بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
بعد دراستي لفترة العصر الأيوبي التي كتبها العيني في سفره الكبير "عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان" شعرت بالمكانة الهامة له بين ثبت المصادر التي تناولت هذه الحقبة التاريخية؛ إذ تضمن المزيد من المعلومات والإضافات الجديدة التي كنا نحتاج إليها، فضلا عن ذلك استشفيت ملحوظتين ربما غابتا عني قبل ذلك وهما:
أولًا: ظاهرة الفروسية التي تعني تمسك الفارس بمبادئ أخلاقية نبيلة في علاقته بخصمه، أو بغير خصمه من شتى صنوف البشر حوله، وهذه المبادئ في كثير من جوانبها قد تفوق ما يعرفه العالم المعاصر من مبادئ حقوق الإنسان. إذ كان الفارس العربي يغضب أمام أية محاولة لخرق عرف أو تقليد أخلاقي، ويرق أمام أية عاطفة إنسانية نبيلة، وكان هذا موروثًا عربيًا إسلاميًا، انتقل إلى أوربا في العصور الوسطى عبر الفاتحين المسلمين، في بلاد الأندلس وصقلية، وعبر الاحتكاك العنيف بين فرسان المسلمين والغزاة الصليبيين، إبان الحروب الصليبية، وخاصة العصر الأيوبي.
ثانيًا: ظاهرة الدوافع التي انطلقت منها أوربا لغزو المشرق الإسلامي؛ وتجاهلها الكثرة من مؤرخي أوربا، حيث صورت هذه الكثرة تلك الدوافع على أنها دينية أي بغرض استرداد بيت المقدس -مهد السيد المسيح ﵇ من أيدي المسلمين، وقد كان هذا هو الزعم المعلن من قبل بابوات روما، وأباطرة وأمراء أوربا، وقد انطلى هذا الزعم على بعض الأتقياء.
أما الهدف الحقيقي؛ فكان المغنم المادي، وانتهاب ثروات بلاد الشرق، وإيجاد مقاطعات للأمراء الأوربيين الذين كانوا مصدر قلاقل لأصحاب النفوذ هناك، بالإضافة إلى طمع المدن التجارية في إيطاليا وغيرها، في السيطرة على طرق التجارة التي تدر عليهم أرباحًا طائلة.
1 / 15
على أي حال كان العيني صاحب فضل في جمع ونقل مادته العلمية عن العصر الأيوبي من مصادرها الأصلية، التي كان أصحابها شهود عيان على الأحداث، كابن الأثير، والعماد الأصفهاني الكاتب، وابن شداد، وغيرهم ممن عاصروا الأحداث، وأهلتهم مكانتهم في الدولة للاطلاع على أدق الأسرار وأخطرها.
كذلك سجل العيني روايات كثيرة فقدت مصادرها فلم تعد متداولة بين المؤرخين، كنقله من الروضتين ما سجله أبو شامة عن ابن أبي طي، وكتاب البرق الشامي للعماد الأصفهاني.
لذا جاءت كتابات العيني عن هذا العصر شبه كاملة، فقد توافرت فيها المادة العلمية، مما جعل لها السبق على سواها، ومن هنا برزت قيمة المخطوط لدى الباحثين.
ولم تكن مصادفة أن أعمل على تحقيق هذا السفر العظيم، خاصة وقد عرفت قيمته العلمية منذ أن سجلت لدرجة الماجستير، فكان من بين المصادر المهمة التي اطلعت عليها، وعرفت كنه ما فيه من مادة علمية شائقة. لهذا شدني هذا السفر العظيم، وانتظرت فرصة سانحة من العمر أتفرغ فيها تماما لإنجاز تحقيقه، إلا أن ظروف العمل، والشواغل، كانت دائما تحول دون تحقيق هذه الرغبة، حتى شاءت إرادة الله أن يتحول الحلم إلى حقيقة واقعة. فبدأت متوكلا على العلي القدير، وألزمت نفسي ببرنامج عمل أسبوعي منتظم، كنت أتوجه فيه إلى مركز تحقيق التراث، أعمل فيه بهمة واستمتاع، يساعدني في ذلك زميلات فاضلات وزملاء أعزاء، خصصت صفحة لذكر أسمائهم وتقديم الشكر لهم.
ولقد أمضيت على هذا النحو أكثر من تسع سنوات، أحقق كل جزئية من جزئيات المخطوط، فكان يتزايد حماسي للعمل مع كل لوحة تنسخ، وورقة تحقق، وحاشية تكتب.
1 / 16
الكتاب ومنهج المؤلف:
لم يكن العيني مؤرخًا عاديًا من المتخصصين في عصر معين من العصور التاريخية، وإنما كان موسوعية وذلك شأن الكثرة الغالبة من المؤرخين المسلمين، فقد انصب اهتمامه عند كتابته لمخطوط "عقد الجمان" على تتبع التاريخ منذ عهد آدم حتى سنة خمسين وثمانمائة. ومن ثم فإن ما قدمه في كتابه يعد رؤية شاملة للتاريخ الإنساني الذي جاء في حلقات متتابعة. وكان من بين هذه الحلقات العصر الأيوبي الذي بين أيدينا. وقد بدأ حديثه عن هذا العصر بقيام الدولة الأيوبية واستمر معها حتى نهايتها.
ولم تكن كتابته عنها من النوع الإخباري الذي يهتم بالحدث الفردي بعينه، وإنما كانت كتابته عنها شاملة تتناول الصورة العامة دون النظر إلى الاختلافات الجزئية التي ربما تؤثر كثيرا على فهم المسار العام للأحداث.
فعند حديثه عن ملوك بني أيوب وأمرائهم؛ ذكر علاقاتهم الخاصة مع بعضهم البعض، ومع غيرهم من شرائح المجتمع، والدول المجاورة، وأعدائهم من الصليبيين وغيرهم. وفي كل هذا كان موضوعيا وأمينا في نقله؛ إذ ذكر أسماء المصادر التي استقى منها مادته العلمية، وأسماء مؤلفيها في ترتيب وإيجاز، باستثناء حالات قليلة. وقدم العيني ذكر حوادث كل سنة على وفيات أعيانها، ورتب ما بعد الهجرة على السنين حتى انتهى إلى آخر سنة ٨٥٠ هـ / ١٤٤٦ م.
ومن ذلك أنه سجل أمر الحج منذ السنة التاسعة للهجرة في نهاية أحداث كل سنة، كما ضبط الأسماء المشتبهة سواء أكانت أسماء أعلام أم مدن أم بقاع.
كذلك نقل العينى العبارات المتداولة واللهجات السائدة، والأقوال والحوارات، كما جاءت في مصادرها، وهذا من غير أن يقدم لها تفسيرات مناسبة؛ مما يترتب عليه بعض الغموض أحيانا في كتابته لها.
ومما يؤخذ على العيني عدم اهتمامه بالأحوال الاقتصادية كزيادة النيل ونقصانه، وغلة الأرض من حيث الوفرة والقلة، والعمل والبطالة، والأسعار غلاءً ورخصًا في العصر الأيوبي، مقارنة بما سجله عن هذه الأمور في العصر المملوكي.
1 / 17
ويبدو أن السبب في ذلك راجع إلى أن العيني كان شاهد عيان على العصر المملوكي، بينما كان يكتب عن العصر الأيوبي نقلًا عن غيره. ومما يؤخذ أيضا على العيني عدم دقته أحيانا في ذكر أسماء المصادر التي ينقل عنها؛ ففي بعض الأحيان يذكر أنه نقل عن ابن الأثير، بينما يكون النقل من ابن كثير أو غيره.
السيرة الذاتية والتكوين العلمي للعيني:
العيني من رجالات القرن الثامن الهجري -الرابع عشر الميلادي- وهو محمود بن أحمد بن موسي بن أحمد، أبو محمد، بدر الدين العيني الحنفي العينتابي (^١) نسبة إلى عينتاب، إحدى قرى شمالي حلب، وكانت قديما تسمى قلعة الفصوص.
وقد اختلفت الآراء حول تاريخ ميلاده؛ فبعضها ذكر أنه ولد في السادس والعشرين (^٢) من رمضان سنة ٧٦٢ هـ / ١٣٦٠ م، والبعض الآخر ذكر أنه ولد سابع عشري رمضان (^٣)، مع أن والده سجل التاريخ الأول بخط يده (^٤)، وكانت ولادته في درب كيكن (^٥) في قلعة عينتاب، وهي إحدى قلاع بلاد الشام الحصينة. وقد تفتحت عيون أبناء هذه المنطقة على الجهاد، وحب الفداء والتضحية بالنفس في سبيل عزة الإسلام، وكان العيني واحدًا منهم.
وقد نشأ العيني في أسرة تميز أهلها بحب العلم، والعمل في أشرف مهنة وهي القضاء. وكان والده حامل لواء العدل والعلم الديني في المنطقة (^٦)، وقد انعكس هذا بالتالي على أفراد أسرته؛ إذ تلقى ابنه تعليما جيدا بمقاييس ذلك العصر، فلقنه والده مبادئ القراءة والكتابة وتعاليم الإسلام، ثم أدخله الكُتاب فحفظ القرآن الكريم، ولم يتجاوز عمره الثامنة، مما يدل على ظهور ملامح الذكاء المبكر وقوة الذاكرة.
_________
(^١) الزركلي: الأعلام، ج ٨، ص ٣٨، الطبعة الثانية؛ جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، ج ٣، ص ٢١٠ - ص ٢١١، راجعها وعلق عليها شوقي ضيف، دار الهلال.
(^٢) ابن حجر: رفع الإصر عن قضاة مصر، ص ٢٦٠ أ؛ ابن تغري بردي: الدليل الشافي على المنهل الصافي، تحقيق فهيم محمد شلتوت، ج ٢، ص ٧٢١ - ٧٢٢، ترجمة رقم ٢٤٦٥، الطبعة الثانية، دار الكتب - القاهرة ١٩٩٨ م.
(^٣) السخاوي: الضوء اللامع، ج ١٠، ص ١٣١؛ الشوكاني: البدر الطالع، ص ٢٩٤؛ على مبارك: الخطط التوفيقية، ج ٦، ص ٢٥.
(^٤) السخاوي: الضوء اللامع، ج ١٠، ص ١٣١.
(^٥) ابن تغري بردي: الدليل الشافي، ج ٢، ص ٧٢٢.
(^٦) السخاوي: الضوء اللامع، ج ١٠، ص ١٣١.
1 / 18
وبعدها بدأ العينى بدراسة القراءات السبع على يد الشيخ حسين العينتابي، شيخ القراءات في عصره.
أما الفقه فقد أخذه عن والده، وقرأ عليه مقدمة أبى الليث السمرقندي في الفقه الحنفي، وساعده هذا على العمق في دراسة المذهب، حتى أن والده كان يستعين به في منصب القضاء، كما تولاه نيابة عنه، فأحسن القيام بمهام منصبه.
على أية حال شكلت دراساته السابقة البنية العلمية والفكرية لحبه للعلم، ومن ثم أخذ الرجل يبحث عن منابعه في كل مكان، فكانت رحلاته المتعددة بقصد التزود بالعلم والمعرفة، وأولى رحلاته كانت إلى حلب سنة ٧٨٣ هـ/ ١٣٨١ م (^١)، فأخذ الفقه عن جمال الدين يوسف بن موسى الملطى، وعلوم اللغة على الشيخ شمس الدين محمد الراعي بن الزاهد، وغيرهم من العلماء. ثم عاد مرة ثانية إلى عينتاب ليفيض عطاؤه العلمي على أبناء بلده.
وكانت وفاة والده عارضًا أعاقه إلى حد ما عن تأدية عمله على الوجه الأكمل، وبالرغم من هذا ارتفع على مستوى حزنه مبتعدًا عن كل ما يؤثر في نفسه ونشاطه العلمي. لذا اتجه ناحية المدن الشمالية "بهسنا وسميساط"؛ فنهل من علمائهما من أمثال الشيخ ولي الدين البهسني، ثم توجه إلى أملاك دولة ذي الغادر التركمانية، فالتقى بالشيخ علاء الدين الكختاوى فأخذ عنه، وكان محطه الأخير في هذه الرحلة ملطية، فالتقى بعلمائها، فأخذ عن الشيخ بدر الدين الكشافي.
ومن الجدير بالملاحظة أن إنجازات العيني الهائلة خلال هذه الفترة كانت لا تتناسب مع صغر سنه، الذي لم يكن يتجاوز الثانية والعشرين وهي سن لا تمكن صاحبها من تحصيل كل هذه العلوم والمعارف، إلا أن الرجل استطاع أن يحقق أضعاف أضعاف ما حققه أقرانه ممن هم في سنه.
_________
(^١) الخطط التوفيقية، ج ٦، ص ٢٥، ط ٢، بولاق ١٣٠٥.
1 / 19
وقد ظل الظمأ العلمي يلاحق نفس العيني على الرغم من كل ما حققه. لذا قام برحلة جديدة إلى دمشق عام ٧٨٥ هـ/ ١٣٨٣ م؛ فالتقى بعلمائها كالبحر أحمد بن إسماعيل بن الكشك، وشرف الدين بن الكويك، والعز بن الكويك، فأخذ عنهم، كما احتك بطلبة المدرسة النورية (^١).
وبعدها رجع مرة ثانية إلى حلب، متحصنا برصيد علمي وافر، جعله جديرة باحترام كوكبة من علماء حلب؛ أمثال الشيخ زين الدين حيدر بن محمد الحنفي، وجمال الدين يوسف الملطى، وأبو الروح عيسي بن الخاص السرماوي، فأجازوا له الإفتاء والتدريس بحلب، ولم يكن عمره تجاوز الخامسة والعشرين.
وفي سنة ٧٨٦ هـ/ ١٣٨٤ م توجه إلى دمشق للتدريس بها ليثبت لعلمائها أنه قادر على العطاء المتجدد. وقد كان له ما أراد. ثم شد رحاله إلى مكة والمدينة لتأدية مناسك الحج والزيارة، وليتزود من علمائهما، وعاد بعد ذلك إلى مسقط رأسه عينتاب، بعد أن أفاد واستفاد.
غير أن حنينًا دينيًا وعلميًا شده لزيارة بيت المقدس فتوجه إليها، فحقق بذلك هدفين: الزيارة، والالتقاء بالشيخ علاء الدين أحمد بن محمد السيرامي الحنفي، فلازمه حتى اقتنع خلالها السيرامي بإمكانيات العيني العلمية، فدعاه للتوجه معه إلى القاهرة، فلم يتردد العيني ولو لحظة واحدة في اقتناص هذه الفرصة، فحضر مع شيخه السيرامي إلى القاهرة سنة ٧٨٨ هـ / ١٣٨٦ م، وانخرط في سلك صوفية المدرسة الظاهرية برقوق، فاستفاد من بقائه بها، إذ كان قريبا من شيخه السيرامي، فقرأ عليه مجموعة من الكتب القديمة في الفقه والأصول والمعاني (^٢). كما أن وجود العيني بالقاهرة أتاح له فرصة اللقاء والأخذ عن بعض علمائها، أمثال: زين الدين عبد الرحيم العراقي، والشيخ عمر بن رسلان، وسراج الدين عمر البلقيني، وقطب الدين عبد الكريم ابن محمد، وعلاء الدين الضوى، وتغري برمش بن يوسف الفقيه، وغيرهم.
_________
(^١) عن المدرسة النورية انظر: النعيمي: الدارس، ج ١، ص ٤٠٦.
(^٢) السخاوي: الضوء اللامع، ج ١٠، ص ١٣١.
1 / 20
وقد أظهر العيني نبوغًا واضحًا في القاهرة، فكثر حساده الذين انتهزوا وفاة شيخه السيرامي سنة ٧٩٠ هـ / ١٣٨٨ م، وقد كان سنده، وأوقعوا بينه وبين الأمير جهاركس الخليلي أمير آخور، الذي أمر بنفيه، ولم يشفع له من النفى إلا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، فبقى مدة في القاهرة، إلا أنه شعر بأن الأمور لا تسير حسبما يريد، لهذا قرر العودة إلى مسقط رأسه عينتاب في ربيع الآخر سنة ٧٩١ هـ / ١٣٨٨ م.
كانت هذه المرحلة ضرورية في حياة العيني، إذ كانت مرحلة التجربة والاختبار، والمعاناة والابتلاء، فضلا عن كونها مرحلة الاطلاع والتثقف، إذ كونت شخصيته، وعرفت الناس قدره، وحققت شهرته وفضله، حتي كتب ابن تغري بردي عنه "فريد عصره ووحيد دهره، عمدة المؤرخين ومقصد الطالبين" (^١).
على أية حال اشتغل العيني بعد رجوعه إلى عينتاب بالتدريس والإفتاء والوعظ، نائيًا بنفسه عن شئون السياسة، إلا أن حوادث الدهر لم تتركه يهنأ بحياته، فقد حدث في الدولة الجركسية صراع بين كل من يلبغا ومنطاش ضد السلطان برقوق، فتصدي العيني بالكلمة للمعارضين لبرقوق حتى أباح للناس قتالهم، مما أوغر صدر منطاش عليه؛ فحاصر عينتاب سنة ٧٩٢ هـ / ١٣٨٩ م، مما اضطر العينى للاحتماء بقلعة المدينة، وظل بها حتى فك منطاش الحصار عنها.
ورحل العيني وأسرته إلى حلب سنة ٧٩٣ هـ/ ١٣٩٠ م، إلا أنه لم يجد فيها ذاته، فتوجه إلى القاهرة بعد أن عركته الحياة، ورأى بثاقب بصره أنه لا مقام له بها إلا إذا كان قريبًا من صانعي القرار؛ لهذا اقترب من الأمراء والسلاطين وصادقهم، أمثال الأمير جكم من عوض، وتغري بردي القردمي، وقلمطاي العثماني (^٢)، فقدموه للسلطان الظاهر برقوق، فأعجب بعلمه ومنطقه، فطلب منه تعليم المماليك الأتراك الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، فأثبت قدرة فائقة. فلما تولى الناصر فرج بن برقوق أمر السلطنة، عين العيني في حسبة القاهرة وضواحيها، في مستهل ذي الحجة سنة ٨٠١ هـ/ ١٣٩٩ م، بدلا من تقي الدين أحمد بن على المقريزي (^٣).
_________
(^١) ابن تغري بردي: المنهل الصافي، ج ٥، ورقة ٣٤٠. (مخطوط بدار الكتب المصرية، تاريخ تيمور، رقم ١٢٠٩) [ميكروفيلم ٥٣٣٥٩].
(^٢) ابن تغري بردي: المنهل الصافي، ج ٥، ص ١٤١؛ السخاوي: الذيل على رفع الإصر، ص ٣٣٢؛ السخاوي: الضوء اللامع، ج ١٠، ص ١٣٢.
(^٣) المقريزي: السلوك، ج ٣، ص ٩٧٠؛ السخاوي: الضوء اللامع، ج ٣، ص ١٣٢.
1 / 21
فكان هذا بداية الصراع بين العيني والمقريزي، ذلك الصراع الذي استمر بينهما حتى توفي المقريزي، غير أن العيني لم ينعم كثيرا بهذا المنصب، إذ عزل سنة ٨٠٢ هـ / ١٣٩٩ م؛ فخلفه جمال الدين الطنبدي عن طريق البذل، إلا أنه لم يستمر فيه أكثر من ثلاثة أشهر، ثم أعيدت الحسبة للعيني مرة ثانية، ولكنه لم يستمر فيها طويلا حيث صرف عنها بالشيخ تقي الدين المقريزي. وقد تكرر صرفه وإعادته لحسبة القاهرة أكثر من مرة خلال عصر سلاطين الجراكسة وحتى وفاته.
وقد عمل العيني في عدة وظائف منها؛ ناظر الأحباس، وعمل بالوعظ والفتوى، ودرس الفقه بالمدرسة المحمودية، كما برع في وظيفة القضاء.
وقد شغل نفسه بتأليف الكتب وتصنيفها، من ذلك كتاب "معاني الأخبار في رجال معاني الآثار"، "المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية".
ولم ينعم العيني كثيرا بالبعد عن الوظائف العامة والتفرغ للتأليف؛ ففي سنة ٨١٩ هـ/ ١٤١٦ م كلفه سلطان مصر المؤيد شيخ بتولي الحسبة، فكان همه الأول معالجة المشكلة الاقتصادية خاصة الخبز، وقد نجح في ذلك، فازداد حنق حساده عليه، خاصة ابن البارزي الذي كان له ثقله السياسي لدى المؤيد شيخ، فأوعز إليه بإقالة العيني وتولية ابن شعبان بدلا منه، فتم ذلك، إلا أن السلطان خلع عليه بوظيفة نظر الأحباس في السابع والعشرين من ربيع الأول سنة ٨١٩ هـ /١٤١٦ م، فكان هذا ترضية له.
وفي الثامن عشر من ربيع الأول سنة ٨٢٤ هـ / ١٤٢٠ م، كلف المؤيد شيخ العيني بالتوجه إلى بلاد ابن قرمان (قونية)، لكشف أخبارها والحصول من نوابها على يمين الولاء، فالتقى بأمير البلاد على باك بن قرمان، ونجحت مهمته، فأعجب المؤيد شيخ بالعيني، وسمح له بالدخول إلى قصره أربعة أيام دون وساطة، وكان ينوي تعيينه في الحسبة، لولا أن ابن البارزي وقف حجر عثرة في ذلك، فتم تعيين إبراهيم بن الحسام فيها (^١).
_________
(^١) الصيرفي: نزهة النفوس والأبدان، ج ٢، ص ٤٧٣.
1 / 22
ولقد تبسم الحظ للعيني بعد تولي الظاهر ططر للسلطة سنة ٨٢٤ هـ / ١٤٢٠ م، فقد كانت تربط بينهما علاقة حميمة، فألف العيني له كتاب "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر"، و"القدوري" في فقه الحنفية، وترجمة للغة التركية بناء على أمر ططر (^١).
ولما تولى الأشرف برسباي حكم مصر في ربيع الأول سنة ٨٢٥ هـ / ١٤٢٢ م، قَرَّب العيني منه، وأسند إليه حسبة القاهرة ومصر، فضلًا عن النظر في الأحكام الشرعية وبذلك اتسعت سلطات العيني، إلا أنه واجه في عام ٨٢٨ هـ / ١٤٢٤ م ثورة من العامة الجياع؛ بسبب نقص الخبز في الأسواق، وقد شَهَّر المقريزي، وابن حجر بهذا الأمر لمنافستهما للعيني (^٢)، ولكن العينى ظل في الحسبة حتى المحرم سنة ٨٢٩ هـ / ١٤٢٥ م وتولاها بعده الأمير أينال الششماني (^٣)، فانهارت الحياة الاقتصادية في عهده (^٤).
وقد عرف السلطان قدرات العيني العلمية والإدارية والفقهية، فأراد أن يستثمرها في أفضل عمل، ومن ثم أوكل إليه منصب قاضي القضاة، وهو أرفع المناصب الدينية في البلاد، وكان العيني مثالًا للقاضى المؤمن برسالته، لا تأخذه في الحق لومة لائم، يؤكد هذا قول الأشرف برسباى لأمرائه وأعوانه "لولا العيني ما كنا مسلمين" (^٥).
وبالرغم من معرفة الحكام لقدر العيني فإن بعضهم وقع تحت تأثير الحاقدين والحساد له، فعزل العيني عن القضاء، وتولي بدلا منه عبد الرحمن التفهني في صفر سنة ٨٣٣ هـ / ١٤٢٩ م، وكلف العيني بتولي الحسبة إضافة لما بيده من الأحباس، وكان ذلك في الرابع من ربيع الآخر سنة ٨٣٣ هـ / ١٤٢٩ م (^٦).
وفضلًا عما سبق قام العيني بدور المستشار الخاص للشئون السياسية والثقافية والدينية والتعليمية للسلطان برسباي؛ إذ كان يقوم نيابة عنه باستقبال بعض الوفود (^٧)، كما كان يقرأ الرسائل الواردة له من الدول والولايات المجاورة، بالإضافة إلى قيامه بدور المترجم للسلطان، من العربية إلى التركية وبالعكس.
_________
(^١) السخاوي: الذيل على رفع الإصر، ص ٤٣٤؛ السخاوي: الضوء اللامع، ج ١٠، ص ١٣٢ - ١٣٣.
(^٢) ابن تغرى بردي: النجوم الزاهرة، ج ١٤، ص ٢٨٢.
(^٣) الصيرفي: نزهة النفوس والأبدان، ج ٣، ص ٩٩.
(^٤) المقريزي: الخطط، ج ٤، ص ٧١٠.
(^٥) ابن تغرى بردي: المنهل الصافى، ج ٥، ص ٣٤٣.
(^٦) ابن تغرى بردي: المنهل الصافى، ج ٥، ص ٣٤٣؛ ابن حجر: إنباء الغمر، ج ٣، ص ٤٣٥.
(^٧) ابن حجر: إنباء الغمر، ج ٢، ص ٤٦٠.
1 / 23
وكان يقرأ له تاريخ الأمم السابقة، ويبين له ما يتخذ منها من عبر (^١)، كما يعلمه أمور الدين وقواعد العدل، والبعد عن الظلم والقهر، وحسن معاملة العلماء خاصة علماء الدين. ومما يرويه المقريزى في هذ الشأن؛ أن العينى طلب من السلطان أن يوسع على قراء البخاري بالقلعة في شعبان ورمضان، فخلع على أكثر من عشرين عالما صوفا مربعا، وسنجابًا طريًا (^٢).
وكانت شفاعة العيني لدى السلطان لا ترد، فيقال أن العيني عندما طلب من السلطان العفو عن الفقيه أحمد الكوراني، الذي كان قد قرر التشهير به، وضربه ونفيه خارج البلاد، قبل السلطان شفاعته فيه.
على أية حال وصل العينى إلى قمة التألق الوظيفي في عصر السلطان برسباي، إذ عاد مرة ثانية إلى القضاء في السابع عشر من جمادى الآخرة سنة ٨٣٥ هـ/ ١٤٣١ م، بالإضافة إلى الحسبة ونظر الأحباس، وهي أهم الوظائف في الدولة. كذلك كان للعيني الفضل في تشجيع السلطان برسباى على قيامه بالغزوات البحرية ضد جزيرة قبرص سنة ٨٢٧ هـ / ١٤٢٣ م التي انتصر فيها.
ولما مات برسباي وتولي جقمق، عزل العيني عن القضاء، وقد لزم العينى بيته إلى أن عينه الملك الظاهر جقمق في حسبة القاهرة مرتين (^٣)؛ مرة في ربيع الأول سنة ٨٤٤ هـ / ١٤٤٠ م، ومرة في ٢٧ شوال سنة ٨٤٦ هـ / ١٤٤٢ م. ثم عزل في صفر سنة ٨٤٧ هـ / ١٤٤٣ م، وبعدها ظل بعيدا عن السلطة حتى توفي في ذي الحجة سنة ٨٥٥ هـ / ١٤٥١ م.
مكانة العيني العلمية:
تحدد المكانة العلمية لأي عالم من خلال شخصيته وإبداعاته وإنتاجه العلمي، وآراء علماء عصره فيه.
_________
(^١) ابن تغري بردي: النجوم، ج ١٥، ص ١١٠ - ١١١.
(^٢) المقريزى: السلوك، ج ٤، ص ٦٦٧.
(^٣) ابن تغري بردي: المنهل الصافي، ج ٥، ص ٣٤٤.
1 / 24
وإذا طبقنا هذه القواعد على العينى نجده كوكب عصره، وشيخ معاصريه وإمامهم، وهذا بشهادة هؤلاء المعاصرين وغيرهم. فالمؤرخ ابن تغري بردي يصفه بقوله "فريد عصره وعمدة المؤرخين (^١) ".
والسخاوي يقول فيه "كان إمامًا عالمًا علامة، عارفًا بالتصريف والعربية وغيرها، حافظًا للتاريخ واللغة، كثير الاستعمال لها، مشاركة في الفنون، لا يمل من المطالعة والكتابة" (^٢).
وقد ركز الشوكاني (^٣) على عطاء العيني العلمي، فقال: "وانتفع به الناس وأخذ عنه الطلبة من كل مذهب". وابن العماد الحنبلي يقول عنه: "كان فصيحًا، عارفًا للغتين العربية والتركية، قرأ وسمع ما لا يحصى من الكتب والتفاسير، وبرع في الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والتصريف والتاريخ، وكان أحد أوعية العلم، وأخذ عنه ما لا يحصى" (^٤).
واللكنوي، يصف العينى بأن له "سعة نظر في الفنون كلها" (^٥).
ويستشف مما سبق أن العيني كان جهبذ عصره، ولم يصل إلى هذه المرتبة إلا بعد أن قطع شوطا طويلا صنع من خلاله هذا النجاح، ولعل من عوامل ذلك رحلاته العلمية وما شاهده من خلالها، فضلا عن التراكمات التراثية التي حصلها من شتى فنون المعرفة التي اطلع عليها ويأتي في مقدمة هذه المصادر، علوم القرآن الكريم والتفسير، التي كانت المنهل الذي استقى منه العيني ثقافته، وشكلت تكوينه العلمي والأدبي. وقد تفاعل العيني مع كل العلوم التي درسها؛ وكان من نتيجة ذلك أن بدأ مشوار حياته مبكرا في التأليف في أغلب فنون عصره، فكان من أهم المصنفات التاريخية التي كتبها: "عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان"، "السيف المهند في سيرة الملك المؤيد أبي النصر شيخ"، "سيرة الملك الأشرف"، "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر ططر"، "الجوهرة السنية في تاريخ الدولة المؤيدية"، وله بالتركية "تاريخ الأكاسرة" (^٦). كما كان له "تاريخ
_________
(^١) ابن تغري بردي: الدليل الشافي، ج ٢، ص ٧٢٢، ترجمة رقم ٢٤٦٥.
(^٢) السخاوي: الضوء اللامع، ج ١٠، ص ١٣٣.
(^٣) الشوكاني: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، ج ٢، ص ٢٩٤ - ٢٩٥.
(^٤) ابن العماد: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ج ٧، ص ٢٨٧ - ٢٨٨.
(^٥) اللكنوي: الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص ٢٠٨.
(^٦) الزركلي: الأعلام، ج ٧، ص ١٦٣.
1 / 25
البدر في أوصاف أهل العصر" وهو مختصر لعقد الجمان، "مختصر المختصر"، وهو "مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر"، "التاريخ الكبير على السنين" في عشرين مجلد اختصره في ثلاثة مجلدات، وكتاب "التاريخ الصغير" في ثلاثة مجلدات، و"سيرة مغلطاي" (^١).
العيني وعلماء عصره:
شهد القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي نهضة فكرية وثقافية في مصر والشام، ساعد على قيامها ما وفرته دولة المماليك من بعض الجوانب في مجال الحرية الفكرية، والإمكانات الاقتصادية، إلى جانب هجرة كثير من علماء العصر إلى مصر أمام الزحف المغولي، فتجمعت في البلاد كوكبة من العلماء أثروا الحياة العلمية والثقافية، وتركوا لنا ثروة علمية في شتى فنون المعرفة الإنسانية، وكان من قمم هذا العصر وشوامخه بدر الدين العيني المتوفي سنة ٨٥٥ هـ / ١٤٥١ م، وابن حجر العسقلاني المتوفى سنة ٨٥٢ هـ / ١٤٤٨ م، والمقريزي المتوفي سنة ٨٤٥ هـ / ١٤٤١ م، وناصر الدين بن البارزي وغيرهم.
وكان كل واحد من هؤلاء العلماء يعرف قدر الآخر ويكن له غير قليل من الاحترام، إلا أن الاختلاف في وجهات النظر وارد عند كل منهم سواء أكان من الناحية المذهبية أو العلمية أو السياسية، مما جعل حدة المنافسة بينهم شديدة، فالعيني كان حنفيًا، وابن حجر العسقلاني كان شافعيًا، وكان الاختلاف المذهبي بينهما سببا لقيام مناقشات فقهية، تحولت في النهاية إلى شبه صراع مذهبي، تبين عندما عزل العيني عن القضاء، فقام ابن حجر بقطع الخطبة عن مسجد القاضي بدر الدين حسن بن سويد، بحجة أن المذهب الشافعي لا يجيز تعدد خطبة الجمعة في المصر الواحد (^٢).
كما اشتدت المنافسة أيضًا بين العيني والمقريزي؛ إذ كان كل منهما يمثل قمة علمية شامخة في شتى مجالات الحياة، فعلى الصعيد العلمي حاول كل منهما أن
_________
(^١) لمزيد من التفاصيل عن مؤلفات العيني. انظر: الضوء اللامع، ج ١٠، ص ١٣٣ - ١٣٥.
(^٢) السخاوي: التبر المسبوك، ص ٩ - ١٠.
1 / 26
يتصدر مقدمة مؤرخي عصره، ليس هذا فحسب بل إن الصراع بينهما على وظيفة حسبة القاهرة وضواحيها تأجج بينهما، خاصة بعد أن عزل السلطان الناصر فرج بن برقوق الشيخ المقريزي من الحسبة، وولاها العيني سنة ٨٠١ هـ/ ١٣٩٩ م. فكان هذا الأمر بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ أخذ المقريزي يكيل التهم للعينى، ويصفه بممالأة الحكام، وكان رد العينى عليه أن وصفه بالجهل وعدم المعرفة (^١).
ولم يسلم المقريزي من نقد العيني حتى بعد وفاته؛ إذ ذكر عند ترجمته له أنه "كان مشتغلًا بكتابة التواريخ، ويضرب الرمل" (^٢). وفي هذا تقليل من قيمة المقريزي العلمية، إذ لا يجتمع العلم والدجل.
وقد شرب العيني من الكأس التي سقى منها المقريزي؛ فلم يسلم من نكاية المنافسين له من أرباب الوظائف، أمثال ناصر الدين بن البارزي -كاتب السر- الذي نجح في إيغار صدر السلطان المؤيد شيخ، فأبعده عن الحسبة. كما نجح ابن البارزي أيضًا في الإيعاز إلى صهره السلطان جقمق، فأبعد العيني عن القضاء عام ٨٤٢ هـ / ١٤٤١ م. ولا يعني هذا أن العيني كان مضطهدا من كل معاصريه، وإنما كانت الحرب بينه وبين المنافسين له بسبب نجاحه وتبوئه المناصب العليا التي كانوا يحلمون بتقلدها.
مصادر العصر الأيوبي التي اعتمد عليها العيني:
من أشهر من نقل عنهم العيني عند كتابته عن العصر الأيوبي القاضي الفاضل - (عبد الرحيم البيساني المتوفي سنة ٥٩٦ هـ/ ١٢٠٠ م) الذي كان من ألصق الناس بصلاح الدين. وقد عاصر فترة انتقال الحكم من الفاطميين إلى الأيوبيين. وعمل بمثابة مستشار خاص لصلاح الدين، وقد بلغت ثقته به حدًا كبيرًا حتى أنابه في إدارة شئون مصر في الفترة من سنة ٥٨٥ - ٥٨٨ هـ / ١١٨٩ - ١١٩٢ م إبان حربه ضد الحملة الصليبية الثالثة. واعترف صلاح الدين بفضله بقوله "ما فُتحت البلاد بالعساكر إنما فُتحت بكلام القاضي الفاضل". وهذا يؤكد خصوصية دور القاضي الفاضل لدى صلاح الدين.
_________
(^١) انظر عقد الجمان، ج ٢٥، ورقة ٥١. مخطوط بدار الكتب المصرية، رقم ١٥٨٤ تاريخ.
(^٢) عقد الجمان، ج ١٩، ورقة ٢٣٤؛ ج ٢٥، ورقة ٧٢٥.
1 / 27
كما نقل العيني أيضًا عن العماد الأصفهاني؛ وهو عماد الدين أبو عبد الله بن صفي الدين أبو الفرج محمد بن نفيس الدين، الملقب بالعماد الكاتب، المتوفى سنة ٥٩٧ هـ / ١٢٠١ م، الذي يعد حجة في فترة من فترات العصر الأيوبى، بحكم عمله كاتبًا في ديوان الإنشاء بمصر في عصر صلاح الدين، ولازمه في حله وترحاله، حتى أصبح بمثابة سكرتير خاص.
وقد اقتبس العيني من كُتب العماد الأصفهاني الكثير؛ خاصة "البرق الشامي"، "الفتح القسي في الفتح القدسي"، "خريدة العصر وجريدة القصر"، فضلا عن بعض أشعار ديوانه. وهذه الكتب تناولت أحداث هامة وأخبارًا قيمة؛ فالبرق الشامي ذكر حياة العماد الأصفهاني في العراق، منذ كان في خدمة السلاجقة وحتى وفاة صلاح الدين الأيوبي، أي من سنة ٥٦٢ هـ - ٥٨٩ هـ / ١١٦٧ - ١١٩٣ م وفي هذه الفترة اتصل بنور الدين محمود ومن بعده بصلاح الدين الأيوبي.
أما "الفتح القسي" فقد تناول تحرير فلسطين وبلاد الشام من يد الفرنجة في الفترة من سنة ٥٨٣ هـ - ٥٨٩ هـ / ١١٨٧ م - ١١٩٣ م.
أما الكتاب الثالث "الخريدة" فقد غلب عليه الطابع الأدبي. وهو مقسم إلى عدة أقسام؛ قسم عن شعراء الشام، قسم عن شعراء مصر، قسم عن شعراء العراق، وقسم خاص بشعراء اليمن والمغرب.
كذلك اعتمد العيني على كتابي ابن الأثير - (علي بن أحمد بن أبي الكرم) - المتوفي سنة ٦٣٠ هـ / ١٢٣٣ م؛ فالأول كتاب "التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية" وهو يتناول تاريخ ملوك الموصل من الأتابكة في الفترة من سنة ٤٧٧ - ٦٠٧ هـ / ١٠٨٤ - ١٢١١ م.
والثاني كتاب "الكامل في التاريخ" وهو موسوعة كبيرة في التاريخ العام للعالم الإسلامي. ابتدأه بأول الزمان، وأنهاه بعام ٦٢٨ هـ/ ١٢٣١ م.
كذلك نقل العيني من كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية"، لأبي شامة - (شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي)، المتوفي سنة
1 / 28
٦٦٥ هـ / ١٢٦٧ م. وهذا الكتاب سجل فيه أبو شامة أغلب ما كتبه ابن أبي طي -فتاريخ ابن أبي طي مصدر على جانب كبير من الأهمية، لأنه تناول بعناية ودقة تاريخ العالم الإسلامي كله، وأعطى مدينة حلب قدرًا ملحوظًا من اهتمامه، وذكر حاجي خليفة أن ابن أبي طي رتب تاريخه على طريقة الحوليات (^١). وقد فُقدت كتب ابن أبي طي، والفضل يرجع إلى أبي شامة في معرفتنا بما كتبه ابن أبي طي. وقد تميز أسلوب اين أبي طى بأنه مجرد من الزخرف، واقعي، مختصر، مباشر في معالجته للموضوعات.
وترجع أهمية كتاب "الروضتين" أيضا إلى أنه نقل لنا ما كتبه العماد الكاتب في كتابه "البرق الشامي"، وهذا الكتاب الأخير فقدت معظم مجلداته، ولا يوجد منه سوى الجزء الثالث والجزء الخامس بمكتبة البودليان بجامعة أكسفورد.
كذلك أخذ العيني من كتاب "النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية" المعروف بسيرة صلاح الدين، لابن شداد - (بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن شداد) المتوفى سنة ٦٣٢ هـ / ١٢٤٣ م. وأهمية هذا الكتاب بالنسبة للعيني أن ابن شداد كان من بين معية صلاح الدين؛ التحق بخدمته سنة ٥٨٤ هـ / ١١٨٨ م، ولم يفارقه في سلم أو حرب منذ ذلك التاريخ وحتى وفاة صلاح الدين سنة ٥٨٩ هـ/ ١١٩٣ م.
لذلك كان ابن شداد شاهد عيان على العصر، وهو يوضح ذلك بقوله في حوادث سنة ٥٨٤ هـ حيث قال: "منذ هذا التاريخ ما سطرت إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق به خبرًا يقارب العيان". وقد ولاه صلاح الدين قضاء العسكر وقضاء القدس بعد فتحها. ولما توفي صلاح الدين اتصل ابن شداد بالملك الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب.
نسخ المخطوطة:
للمخطوطة نسخ عديدة اعتمدنا على نسختين؛ رمزنا للنسخة الأولى بالرمز (أ)، وللنسخة الثانية بالرمز (ب) وهي النسخة المساعدة.
_________
(^١) حاجي خليفة: كشف الظنون، ج ١، ص ٢١٤. ط. أولى.
1 / 29
النسخة الأولى: مصورة من معهد المخطوطات العربية عن مخطوطة مكتبة أحمد الثالث بتركيا رقم ٢٩١١/ ١٩ وقد عثرت عليها الباحثة الفاضلة/ نعمات عباس، فلها الشكر، وهي تقع في تسعة عشر جزءا، يهمنا منها الجزءين الآتيين:
الجزء الثاني عشر: من سنة ٥٢١ هـ إلى سنة ٥٧٨ هـ. وهو مكون من ٢٢٧ ورقة مكتوبة بخط المؤلف سنة ٨٣١ هـ، ومسطرتها ٣١ سطرًا.
الجزء الثالث عشر: مأخوذ عن مكتبة ولى الدين بتركيا، تحت رقم ٢٣٩٠. وتبدأ حوادثه من سنة ٥٧٩ هـ إلى سنة ٦٢٠ هـ. وهذه النسخة بخط المؤلف أيضًا، كتبها سنة ٨٣٢ هـ. وعدد أوراقها ٢٢١ ورقة، ومسطرتها ٣١ سطرًا.
أما النسخة الثانية: فقد رمزنا لها بالرمز ب، وهي نسخة ملفقة تحت رقم ١٥٨٤ تاريخ، بدار الكتب المصرية، وتتكون من ستة وثلاثين جزءا. اعتمدنا فيها على الأجزاء الآتية:
القسم الثالث من الجزء الحادي والعشرين [ميكروفيلم ٣٥٧٥٥] ويشتمل على السنوات: من ٥٢١ هـ - ٥٧٨ هـ.
القسم الأول من الجزء الأول [ميكروفيلم ٣٥٥٧١] ويشتمل على السنوات: من ٥٧٩ هـ - ٥٩٢ هـ.
القسم الثاني من الجزء السابع عشر (ميكروفيلم ٣٧٦٦٦) ويشتمل على السنوات: من ٥٩٢ هـ /٦٢٠ هـ.
القسم الأول من الجزء الثامن عشر (ميكروفيلم ٣٥٧٥٦) ويشتمل على السنوات: من ٦٢١ هـ / ٦٣٥ هـ.
القسم الثاني من الجزء الثامن عشر (ميكروفيلم ٣٦٣٩٥) ويشتمل على السنوات: من ٦٣٥ هـ - ٦٥٦ هـ.
وقد اعتمدنا على هذه النسخة كنسخة مساعدة حتى سنة ٦٢٠ هـ. ثم اعتمدناها أصلا بعد ذلك لاستكمال السنوات من ٦٢١ هـ إلى ٦٤٧ هـ، لعدم وجود هذه السنوات في نسخة معهد المخطوطات التي بين أيدينا.
1 / 30
منهج التحقيق:
حرصنا في عملنا على الالتزام بالنص الأصلي الذي جاء بالنسخة الرئيسة من المخطوط، لكن الأمر في بعض الأحيان كان يتطلب التدخل من أجل تقويم النص، نتيجة لتصحيف أو تحريف وقع في بعض الكلمات، ربما يكون من الناسخ. بالإضافة إلى تكملة بعض الكلمات أو العبارات التي سقطت من المؤلف أو الناسخ بعد الرجوع إلى النصوص التي نقل عنها من المصادر. وحينئذ كنا نضع ما سقط بين حاصرتين.
كما قمنا بتقسيم الصفحات إلى فقرات مع مراعاة وضع علامات الترقيم، حتي يسهل على القارئ متابعه النص وتحصل الاستفادة الكاملة من التحقيق.
ثم قمنا بتحقيق أسماء الأعلام والأماكن والبقاع. كما استخرجنا التعريفات الخاصة بالمصطلحات الواردة في النص.
وبعد،،
الحمد لله الذي وفقنا لهذا العمل بفضله ومنه، وأول ما يعن لنا هنا بعد شكر الله تعالى، التقدم بالشكر والعرفان للسيد/ سمير غريب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، والأستاذ/ السيد حسن عرب مدير عام مركز تحقيق التراث، كما أتقدم بشكري وتقديري للزميلة الفاضلة الدكتورة / لبيبة إبراهيم مصطفي محمد على الجهد الكبير الذي بذلته في جميع مراحل تحقيق هذا الكتاب، ولمراجعتها الدقيقة للتجربة الأخيرة للكتاب قبل اعتماده للطبع، وللباحثات الفضليات اللاتي ساهمن معنا في بدايات هذا العمل ثم حالت ظروف عملهن من الاستمرار، وهن:
السيدة/ نجوى مصطفى كامل، السيدة/ نفيسة محمد رشاد، السيدة/ قدرية إبراهيم، السيدة/ خلود مصطفى. كما نشكر السيدة/ إيزيس سامح زكى التي قامت بنسخ الجزء الأكبر من هذا السفر.
كذا نتقدم بالشكر للسيد المهندس / مدير مطبعة دار الكتب وللسادة العاملين معه.
والله من وراء القصد.
دكتور/ محمود رزق محمود
الهرم - الأريزونا
تحريرًا في: ١٥/ ٩/ ٢٠٠١ م
1 / 31
فصل فيما وقع من الحوادث في السنة الخامسة والستين بعد الخمسمائة *
استهلت هذه السنة والخليفة هو المستنجد (^١) بالله، وصاحب مصر العاضد (^٢)، والوزير بها صلاح الدين يوسف بن أيوب (^٣)، وقد كتب إلى نور الدين محمود (^٤) بن زنكي يستنجده على الفرنج؛ لأنهم حاصروا مدينة دمياط (^٥) في صفر من هذه السنة "خمسين يومًا"، بحيث ضيقوا على أهلها، وقتلوا منهم خلقا لا يحصون، وهم في أمم لا يحصون كثرة، قد اجتمعوا من البر والبحر؛ رجاء أن يملكوا الديار المصرية، وخوفا من استيلاء المسلمين على القدس الشريف (^٦).
وكتب صلاح الدين إلى نور الدين يطلب منه أن يرسل إليه بأمداد من الجيوش؛ فإنه إن خرج من مصر خلفه أهلها بسوء، وإن غفل عن الفرنج أخذوا دمياط وجعلوها معقلا لهم، يتقوون به على (^٧) أخذ مصر، فأرسل إليه ببعوث كثيرة يتلو بعضها بعضًا.
_________
(¬*) يوافق أولها ٢٥ سبتمبر ١١٦٩ م.
(^١) هو أبو المظفر يوسف المستنجد بالله بن المقتفي، الخليفة العباسي، تولى الحكم من سنة ٥٥٥ هـ/ ١١٦٠ م إلى وفاته سنة ٥٦٦ هـ / ١٧١١ م. انظر: ابن الأثير: التاريخ الباهر، ص ١٥٠ - ١٥٥، القاهرة ١٩٦٣ م؛ الكامل في التاريخ، ج ١٠، ص ٢٨ - ٢٩، بيروت ١٩٨٧ م؛ سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان، ج ٨، ص ١٧٧ - ١٧٨، شيكاغو ١٩٠٧ م؛ ابن واصل: مفرج الكروب، ج ١، ص ١٩٥ - ١٩٦، القاهرة ١٩٥٣ م؛ السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص ٤٤٢ - ٤٤٤، مصر ١٩٥٩ م.
(^٢) هو أبو محمد عبد الله الملقب بالعاضد بن يوسف بن الحافظ محمد بن المستنصر بن الظاهر بن الحاكم، العبيدي الفاطمي، آخر ملوك العبيديين، توفي بمصر سنة ٥٦٧ هـ / ١١٧٢ م انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج ٣، ص ١٠٩ - ١١٢، بيروت، دار صادر؛ ابن دقماق: الجوهر الثمين، ج ١، ص ٢٦٧ - ٢٦٩، بيروت ١٩٨٥ م؛ المقريزي: اتعاظ الحنفا، ج ٣، ص ٣٢٨ - ٣٢٩، القاهرة ١٩٦٧ م (المجلس الأعلى للشئون الإسلامية). وستأتي ترجمته في هذا الجزء في وفيات سنة ٥٦٧ هـ.
(^٣) هو أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي، الملك الناصر صلاح الدين، صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية، توفي بدمشق سنة ٥٦٩ هـ / ١١٧٤ م انظر: العماد الكاتب: الفتح القسى، ص ٦٢٧ - ٦٢٩؛ وفيات الأعيان، ج ٧، ص ١٣٩ - ٢١٨؛ مرآة الزمان، ج ٨، ص ٢٧٢ - ٢٧٩.
(^٤) هو الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن عماد الدين زنكي بن قسيم الدولة آق سنقر التركي، سلطان الدولة النورية، توفي بدمشق سنة ٥٦٩ هـ/ ١١٧٣ م. انظر تفصيل ترجمته فيما سيأتي من هذا الجزء؛ الباهر، ص ١٦١ - ١٦٥؛ مرآة الزمان، ج ٨، ص ١٩١ - ٢٠٥؛ وفيات الأعيان، ج ٥، ص ١٤٨ - ١٥١؛ أبو شامة: الروضتين، ج ١ ق ٢، ص ٥٧٧ - ٥٨٥، القاهرة ١٩٦٢ م.
(^٥) عن تفاصيل حصار الفرنج لدمياط، انظر: البنداري: سنا البرق الشامي، ص ٨٦ - ٨٧، تحقيق فتحية النبراوي، مصر ١٩٧٩ م؛ الباهر، ص ١٤٤، الروضتين، ج ١ ق ٢، ص ٤٥٦ - ٤٥٧؛ مفرج الكروب، ج ١، ص ١٧٩.
(^٦) "وخوفًا من المسلمين أن يملكون القدس الشريف" في نسخة ب.
(^٧) "إلى" في نسخة ب.
1 / 33
واغتنم نور الدين غيبة الفرنج عن بلادهم فصمد إليها في جيشه فجاس خلال الديار لهم "وقتل من رجالهم" (^١) وسبي من نسائهم وأطفالهم شيئًا كثيرًا.
وأجلت الفرنج عن دمياط؛ لأنه بلغهم أن نور الدين ﵀ قد حصر بلادهم، وقتل خلقا من رجالهم، وسبي كثيرا من نسائهم، وغنم مالا جزيلا من أموالهم. ولما أجلت الفرنج عن دمياط؛ فرح المسلمون ونور الدين وصلاح الدين على ذلك فرحًا شديدًا، وأنشد الشعراء في ذلك كل منهم قصيدًا (^٢).
وفي تاريخ (^٣) بيبرس: وفيها قدم الفرنج دمياط وحاصروها، وذلك أن أسد الدين [شيركوه] (^٤) لما ملك مصر خاف الفرنج الذين بالساحل فكاتبوا أهل صقلية والأندلس؛ يستمدونهم ويعلمونهم أنهم خائفون على بيت المقدس، فأمدوهم بالمال والسلاح والعدد والرجال، فنزلوا دمياط ظنا أنهم يملكونها. فأرسل صلاح الدين إليها العساكر برا وبحرا، وأمدهم بالأموال والأسلحة والأقوات، وسير إلى نور الدين يعلمه بذلك ويشكو إليه، أنه إن خرج من القاهرة ما يأمن أن تنقض الشيعة أمرنا. فسير إليه نور الدين عسكرا نجدة، وسار بنفسه لقصد الفرنج، فصعد إلى الكرك (^٥) وحاصرها. وجاءت الفرنج إلى بيسان (^٦)، فرحل نور الدين عن الكرك للقائهم، فرجعوا إلى عكا (^٧)، فعاد نور الدين إلى دمشق.
ولما سمع فرنج الشام بنزول الفرنج على دمياط طمعوا، واشتد أمرهم، فسرقوا حصن عكار من المسلمين، وأسروا صاحبها وكان مملوكًا لنور الدين يسمى ختلخ (^٨) العلم دار وأولاده.
_________
(^١) ما بين الأقواس ساقط من نسخة ب.
(^٢) ذكر أبو شامة بعضًا من هذه الأشعار في الروضتين، ج ١ ق ٢، ص ٤٦٠ - ٤٦٢؛ تاريخ ابن الفرات، ج ١، ص ٨٢ - ٨٧.
(^٣) يقصد كتاب زبدة الفكرة، وهو غير موجود بين أيدينا. وانظر الكلام عن هذه الحادثة بالتفصيل في المصادر المشار إليها سابقًا.
(^٤) مابين الحاصرتين إضافة من نسخة ب، وهو أبو الحارث شيركوه بن شاذي بن مروان الملقب الملك المنصور أسد الدين عم السلطان صلاح الدين، توفي سنة ٥٦٤ هـ/ ١١٦٩ م. انظر: وفيات الأعيان، ج ٢، ص ٤٧٩ - ٤٨١.
(^٥) الكرك: اسم لقلعة حصينة جدا في أطراف الشام من نواحي البلقاء. ياقوت: معجم البلدان، ج ٤، ص ٢٥١ - ٢٥٢.
(^٦) بيسان: مدينة بالأردن بالغور الشامي، وهي بين حوران وفلسطين. معجم البلدان، ج ١، ص ٧٨٨، ٧٨٩.
(^٧) عكا: بلد على ساحل بحر الشام من عمل الأردن. معجم البلدان، ج ٣، ص ٧٠٧.
(^٨) ختلخ العلم دار: في الروضتين "خطلخ"، ج ١ ق ٢، ص ٤٥٨. كان مملوكًا لنور الدين. وكان على حصن عكار لما هاجمه فرنج الشام. انظر: وفيات الأعيان، ج ٧، ص ١٥٢.
1 / 34
وفي المرآة (^١): وفيها نزلت الفرنج على دمياط يوم الجمعة ثالث صفر، وجدّوا في القتال، وأقاموا عليها ثلاثة وخمسين يومًا يضربونها بالمجانيق (^٢)، ويزحفون إليها ليلًا ونهارًا.
ووجه إليها صلاح الدين العساكر مع شهاب الدين (^٣) خاله "وتقي الدين" (^٤) وطلب من العاضد مالا فبعث إليه بشيء كثير. فكان صلاح الدين يقول: ما رأيت أكرم من العاضد؛ جهز إلى في حصار الفرنج ألف ألف دينار، سوى الثياب وغيرها.
واشتغل نور الدين ببلاد الفرنج بالغارات، ووقع فيهم الفناء. فرحلوا بعد أن مات منهم خلق كثير، وكان رحيلهم في ربيع الآخر. وفي شعبان سار نور الدين إلى الكرك، فنازله وضربه بالمجانيق، واجتمع ملوك الساحل وجاؤوه فتأخر إلى البلقاء (^٥).
وقال القاضي ابن شداد (^٦): لما رأى نور الدين ظهور الفرنج ونزولهم على دمياط، قصد شغل قلوبهم، فنزل على الكرك محاصرا لها في شعبان، وقصده فرنج الساحل، فرحل عنها، وقصد لقاءهم، فلم يقفوا له. ثم بلغه وفاة مجد الدين بن الداية (^٧) بحلب في رمضان، فاشتغل قلبه، لأنه كان صاحب أمره، فعاد يطلب الشام، فبلغه خبر الزلزلة (^٨) بحلب التي خرَّبت كثيرًا من البلاد. وسار يطلب حلب، فبلغه موت أخيه قطب
_________
(^١) مرآة الزمان، ج ٨، ص ١٧٤ حيث ينقل العينى عنه بتصرف. ويذكر صاحب المرآة فقط أن مدة إقامة الفرنج على دمياط ثلاثة وخمسين يومًا، انظر ما سبق.
(^٢) "المناجنيق" في المرآة وهي آلة من خشب لقذف الحجر على العدو إلى مسافات بعيدة. القلقشندي: صبح الأعشي، ج ٢، ص ١٣٦ - ١٣٧.
(^٣) شهاب الدين محمود الحارمي، خال صلاح الدين الأيوبي، توفي سنة ٥٧٣ هـ/ ١١٧٧ م انظر: مرآة الزمان، ج ٨، ص ٢٢٢؛ وفيات الأعيان، ج ٧، ص ١٥٤، ص ١٦٣.
(^٤) ما بين الأقواس ساقط من نسخة ب. وهو الملك المظفر تقي الدين أبو سعيد عمر بن شاهنشاه بن أيوب ابن أخي السلطان صلاح الدين صاحب الديار المصرية، توفي سنة ٥٨٧/ ١١٩١ م. انظر: وفيات الأعيان، ج ٣، ص ٤٥٦ - ٤٥٨؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج ١٢، ص ٣٦٩ - ٣٧٠ (ط. دار الكتب العلمية بيروت).
(^٥) البلقاء: كورة من أعمال دمشق، بين الشام ووادي القرى قصبتها عمان، انظر: معجم البلدان، ج ١، ص ٧٣٨.
(^٦) انظر قول ابن شداد في: النوادر السلطانية، ص ٤٢ - ٤٣ حيث ينقل العيني عنه بتصرف.
(^٧) هو مجد الدين أبو بكر بن الداية وسيأتي في وفيات هذه السنة، وعن أولاد ابن الداية انظر ابن واصل: مفرج الكروب، ج ٢، ص ٢٤؛ مرآة الزمان، ج ٨، ص ١٧٥ - ١٧٦؛ النعيمي: الدارس، ج ٢، ص ٢٥٩، القاهرة ١٩٨٨ م.
(^٨) انظر تفصيل خبر الزلزلة بالشام فيما سيأتي ص ٤١ - ٤٤.
1 / 35