وقد يكون السبب عارضا على ذلك الرجل طرأ عليه في أثناء حياته من سوء تصرفه أو فساد تربيته، أو أن يكون ذلك الفساد قد تطرق إليه من أجداده، ولإيضاح ذلك نفرض رجلا باسلا مقداما، وأدلة الشجاعة ظاهرة في عرض أكتافه وطول قامته وتكوين جمجمته، فولد أولادا أبدانهم مثل بدنه وفيهم كل ما فيه من ظواهر الشجاعة والقوة، ولكن بعضهم انغمس في الترف وانقطع للقصف واللهو والإفراط والإسراف حتى استنزف قواه وأنهك جسمه وأمات عواطفه، وأما ما ورثه من ظواهر الشجاعة فلا يزال ظاهرا فيه، ثم أورث ذلك الضعف لأولاده فشبوا وظواهرهم لا تدل على بواطنهم، فأخطأت الفراسة فيهم، وكثيرا ما يقع ذلك في العشائر القديمة المتسلسلة من أجداد تفردوا بمواهب رفعتهم إلى منازل الأمراء أو الملوك ثم انغمس أعقابهم في الملذات والقصف ونحوهما من أسباب الرخاء، فضعفت قواهم وظلت ملامح القوة ظاهرة في تكوين جماجمهم وأكتافهم وغيرها من الأعضاء الصلبة التي قلما يؤثر التغيير في شكلها، على أن دلائل ذلك الانحطاط قد تظهر في عيونهم أو ملامحهم، وقد يظهر تغيير العينين في الشخص الواحد حالما تتبدل طرق معائشه، فالشاب قد يشب ذكيا ودلائل الذكاء ظاهرة في عينيه، فإذا فسدت تربيته وانغمس في المسكرات حتى صار سكيرا رأيت سحنته تغيرت وظهر ذلك خصوصا في العينين؛ لأن أنسجتهما لدنة نحيفة، وفي الشكل
1
صور بعض السكيرين، فإنك تراهم يتشابهون في أشكال عيونهم، ولو أتيح لنا أن نرى صورهم قبل ابتلائهم بالسكر لرأينا بين الحالين بونا شاسعا.
شكل 1: وجوه السكيرين.
ويقال مثل ذلك في من يصاب بالجنون؛ فإن سحنته تتغير تغيرا كليا، حتى إذا كنت تعرفه في حال تعقله ورأيته في حال جنونه فتكاد لا تعرفه، وكثيرا ما نشاهد ذلك في من يصابون بحمى الدماغ ويعتريهم جنون وقتي؛ فإن سحنتهم تتبدل، فإذا فارقتهم الحمى عادوا إلى ما كانوا عليه، أليس ذلك كله لعلاقة ثابتة بين حال الدماغ وظواهر السحنة؟!
وبناء على ما قدمناه فالفراسة علم طبيعي صحيح، وإذا أخطأت أحكامه في بعض الأحوال فلعوارض طارئة كما تقدم، أو لقصر الأبحاث فيه حتى الآن مما يرجى ملافاته بالبحث الطويل على مرور الأيام بما يكتشفونه من العلاقات والأسباب.
وفي كل حال فإن الحكم الصحيح في هذا الفن لا يتأتى إلا للذين يحسنون دراسته وتفهمه ويعتبرون ما قدمناه وإلا كان حكمهم عرضة للخطأ، ولذلك قال الطرسوسي: «إن علم الفراسة حرام على الأغبياء.»
الفراسة قريحة خاصة
وعندنا مع ذلك أن الفراسة ملكة لا ينبغ فيها إلا أناس فيهم استعداد خاص لها، فهي كالشعر ونحوه من الفنون الجميلة، فقد ينظم غير الشاعر ولكنه لا يكون شاعرا، وكذلك التصوير فإنه لا يبرع فيه إلا الذين فطروا عليه منذ ولادتهم، وهكذا يقال في الموسيقى، وهي أقرب تلك الفنون إلى علم الفراسة، فإن الموسيقي الحقيقي يدرك من طبقات الأنغام ما لا يدركه غيره، فقد تسمع لحنا فتطرب له ولا تدرك فيه نقصا ولو مهما أجهدت نفسك في انتقاده، وأما الموسيقي فإنه يكشف الخطأ بمجرد سماع النغم، وكذلك المتفرس إذا لم يكن مفطورا على الفراسة مستعدا لقبولها فكثيرا ما تكون أحكامه فاسدة، وقد تفوته أمور كثيرة لا يفطن لها.
ويدل على أن الفراسة ملكة طبيعية يمتاز بها أناس دون آخرين أنك تراها في بعض الناس خلقية بلا علم ولا درس، وترى جماعة يفنون العمر في درسها ولا يتقنونها؛ فقد كان محمد علي باشا وعلي بك الكبير والأمير بشير كما تقدم أصحاب فراسة بلا علم، فلو تعلموا هذا الفن لكانوا من النابغين فيه، وهو في كل حال يحتاج إلى الذكاء وحدة الذهن وسرعة الخاطر. وذكروا أن الحسن ابن السقاء من موالي بني سليم كان ينظر إلى السفينة فيحزر ما فيها فلا يخطئ، وكان حزره للمكيول والموزون والمعدود سواء حتى يقول: إن في هذه الرمانة كذا وكذا حبة، وزنتها كذا وكذا، ويأخذ العود الآس فيقول: فيه كذا وكذا ورقة، فاختصاص هذا الرجل وأمثاله بذلك يدل على أن الفراسة ملكة غريزية.
ناپیژندل شوی مخ