ليست الفضيلة فعلا أو سلوكا، وإنما هي قوة مضمرة لتحريك الفعل بمقتضى الواجب؛ فهي إذن أمر حسن بحد ذاته. وحسنها يجعل الفعل حسنا ومرغوبا فيه لنفسه من غير نظر إلى الغاية؛ فالشخصية تتمثل باتصافها بالفضيلة. والسعادة إنما هي السلوك بحسب الفضيلة، والفعل بحسبها يصبح غاية لا واسطة؛ لذلك تستلزم الفضيلة - وهي قوة مضمرة كما قلنا - جهادا للقيام بالواجب. إذن إرادة الخير من غير فعل الخير لا تعد فضيلة. (1-3) تبويب الفضائل
لذلك يتعذر جدا تبويب الفضائل وتفصيلها من جهة الشخصية الذاتية، أو من جهة الشخصية الاجتماعية؛ ولا سيما لأن الفضائل تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والجماعات.
على أن أفلاطون رد الفضائل إلى أربعة أصول رئيسية، وهي: التعفف، والشجاعة، والحكمة، والعدل، الذي هو مبدأ عام يربطها جميعا.
ولا يخفى أن هذه الأصول منغرسة في المجتمع بفعل نظمه التي تربط الأفراد فيه. وقد جرى معظم الكتاب الأدبيين على تفصيل أفلاطون هذا إذا أمكنهم أن يحللوا هذه الأصول إلى سائر الفضائل الأخرى كفروع لها. وبتحليلها يمكن التوصل إلى منشئها، ونسبة بعضها إلى بعض، ووظيفتها في السلوك الإنساني. أما نحن فنضيف إليها المحبة والإيمان ونعدلها كما ترى فيما يلي. (2) الاعتدال (2-1) التعفف والشجاعة إلى جانبي الاعتدال
قلنا آنفا: إن في الشخصية الذاتية أميالا وغرائز وعواطف إلخ، وهي أداة اللذة والألم، فإذا أطلقت للغرائز والأهواء الحبل على الغارب اندفعت في السبيل الأقصر إلى السرور الأقرب من غير نظر إلى العواقب القصوى، ولا سيما لأن غرائز الإنسان ليست كغرائز الحيوان تكفي وحدها لإرشاده في سبيل الحياة الأمين، بل هي متهورة طائشة، ولا بد من إرشاد التعقل لها وتدريبه إياها؛ لذلك كان لا بد من فضيلتي الشجاعة والتعفف لتدربا تلك الأهواء والغرائز في السبيل المؤدي إلى اللذة أو السعادة العظمى. والتعفف في اللغة هو الكف عما لا يحل ولا يجمل قولا أو فعلا والامتناع عنه.
وقد علمت أن السرور والألم نقيضان متعاقبان، بمعنى أن وجود الواحد ينفي الآخر، أو أن انتفاء الواحد وجود للآخر، وعلمت أيضا أن الطريق إلى لذة أعظم قد يستلزم التجاوز عن لذة أقل، أو المرور بألم قليل بالنسبة إلى تلك اللذة. (2-2) وظيفتا الشجاعة والتعفف
في السلوك إلى تلك الغاية القصوى المقرونة باللذة العظمى تكون وظيفة الشجاعة الإقدام على الألم العارض، أو تحمله في السبيل إلى الغاية، ووظيفة التعفف ضد اللذة الصغيرة الحائلة دون الوصول إلى الغاية.
فكلا الشجاعة والتعفف إذن يقضيان بتحايد اللذة وتلقي الألم، في السبيل إلى الغاية الأوفر لذة، فكأنهما فضيلة واحدة هي مقاومة الأهواء والأميال والعواطف والشهوات التي تغر النفس باللذة الوقتية أو القليلة، فتحرمها لذة أعظم وأدوم، ولكنها فضيلة ذات وجهين: الواحد إيجابي أو هجومي، وهو وجه الشجاعة، والآخر سلبي دفاعي، وهو التعفف، وقد مثلها ديوي بقوتين: الواحدة منفذة، وهي الشجاعة، والأخرى منظمة، وهي التعفف. (2-3) هما وجهان لفضيلة واحدة
وأما أنهما وجهان لفضيلة واحدة مختلفا الوظيفة على هذا النحو؛ فلأنهما متصاحبان في كل سلوك إلى غاية معينة. ففي كل فعل تجد داعيا للكثير أو القليل من التعفف؛ أي قمع الشهوة، ومن الشجاعة؛ أي تحمل ألم هذا القمع؛ فالسكير التائب عن الكأس متعفف؛ لأنه قمع شهوته للكأس، وشجاع لأنه تحمل غصص الشوق إلى الكأس، والمحسن الذي جاد بقدر من المال لعمل خيري متعفف؛ لأنه قمع الشهوة للمال، وشجاع لأنه تحمل ألم فراق المال، ومنقذ الغريق متعفف لأنه قمع أنانيته، وشجاع لأنه عرض نفسه للخطر.
وترى من هذين المثالين الأخيرين أن قدر كل من الشجاعة والتعفف فيهما مختلف، فالشجاعة في تخليص الغريق أعظم من الشجاعة في احتمال ألم فراق المال، ولكن التعفف في قمع الأنانية أضعف من التعفف في قمع شهوة المال.
ناپیژندل شوی مخ