وإنما إذا بقي الناس يأبونها ويشجبونها، وكان بقاؤها يسوء شعائر أولئك جعلتها الهيئة الحاكمة شريعة منفذة القوة. وتبقى شريعة هكذا أمدا طويلا أو قصيرا إلى أن تتعودها الأجيال، وتصبح عادة مستحكمة فيهم يأتونها اختيارا؛ فتقل الحاجة إلى القوة لتنفيذها، وعلى التمادي تتلاشى شرعيتها، وتصبح عادة، وربما صارت على التمادي غريزة .
فالعادة بنت نواة الشريعة أولا. وقد تكون الشريعة في بدء نشوئها حسنة جدا، فلا تلبث أن تنتشر كعادة لا كشريعة؛ لاستحسان الجمهور لها، فإذا بقي أفراد يناقضونها ويخالفونها اضطر المجتمع أن يعود إلى اشتراعها، وتستمر شريعة أمدا طويلا أو قصيرا إلى أن يتعودها الجمهور، ويحسب مخالفتها معرة، فيبطل كونها شريعة، بل تصبح مبدأ أدبيا ينفذه الناس من تلقاء أنفسهم تحاميا للمعرة. هكذا كان ستر العورة في أول الأمر شريعة منفذة بالقوة تحت طائلة العقاب، فلما ترقت أدبية الإنسان المتمدن وصار يستحي من كشف العورة، لم تبق حاجة لهذه الشريعة؛ إذ أصبحت عادة، ثم صارت مبدأ أدبيا.
فترى أن الشريعة نشأت من استحكام هذه النسبة بين الأفراد والمجتمع؛ لأن هذه النسبة تقضي بتبادل الحقوق والواجبات بين الفرد والمجتمع، والشريعة تعين هذه الحقوق والواجبات المتبادلة، والشريعة التي توجب واجبا على الفرد تخوله في الوقت نفسه حقا على الآخرين؛ فحين تحرم السرقة أو النهب على الفرد وتهدده بالعقاب إذا نهب، تكون في الوقت نفسه حامية ماله من نهب الناهبين. هذا هو معنى تبادل الحقوق والواجبات بين الفرد والمجتمع.
والغرض الذي يرمي إليه العقل الاجتماعي من الشريعة هو حفظ كيان المجتمع، وضمانة نمو الحياة الاجتماعية المشتركة بين الأفراد، وتطبيع أعضاء المجتمع في طبيعة واحدة لإمكان سبكهم في قالب واحد. وهذا السبك يسهل اتحادهم في المجتمع، وإحكام ارتباطهم فيه. (1-5) قوة الشريعة
نتقدم الآن إلى موضوع نفوذ الشريعة، فهي، أو الأنظمة الاجتماعية عموما، تستمد قوتها من متانة النسبة بين الأفراد والمجتمع، وبقدر هذه المتانة تكون قوتها ونفوذها. ولما كانت هذه المتانة مختلفة ومحدودة؛ أي غير مطلقة، كان تنفيذ الشريعة محدودا أيضا. فلا نتوقع أن تنفذ كأنها شريعة الجاذبية أو الكهرباء، بل هي مرنة، فتكون في أحوال أقل أو أكثر عنفا منها في أحوال أخرى، وتكون عند أمم أقوى منها عند أمم أخرى.
فالقبائل الرخوة الارتباط قليلة الاحترام للشرائع، والجماعات الفوضوية لا سلطة للنظام فيها، وحيث تكون النسبة متينة، وبعض فئات من المجتمع متمردة على الشريعة تكون الشريعة عنيفة، وحيث يتعود الجمهور النظام، ويتعقل مصالحه بحكمة؛ يطيع الشريعة عن طيب خاطر فتتوارى قوتها.
إذن قوة الشريعة تتوقف على المشادة بين فئة من أفراد المجتمع ونسبة جميع الأفراد للمجتمع. ولما كانت الحياة الاجتماعية كثيرة التقلب والتغير بمقتضى سنن التطور، كان لا بد من نشوء أساليب للحياة مختلفة تستلزم أن يتعودها الجمهور. وهيهات أن يتعودها سريعا؛ لأن الرأي العام ينتشر ببطء كلي؛ ولذلك لا بد من إجراء هذه الأساليب بالقوة، فتنشأ لها شرائع، وتنفذ هذه الشرائع في أول الأمر بعنف لما فيها من مناقضة للمألوف، ومن مقاومة للحرية الفردية، ثم على التمادي يتعود الجمهور الأسلوب الشرعي، فتتحول الشريعة إلى عادة، ثم إلى مبدأ أدبي كما تقدم القول.
فالشريعة وقر على الطبيعة البشرية، ولكنها ضرورة للحياة الاجتماعية، وعلى التمادي يخف وقرها، فما يفعله الإنسان في أول الأمر خوفا من العقاب يصبح مع الزمان يفعله بحكم العادة، وأخيرا يفعله بدافع الإرادة الأدبية؛ فالشريعة تنشأ أولا، ثم تليها العادة، ثم تأتي الفضيلة أخيرا.
هكذا الحشمة كانت في أول الأمر شريعة، ثم صارت عادة، والآن هي فضيلة؛ فإذن حيث تستتب الفضيلة تقل الحاجة إلى الشريعة؛ لأن الفضيلة، وهي سجية في النفس، تقوم مقام الشريعة في الإيجاب والمنع، وهي كنور الهدى للضمير تساعده في تمييز الحقوق والواجبات. فالنفوس الراقية في سلم الأدبية إلى المثل الأعلى تقدس هذه الحقوق والواجبات، وتقوم بها من تلقاء نفسها، والنفوس القليلة الرقي تقوم بها بحكم الشريعة إلى أن تتعودها وتصبح سجايا فيها. (2) الحقوق والواجبات (2-1) الرأي الاجتماعي يعين الحقوق والواجبات
إذا كان الرأي الاجتماعي عاما، أو ندرت فيه المعارضة، أصبح الحق والواجب المعينان عادة، وإن كانت المعارضة فيه كثيرة شديدة، فلا بد أن يحدث أحد أمرين: إما أن تقوى المعارضة فتسقط العادة الجديدة وتتلاشى، وتلاشيها دليل على عدم صلاحيتها في الظروف التي نشأت فيها، وإن كانت المعارضة قليلة والرأي الاجتماعي غالبا، فيسن لذينك الحق والواجب شريعة؛ فإذن الرأي الاجتماعي كبيرا أو صغيرا يعين الحقوق والواجبات، والرأي العام أو الاجتماعي الغالب يسن شريعة الحقوق والواجبات. (2-2) نسبة الحق والواجب
ناپیژندل شوی مخ