متى انبرى العقل لتدريب الفعل الذي يحركه الانفعال النفساني استثار أخلاقا فطرية ثانوية أخرى لتقويم الانفعال، ولرد الفعل، بقوة تتراوح بين الشدة والضعف، وهي تتولى حينئذ أمر الفعل المردود بتدبر العقل وإرشاده على قدر ما يستطيع العقل السيطرة عليها؛ فقد يسيطر قليلا أو كثيرا، أو لا يستطيع السيطرة بتاتا؛ وإنما ينتدبها انتدابا للفعل. وهي:
أولا: «الشجاعة» وهي الجرأة على قدر ما تحتمل القدرة والإقدام على الفعل. فالشجاع لا يهاب الأخطار والصعوبات، ينشط للعمل بملء قواه العقلية والجسدية. وتقترن الهيبة بالشجاعة، وهي خاصة عقلية تظهر في ملامح الوجه والسحنة عموما. فبهذا الخلق القوي يستطيع إنسان أن يروض الأسد؛ وبنظرة منه يرده عنه إذا ضرى، وبمثل هذه النظرة يؤثر على خصمه ويوهمه أنه أقوى منه، وبهذه النظرة ونحوها من المظاهر الشجاعية يتفوق شخص على آخر، ويحمله على مهابته.
ثانيا: «التهور» وهو تطرف في الشجاعة أكثر ما تحتمله القدرة. هو شجاعة مقرونة بالطيش والرعونة غرورا بالمقدرة؛ ولهذا قلما يسلم المتهور من الوقوع في الخطر.
ثالثا: «الجبن» وهو الطرف الآخر من جانب الشجاعة، عكس التهور. يرتد الجبان عن الخطر أو درء الأذى بالرغم مما فيه من القدرة على الإقدام؛ ولذلك يلجأ إلى الحيلة، وإذا كان دنيئا نذلا استعان بالصفات الرديئة كالكذب والرياء والمواربة والخبث. (5) الإحساسات (5-1) الشعور
الإحساسات طائفة من الأخلاق انفعالية كالثالثة؛ ولكنها ليست دافعة مثلها، ولا هي جاذبة كالأولى «الشهوات»؛ بل هي منجذبة كالثانية «العواطف»، وإنما تختلف عنها بأنها انفعال بأمور عليا، وانجذاب إليها من غير اندغام بها، بل بتمتع بتأثيراتها. هي شعور بأمور أو أشياء أو حوادث أو شخصيات أعظم أو أعلى من تصوراتنا، وغريبة عن اختبارنا. وهي ثلاث:
الأولى: «التعجب» وهو شعورنا بغرابة شيء أو أمر نجهل سببه؛ كما لو سمع الطفل أو الهمجي الفونوغراف لأول مرة وهو لا يعلم سره، أو كما لو رأى السائح الشرقي جسر بروكلن قبل أن يعلم عنه شيئا؛ فيتعجب لكيفية بنائه. فهذا الشعور انفعال نفساني من سر مجهول، ولا يزول هذا العجب إلا متى فهم السبب؛ لذلك نقضي حياتنا ونحن نتعجب من أسرار الكون إلى أن نفهمها، كذلك نتعجب إذا قيل لنا: إن فلانا أثرى ونحن نعرفه فقيرا، وإن فلانا صار بطلا ونحن نعرفه صعلوكا، ونتعجب إذا أنبئنا بأي حادث مخالف للمألوف؛ كما لو قيل لنا: إن جزيرة جديدة ظهرت في البحر، أو جزيرة غاصت فيه.
تختلف الدهشة عن التعجب بأنها تحدث لمفاجأة أمر غير منتظر، وإن كان مفهوما أمره؛ كما لو أشرف ابن البر على البحر لأول مرة فيندهش لعظمته، أو كما لو أقبل ابن السهل على الجبل.
الثانية: «الاستحسان» وهو الانفعال بالجميل؛ كرؤية الربيع في الجبال المتعالية، وكرؤية الزخارف المصطنعة، وكسمع الموسيقى، وشم الرياحين. وسر هذا الاستحسان فيما يؤثره الجميل في الأجهزة العصبية فتهتز اهتزازا متساوقا ينتقل إلى المراكز الدماغية، فتهتز مثله اهتزازا نظاميا مطابقا لما تأهبت له بفعل الوراثة وتعودته. ويناقض الاستحسان الاستهجان للقبيح؛ لأنه يؤثر في الأجهزة العصبية؛ فيحدث فيها اهتزازات مضطربة غير نظامية، وينتقل هذا الاهتزاز إلى المراكز الدماغية فتضطرب له؛ لأنه مخالف لنظام اهتزازها الوراثي فتمجه وتنفر منه.
وقد يتلاشى الاستحسان قبل التعجب؛ لأن النفس تمل على التمادي نوعا من الجمال، وتتوق إلى نوع آخر، ولكن العقل لا يمل الطموح إلى استطلاع سر الأمر العجيب.
الثالث: «الإجلال» وهو رد الانفعال بالأمر العظيم؛ كالقوة والفخامة والسمو إلخ. بهذا الشعور نعبد الخالق، ونجل الملك والقائد والحاكم والزعيم، ونبجل الكريم، ونحترم الأديب، ونكرم النابغ إلخ.
ناپیژندل شوی مخ