هجم الليل والسكون ضارب أطنابه مخيم على زراونو وضواحيها، والقمر يشرق آنا ويحتجب آخر، والظلام سادل سترا على الجيش، فلم تكن تسمع إلا خطوات الحراس المنتظمة، ولكن في الساعة الحادية عشرة أي قبل منتصف الليل بساعة كان المار بقرب معسكر الأتراك يرى حركة غير عادية والكل في يقظة كأنهم على قرب أن يلتحموا مع عدوهم في موقعه.
وقبيل نصف الليل بقليل تحرك الكل بسكون حتى إذا كانوا على قاب قوسين أو أدنى من المعاقل البولاندية احتجب القمر وراء السحاب، فزحفوا على بطونهم، ومن ثم أصدر كوبريلي باشا أمره؛ فهللت تلك الجموع وكبرت، وهجمت هجمة الآساد على معتقليها.
التحم الجيشان، ولمعت السيوف، وكنت تسمع صفير الرصاص يمر كالوابل الهتون، فتقدم الشجاع، وفر الجبان.
كانت هجمة الأتراك شديدة جدا بدرجة أن البولانديين تقهقروا قليلا بانتظام، ومن ثم أعادوا الهجوم فكانوا على قاب قوسين أو أدنى من الفوز لو لم يحدث ما حدث.
وإليك أيها القارئ ما حصل: فإن سيف الدين باشا هجم بجيشه على البولانديين من الجنوب، بينما كان الأتراك مبتدئين بالهجوم من الشمال.
ففازوا فوزا مبينا، وقهروا البولانديين، ودخل الأتراك فائزين، واتجهت منهم قوة كبيرة إلى الشمال؛ لينجدوا كوبريلي باشا وجنوده؛ فجاؤوا في الوقت الملائم.
جاؤوا وقت أن بدأ البولانديون بتجديد الهجوم فحوصروا بين قوتين قويتين؛ فسلم من سلم وقتل من حارب.
فلنقف هناك بعد الساعة الرابعة؛ حيث ابتدأ النهار أن ينبلج والصبح أن يتنفس؛ لنرى الأوصال الممزقة؛ والجسوم المفرقة.
لنقف هناك حيث ضاق رحب الفضاء، بآكام الأشلاء، لنقف ولا تنقل قدما، فإن على الأرض أجساما لم ينضب ماؤها، وقلوبا لم تجف دماؤها، ووجوها لم يزايلها حياؤها.
لنقف وتذكر قول أبي العلاء:
ناپیژندل شوی مخ