تقديم
1 - عائلة داروين
2 - سيرة ذاتية
3 - ذكريات من حياة والدي اليومية
الخطابات
4 - الحياة في كامبريدج
5 - تعيين أبي في رحلة «البيجل»
6 - الرحلة
7 - لندن وكامبريدج
8 - الدين
9 - الحياة في داون
10 - تطور كتاب «أصل الأنواع»
11 - تطور كتاب «أصل الأنواع»: الخطابات، 1843-1856
12 - الكتاب غير المكتمل
13 - كتابة كتاب «أصل الأنواع»
14 - بقلم البروفيسور هكسلي
ملاحظات
تقديم
1 - عائلة داروين
2 - سيرة ذاتية
3 - ذكريات من حياة والدي اليومية
الخطابات
4 - الحياة في كامبريدج
5 - تعيين أبي في رحلة «البيجل»
6 - الرحلة
7 - لندن وكامبريدج
8 - الدين
9 - الحياة في داون
10 - تطور كتاب «أصل الأنواع»
11 - تطور كتاب «أصل الأنواع»: الخطابات، 1843-1856
12 - الكتاب غير المكتمل
13 - كتابة كتاب «أصل الأنواع»
14 - بقلم البروفيسور هكسلي
ملاحظات
تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول)
تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول)
مع فصل سيرة ذاتية بقلم تشارلز داروين
تحرير
فرانسيس داروين
ترجمة
الزهراء سامي
دينا عادل غراب
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
تشارلز داروين في عام 1874 (؟). بإذن من مجلة «سينتشري ماجازين».
تقديم
عند اختيار الخطابات الملائمة للنشر، كان الدافع الذي يوجهني إلى حد كبير هو الرغبة في توضيح طبيعة شخصية والدي. غير أن حياته كانت حافلة بالعمل وقد كرسها له بصفة أساسية؛ فلم يكن من الممكن أن نسرد تاريخ الرجل دون أن نقتفي عن كثب أثر حياته العملية كمؤلف؛ ومن ثم، فإن الجزء الأكبر من هذا الكتاب عبارة عن فصول تناظر عناوينها أسماء كتبه.
وعند ترتيب الخطابات، حاولت أن ألتزم بالتسلسل الزمني لها قدر الإمكان، لكن طبيعة أبحاثه وتنوعها تجعل من الالتزام التام بهذا أمرا مستحيلا؛ فقد كانت عادته أن يبحث في موضوعات متعددة في الوقت نفسه تقريبا. وغالبا ما كان يجري تجاربه على سبيل التنويع أو تنشيط ذهنه، بينما كان يعكف على كتابة الكتب التي تنطوي على التسويغ المنطقي وتجميع عدد هائل من الحقائق وترتيبها. وعلاوة على ذلك، فقد توقف عن العمل في العديد من أبحاثه ولم يستأنفه إلا بعد عدة سنوات؛ ومن ثم، فسوف نجد أن الالتزام التام بالتسلسل الزمني في عرض الخطابات، لن ينتج لنا سوى مزيج مختلط ومتنوع من الموضوعات المختلفة، التي سيصعب متابعة كل منها. وسوف يوضح جدول المحتويات ما قد حاولت القيام به لكي أتفادى مثل هذه النتيجة.
لقد اتبعت في عرض الخطابات الطريقة المعتادة في الإشارة إلى وجود حذف أو إضافة (وذلك باستثناء حالات قليلة). والواقع أن خطابات والدي كثيرا ما تعطي قارئها انطباعا بأنه قد كتبها على عجل أو كتبها وهو مرهق، وهي تحمل علامات على ذلك. وكثيرا ما كان يحذف أدوات التعريف والتنكير وكلمات الربط القصيرة حين كان يكتب إلى صديق أو إلى أحد أفراد العائلة، وقد أضفتها بدون ذكر الإشارات المعتادة على ذلك، فيما عدا حالات قليلة؛ فثمة أهمية خاصة للحفاظ على طبيعة التعجل التي تتضح في الخطاب، دون أن يجرى المساس بها. ولم أتبع في هذه الخطابات تنسيق الخطابات الأصلية من حيث الالتزام بتهجي الأسماء أو استخدام الحروف الكبيرة أو علامات الترقيم. وكذلك كان والدي يضع خطا تحت العديد من الكلمات في خطاباته، غير أنني لم أميزها كلها في الكتاب؛ إذ إن ذلك سيؤدي إلى المبالغة في التأكيد عليها بغير وجه حق.
لقد كانت لمفكرته اليومية أو لمفكرة جيبه والتي وردت فيها الاقتباسات التي سيلي ذكرها في الصفحات التالية، فائدة عظيمة؛ إذ أمدتنا بإطار من الحقائق يمكن تصنيف الخطابات إلى مجموعات وفقا لها. ومن سوء الحظ أنها قد كتبت باختصار كبير؛ فتجد تاريخ عام كامل وقد تكدس في صفحة أو أقل، وهي لا تتضمن سوى تواريخ الأحداث الأساسية في حياته أو أكثر قليلا، مع بعض الإدخالات المرتبطة بعمله، وكذلك بتلك الفترة التي كان يعاني فيها من مرض شديد. لم يؤرخ أبي خطاباته إلا نادرا؛ لذا، فلولا تلك المفكرة، لما تمكنا من معرفة تاريخ كتبه. كما أنها قد مكنتني أيضا من تحديد تواريخ العديد من خطاباته، والتي لولاها لكانت قد فقدت نصف قيمتها.
أما الخطابات الموجهة إلى والدي، فلم أعرض منها الكثير؛ فقد كانت عادته أن يحتفظ بجميع الخطابات المرسلة إليه في ملفات صغيرة (وهي التي كان يدعوها باسم «الأسياخ»)، وحين كانت تمتلئ عن آخرها، كان يحرق خطابات سنوات عديدة، لكي يستخدم «الأسياخ» الفارغة. وقد استمر في فعل ذلك على مدى سنوات تخلص فيها من الغالبية العظمى من الخطابات التي تلقاها قبل عام 1862. أما بعد ذلك، فقد أقنعه البعض بأن يحتفظ بالخطابات المهمة والمثيرة، والتي قد جرى حفظها بطريقة يسهل الوصول إليها.
حاولت في الفصل الثالث أن أقدم صورة عن أساليبه في العمل؛ فلقد عملت مساعدا له في السنوات الثماني الأخيرة من حياته، مما أتاح لي الفرصة للتعرف على بعض عاداته وأساليبه.
لقد تلقيت مساعدات جمة من أصدقائي في أثناء عملي على هذا الكتاب؛ فأنا مدين لبعضهم بعرض ذكرياتهم مع والدي، ولآخرين بإمدادي بالمعلومات والنقد والنصيحة؛ فإلى جميع هؤلاء الذين قدموا المساعدات، أقر بما لهم من فضل كبير. وسوف أذكر أسماء بعضهم حين يرد ذكر مساهماتهم، غير أنني لن أذكر أسماء من أدين لهم بفضل فيما يتعلق بالنقد وتصويب ما ورد من أخطاء؛ ذلك أنني أريد أن أتحمل وحدي مسئولية أخطائي، فلا أدع أي جزء منها يقع بأي حال من الأحوال على عاتق هؤلاء الذين قد بذلوا قصارى جهدهم للحد منها وتصويبها.
وسوف يتضح للقارئ مقدار ما أدين به من فضل إلى السير جوزيف هوكر، لما قدمه من وسائل قد ساعدت في تصوير حياة والدي. وأعتقد أن القارئ أيضا سيشعر بالامتنان للسير جوزيف لما أولاه من عناية لحفظ مجموعته القيمة من الخطابات، كما أنني أود أن أعبر عن شكري وتقديري لكرمه لوضع هذه الخطابات تحت تصرفي، وكذلك لما أمدني به من عطف وتشجيع على مدى عملي.
كما أنني أدين بالشكر إلى السيد هكسلي، ليس فقط لما قدمه لي من مساعدة كبيرة، وإنما أيضا لأنه قد تفضل بقبول طلبي في أن يساهم بكتابة فصل عن الاستقبال الذي حظي به كتاب «أصل الأنواع».
وأخيرا، فإنه يسعدني أن أتقدم بالشكر والتقدير لما أظهره ناشرو مجلة «سينتشري ماجازين» من لطف وفضل؛ إذ أتاحوا لي كامل الحرية في استخدام رسوماتهم التوضيحية. كما أنني أدين بالشكر إلى كل من السيدين مول وفوكس، والسيدين إليوت وفراي؛ إذ كان لطفا منهم أن سمحوا لي بعرض نسخ من صورهم.
فرانسيس داروين
كامبريدج
أكتوبر، 1887
الفصل الأول
عائلة داروين
توضح السجلات الأقدم للعائلة أن أفرادها كانوا من ملاك الأراضي الكبار الذين يعيشون على الحدود الشمالية لمقاطعة لينكنشير، بالقرب من يوركشاير. لقد أصبح الاسم نادرا للغاية في إنجلترا، لكنني أعتقد أنه معروف في أنحاء شيفيلد ولانكشاير. وفي عام 1600، نجد أن الاسم صار يكتب بطرق عدة مثل: درونت ودارون ودارويين وغير ذلك؛ لذا فمن الممكن أن تكون العائلة قد انتقلت في وقت ما غير معلوم من يوركشاير أو كامبرلاند أو ديربيشاير، حيث يوجد نهر يسمى درونت.
إن أول من نعرفه من الأسلاف هو ويليام داروين، وقد كان يعيش في مارتون بالقرب من جينزبوره عام 1500 تقريبا. وورث حفيده الأكبر ريتشارد داروين بعض الأراضي في مارتون وغيرها، وفي وصيته التي يعود تاريخها إلى عام 1584، نجد أنه قد «خصص مبلغا قدره ثلاثة شلنات وأربعة بنسات للمساهمة في دفع النفقات اللازمة لتعليق شعار النبالة الخاص بجلالة الملكة على باب المكان المخصص لجوقة الإنشاد في الكنيسة الرعوية في مارتون.»
يبدو أن ويليام داروين، نجل ريتشارد، والذي وصف بأنه «رجل نبيل»، كان رجلا ناجحا؛ فلقد حافظ على ملكية الأرض التي ورثها من أسلافه، وكذلك حاز ضيعة، عن طريق الشراء ومن خلال زوجته، في كليثام بأبرشية مانتون بالقرب من كيرتون لينزي، واستقر هناك. وظلت هذه الضيعة ملكا للعائلة يتوارثها أجيالها حتى عام 1760. ولم يتبق من أثر هذه الضيعة التي تدعى أولد هول سوى كوخ سميك الجدران وبعض برك الأسماك والأشجار القديمة، ولا يزال بتلك المنطقة حقل يسميه أهلها باسم «حقل داروين الخيري»؛ إذ خصص جزء من عائداته لصالح فقراء مارتون. لا بد أن ما ناله ويليام داروين من ترق في مكانته الاجتماعية يعود الفضل فيه، ولو جزئيا، إلى المنصب الذي كلفه به الملك جيمس الأول عام 1613؛ إذ عينه حارسا بمستودع الأسلحة الملكي في جرينتش. لم يكن المقابل المادي لهذه الوظيفة يزيد عن ثلاثة وثلاثين جنيها في العام، أما الواجبات، فالأرجح أنها كانت شكلية فحسب، وقد احتفظ بهذا المنصب حتى وفاته في أثناء الحروب الأهلية.
إن حقيقة أن ويليام هذا كان موظفا ملكيا قد تفسر لنا السبب في أن ابنه، الذي يسمى ويليام أيضا، قد التحق بخدمة الملك وهو لا يزال صبيا، فانضم إلى فرقة الفرسان التابعة للسير ويليام بيلم، برتبة «ملازم أول». وعند التسريح الجزئي للجيوش الملكية، وتراجع الجزء المتبقي منها إلى اسكتلندا، صادر البرلمان أملاك الصبي، لكنه استعادها مجددا بعد توقيعه على اتفاق «التحالف والعهد»، وبعد أن دفع غرامة لا بد أنها قد أثرت في أوضاعه المالية تأثيرا بالغا؛ ففي الالتماس الذي تقدم به إلى الملك تشارلز الثاني، نجد أنه يتحدث عما حل به من خسارة كبيرة جدا جزاء إخلاصه للقضية الملكية.
وفي أثناء فترة الكومنولث، أصبح ويليام داروين محاميا في جمعية لينكن للحقوق، ولعل ذلك هو ما أفضى إلى زواجه بابنة إيرازموس إيرل، الذي كان محاميا من الدرجة الأولى، والذي أخذ منه حفيده الأكبر، الشاعر إيرازموس داروين، اسمه الأول. وفي النهاية، أصبح قاضيا لمدينة لينكن.
أما الابن الأكبر لهذا القاضي، الذي سمي ويليام هو الآخر، فقد ولد في عام 1655 وتزوج بوريثة روبرت وارينج، الذي هو سليل عائلة جيدة من مقاطعة ستافوردشير. وقد ورثت هذه السيدة من عائلة لاسيلس ضيعة إلستون، التي تقع بالقرب من نيوارك، والتي احتفظت العائلة بملكيتها منذ ذلك الوقت. (تولى النقيب لاسيلس من إلستون، منصب كبير مساعدي منك، دوق ألبيمارل، خلال الحروب الأهلية.) إن ابن عمي فرانسيس داروين، يمتلك الآن مجموعة كبيرة من دفاتر الحسابات الممهورة في أماكن عديدة بتوقيع منك. وقد تكون لهذه الدفاتر أهمية خاصة لدى خبراء الأثريات أو المؤرخين، وهي تتضمن صورة شخصية للنقيب لاسيلس، مرتديا زيه العسكري، وهي التي كانت لا تزال بحالة جيدة بالرغم من أن صبيان عائلتنا كانوا يستخدمونها في وقت من الأوقات، كهدف للتدريب على الرماية. ويبدو ويليام داروين في هذه الصورة الشخصية وهو في إلستون، شابا حسن المظهر يرتدي شعرا مستعارا طويلا.
كان لويليام الثالث هذا ولدان، وهما ويليام وروبرت الذي تلقى تعليمه ليصبح محاميا. ورث ويليام ضيعة كليثام، غير أنه قد انقطع نسله من الورثة؛ إذ إنه لم ينجب سوى البنات، وآلت إلى أخيه الأصغر، الذي حصل على ضيعة إلستون كذلك. وعند وفاة والدته، تخلى روبرت عن مهنته واستقر بعد ذلك في ضيعة إلستون هول. وعن روبرت هذا، يكتب تشارلز داروين (ما يلي مقتبس من السيرة الذاتية التي كتبها تشارلز داروين عن جده، كإعلان أولي عن المقال الشائق الذي كتبه إرنست كراوز بعنوان «إيرازموس داروين»، لندن، 1879، صفحة 4): «يبدو أنه كان مهتما بالعلوم؛ فقد كان من الأعضاء الأوائل في نادي سبولدينج الشهير. وقد كتب عنه خبير الآثار المرموق، الدكتور ستوكلي، في كتابه «تقرير عن الهيكل العظمي شبه الكامل لحيوان كبير ...» الذي نشره على أجزاء في مجلة «فيلوسوفيكال ترانزاكشنز» على مدى أبريل ومايو عام 1719؛ فهو يبدأ كتابه بما يلي: «لقد عرفت من صديقي روبرت داروين، المحامي بجمعية لينكن للحقوق، وهو رجل تواق إلى المعرفة، بوجود هيكل عظمي بشري متحجر، عثر عليه كاهن إلستون مؤخرا ...» ويتحدث ستوكلي بعد ذلك عن هذا الهيكل على أنه اكتشاف نادر وعظيم للغاية، فيكتب: «لم أسمع قط عن مثيل له قد اكتشف من قبل في هذه الجزيرة.» وبناء على إحدى الصلوات التي كتبها روبرت وتناقلتها العائلة من بعده، يبدو لنا أنه كان من أشد المناصرين للاعتدال في الشراب، الذي قد ظل ولده من أشد المناصرين له طوال حياته كذلك:
من صباح لا يشرق بالنور،
ومن ابن يشرب النبيذ،
ومن زوجة تتحدث اللاتينية،
اللهم احمني، وأنقذني!
من المحتمل أن تكون زوجته، أم إيرازموس، هي المقصودة بالسطر الثالث؛ فقد كانت على قدر عال من المعرفة. وقد ورث الابن الأكبر لروبرت، والذي عمد باسم روبرت وارينج، ضيعة إلستون، وتوفي هناك وهو في سن الثانية والتسعين، وكان لا يزال عزبا. كان روبرت متذوقا جيدا للشعر، كأخيه الأصغر إيرازموس. كما أنه كان يهتم بعلم النبات، وفي أيام كهولته، نشر كتابه «مبادئ علم النبات». كانت مخطوطة هذا الكتاب قد كتبت بخط رائع، وقد ذكر أبي [الدكتور آر دابليو داروين] أنه يعتقد أنها قد نشرت لأن عمه الأكبر لم يحتمل أن يذهب ذلك الخط البديع سدى. والحق أن ذلك لا يفي الكتاب حقه على الإطلاق؛ إذ كان يتضمن العديد من الملاحظات الشائقة في علم الأحياء، وهو الذي كان من الموضوعات المهملة تماما في إنجلترا في القرن الماضي. بالإضافة إلى ذلك، حظي الكتاب بإعجاب جمهور القراء؛ إذ إن النسخة التي أمتلكها من الطبعة الثالثة له.»
ورث الابن الثاني، ويليام ألفي، ضيعة إلستون، ثم انتقلت ملكيتها إلى حفيدته، وهي الراحلة السيدة داروين، صاحبة ضيعتي إلستون وكريسكيلد. أما الابن الثالث، جون، فقد أصبح كاهن إلستون، حيث إن تعيين الكاهن كان من ضمن سلطات العائلة. وأما الابن الرابع والأصغر، فهو إيرازموس داروين، الشاعر والفيلسوف.
ويوضح المخطط التالي، انحدار تشارلز داروين من روبرت وكذلك علاقته بغيره من أفراد العائلة الذين يرد ذكرهم في مراسلاته. ومن هؤلاء: ويليام داروين فوكس، وهو أحد مراسليه الأوائل، وفرانسيس جالتون، الذي جمعت بينهما أواصر صداقة حميمة امتدت على مدى سنوات عديدة. ويرد أيضا ذكر اسم فرانسيس سيشيفاريل داروين، الذي ورث حب التاريخ الطبيعي من إيرازموس ونقله إلى ابنه إدوارد داروين، الذي ألف كتاب «دليل القائمين على مناطق الصيد» (الطبعة الرابعة، 1863)، مستخدما الاسم المستعار «هاي إلمز» (أشجار الدردار العالية). ويضم هذا الكتاب ملاحظات دقيقة عن عادات أنواع مختلفة من الحيوانات.
من المثير دائما أن نتأمل إلى أي مدى يمكن تتبع سمات المرء الشخصية عبر أسلافه؛ فلقد ورث تشارلز داروين طول القامة من إيرازموس، لكنه لم يرث منه ضخامة الجسم، وأما الملامح، فليس بينه وبين جده من تشابه ملحوظ فيها. ويبدو أيضا أن إيرازموس لم يكن يحب التمرينات البدنية والصيد والرماية، بينما كانت تلك من الأمور التي كان تشارلز داروين يستمتع بها في شبابه، غير أن إيرازموس كان يشبه حفيده في حبه الجارف للعمل الذهني الشاق. كما أنهما كانا يشتركان في حبهما لفعل الخير والتعاطف مع الآخرين وكذلك ما كانا يتسمان به من جاذبية شخصية كبيرة. كان تشارلز داروين يتمتع بأعلى درجة من «خصوبة الخيال»، وقد ذكر أنها من السمات التي كان يتميز بها إيرازموس بالقوة نفسها كذلك، وأنها كانت عاملا أساسيا في «ميله الشديد إلى التعميم ووضع النظريات.» وأما بالنسبة إلى تشارلز داروين، فلم يكن يسمح لهذه النزعة بأن تتملك منه، بل كان يراقبها دوما؛ إذ كان يصر على اختبار نظرياته إلى أقصى درجة. كان إيرازموس يكن حبا كبيرا للآلات بجميع أنواعها، وذلك على خلاف داروين الذي لم يكن مهتما بها. كما أن داروين لم يكن يتمتع بذلك المزاج الأدبي الذي جعل من إيرازموس شاعرا وفيلسوفا. لقد كتب داروين عن إيرازموس يقول:
1 «أكثر ما أدهشني في خطاباته هو عدم اكتراثه بالشهرة، وغياب أي أثر يدل على مغالاته في تقييم قدراته، أو نجاح أعماله.» ولا شك في أن هذه السمات تتجلى بوضوح كبير في شخصية داروين نفسه. لكننا لا نملك دليلا على أن إيرازموس كان يتمتع بهذا القدر من التواضع والبساطة الشديدين، اللذين هما من أهم ما كان يميز طباع داروين. لكننا عندما نتأمل نوبات الغضب السريعة التي كان يدخل فيها إيرازموس عندما يشهد أيا من مظاهر الوحشية أو الظلم، نتذكر داروين وطباعه مرة أخرى.
بالرغم من ذلك، فإن ما يبدو لي بصفة عامة هو أننا لا نعرف القدر الكافي عن إيرازموس داروين وطباعه الشخصية الجوهرية؛ ما لا يسمح لنا بأن نعقد أكثر من مقارنة سطحية بين الرجلين. وبالرغم من أوجه الشبه المتعددة بين الاثنين، فإنني أعتقد أنهما كانت لهما شخصيتان مختلفتان. ولقد اتضح أن الآنسة سيوارد والسيدة شيميل بينيك، قد أساءتا التعبير عن شخصية إيرازموس داروين.
2
بالرغم من ذلك، فمن المحتمل جدا أن تكون تلك العيوب التي بالغتا في التعبير عنها، تنطبق على الرجل إلى حد ما؛ مما يدفعني إلى الاعتقاد بأنه لم يكن يخلو من الفظاظة أو حدة المزاج، وهو ما لم يوجد في حفيده.
لقد ورث ابنا إيرازموس داروين شيئا من ميوله الفكرية؛ فقد كتب عنهما تشارلز داروين ما يلي: «كان ابنه الأكبر تشارلز (الذي ولد في الثالث من سبتمبر عام 1758) شابا ذا مستقبل واعد للغاية، لكنه توفي في الخامس عشر من مايو عام 1778 قبل أن يبلغ من العمر واحدا وعشرين عاما، إثر جرح قد أصابه بينما كان يجري تشريحا لدماغ طفل. ورث من أبيه حبه الشديد لفروع مختلفة من العلوم، وكذلك كتابة الشعر، والميكانيكا ... كما أنه قد ورث التلعثم في الحديث، وقد أرسله والده إلى فرنسا وهو في الثامنة تقريبا (1766-1767) مع معلم خاص أملا في أن يفلح ذلك في علاجه؛ إذ كان يعتقد أنه إن لم تتح له الفرصة في التحدث بالإنجليزية لبعض الوقت، فستزول عنه عادة التلعثم. ومن الغريب أنه لم يكن يتلعثم قط في السنوات التالية حين كان يتحدث الفرنسية. بدأ منذ الصغر في جمع العينات بجميع أنواعها. وفي السادسة عشرة من عمره بعث لمدة عام إلى جامعة أكسفورد [كلية كنيسة كرايست]، لكن المكان لم يرق له؛ فقد كان يعتقد (كما عبر عن ذلك والده) «أن ذهنه المتوقد قد فتر في سعيه هذا إلى طلب الوجاهة الكلاسيكية، مثلما وهن هرقل إذ انكفأ على مغزله، وكان يتوق إلى الانتقال إلى كلية الطب في إدنبرة؛ حيث الدراسة والممارسة المكثفة.» مكث في إدنبرة ثلاث سنوات، كان يجتهد خلالها في دراسته للطب ويرعى «المرضى الفقراء في أبرشية ووترليث بكل اجتهاد وعناية، ويوفر لهم الأدوية اللازمة.» منحته جمعية إسكيليبيان وسامها الذهبي الأول عن بحث تجريبي قام به عن الصديد والمخاط. وورد ذكره في العديد من المجلات، وقد اتفق جميع الكتاب على ما يتمتع به من طاقة وقدرات متميزة. ويبدو أنه كان محبوبا من أصدقائه، كما كانت الحال أيضا مع والده؛ فقد تحدث عنه ... البروفيسور أندرو دانكان ... بعد وفاته بسبعة وأربعين عاما بأصدق العواطف، وذلك حينما كنت أدرس الطب في إدنبرة ...
وأما عن ابنه الثاني إيرازموس (الذي ولد عام 1759)، فليس لدي الكثير لأقوله؛ فبالرغم من أنه كان يكتب الشعر، فيبدو أنه لم يرث من والده اهتماماته الأخرى، وإنما كانت له اهتماماته المميزة، وهي: علم الأنساب، وجمع العملات المعدنية والإحصاء؛ فعندما كان صبيا، أحصى جميع المنازل في مدينة ليتشفيلد وتوصل إلى عدد السكان في معظمها؛ وهو بذلك قد قام بتعداد للسكان، وحين أجري تعداد فعلي للمرة الأولى، تبين أن التقدير الذي توصل إليه يقترب من الدقة إلى حد كبير. وكان خجولا هادئ الطباع، وقد كان والدي يؤمن بقدراته إيمانا كبيرا، والأرجح أن ذلك كان حقيقيا، وإلا لما دعي إلى السفر مع العديد من الشخصيات الهامة المميزة في مختلف المجالات وقضاء وقت طويل معهم، ومن هؤلاء المهندس بولتون والروائي والفيلسوف الأخلاقي داي.» ويبدو أن حالة من الجنون قد بدأت تتملك عقله، مما أدى إلى إقدامه على الانتحار الذي أفضى إلى موته في عام 1799.
ولد روبرت وارينج، والد تشارلز داروين، في الثلاثين من مايو عام 1766، والتحق بمهنة الطب كوالده. درس لبضعة أشهر في جامعة لايدن، وحصل على شهادة الطب منها في السادس والعشرين من فبراير عام 1785. إن والده إيرازموس «قد أرسله
3
إلى شروزبيري قبل أن يتم عامه الحادي والعشرين (1787)، وترك له عشرين جنيها، قائلا: «أخبرني حين تريد المزيد وسوف أرسل لك المبلغ الذي تريده.» ثم أرسل له عمه، كاهن إلستون، عشرين جنيها غيرها وكان ذلك هو كل ما تلقاه من مساعدة مالية ... وقد أخبر إيرازموس السيد إيدجوورث أنه بعدما استقر ابنه روبرت في شروزبيري لمدة ستة أشهر فقط، «كان عدد مرضاه يتراوح بين الأربعين والخمسين.» وبحلول عامه الثاني هناك، اتسع عمله وظل في ازدياد منذ ذلك الحين.»
تزوج روبرت وارينج داروين في (18 أبريل عام 1796) من سوزانا، وهي ابنة صديق والده، جوزايا ويدجوود، وهو من إتروريا، وهي التي كانت في ذلك الوقت في الثانية والثلاثين من عمرها. لدينا صورة صغيرة جدا لها ظهرت فيها بوجه جميل وسعيد، والذي نجد أن بها بعض الشبه من الصورة الشخصية التي رسمها لوالدها السير جوشوا رينولدز؛ إذ تبدو في طلعتها ملامح الرقة والود، وهو ما تصفه بها الآنسة ميتيارد.
4
ولقد توفيت في الخامس عشر من يوليو عام 1817، قبل وفاة زوجها باثنين وثلاثين عاما؛ إذ توفي في الثالث عشر من نوفمبر عام 1848. كان الدكتور داروين قد عاش قبل زواجه في شارع سان جونز هيل لعامين أو ثلاثة، ثم انتقل بعد ذلك إلى حارة ذا كريسنت، حيث ولدت ابنته الكبرى ماريان، ثم انتقل في النهاية إلى ذا ماونت الذي يقع في ذلك الجزء من شروزبيري الذي يعرف باسم فرانكويل، والذي شهد مولد جميع أبنائه الآخرين. بنى الدكتور داروين منزل ذا ماونت عام 1800 تقريبا، وقد انتقل الآن إلى ملكية السيد سبنسر فيليبس وخضع إلى بعض التغييرات الطفيفة. المنزل كبير وبسيط ومربع الشكل، وقد بني بالطوب الأحمر، وتعد تلك الصوبة الزراعية التي تطل عليها غرفة الجلوس النهارية أكثر معالمه تميزا.
يقع هذا المنزل في موقع ساحر على قمة ضفة تنحدر نزولا إلى نهر السيفرن. ويوجد على هذه الضفة المدرجة ممشى طويل، يمتد من بدايتها إلى نهايتها، وهو لا يزال يدعى باسم «ممشى الدكتور». وفي مكان ما على هذا الممشى تنمو شجرة كستناء حلو، وهي التي تنحني أغصانها إلى الوراء مرة أخرى بالتوازي بعضها مع بعض بطريقة غريبة، وقد كانت تلك هي الشجرة المفضلة لتشارلز داروين حينما كان صبيا، وهي التي كان له ولأخته كاثرين فيها مقعد خاص بكل منهما.
كان الدكتور يجد في الاعتناء بحديقته سرورا كبيرا، فكان يزرعها بأشجار الزينة وشجيراتها، كما أنه قد نجح في زراعة أشجار الفاكهة على وجه الخصوص، وأعتقد أن حبه للنباتات هو كل ما كان يمتلكه من ميل قد يمت بصلة إلى التاريخ الطبيعي. وبالنسبة إلى «حمام ذا ماونت» الذي تصفه الآنسة ميتيارد بأنه يوضح اهتمام الدكتور بالتاريخ الطبيعي، فذلك مما لم أسمع به ممن هم أكثر دراية منها ومعرفة بالرجل. إن رواية الآنسة ميتيارد عنه ليست دقيقة في عدة نقاط؛ فهي تذكر مثلا، أن الدكتور داروين كان يميل إلى التفكير الفلسفي، والواقع أنه كان يميل إلى الاهتمام بالتفاصيل، لا التعميم. وكذلك فإن الذين عرفوه عن قرب يذكرون أنه لم يكن يأكل إلا أقل القليل؛ ولهذا فإنه لم يكن «أكولا يتناول إوزة على العشاء بالسهولة التي يتناول بها غيره من الرجال طائرا من نوع الحجل.»
5
أما فيما يتعلق بذوقه في اللبس، فقد كان تقليديا متحفظا، وظل حتى آخر حياته يرتدي السراويل القصيرة التي تصل إلى الركبتين، والجراميق القماشية، والتي لم تصل بالتأكيد إلى ما فوق الركبة، كما قالت بذلك الآنسة ميتيارد، وإنما كان ما وصفته زيا يرتديه بصفة أساسية رماة القنابل اليدوية في عهد الملكة آن، وكذلك قطاع الأخشاب وعمال الحرث في العصر الحديث.
كان تشارلز داروين يكن أقوى مشاعر الحب والاحترام لذكرى والده. وقد كان يتذكر كل ما يتعلق به بوضوح شديد، وكثيرا ما كان يتحدث عنه؛ فغالبا ما كان يبدأ أي حكاية سيرويها عنه بأن يقول مثلا: «كان والدي، وهو أحكم من عرفت من الرجال ...» ومن المدهش أنه كان يتذكر آراء والده بكل وضوح؛ ومن ثم، فقد كان بإمكانه أن يذكر بعض مبادئه أو إرشاداته في معظم الحالات المرضية. وبصفة عامة، فإنه لم يكن يثق كثيرا بالأطباء؛ لذا فإن ثقته المطلقة فيما يتمتع به الدكتور داروين من قدرة ومهارة في الطب وكذلك في أساليب العلاج التي كان يتبعها لهو أمر أكثر غرابة.
لقد كان يبجله تبجيلا لا محدودا وصادقا. كان يميل للتخلي عن عاطفته في أي رأي يصدره على الإطلاق، أما ما يرد من والده، فقد كان يصدقه ويثق به ثقة شبه مطلقة. لقد ذكرت ابنته السيدة ليتشفيلد أنها تتذكر قوله بأنه يتمنى ألا يصدق أي من أبنائه شيئا لأنه قد قاله، ما لم يكونوا هم مقتنعين بأن تلك هي الحقيقة؛ وهي رغبة تتعارض تعارضا صارخا مع سلوكه فيما يتعلق بتصديق ما ورد عن والده.
استطاعت ابنة تشارلز داروين من خلال الزيارة التي قامت بها هي وهو إلى شروزبيري عام 1869 أن تدرك بوضوح مدى حبه لمنزله القديم؛ فقد راح قاطن المنزل آنذاك يطوف بهم في أرجائه، وقد أخطأ في التقدير وظل مصاحبا لهم على مدى الزيارة كلها، ظنا منه أن ذلك من حسن ضيافته لهم . وبينما كانوا يغادرون، قال تشارلز داروين وفي عينيه نظرة ندم قد امتزجت بالأسى: «لو كان بإمكاني أن أختلي بنفسي في تلك الصوبة لمدة خمس دقائق، لكان باستطاعتي تخيل والدي على كرسيه المتحرك بكل وضوح وكأنه هناك أمامي.»
ولعل هذه الحادثة توضح ما أعتقد أنه الحقيقة، وهو أن أكثر ما كان يحبه تشارلز داروين من ذكريات والده، هي ذكرياته حين كان مسنا. وقد كتبت السيدة ليتشفيلد بعض الكلمات التي تصور مشاعره تجاه والده تصويرا جيدا؛ فهي تصفه وهو يقول بنبرة في غاية الرقة والاحترام: «أعتقد أن أبي كان متحاملا علي قليلا حينما كنت صغيرا، غير أنني أشعر بالامتنان إذ توطدت علاقتي به بعد ذلك وأصبحت من أقرب الناس إليه.» وهي تتذكر بوضوح شديد التعبير الذي خالطه وهو يقول تلك الكلمات؛ فقد كان يرددها وكأنه في حلم سعيد، وكأنه يستعيد العلاقة كلها في ذاكرته وقد تركته الذكرى في حالة من السلام والامتنان العميقين.
وفيما يلي مقتطف كتبه تشارلز داروين في سيرته الذاتية، وذلك في عام 1877 أو 1878:
أعتقد أنني سأضيف هنا بضع صفحات عن والدي، الذي كان رجلا عظيما من نواح عديدة.
لقد كان يبلغ من الطول ستة أقدام وبوصتين، وقد كان عريض الكتفين وممتلئ الجسم بحيث كان أضخم رجل عرفته على الإطلاق. وفي آخر مرة قد وزن فيها نفسه، كان يزن 24 ستونا، لكن وزنه قد ازداد بعد ذلك بدرجة كبيرة. وقد كانت أهم سماته الذهنية هي قوة الملاحظة والقدرة على التعاطف، ولم أعرف قط أحدا تفوق عليه في هاتين الصفتين أو كان ندا له فيهما. ولم تكن ملكة التعاطف لديه تقتصر على التعاطف مع أحزان من هم حوله فحسب، وإنما مع أفراحهم أيضا، بل إنه كان يتعاطف مع أفراحهم بدرجة أكبر. ولهذا فقد كان دائما ما يسعى إلى إسعاد الآخرين، والقيام بالعديد من الأعمال الخيرية، وذلك بالرغم من كرهه للإسراف في العطاء؛ فعلى سبيل المثال، أتاه في أحد الأيام السيد ب... وهو أحد صغار المصنعين في شروزبيري، وقال له إنه سيفلس إن لم يتمكن من اقتراض عشرة آلاف جنيه في الحال، لكنه لا يستطيع أن يقدم على ذلك أي ضمانة قانونية، فسمع منه والدي ما يبرر أنه سيتمكن من رد هذا المبلغ في النهاية، وقد تيقن بما له من حدس رائع، أن الرجل محل ثقة؛ ومن ثم، أقرضه ذلك المبلغ، الذي كان مبلغا كبيرا جدا بالنسبة إليه، إذ كان لا يزال شابا، لكن الرجل رده إليه بعد فترة من الوقت.
أعتقد أن ملكة التعاطف لديه هي ما مهد له تلك القدرة المطلقة على الفوز بثقة الآخرين، مما ساهم في النجاح العظيم الذي حققه في ممارسة الطب. لقد بدأ في العمل قبل أن يبلغ من العمر واحدا وعشرين عاما، وقد استطاع من أتعابه التي جمعها خلال السنة الأولى أن يحتفظ بفرسين ويستعين بخادم. وفي السنة التالية، ازداد عمله وتوسع، وقد استمر هذا التوسع لمدة ستين عاما، توقف بعدها عن عيادة أي شخص. والواقع أن نجاحه الكبير في مهنة الطب لهو أمر مدهش للغاية؛ فقد أخبرني أنه كان يبغض عمله بشدة في البداية؛ فما كان لأي شيء أن يدفعه إلى الاستمرار فيه على الإطلاق لو أنه كان يمتلك أي دخل ولو زهيد، أو لئن أتاح له والده أي خيار آخر. لقد ظل حتى آخر حياته يكاد يشعر بالغثيان من مجرد التفكير في العمليات الجراحية، ولم يكن يطيق أن يرى شخصا ينزف - وهو سبب من أسباب الرعب قد نقله إلي - وإنني لأتذكر الرعب الذي انتابني حين قرأت وأنا صغير في أيام الدراسة عن بليني (على ما أعتقد)، الذي ظل ينزف وهو في حمام ساخن حتى مات ...
وبفضل قدرات والدي في اكتساب ثقة الناس، فقد كان العديد من المرضى - ولا سيما النساء - يستشيرونه فيما يهمهم من أي ألم أو ضيق، في شكل هو أقرب إلى الاعتراف الذي يسرون به للقس في الكنيسة. لقد أخبرني بأنهم غالبا ما كانوا يبدءون بالشكوى من صحتهم بصورة عامة ومبهمة، لكنه سرعان ما كان يبدأ في تخمين حقيقة الأمر من خلال الخبرة التي اكتسبها في هذا المجال. فكان يخبرهم بأن العلة في عقولهم؛ ومن ثم يخبرونه بمشكلاتهم، ولا يعود يسمع أي شكوى عن الجسد ... وبفضل مهارة والدي في الفوز بثقة الناس، استمع إلى اعترافات غريبة عن التعاسة والذنب. لقد كان يشير كثيرا إلى هذا العدد الكبير من الزوجات التعيسات اللائي عرفهن. في حالات عديدة، كان الأزواج وزوجاتهم يعيشون في جو من التفاهم لمدة عشرين أو ثلاثين عاما، ثم تدب بينهم الكراهية المريرة؛ وهو ما كان يعزوه إلى تلك الرابطة المشتركة التي يفقدها الزوج وزوجته عندما يكبر أطفالهما.
لكن الملكة الأبرز التي كان يمتلكها والدي هي قراءة شخصيات الناس، حتى إنه كان يقرأ أفكار من يلتقي بهم ولو لفترة قصيرة. وقد شهدنا العديد من الأمثلة على هذه الملكة، حتى إن بعضها كان يبدو خارقا للطبيعة. وقد حفظ ذلك والدي من صداقة من لا يستحقون صداقته (فيما عدا رجلا واحدا، كان هو الاستثناء الوحيد وهو الذي سرعان ما اتضحت حقيقته). لقد كان كاهنا غريبا أتى إلى شروزبيري وقد بدا عليه أنه رجل ثري، فراح الجميع يزورونه ودعاه معظم الناس إلى بيوتهم. وكذلك زاره أبي، وعندما رحل أبي عائدا إلى منزله، طلب من أخواتي ألا يدعون هذا الشخص ولا أي فرد من أسرته إلى منزلنا؛ إذ إنه غير جدير بالثقة. وبعد بضعة أشهر، هرب فجأة وهو غارق في الديون، ثم اتضح أنه محتال محترف. ولدينا أيضا مثال آخر عن الثقة التي لم يكن ليغامر بمنحها إلا قلة من الرجال؛ فهناك رجل أيرلندي زار والدي في أحد الأيام، وهو غريب عن البلد تماما، وأخبره بأن محفظته قد ضاعت، وأنه سيتضرر كثيرا إن انتظر في شروزبيري حتى تأتيه حوالة من أيرلندا. وقد طلب من والدي أن يقرضه عشرين جنيها، وهو ما حدث على الفور؛ إذ شعر والدي بأن القصة حقيقية. وفي أول موعد لوصول الخطابات من أيرلندا، ورد خطاب به تعبير عن وافر الشكر، وإشارة إلى تضمنه ورقة نقدية بقيمة عشرين جنيها إسترلينيا، غير أنه لم يكن به أي ورقة نقدية. سألت والدي عما إذا كان ذلك قد أدهشه، لكنه أجابني «كلا، على الإطلاق.» وفي اليوم التالي، ورد خطاب آخر يعتذر الرجل فيها كثيرا؛ إذ نسي (كما هي عادة الرجال الأيرلنديين) أن يضع الورقة النقدية في خطاب اليوم السابق ... [أحد الرجال الأفاضل] أحضر ابن أخيه إلى والدي، وقد كان هذا الفتى لطيفا لكن به علة في عقله قد جعلته يتهم نفسه بارتكاب جميع الجرائم المعروفة. وعندما ناقش والدي بعد فترة أمر الفتى مع عمه، قال له: «إنني متأكد من أن ابن أخيك قد ارتكب ... جريمة شنيعة.» وعندئذ قال [الرجل الفاضل]: «يا إلهي! من أخبرك يا دكتور داروين؟ لقد ظننا أنه لا أحد يعرف بالأمر غيرنا!» لقد أخبرني والدي بهذه القصة بعد عدة سنوات من حدوثها، وقد سألته كيف استطاع أن يميز بين الاتهامات الزائفة التي كان يوجهها الفتى إلى نفسه وبين الاتهامات الحقيقية؛ فما كان منه إلا أن يخبرني، كعادته، بأنه لا يستطيع أن يشرح الأمر.
وستوضح القصة التالية قدرة والدي الجيدة على التخمين. كان اللورد شيلبيرن، والذي أصبح فيما بعد الماركيز الأول في لانزداون، مشهورا (كما يذكر ماكولي في موضع ما) بمعرفته بشئون أوروبا، وهو أمر كان يعتز به كثيرا. وكان قد استشار والدي في مسألة طبية، ثم راح يخاطبه بلهجة حادة عن شئون هولندا. وكان والدي قد درس الطب في لايدن، وفي أحد الأيام [بينما كان هناك] قام بجولة طويلة في الريف مع صديق اصطحبه إلى بيت كاهن هناك (وسندعوه هنا بالمبجل السيد أ... إذ إنني قد نسيت اسمه)، وكان هذا الكاهن متزوجا من امرأة إنجليزية. كان والدي جائعا جدا، ولم يكن لديهم على الغداء سوى الجبن، ولم يكن والدي يتناوله أبدا. كانت السيدة العجوز مندهشة وحزينة لذلك، وظلت تؤكد لوالدي أنه جبن ممتاز قد أرسل إليهما من بوود، وهي مقر اللورد شيلبيرن. لقد تعجب والدي من إرسال هذا الجبن من بوود، لكنه لم يفكر في الأمر أكثر من ذلك إلى أن لاح مرة أخرى في ذهنه بعد ذلك بسنوات عديدة، بينما كان اللورد شيلبيرن يتحدث عن هولندا. فأجابه: «لا بد أن الموقر السيد أ... كان رجلا مهما للغاية وعلى دراية جيدة بأمور هولندا.» استطاع والدي أن يدرك أن الإيرل، والذي قد غير موضوع المحادثة فورا، قد بهت واندهش للغاية. وفي الصباح التالي، تلقى والدي خطابا من الإيرل يقول فيه إنه قد أجل موعد البدء في رحلته؛ إذ إنه يرغب في رؤية والدي. وحين أتى، تحدث الإيرل إلى والدي قائلا: «دكتور داروين، إنه لأمر في غاية الأهمية لي وللموقر السيد أ... أن نعرف كيف اكتشفت أنه مصدر معلوماتي عن هولندا.» ومن ثم، فقد اضطر والدي أن يشرح ما حدث فجعله يتوصل إلى هذه النتيجة، وقد رأى أن اللورد شيلبيرن كان معجبا للغاية بقدرة والدي الكبيرة على التخمين؛ إذ على مدى سنوات عديدة بعدها، ظل يتلقى منه العديد من الخطابات اللطيفة عن طريق عدد من الأصدقاء. وأعتقد أنه ولا بد قد حكى هذه القصة إلى أولاده؛ إذ سألني السير سي لايل قبل عدة أعوام عن سبب ما عبر عنه ماركيز لانزداون (وهو ابن أو حفيد الماركيز الأول) من اهتمام كبير بي وبعائلتي، وهو الذي لم يرني من قبل. وحين أضيف إلى نادي الأثنيام أربعون من الأعضاء الجدد (وقد كانوا يدعون حين ذاك باسم الأربعين لصا)، كان هناك الكثير من النقاش بشأن انضمامي معهم، وبدون أن أطلب ذلك من أحد، قدمني اللورد لانزداون وأصبحت عضوا منتخبا. وإذا كنت محقا في افتراضي، فقد كانت تلك سلسلة غريبة من الأحداث أن يكون عدم تناول والدي للجبن قبل نصف قرن في هولندا، قد أدى إلى أن أصبح عضوا منتخبا في نادي الأثنيام.
إن حدة ملاحظته قد جعلته قادرا على أن يتنبأ بالمسار الذي سيتخذه أي مرض بمهارة فائقة، وكان يقدم عددا لا نهائيا من التفاصيل التي تؤدي إلى شعور المرضى بالارتياح. لقد سمعت عن طبيب شاب في شروزبيري كان يكره والدي وهو الذي كان يزعم أنه لم يكن علميا على الإطلاق، غير أنه كان يتمتع بالقدرة على التنبؤ بنهاية أي مرض بدقة لا مثيل لها. وحين كان أبي يرى في السابق أن علي أن أصبح طبيبا، كان يحدثني كثيرا عن مرضاه. وقد كانت ممارسة الفصد منتشرة في الماضي على نحو كبير، غير أن والدي كان يرى أنها تضر أكثر مما تفيد، حتى إنه كان ينصحني بألا أدع أي طبيب يستخرج مني سوى كمية ضئيلة جدا من الدم، إن مرضت في أحد الأيام. وقبل أن يجرى تمييز حمى التيفود عن غيرها بوقت طويل، أخبرني والدي بأن مصطلح حمى التيفود يطلق على نحو خاطئ على نوعين مختلفين تماما من الحمى. وقد كان يعارض تناول الكحوليات معارضة قاطعة، وكان مقتنعا بأن تناولها بانتظام، حتى إن كان بكميات معقولة، يتسبب في أضرار شديدة، بعضها يحدث مباشرة والبعض الآخر ينتقل بالوراثة، وذلك في الغالبية العظمى من الحالات. غير أنه قد أقر بأن بعض الأشخاص قد يتناولون كميات كبيرة من الكحوليات طوال حياتهم دون أن تظهر عليهم أي أضرار يعانون منها، وقدم بعض الأمثلة على ذلك، وقد كان يرى أنه يستطيع أن يعرف هؤلاء الذين لن يعانوا من هذه الأضرار مقدما. وأما عنه، فهو لم يتناول ولا قطرة واحدة من أي شراب كحولي. وتذكرني هذه الملاحظة بحالة توضح كيف يمكن أن يكون أحد الشهود مخطئا تماما، حتى إن كانت الظروف مواتية؛ فقد حث والدي أحد الرجال الأفاضل من المزارعين على ألا يتناول الكحوليات، وقد شجعه على ذلك بأن أخبره بأنه هو نفسه لم يمس قط أي شراب روحي؛ وعندئذ قال هذا الرجل لوالدي: «حنانيك أيها الطبيب! إنني لا أصدق هذا، غير أنه لطف منك أن تخبرني بذلك حرصا على صحتي، لكنني أعرف أنك تتناول كأسا كبيرة للغاية تتضمن مزيجا من الماء الساخن والجن كل مساء بعد عشائك.» فسأله والدي كيف تسنى له أن يعرف هذا، وقد أجاب الرجل: «كانت طاهيتي تعمل لديك خادمة في المطبخ لسنتين أو ثلاث، وقد رأت الساقي يعد خليط الجن والماء ويذهب بهما إليك.» والواقع أن والدي كانت لديه تلك العادة الغريبة بأن يشرب بعد عشائه ماء ساخنا في كأس طويلة وكبيرة للغاية، وقد اعتاد الساقي أن يضع بعض الماء البارد أولا في الكأس، وهو ما ظنت الفتاة أنه شراب الجن، ثم يملأ الكأس بالماء المغلي من غلاية المطبخ.
لقد كان أبي يخبرني بالكثير من التفاصيل الصغيرة التي اكتشف أنها مفيدة في ممارسته لمهنة الطب؛ فقد كانت النساء يبكين كثيرا حين كن يخبرنه بمشكلاتهن، وهو ما كان يضيع الكثير من وقته الثمين، وسرعان ما اكتشف أنه حين كان يطلب منهن تمالك أنفسهن والتوقف عن البكاء، ما كان ذلك يزيدهن إلا بكاء ونحيبا؛ لذا فقد كان يحثهن على الاستمرار في البكاء، مخبرا إياهن بأن ذلك هو ما سيخفف عنهن أكثر من أي شيء آخر، ودائما ما كانت النتيجة هي توقفهن عن البكاء، مما يتيح له الاستماع جيدا لحالاتهن وتقديم النصيحة المطلوبة. وحين كان مرضاه الذين ساءت حالتهم يشتهون أنواعا غريبة وغير معتادة من الأطعمة، كان يسألهم عما دفع هذه الفكرة في عقولهم، وإن أجابوا بأنهم لا يعرفون، فإنه كان يسمح لهم بتناول ما يشتهون، وغالبا ما كان ينجح الأمر؛ إذ كان يثق بأنها رغبة غريزية لديهم فحسب، أما إذا أجابوا بأنهم قد سمعوا أن ذلك الطعام قد أفاد شخصا آخر في حالته المرضية، فإنه لم يكن يعطي موافقته على الإطلاق.
لقد قدم في أحد الأيام لمحة صغيرة وغريبة عن الطبيعة البشرية. كان ذلك حين كان شابا صغيرا إذ دعي إلى زيارة أحد الرجال المميزين في شروبشاير مع طبيب العائلة، وتقديم المشورة في حالته. وقد أخبر الطبيب العجوز الزوجة بأن هذا المرض سينتهي بالموت لا محالة. أما أبي، فقد كان له رأي آخر وقال بأن الرجل سيتعافى، غير أنه كان مخطئا تماما (وذلك عند تشريح الجثة على ما أعتقد)، وقد أقر أبي بخطئه. وكان مقتنعا حينئذ بأنه يجب ألا يقدم المشورة إلى هذه الأسرة مجددا، غير أن أرملة هذا الرجل قد أرسلت إليه بعد ذلك ببضعة أشهر؛ إذ لم تعد تستعين بخدمات طبيب الأسرة العجوز. كان أبي مندهشا لذلك للغاية، حتى إنه قد طلب من أحد أصدقاء الأرملة أن يسأل عن السبب الذي دفعهم إلى أخذ مشورته مجددا. فأجابت الأرملة هذا الصديق بأنها «لن ترى ثانية هذا الطبيب الكريه العجوز الذي قال من البداية إن زوجها سوف يموت بالتأكيد، على العكس من الدكتور داروين الذي كان يؤكد دوما أنه سيتعافى!» وفي حالة أخرى، كان والدي قد أخبر سيدة بأن زوجها سوف يموت لا محالة، ثم رأى والدي هذه السيدة بعد وفاة زوجها بعد ذلك بعدة أشهر، وقد كانت سيدة حكيمة فقالت له: «إنك ما تزال صغيرا للغاية؛ فاسمح لي أن أنصحك بأن تمنح الأمل لأي شخص يرعى قريبا له، طالما أمكنك ذلك. لقد جعلتني أشعر باليأس، ومنذ هذه اللحظة خارت قواي.» وقد كان أبي يقول إنه من ذلك الحين، أدرك الأهمية القصوى لإعطاء الأمل لمن يقوم على رعاية المريض؛ إذ إن ذلك يحافظ على تماسكه وقوته، مما يصب في مصلحة المريض. وقد كان يواجه صعوبة في فعل ذلك أحيانا لأنه يتعارض مع الحقيقة. غير أنه في إحدى المرات قد أنقذه سيد عجوز من تلك الحيرة. كان السيد ب... قد أرسل في طلب والدي لاستشارته، قائلا: «بناء على كل ما رأيته وسمعته عنك، فإنني أثق بأنك ستخبرني الحقيقة، وأنني إن سألتك متى سأموت، فسوف تجيبني. والآن فإنني أرغب بشدة في أن تشرف على حالتي، إن وعدتني بألا تخبرني أنني سأموت، مهما قلت لك.» وقد قبل والدي ذلك على أساس هذا الاتفاق الذي يعني أن كلامه لن يكون له في الواقع أي معنى على الإطلاق.
لقد كان والدي يتمتع بذاكرة استثنائية، لا سيما في تذكر التواريخ، حتى إنه كان لا يزال يتذكر وهو في كبره تواريخ الميلاد والزواج والوفاة لعدد كبير من الناس في شروبشاير، وقد أخبرني ذات يوم أن هذه الملكة تزعجه؛ فقد كان يحفظ أي تاريخ فور أن يسمعه، ولا يمكنه أن ينساه ؛ ومن ثم، فلطالما كان يتذكر تواريخ وفاة العديد من أصدقائه ويتذكرهم، فيشعر بالحزن. وبفضل ما كان يتمتع به من ذاكرة استثنائية، فقد كان يعرف عددا هائلا من القصص المشوقة الغريبة، والتي كان يحب أن يرويها؛ إذ كان متحدثا بارعا. لقد كان بوجه عام شخصا مرحا؛ يضحك ويمزح مع الجميع، وفيهم خدمه، بمنتهى الأريحية، غير أنه كان يعرف كيف يجعل الجميع يطيعون أوامره بحذافيرها. لقد كان العديد من الناس يخشونه بشدة؛ فقد حكى لنا والدي ذات يوم وهو يضحك أن بعض الناس قد سألوه عما إذا كانت الآنسة ... وهي سيدة عجوز مهيبة في شروبشاير، قد زارته، فتساءل عن السبب الذي دفعهم إلى سؤاله، وقد أخبروه بأن الآنسة ... التي كان أبي قد أغضبها بشدة، قد راحت تخبر الجميع بأنها ستزور وتخبر «هذا الطبيب السمين العجوز برأيها فيه بكل صراحة.» وقد زارته بالفعل، لكن شجاعتها قد خانتها، وقد كانت معه في غاية اللطف والود. وحين كنت صبيا، ذهبت كي أمكث في منزل ... وقد كانت زوجته بها بعض الجنون، وفور أن رأتني هذه المسكينة، تملكت منها أشد حالات الهلع التي رأيتها على الإطلاق؛ فقد راحت تنتحب بمرارة وتسألني مرارا وتكرارا: «هل سيأتي والدك؟» غير أنه سرعان ما هدأ روعها. وعند عودتي إلى المنزل، سألت والدي عن سبب هلعها، فقال إنه سعيد بسماع ذلك؛ إذ إنه قد تعمد إخافتها لأنه رأى أنها ستعيش في مأمن ودون تقييد لحريتها إن نجح زوجها في التأثير عليها، حينما تنتابها نوبات العنف، بأن يخبرها بأنه سيبعث في طلب الدكتور داروين، وقد كانت هذه الكلمات تنجح في تهدئتها في كل مرة على مدى ما تبقى من حياتها الطويلة.
لقد كان أبي حساسا للغاية؛ لذا فقد كانت العديد من الوقائع الصغيرة تزعجه أو تؤلمه بشدة. لقد سألته ذات مرة بعد أن كبرت سنه ولم يعد قادرا على السير، عن السبب في عدم الخروج والتنزه بالعربة، فأجابني: «إن كل طريق خارج شروزبيري يرتبط في ذهني بحادث أليم.» لكنه فيما عدا ذلك، كان شخصا مرحا في معظم الأحوال. وبالرغم من أنه كان يغضب بشدة بسهولة، فإن عطفه كان هائلا ولا حدود له. وقد كان محبوبا بشدة من الجميع.
لقد كان رجل أعمال جيدا وحريصا؛ فنادرا ما خسر أي نقود في أي استثمار، وقد ترك لأولاده إرثا كبيرا للغاية. وإنني أتذكر الآن قصة توضح مدى السهولة التي تنشأ بها المعتقدات العارية من الصحة وتنتشر انتشارا واسعا. كان السيد إي ... وهو من ملاك الضياع في إحدى أقدم العائلات في شروبشاير، وشريك كبير في أحد المصارف، قد انتحر، وقد بعثوا في طلب والدي من باب الواجب، لكنه وجده ميتا بالفعل. وأريد أن أذكر هنا، لأوضح كيفية تدبير مثل هذه الأمور في هذه الأيام الخوالي، أنه لما كان السيد إي ... رجلا عظيما يحترمه الجميع، فلم يجر تحقيق بخصوص موته. وعند عودة أبي إلى المنزل، رأى أنه يجب عليه الذهاب إلى المصرف (الذي كان لديه حساب فيه) لكي يخبر الشركاء التنفيذيين بما حدث؛ فلم يكن من المستبعد أن يتسبب ذلك في سحب كثير من الناس لأموالهم من البنك. وقد انتشرت شائعة انتشارا كبيرا وواسعا، مفادها أن والدي ذهب إلى المصرف وسحب جميع أمواله، وغادر البنك ثم عاد مجددا، وقال: «يمكنني أن أخبركم بأن السيد إي ... قد قتل نفسه.» ثم غادر. يبدو أنه كان هناك اعتقاد شائع حينها بأن النقود التي تسحبها من المصرف، لن تصبح آمنة حتى تخطو خارج باب المصرف. ولم يسمع أبي بهذه الشائعة إلا بعد ذلك بفترة قصيرة، حين قال الشريك التنفيذي إنه قد خرق قاعدته الثابتة التي تقضي بألا يطلع أي شخص على حساب شخص آخر؛ إذ كشف عن سجل الحساب الخاص بوالدي للعديد من الأشخاص، لكي يثبت أن أبي لم يسحب بنسا واحدا من نقوده في ذلك اليوم. ولئن انتشر الخبر بأن والدي قد سحب نقوده، لكان ذلك عارا عليه؛ إذ استخدم معلومة حصل عليها بسبب مهنته لمنفعته الخاصة. وعلى الرغم من ذلك، فقد نال التصرف المزعوم إعجاب العديد من الأشخاص، حتى إنه بعد ذلك بسنوات عديدة، قال أحد الرجال الأفاضل لوالدي: «لكم كنت رائعا في إدارة أعمالك أيها الطبيب! لقد تمكنت من سحب جميع نقودك من ذلك المصرف بأمان!»
لم يكن والدي يتمتع بملكة التفكير العلمي، ولم يحاول تعميم معرفته وجمعها تحت قوانين عامة، غير أنه كان يكون نظرية عن جميع ما تعرض له تقريبا. لا أعتقد بأنني قد أخذت منه الكثير من الناحية الفكرية، غير أنه كان مثالا يحتذى به في الأخلاق لجميع أطفاله. وقد كانت إحدى قواعده الذهبية (وهي قاعدة يصعب اتباعها) هي «لا تصادق من لا يمكن أن تكن له الاحترام.»
كان للدكتور داروين ستة أبناء: ماريان التي تزوجت من الدكتور هنري باركر، وكارولين التي تزوجت من جوزايا ويدجوود، إيرازموس ألفي، وسوزان التي لم تتزوج حتى ماتت، وتشارلز روبرت، وكاثرين التي تزوجت من الكاهن تشارلز لانجتون. (إن السيدة ويدجوود هي الوحيدة الباقية على قيد الحياة الآن من بين كل هؤلاء.)
ولد الابن الأكبر إيرازموس عام 1804، وتوفي دون أن يتزوج في السابعة والسبعين من عمره.
ومثل أخيه، تلقى تشارلز داروين تعليمه في مدرسة شروزبيري، وفي كلية كرايست بجامعة كامبريدج. وقد درس الطب في إدنبرة ولندن، وحصل على درجة البكالوريوس في الطب من جامعة كامبريدج، لكنه لم يتخذ أي خطوة لممارسة مهنة الطب، وبعد أن غادر كامبريدج، عاش حياة هادئة في لندن.
لطالما كان هناك شيء شجي فيما يكنه تشارلز داروين لأخيه إيرازموس من عواطف، وكأنه ما فتئ يتذكر حياة العزلة التي عاشها، وكذلك صبره الذي يثير العواطف وطبيعته العذبة. كان كثيرا ما يتحدث عنه بالاسم «أخي الكبير المسكين راس» أو «أخي الكبير العزيز فيلوس»، وأعتقد أن كلمة فيلوس (الفيلسوف) كانت مما بقي من تلك الأيام الخوالي التي عملا فيها في الكيمياء بمستودع الأدوات في شروزبيري، وقد كانت هذه الفترة من الذكريات السعيدة التي كان يعتز دوما بتذكرها؛ ولأن إيرازموس كان أكبر من تشارلز داروين بأكثر من أربع سنوات، فلم يمكثا معا طويلا في كامبريدج، لكنهما قد أقاما معا في النزل نفسه قبل ذلك حين كانا في إدنبرة، ثم أقاما معا لبعض الوقت بعد رحلة «البيجل» في منزل إيرازموس بشارع جريت مالبرا. وفي هذا الوقت أيضا، نجد أنه يتحدث عن إيرازموس بعاطفة كبيرة في خطاباته إلى فوكس؛ فنجده يستخدم كلمات مثل: «أخي الكبير العزيز الغالي.» وبعد ذلك بعدة سنوات، كان إيرازموس داروين يأتي إلى داون أحيانا، أو يزور أسرة أخيه في عطلة الصيف. لكن الأمر قد انتهى تدريجيا إلى أنه عزم على البقاء في لندن وعدم مغادرتها نظرا لسوء صحته؛ فاقتصرت رؤية كل من الأخوين للآخر على المرات التي كان يذهب فيها تشارلز داروين لزيارة أخيه، ويقضي معه أسبوعا في منزله بشارع كوين آن.
وفيما يلي نبذة قصيرة كتبها تشارلز داروين عن شخصية أخيه في الوقت نفسه تقريبا الذي أضيف فيه وصف والده إلى عمله «ذكريات»:
كان أخي إيرازموس يتمتع بذهن صاف للغاية، وقد كانت اهتماماته ومعارفه في الأدب والفن، وحتى في العلوم، شاملة ومتنوعة؛ فعلى مدى فترة قصيرة، كان يجمع النباتات ويقوم بتجفيفها، وعلى مدى فترة أطول بعض الشيء، كان يجري تجارب في الكيمياء. لقد كان شخصا لطيفا للغاية، وكثيرا ما كانت بديهته وظرفه يذكرانني بما أجده في أعمال تشارلز لام وخطاباته. ولقد كان رقيق القلب للغاية ... وكان ضعيفا عليلا منذ صباه؛ ولذا فلم يكن يتمتع بطاقة كبيرة. ولم يكن شخصا مرحا في أغلب الأحوال؛ فقد كان الاكتئاب يخيم عليه أحيانا، لا سيما عند بداية بلوغه مبلغ الرجال وكذلك في منتصف عمره. كان يقرأ كثيرا منذ صباه، وكان يشجعني على القراءة في أيام الدراسة ويعيرني الكتب. وبالرغم من ذلك، فقد كنا نختلف اختلافا كبيرا في طبيعة تفكيرنا وأذواقنا؛ حتى إنني أعتقد أنني لا أدين له بالكثير من الناحية الفكرية. وأنا أميل إلى الاتفاق مع فرانسيس جالتون في الاعتقاد بأن التعليم والبيئة لا يؤثران في عقل المرء إلا تأثيرا صغيرا، وأن معظم صفاتنا غريزية فينا.
بالرغم من أن اسم إيرازموس داروين غير معروف لدى الجمهور العام، فإننا قد نتذكره من خلال وصف شخصيته الذي ورد في كتاب كارلايل «ذكريات»، الذي سأذكر بعضا منه فيما يلي:
كان إيرازموس داروين رجلا مختلفا للغاية، وقد تعرف علينا منذ فترة قريبة (كان قد سمع بكارلايل في ألمانيا وغيرها)، وهو لا يزال يزورنا منذ ذلك الوقت حتى إنه أصبح صديقا للعائلة يتردد على منزلنا كثيرا، غير أن زياراته قد صارت تتباعد وتقل أكثر فأكثر بمرور الوقت؛ نظرا لما يعاني منه من اعتلال الصحة، ولضيق وقتي وانشغالي كذلك، وغير ذلك. لقد كان يتمتع بنبوغ حقيقي يبعث على السخرية، وهو رجل من أكثر الرجال صدقا وإخلاصا، ومن أشدهم تواضعا. إنه الأخ الأكبر لتشارلز داروين (داروين المشهور هذه الأيام لكتابه عن الأنواع)، والحق أنني أفضل إيرازموس عنه لتفكيره وعقله، لولا اعتلال صحته الذي أجبره على أن يلوذ بالصمت والصبر في سكون ... لقد كان لسليل عائلة داروين الأمين هذا منزلة وحظوة خاصة لدى زوجتي العزيزة؛ فكثيرا ما كان يصحبها في عربته، ويسير بها في مختلف الطرق إلى المحلات وغيرها (فكانت عربة داروين بمنزلة نجمة الملك جورج بالنسبة لها) إذ لم تكن أجرة ركوب الحافلات العامة بالهينة في تلك الأيام، كما أن ما كان يتفوه به من عبارات قليلة وهي التي كانت ساخرة في معظم الأحيان، مصدر سرور كبير بالنسبة لها. لقد رأت فيه على الفور أنه «رجل فاضل تماما»، ويتمتع برجاحة عقل ورقة لا حدود لهما.
6
لم يحب تشارلز داروين تلك الصورة التي رسمها كارلايل لأخيه؛ إذ كان يرى أنه لم يستطع أن يصور فيها جوهر طبيعته المحبوبة للغاية.
والآن، تدفعني رغبتي في أن أسهب في تصوير شخصية من الشخصيات التي أحبها جميع أبناء تشارلز داروين بكل صدق إلى أن أعرض هنا خطابا قد كتبته ابنة عمه الآنسة جوليا ويدجوود إلى مجلة «ذا سبيكتاتور» (3 سبتمبر 1881).
إن الوصف الذي قدمه السيد كارلايل، الذي قد أعجب الجميع ممن أحبوا الشخصية الأصلية، يعبر ولا شك عن قدر كبير من التميز، مما يستدعي بعض كلمات الإشادة والتقدير، لا سيما وأن الشخص الذي يصفه قد توفي بالفعل. إن إيرازموس، الأخ الوحيد لتشارلز داروين، والصديق المخلص والمحب للسيد كارلايل وزوجته، قد خلف من بعده دائرة من الراثين الذين لا يعوزهم الثناء من كاتب لامع كي يعطروا ذكرى هذا الشخص العزيزة إلى قلوبهم، غير أن ذلك الثناء قد أثار دون شك اهتمام دائرة أوسع، تلك التي ربما استقبلت هذه الذكرى بانتباه شديد قد خلف لديها انطباعا فريدا لا يمحى، بالرغم من أنه خلف في قلوب أناس لا يستطيعون أن ينقلوه؛ ولهذا، فلا بد أنه سيتلاشى سريعا معهم. وهم يتذكرون ذكراه بتقدير يليق بعبقري؛ فهو قد أثرى الحياة وزاد من حلاوتها، وشكل نقطة التقاء مشتركة لمن لم يكن لهم غيرها، وبأثر ذكراه القوي الفواح بالفردانية، عزز من احترام ما يتميز به البشر من خصوصية وتفرد في طبائعهم، وهي التي بدونها، يصبح الحكم الأخلاقي قاسيا وسطحيا دائما، وظالما في معظم الأحيان. لقد كان كارلايل يجد متعة خاصة في رفقة إيرازموس داروين التي تجمع بين الحيوية والسكينة، اللتين كانتا تبعثان فيمن يكون في رفقته حالة من التحفيز والهدوء في الوقت نفسه، ولم يكن ما قاله كارلايل عن إيرازموس بعد موته، هي المرة الأولى التي يتضح فيها ما كان يكنه له من تقدير ومودة؛ إذ لا تزال خطاباته التي تعبر عن القلق والتي كتبها قبل ما يقرب من ثلاثين عاما، حين كان يهدد حياته الواهنة التي طالت حتى الشيخوخة، مرض عضال، حاضرة في ذاكرتي. لقد جمعت بينه وبين كارلايل وزوجته علاقة صداقة دافئة. وأنا أتذكر جيدا أنها قد أبدت اعتراضا مثيرا للضحك، حينما عبر إيرازموس داروين عن تفضيله للقطط عن الكلاب؛ إذ إنها قد اعتبرت ذلك إهانة لكلبها الصغير «نيرو»، وتشي النبرة التي كان عليها ردها الذي قالت فيه: «أوه، لكنك مولع بالكلاب! إنك رقيق للغاية، فلا يمكن ألا تكون مولعا بها!» بأنها رأت منه الكثير من الأفعال التي تنم عن الكرم والطيبة، والتي كانت تتذكرها بامتنان. وقد جمعته علاقة حميمة كذلك بهاريت مارتينو، التي كان أصدقاؤها، كأصدقاء السيد كارلايل، لا يشعرون دوما بالفخر لوجودهم في معيتها. وقد سمعته غير مرة يدعوها بصديقتي المخلصة، ودائما ما كان ذلك يبدو لي أنه ثناء غريب على شيء ما في تلك الصداقة، لم يكن يقدمه سواه، غير أنني أعتقد أنها إن كانت قد كتبت عنه على الإطلاق، فقد كان ذكره سيحف بحرارة التقدير، وكان سيشكل نقطة التقاء غريبة ونادرة مع غيره مما يرد في كتاب «ذكريات»؛ فسوف يوجد الكثير من التشابهات والكثير من الاختلافات كذلك. من غير الممكن أن ننقل طابع إحدى الشخصيات، وإنما يمكننا أن نحاول طرحه فقط من خلال الشبه، وإنه لتمثيل فريد لتلك المفارقة التي تحكم مشاعرنا أو توجهها، أنني حين أحاول تقديم الرجل الذي يبدو أنه أكثر من أحبه كارلايل بخلاف أهله، فلا يمكنني أن أقول أي شيء أكثر توضيحا من أنه يبدو لي أنه يشترك في بعض السمات مع الرجل الذي لم يكن يحظى بتقدير كارلايل. في رأيي، إن عالم إيرازموس داروين كان يتمتع بالجاذبية التي كانت تتمتع بها كتابات تشارلز لام؛ إذ نجد فيه ذلك النوع نفسه من المرح وخفة الظل والرقة وربما العيوب نفسها. وعلى جانب آخر من طبيعته، لطالما ذكرني به حس الدعابة الغريب الرقيق والتعصب السطحي وتلك الينابيع العميقة من الشفقة وذلك المزيج العجيب من الحنق والسخرية المبهجة، البعيد كل البعد عن الازدراء، التي تميز الحوارات القديمة التي كان السير آرثر هلبس يكتبها على لسان شخصيته إلزمير. ولعلنا نتذكر هذه الطباع بوضوح فائق؛ لما كان هذا الشبه هو كل ما يتبقى منها. إن طباع المرء وشخصيته ليست مركبة فيه، وما نفقده بسبب ضعف قدرتنا على التعبير عن طباعنا، يبدو أننا نستعيده مرة أخرى من خلال وضوح تلك الطباع. لقد توفي إيرازموس داروين وهو في سن كبيرة، غير أن ذاكراه ما تزال تفوح برائحة نضارة الشباب؛ إذ كان وجوده ينشر قدرا كبيرا من السعادة، من ذلك النوع المرتبط بالشباب، على العديد ممن هم حوله، ومنهم هذا القلم اللامع الذي تكفي شهادته لوضع هذا الإكليل الذاوي على قبره، بالرغم من أنها لا تشي بالتأكيد بالرغبة في ذلك.
إن الصفحات السابقة قد قدمت، على نحو سريع، قدرا كافيا قدر الإمكان من المعلومات عن الأسرة التي نشأ فيها تشارلز داروين، وهي تصلح كمقدمة لسيرته الذاتية التي سترد في الفصل التالي.
الفصل الثاني
سيرة ذاتية
[إن ما كتبه أبي من ذكريات تتعلق بسيرته الذاتية، التي تظهر في الفصل الحالي، كان قد كتبه لأبنائه، ولم يكن يخطر بباله قط حينها أنها سوف تنشر. وقد يبدو ذلك للعديد من الأشخاص على أنه أمر محال، أما من يعرفون والدي، فسوف يتفهمون أنه أمر ممكن جدا، بل طبيعي أيضا. وقد جاءت هذه السيرة الذاتية تحت عنوان «ذكريات عن تطوري الذهني والشخصي»، وهي تنتهي بالملاحظة التالية: «3 أغسطس 1876. لقد بدأت في كتابة هذه السيرة التي تسرد أحداث حياتي في الثامن والعشرين من مايو في هوبدين، وداومت، منذ ذلك الوقت، على الكتابة على مدى ساعة تقريبا في معظم العصاري.» وفي سرد شخصي وحميمي كهذا، قد كتب إلى الزوجة والأبناء، من الطبيعي جدا أن توجد بعض الفقرات التي يجب علي حذفها، ولا أرى ضرورة لبيان مواضع الحذف هذه. ولقد وجدت أنه من الضروري أن أصحح بعض الهفوات الواضحة في الكتابة، غير أنني لم أجر هذه التغييرات إلا في أضيق الحدود. إف دي.]
لقد بعث إلي محرر ألماني يطلب مني أن أكتب عن تطوري الذهني وتطور شخصيتي مع سرد جانب من سيرتي الذاتية. وقد رأيت أنني سأستمتع بهذه المحاولة، وأنها قد تثير اهتمام أبنائي أو أبنائهم؛ فأنا عن نفسي، أعرف أنني كنت سأهتم اهتماما كبيرا بقراءة عرض موجز للتطور الذهني لجدي، الذي قد كتبه هو بنفسه، حتى إن كان هذا العرض مملا ومختصرا للغاية؛ إذ كان سيثير اهتمامي أن أتعرف على أفكاره وأعماله وطريقته في أداء عمله. وقد حاولت أن أكتب سيرتي الذاتية هذه، كما لو أنني كنت ميتا أعيد النظر إلى حياتي من العالم الآخر. والواقع أنني لم أجد صعوبة في ذلك؛ إذ إن حياتي قد شارفت على الانتهاء، ولم أبذل الكثير من الجهد للاهتمام بأسلوبي في الكتابة.
لقد ولدت في شروزبيري في الثاني عشر من فبراير عام 1809، وتعود أولى ذكرياتي إلى حين كنت قد تخطيت الرابعة من العمر بعدة شهور، وذهبنا إلى منطقة بالقرب من أبيرجالي للاستحمام في البحر، وأنا أتذكر بعض الأحداث والأماكن هناك بالقليل من الوضوح.
توفيت والدتي في يوليو عام 1817، وكنت حينها أكبر من الثامنة بقليل، ومن الغريب أني لا أستطيع أن أتذكر أي شيء عنها سوى الفراش الذي ماتت عليه، وردائها الأسود المخملي، ومنضدة عملها ذات التصميم الغريب. وفي ربيع هذا العام نفسه، بعثت إلى مدرسة نهارية في شروزبيري وقضيت فيها عاما. وقد عرفت منهم أن وتيرتي في التعلم كانت أبطأ كثيرا من شقيقتي الصغرى كاثرين، وأعتقد أنني كنت ولدا شقيا، من نواح عديدة.
وفي ذلك الوقت الذي ذهبت فيه إلى هذه المدرسة النهارية، كان اهتمامي بالتاريخ الطبيعي، وبالجمع على وجه الخصوص، قد تشكل وتطور؛ فكنت أحاول معرفة أسماء النباتات والتمييز بينها، وكنت أجمع مختلف الأشياء من الصدف والأختام وطوابع البريد والعملات المعدنية والمعادن. وقد كان ذلك الشغف بجمع الأشياء، الذي يدفع بالمرء إلى أن يصبح مختصا في التاريخ الطبيعي، أو هاويا للفنون وجامعا للتحف القديمة، أو بخيلا؛ حاضرا في بدرجة كبيرة، ومن الواضح أنه كان فطريا؛ إذ إن أحدا من إخوتي لم يظهر قط أي اهتمام بمثل هذا الأمر.
حدث واحد صغير في هذا العام ظل حاضرا في ذهني لا يبرحه، وأتمنى أن يكون ذلك لما كان يشعر به ضميري من ذنب شديد، وإنه لأمر غريب إذ يوضح أنني كنت مهتما بتنوع النباتات واختلافها وأنا في مثل هذه السن الصغيرة! كنت قد أخبرت فتى آخر (وأظن أنه لايتون، وهو الذي أصبح فيما بعد عالما مشهورا في علم الأشنات والنبات) أنني أستطيع إنتاج نرجسيات وزهور الربيع المختلفة الألوان، وذلك من خلال سقيها بسوائل ملونة معينة، وما كان ذلك بالطبع إلا خرافة شنيعة قد اختلقتها ولم أجربها قط. ويمكنني أن أعترف هنا أيضا بأنني كنت أميل في صغري إلى اختلاق مزاعم كاذبة عن عمد، وقد كان ذلك دوما لخلق بعض الإثارة؛ فعلى سبيل المثال، كنت قد جمعت في أحد الأيام بعض الفواكه الثمينة من أشجار أبي وخبأتها في الشجيرات، ثم انطلقت أجري لاهث الأنفاس لكي أعلن أنني قد عثرت على كنز من الفاكهة المسروقة.
لا بد أنني كنت فتى ساذجا للغاية في بداية عهدي بالمدرسة وذهابي إليها؛ ففي أحد الأيام، اصطحبني ولد يدعى جارنيت إلى متجر كعك، واشترى بعضا منه لكنه لم يدفع ثمنه؛ إذ كان البائع يثق به. وحين خرجنا سألته عن السبب في عدم دفعه الثمن، فأجابني على الفور: «ألا تعرف أن عمي قد منح البلدة مبلغا هائلا من المال شريطة أن يعطي كل تاجر أي شخص يرتدي قبعته القديمة ويحرك [إياها] بطريقة معينة ما يرغب فيه دون مقابل؟» وبعد ذلك، أراني كيفية تحريكها، ثم دخل متجرا آخر يتمتع فيه بالثقة كذلك، وطلب غرضا صغيرا محركا قبعته بالطريقة المناسبة، ثم حصل عليه بالطبع دون أن يدفع ثمنه. وعندما خرجنا تحدث إلي قائلا: «والآن، إن كنت ترغب في العودة إلى متجر الكعك (الذي ما زلت أتذكر موقعه بدقة شديدة)، فسوف أعيرك قبعتي، ويمكنك أن تحصل على أي شيء تريده إن حركت القبعة على رأسك بالطريقة الصحيحة.» قبلت هذا العرض السخي بكل سرور، ودخلت إلى محل الكعك وطلبت بعضا منه ثم حركت القبعة القديمة بالطريقة السليمة. وبينما كنت أسير خارجا من المتجر، اندفع البائع نحوي، فسقط مني الكعك ورحت أجري كي أنجو بحياتي، وكم كنت مندهشا من صيحات الضحك التي استقبلني بها صديقي المخادع جارنيت.
يمكنني أن أشهد لنفسي بأنني كنت صبيا محبا للخير، غير أنني أدين بذلك بالكامل إلى إرشاد أخواتي ومثالهن. إنني لا أعرف على وجه التحديد ما إذا كان حب الخير صفة فطرية أم مكتسبة. لقد كنت مولعا جدا بجمع البيض، لكنني لم آخذ قط أكثر من بيضة واحدة من عش كل طائر، فيما عدا مرة واحدة أخذت فيها البيض كله ، وما كان ذلك لقيمته، وإنما على سبيل استعراض قدراتي.
كنت أحب بشدة الصيد بالصنارة، وكنت أجلس على مدى ساعات طويلة على ضفة نهر أو بحيرة أراقب فلينة الصنارة؛ وحين كنت في مير، سمعت بأنني أستطيع قتل الدود بالملح والماء، ومنذ ذلك اليوم، لم أدخل دودة حية واحدة في خطاف الصنارة، متخليا بذلك ربما عن جزء من النجاح في الصيد.
وذات مرة حين كنت ما أزال ولدا صغيرا في المدرسة النهارية أو حتى قبل ذلك الوقت، تصرفت بقسوة، وضربت جروا صغيرا، وأظن أن ذلك كان بدافع الاستمتاع بالشعور بالقوة فحسب، لكن هذا الضرب لم يكن قويا بأي حال؛ إذ لم يعو الجرو، وأنا متيقن من ذلك لأنه كان في بقعة قريبة من المنزل. وما تزال تلك الواقعة تثقل بشدة ضميري، وهو ما يتضح من تذكري للمكان الدقيق الذي وقعت فيه تلك الجريمة. وأعتقد أن وطأتها راحت تزداد علي بسبب ما كنت أكنه من حب للكلاب في ذلك الوقت وهو الذي امتد على مدى فترة طويلة بعد ذلك، حتى أصبح شغفا لدي. ويبدو أن الكلاب كانت تدرك ذلك؛ فقد كنت بارعا في جعلها تحبني أكثر من أصحابها.
لم تتبق سوى حادثة أخرى هي التي أتذكرها بوضوح من أحداث هذا العام، الذي قضيته في مدرسة السيد كيس النهارية، وهي حادثة دفن جندي من سلاح الفرسان. من المدهش أنني ما زلت أستطيع أن أتذكر بوضوح حذاء الجندي العالي الرقبة وبندقيته القصيرة وهما معلقان بسرج حصانه، بينما تطلق الطلقات من حول المقبرة. لقد أهاج هذا المشهد في جميع الخيالات الشاعرية التي كانت بداخلي.
في صيف العام 1818، ذهبت إلى مدرسة الدكتور باتلر في شروزبيري، وقضيت فيها سبع سنوات حتى منتصف الصيف في عام 1825، حين بلغت السادسة عشرة. لقد أقمت في تلك المدرسة؛ فتمتعت بتلك الميزة العظيمة بأن أختبر حياة الدراسة الحقيقة؛ غير أنها لم تكن تبعد عن منزلي بأكثر من ميل واحد؛ لذا، فغالبا ما كنت أعدو إلى المنزل في الفترات الفاصلة الطويلة بين انتهاء الدراسة وإغلاق أبواب المدرسة في الليل. وأعتقد أن ذلك مثل ميزة كبيرة بالنسبة لي؛ إذ تمكنت من الحفاظ على ارتباطي بالمنزل وأسرتي. وفي بداية حياتي المدرسية، أتذكر أنني غالبا كنت أضطر إلى الجري بسرعة كي أصل في الموعد، وعادة ما كنت أنجح في ذلك؛ إذ كنت عداء سريعا، وحين كنت أشك في النجاح، كنت أتضرع إلى الله بدعائي سائلا العون منه، وأتذكر جيدا أنني كنت أعزو نجاحي إلى استجابة الله لدعائي، لا إلى سرعتي في الجري، وكم كنت أتعجب من عونه الدائم لي.
لقد سمعت أبي وأختي الكبرى يقولان إنني كنت أميل في طفولتي إلى التجول منفردا لمسافات طويلة، غير أنني لا أدري ما الذي كنت أفكر فيه في تلك الجولات. كثيرا ما كنت أشرد بذهني، وذات مرة بينما كنت عائدا إلى المدرسة من فوق المتاريس المحيطة بشروزبيري، والتي كانت قد تحولت إلى ممشى عام بدون حاجز على أحد الجانبين، تعثرت وسقطت على الأرض، غير أن الارتفاع لم يكن يزيد عن سبعة أو ثمانية أقدام. ومع ذلك، فإن عدد الأفكار الذي دار بذهني في أثناء تلك السقطة الصغيرة جدا والمفاجئة وغير المتوقعة تماما، كان مذهلا، ولا يبدو لي أنه يتفق مع ما أثبته المختصون في علم وظائف الأعضاء، على ما أعتقد، وهو أن الفكرة الواحدة تستغرق فترة ملحوظة من الوقت حتى تتكون.
كانت مدرسة السيد باتلر هي الأسوأ لتطوري الذهني على الإطلاق؛ إذ كانت تقليدية تماما، ولم يكن يدرس بها سوى بعض من الجغرافيا والتاريخ القديمين. لم أستفد من تلك المدرسة بأي قدر من التعليم؛ فعلى مدى حياتي كلها، لم أتمكن من إتقان أي لغة. وقد كانت هذه المدرسة تولي اهتماما عظيما بنظم الشعر، ولم أكن أجيد ذلك على الإطلاق. غير أنه كان لي العديد من الأصدقاء وكنا نحفظ معا مجموعة جيدة من أبيات الشعر القديم، فكنت آخذ أجزاء من هذه الأبيات وأدمجها معا، بمساعدة بعض الصبية الآخرين في بعض الأحيان، وهذا ما جعلني أتمكن من تناول أي موضوع شعرا. وقد كان الاهتمام كبيرا بحفظ الدروس التي تعلمناها في اليوم السابق، وهذا ما كنت أتقنه بسهولة كبيرة؛ فقد كنت أحفظ ما يقرب من الأربعين أو الخمسين سطرا لفيرجيل أو هوميروس، وأنا لا أزال في المصلى الصباحي، غير أن هذا الأمر لم يكن مفيدا على الإطلاق؛ فقد كانت جميع هذه الأبيات تتلاشى من ذاكرتي في غضون ثمان وأربعين ساعة. لم أكن بليدا، وباستثناء نظم الشعر، فقد كنت بوجه عام أجتهد في دراسة الأعمال الكلاسيكية وأداء واجباتي المتعلقة بها، دونما أي محاولة للغش. وأما الشيء الوحيد الذي كنت أستمتع بدراسته من تلك الدراسات، فقد كان بعض القصائد الغنائية لهوراس، التي أعجبتني بشدة.
عندما غادرت المدرسة، لم أكن بالنابغة ولا بالبليد بالنسبة لسني، وأعتقد أنني كنت في رأي أبي وجميع المدرسين، ولدا عاديا للغاية، أو إلى حد ما أقل من المستوى المعتاد في الذكاء. وقد قال لي والدي ذات يوم: «إنك لا تهتم بأي شيء سوى الصيد والكلاب ومطاردة الفئران، ولسوف تكون عارا على نفسك وكل عائلتك.» وهو ما أشعرني بالخجل والخزي الشديدين، لكن أبي، الذي كان أطيب من عرفت من الرجال والذي أحب ذكراه بكل قلبي، لا بد أنه كان غاضبا ومتحاملا بعض الشيء حين استخدم هذه الكلمات.
وحين أعيد النظر بقدر استطاعتي في شخصيتي خلال فترة الدراسة، أجد أن الصفات الوحيدة التي كنت أتمتع بها في تلك الفترة والتي تبشر بمستقبل جيد، كانت تعدد اهتماماتي وشغفي بها؛ وامتلاكي لحماس كبير لما يثير اهتمامي؛ وإيجادي لسرور كبير في فهم أي أمر أو موضوع معقد. لقد تعلمت حساب إقليدس على يد معلم خاص، وأنا أتذكر جيدا ذلك الشعور الغامر بالرضا الذي منحتني إياه البراهين الهندسية الواضحة. وأتذكر بالوضوح نفسه، مدى السرور الذي شعرت به حين شرح لي عمي (والد فرانسيس جالتون) الفكرة الأساسية لورنية مقياس الضغط الجوي. وأما عن اهتماماتي الأخرى بعيدا عن العلوم، فقد كنت مولعا بقراءة مختلف الكتب، وقد اعتدت على الجلوس لساعات طويلة أقرأ فيها المسرحيات التاريخية لشكسبير، وقد كان ذلك عادة في نافذة قديمة بالجدران السميكة للمدرسة. وقد قرأت أيضا غير ذلك من الشعر مثل «الفصول» لتومسون وكذلك قصائد بايرون وسكوت، التي كانت قد نشرت حديثا. وأنا أذكر ذلك لأنني مع الأسف الشديد، وفي مرحلة لاحقة من حياتي، لم أعد أجد أي متعة في قراءة الشعر من أي نوع، بما في ذلك شعر شكسبير. وبخصوص الاستمتاع بالشعر، فيمكنني أن أضيف أيضا أنه في عام 1822، شعرت ولأول مرة بالاستمتاع الشديد بمشاهدة الطبيعة؛ إذ كنت في جولة بالخيول على حدود ويلز، وقد استمر هذا الشعور لفترة أطول من أي شعور مماثل متعلق بمتعة جمالية أخرى.
في بداية أيامي بالمدرسة، كان أحد الفتيان يقتني نسخة من كتاب «عجائب العالم»، وكثيرا ما كنت أقرأ فيه وأختلف مع الصبيان الآخرين بشأن صحة بعض المزاعم الواردة فيه، وأعتقد أن هذا الكتاب هو أول ما أثار في الرغبة في السفر إلى بلاد بعيدة، وهو ما تحقق بعد ذلك من خلال رحلة «البيجل». وفي الفترة الأخيرة من حياتي المدرسية، أصبحت مولعا للغاية بالصيد؛ فأنا لا أعتقد أن أحدا قد أبدى حماسا لأهم القضايا وأقدسها، أكثر مما أبديت من حماس نحو صيد الطيور. ولكم أتذكر بدقة تلك المرة الأولى التي اقتنصت فيها أول طائر شنقب، ولقد كان تأثري وحماسي عظيمين حتى إنني وجدت صعوبة كبيرة في تعبئة البندقية مجددا، من أثر ارتعاش يدي. ولقد استمر معي هذا الاهتمام بالصيد على مدى فترة طويلة، وأصبحت بارعا فيه. وحين كنت في كامبريدج، اعتدت أن أتمرن على رفع بندقيتي على كتفي أمام المرآة كي أتأكد من أنني أرفعها باستقامة، وأما الخطة الأخرى وهي الأفضل، فقد كانت أن أطلب من صديق لي أن يلوح بشمعة مضاءة، ثم أصوب نحوها مع تغطية فونية البندقية بكبسولة تفجير، وإذا كانت الإصابة دقيقة، فإن نفحة الهواء الخفيفة ستطفئ الشمعة. كان انفجار الكبسولة يصدر صوت طقطقة حادة، وقد سمعت بأن المشرف المدرسي قد علق على ذلك ذات يوم قائلا: «يا له من أمر غريب! إذ يبدو أن السيد داروين يقضي ساعات طويلة في قرقعة سوط في غرفته، إذ غالبا ما أسمع صوت هذه القرقعة حين أمر من تحت نوافذ غرفته.»
كان لدي العديد من الأصدقاء من صبيان المدرسة، وقد كنت أحبهم حبا جما، وأعتقد أن الود كان يغلب على طباعي في ذلك الوقت.
وأما بالنسبة إلى العلوم، فقد واصلت جمع المعادن بحماس كبير، غير أنني لم أتبع في ذلك أي طريقة علمية؛ كل ما كنت أهتم به هو العثور على معدن حديث «التسمية»، ونادرا ما كنت أحاول تصنيف ما أجمع. ولا بد أنني كنت أراقب الحشرات ببعض الاهتمام؛ فعندما كنت في العاشرة (1819)، قضيت ثلاثة أسابيع في بلاس إدواردز على ساحل البحر في ويلز، وقد كنت مهتما للغاية ومندهشا كذلك عندما رأيت حشرة كبيرة من نصفيات الجناح تجمع بين اللونين الأسود والقرمزي، وكذلك الكثير من حشرات العث (البزيات)، وخنفسة نمرية، وهي حشرات لا توجد في شروبشاير. وكنت قد نويت أن أبدأ في تجميع كل ما أجده من الحشرات الميتة؛ إذ إنني قد استشرت أختي وتوصلت إلى أنه ليس من الصواب أن يقتل المرء حشرة من أجل امتلاك تشكيلة من الحشرات. وعندما قرأت كتاب «سيلبورن» لوايت، استمتعت كثيرا بمراقبة عادات الطيور، وكتبت حتى بعض الملاحظات عن الموضوع. ومن سذاجتي، كنت أتعجب من أن كل الرجال الأفاضل لم يصيروا من المختصين في علم الطيور.
وقرب نهاية فترة المدرسة، بدأ أخي يعمل بجد في مجال الكيمياء، وأسس مختبرا جيدا في مستودع الأدوات بالحديقة وجهزه بالأجهزة المناسبة، وكان يسمح لي بمساعدته في معظم التجارب. لقد حضر الغازات جميعها والعديد من المركبات، أما أنا، فقد قرأت بعناية شديدة عدة كتب عن الكيمياء مثل «مختصر مبادئ الكيمياء» لهنري وباركس. وقد أثار الموضوع اهتمامي بدرجة كبيرة، وكثيرا ما كنا نستمر في العمل حتى وقت متأخر من الليل. كان ذلك هو الجزء الأفضل مما حظيت به من تعليم في فترة المدرسة؛ إذ تعرفت منه عمليا على معنى العلوم التجريبية. وبطريقة ما، ذاع عنا في المدرسة أننا نعمل في الكيمياء؛ ولأنها كانت واقعة غير مسبوقة، فقد لقبوني باللقب «غاز». وكذلك قد عنفني المدير الدكتور باتلر على الملأ ذات يوم؛ إذ كان يرى بأني أهدر وقتي في مثل هذه الموضوعات العديمة الجدوى، كما أنه قد نعتني ظلما ب «المستهتر»؛ ولما لم أفهم ما كان يعنيه، فقد بدا لي أنه زجر مرعب.
ولأنني لم أكن أبلي بلاء حسنا في المدرسة، فقد تصرف أبي بحكمة وأخرجني منها في سن أصغر من المعتادة، وبعثني (في أكتوبر 1825) إلى جامعة إدنبرة مع أخي، وقضيت فيها عامين أو سنتين دراسيتين. كان أخي يكمل دراسته في الطب، بالرغم من أنني أعتقد أنه لم ينتو ممارسته أبدا، وقد بعثني والدي إلى هناك كي أستهل أنا دراستي الطبية. لكنني سرعان ما توصلت إلى اقتناع بعد ذلك بفترة قصيرة، كنت قد استنتجته من بعض الأمور البسيطة، بأن والدي سيترك لي قدرا جيدا من الأملاك، مما يكفيني لأحيا في بعض من الدعة والراحة، غير أنني لم أتخيل قط أن أصبح على هذه الدرجة التي أنا عليها من الثراء. وبالرغم من ذلك، فقد كان اعتقادي هذا كافيا بأن يحجم لدي أي مجهود شاق أبذله لدراسة الطب.
كان التدريس في إدنبرة يعتمد كليا على المحاضرات، وقد كان ذلك مملا بدرجة لا تحتمل، وذلك باستثناء محاضرات الكيمياء التي كان يلقيها هوب، غير أنني كنت أرى أنه لا توجد أي ميزة للمحاضرات، وإنما لها الكثير من العيوب، وذلك على عكس القراءة. محاضرات الدكتور دانكان عن المواد الدوائية في الثامنة من صباح يوم شتوي، كانت من الذكريات التي أخشى تذكرها. أما الدكتور ... فقد كان يجعل محاضراته عن تشريح الجسم البشري مملة بقدر ما كان يتسم به هو شخصيا من شخصية مملة، وقد كان ذلك الموضوع يثير تقززي. وقد اتضح لي بعد ذلك مدى الضرر الذي شهدته في حياتي عندما لم يشجعني أحد على ممارسة التشريح؛ فلكنت إذن قد تغلبت على ما كنت أعانيه من تقزز، ولأفادني ذلك في عملي المستقبلي فائدة عظيمة. لقد كان ذلك من الأضرار التي لا يمكن علاجها، إضافة إلى عدم قدرتي على الرسم. لقد حرصت أيضا على زيارة الأجنحة السريرية في المستشفى بانتظام. وقد كانت بعض الحالات تشعرني بالحزن الشديد، حتى إن بعضها ما زال يتجسد في صور حية وواضحة أمامي، لكنني لم أكن بتلك الحماقة التي تجعلني أدع مثل هذا الأمر يقلل من ذهابي إلى هناك. إنني لا أستطيع أن أفهم السبب في أن هذا الجانب من دراستي للطب لم يثر اهتمامي بدرجة أكبر؛ إذ في خلال فصل الصيف الذي سبق حضوري إلى إدنبرة، كنت قد بدأت في رعاية بعض الفقراء في شروزبيري، الذين كان أغلبهم من النساء والأطفال. كنت أكتب وصفا كاملا للحالة بقدر ما أستطيع، وأدون فيه كل الأعراض، ثم أقرؤه على والدي بصوت عال، فيقترح هو المزيد من الفحوصات وينصحني بالأدوية التي يجب أن أقدمها لهم، والتي كنت أعدها بنفسي. في إحدى الفترات، كنت أعالج ما يزيد على اثني عشر مريضا وشعرت بحماس شديد لهذا العمل. إن أبي، الذي كان أكثر العارفين بالطباع والشخصيات، قد قال إنني سأصير طبيبا ناجحا؛ أي سيكون لي من المرضى الكثيرون. لقد كان يرى أن العنصر الأساسي في النجاح هو اكتساب ثقة الناس؛ أما ما قد رآه في وأقنعه بأنه ستكون لدي تلك الملكة على اكتساب الثقة، فهذا ما لا أعرفه. كنت قد حضرت أيضا عمليتين جراحيتين في قاعة العمليات في المستشفى بإدنبرة، غير أنهما كانتا فظيعتين جدا، وإحداهما كانت تجرى لطفل، وقد اندفعت خارجا قبل أن ينتهوا منهما. ولم يحدث قط أن حضرت أي عملية جراحية بعد ذلك، وما كان لأي دافع أن يقنعني بالقيام بذلك؛ فقد كان ذلك قبل اختراع مخدر الكلوروفورم الرائع بالعديد من السنوات. ولم تبرح هاتان الحالتان خيالي لسنوات طوال.
مكث أخي عاما واحدا فقط في الجامعة؛ لذا ففي العام الثاني، كنت أتمتع بالحرية في التصرف كما يحلو لي، وقد كان ذلك لصالحي إذ أتاح لي الفرصة في التعرف على العديد من الشباب المولعين بالعلوم الطبيعية. وقد كان من بين هؤلاء، إينزوورث، الذي نشر بعد ذلك سردا لرحلاته إلى آشور؛ لقد كان عالم جيولوجيا من أعضاء جمعية فيرنر للتاريخ الطبيعي، وكان لديه بعض المعرفة بالعديد من الموضوعات. وكان منهم أيضا الدكتور كولدستريم، الذي كان يمثل نوعا مختلفا للغاية من الشباب؛ فقد كان أنيقا وتقليديا ومتدينا للغاية وعطوفا جدا، وقد نشر بعد ذلك بعض المقالات الجيدة عن علم الحيوان. وأما ثالث هؤلاء الشباب فهو هاردي، الذي أعتقد أنه كان سيصبح عالم نباتات رائعا، لكنه مات مبكرا في الهند. وآخرهم هو الدكتور جرانت، الذي كان يكبرني بعدة أعوام، لكنني لا أتذكر كيف تعرفت عليه. لقد نشر بعض المقالات الممتازة عن علم الحيوان، لكنه بعد أن عاد إلى لندن وأصبح أستاذا في كلية لندن الجامعية، لم يقم بأي إسهامات علمية، وهو الأمر الذي لم أتمكن من فهمه قط. لقد كنت أعرفه جيدا؛ فقد كان جادا وتقليديا، غير أنه كان يفيض بالحماس من تحت هذا القناع الخارجي؛ ففي إحدى المرات بينما كنا نسير معا، انفعل من فرط إعجابه بلامارك وآرائه عن التطور. أما أنا، فقد كنت أستمع إليه في اندهاش وصمت، محاولا قدر الإمكان أن أكون رأيي بحيادية ودون أي تأثير منه على عقلي. كنت قد قرأت فيما سبق كتاب «زونوميا أو قوانين الحياة العضوية» الذي كتبه جدي، والذي يحتوي على آراء مشابهة، غير أنها لم تترك أي تأثير على عقلي. ومع ذلك، فمن المحتمل أن تكون معرفتي بمثل هذه الآراء التي كانت تحظى بالقبول والثناء، في سن مبكرة نسبيا، قد مهد الأمر لقولي بها بعد ذلك في صورة مختلفة، في كتابي «أصل الأنواع». في ذلك الوقت، كنت أكن إعجابا كبيرا لكتاب «زونوميا»، لكنني بعد أن قرأته مرة ثانية بعد ذلك بفترة زمنية تتراوح بين عشرة أعوام وخمسة عشر عاما، وجدت أنه قد خذلني للغاية؛ إذ كان يحتوي على الكثير من الافتراضات مقابل نسبة صغيرة للغاية من الحقائق.
كان الدكتور جرانت والدكتور كولدستريم يهتمان اهتماما كبيرا بعلم الحيوانات البحرية، وكثيرا ما كنت أرافق الأول لجمع الحيوانات من برك المد والجزر، والتي كنت أقوم بتشريحها قدر ما أستطيع. كما أنني قد صادقت بعض الصيادين في نيوهافين، وكنت أرافق بعضهم أحيانا في صيدهم للمحار؛ ومن ثم أحصل على الكثير من العينات. لكن نظرا لأنني لم أمارس التشريح بصورة منتظمة، ولضعف المجهر الذي كنت أمتلكه، فلم تكن تلك المحاولات بالمثمرة في أغلب الأحوال. ومع ذلك، توصلت إلى اكتشاف مثير صغير، وقرأت ورقة بحثية قصيرة عن الموضوع أمام جمعية بليني للتاريخ الطبيعي، وذلك في بداية عام 1826. وقد كان هذا الاكتشاف يتمثل في أن ما يسمى ببيوض الطحلبيات من نوع فلاسترا
Flustra
تمتلك القدرة على التحرك على نحو مستقل باستخدام أهداب، وهي في واقع الأمر يرقات. وفي ورقة بحثية أخرى قصيرة، أثبتت أن الأجسام الكروية الصغيرة التي كان يعتقد أنها من نوع فيوكاس لورياس
Fucus Loreus
وهي ما تزال في مرحلة صغيرة، هي في الواقع أكياس البيض للنوع الشبيه بالدود بونتوبديلا موريكاتا
.
كانت جمعية بليني للتاريخ الطبيعي تحظى بتشجيع البروفيسور جيمسون، وأعتقد أنه هو مؤسسها أيضا، وكانت تتألف من بعض الطلاب، وقد كانوا يلتقون في إحدى غرف الجامعة الموجودة تحت الأرض ليقرءوا أوراقهم البحثية عن العلوم الطبيعية ويتناقشون فيها. ولقد اعتدت على حضور هذه الاجتماعات بانتظام، وقد كانت تترك لدي تأثيرا جيدا؛ إذ كانت تزيد من حماسي، كما أنني كونت من خلالها علاقات جديدة ممن تتوافق اهتماماتي مع اهتماماتهم. وفي إحدى الأمسيات، نهض شاب مسكين وبعد أن ظل يتلعثم ويتأتئ لفترة طويلة من الوقت وقد احمرت وجنتاه من الخجل، تمكن أخيرا من أن يتفوه ببطء بالكلمات التالية: «سيدي الرئيس، لقد نسيت ما كنت سأقوله.» بدا الشاب المسكين مضطربا للغاية، وقد تملكت الدهشة من جميع الأعضاء، فلم يستطع أحد منهم أن يفكر في كلمة يقولها ليواري ما كان به من اضطراب. لم تكن تلك الأوراق التي كنا نقرؤها في تلك الجمعية الصغيرة مطبوعة؛ لذا فإنني لم أحظ برؤية ورقتي مطبوعة، لكنني أعتقد أن الدكتور جرانت قد لاحظ اكتشافي الصغير وكتب عنه في مقاله الممتاز عن الفلاسترا.
لقد كنت عضوا كذلك في الجمعية الطبية الملكية وكنت أحضر اجتماعاتها بانتظام، غير أنه لما كانت الموضوعات التي تعنى بها طبية فحسب، فلم أمنحها الكثير من الاهتمام. وكثيرا ما كانت الموضوعات التي يتحدثون عنها على درجة كبيرة من السوء، غير أنه كان بها أيضا بعض المتحدثين الجيدين، وكان من أفضلهم من أصبح حاليا السير جيه كاي-شاتلوورث. كان الدكتور جرانت يصحبني بين الحين والآخر إلى اجتماعات جمعية فيرنر للتاريخ الطبيعي؛ حيث تقرأ أوراق بحثية عديدة عن التاريخ الطبيعي وتجري مناقشتها، ثم تنشر بعد ذلك في المجلة التي تنشر محاضر هذه الاجتماعات. وقد سمعت فيها أودوبون وهو يلقي بعض الأحاديث الشائقة عن عادات طيور أمريكا الشمالية، وهو يهزأ بعض الشيء بووترتون دون وجه حق. وأذكر أيضا بهذه المناسبة أن أحد الزنوج كان يعيش في إدنبرة وقد سافر مع ووترتون وكان يكسب عيشه بتحنيط الطيور، وقد كان بارعا في ذلك، وكان يعطيني دروسا مقابل أجر أدفعه له، وقد اعتدت على الجلوس معه؛ إذ كان رجلا لطيفا وذكيا للغاية.
وقد اصطحبني السيد ليونارد هورنر أيضا ذات مرة إلى أحد اجتماعات الجمعية الملكية بإدنبرة، وهناك رأيت السير والتر سكوت في كرسي الرئيس، وقد اعتذر للحضور في الاجتماع إذ إنه لم يكن يشعر بأن المنصب مناسب له. كنت أنظر إليه وإلى المشهد كله بإعجاب وتبجيل، وأعتقد أنه بسبب هذه الزيارة في غضون شبابي، وكذلك بسبب حضوري اجتماعات الجمعية الطبية الملكية، شعرت بالتكريم حين انتخبت قبل بضع سنوات عضوا شرفيا في كلتا الجمعيتين، أكثر مما شعرت بالتكريم في أي موقف مشابه. ولئن كان أحدهم قد أخبرني في ذلك الوقت بأنني سوف أحظى بمثل هذا الشرف، لقلت بأن ذلك مما يثير السخرية وهو أمر غير محتمل على الإطلاق، كما لو أن أحدهم قد أخبرني بأنني سأنتخب ملكا لإنجلترا.
وفي عامي الثاني في إدنبرة، حضرت محاضرات الدكتور ... في الجيولوجيا وعلم الحيوان، غير أنها كانت مملة للغاية، وقد كان أثرها الوحيد علي هو أنني قد عزمت على ألا أقرأ ما حييت كتابا واحدا عن الجيولوجيا وكذلك ألا أدرس بأي نحو هذا العلم. وبالرغم من ذلك، فأنا متيقن من أنني كنت مستعدا لدراسة الموضوع من ناحية فلسفية؛ إذ كان السيد العجوز كوتون من شروبشاير، الذي كانت لديه معرفة كبيرة بالصخور، قد أراني قبل ذلك بسنتين أو ثلاث في مدينة شروزبيري أحد الجلاميد الصخرية الكبيرة المنجرفة بفعل الأنهار الجليدية، الذي كان يدعى باسم «حجر الجرس»، وقد أخبرني بأنه لا توجد صخرة أخرى من هذا النوع في مكان أقرب من كمبرلاند أو اسكتلندا، وقد راح يؤكد لي مليا أن العالم سينتهي قبل أن يتمكن أي إنسان من أن يفسر السبب في وجود هذا الجلمود في المكان الذي يقبع فيه الآن. وقد ترك ذلك انطباعا عميقا لدي، ورحت أتأمل وأتفكر في هذه الصخرة الرائعة؛ لذا فقد شعرت بسرور بالغ حين قرأت لأول مرة عن دور الكتل الجليدية في نقل الجلاميد الصخرية؛ إذ كنت فخورا بالتقدم الحادث في علم الجيولوجيا. ومن الأمور العجيبة كذلك أنني، رغم كوني ما زلت في السادسة والسبعين، فقد سمعت البروفيسور وهو يلقي محاضرة ميدانية عند جروف سولزبيري كريجز، وكان يتحدث عن جيب نافذ به حواف لوزانية، وقد تصلبت الطبقات على جانبيه، وانتشرت الصخور البركانية في كل مكان من حوله، وقال إنه صدع قد امتلأ بالرواسب من الأعلى، وقد أضاف متهكما أن هناك بعض الرجال يرون أنه قد حقن من الأسفل بمواد منصهرة. وحين أتذكر هذه المحاضرة، فإنني لا أتعجب من قراري بعدم دراسة الجيولوجيا.
ومن حضوري لمحاضرات ... تعرفت إلى المسئول عن المتحف، السيد ماكجليفراي، والذي قد نشر فيما بعد كتابا كبيرا وممتازا عن طيور اسكتلندا. وكنت أتحدث معه أحاديث شائقة للغاية عن التاريخ الطبيعي، وقد كان لطيفا معي للغاية، وأعطاني بعض الأصداف النادرة؛ إذ إنني كنت في ذلك الوقت أجمع الرخويات البحرية، لكنني لم أكن لذلك حماسا كبيرا.
أما عن عطلاتي الصيفية في هاتين السنتين، فقد كانت مخصصة بأكملها للاستمتاع والترفيه، لكنني دائما ما كنت أقرأ فيها بعض الكتب باهتمام كبير. وفي صيف عام 1826، ذهبت في جولة سير طويلة مع اثنين من الأصدقاء، وقد حملنا حقائبنا على ظهورنا عبر أرجاء شمال ويلز. كنا نسير ثلاثين ميلا في معظم الأيام، بما في ذلك يوم صعودنا جبل سنودن. وذهبت أيضا مع أختي في جولة بالخيول في شمال ويلز، ومعنا خادم يحمل ثيابنا في حقائب على سرج حصانه. أما عطلات الخريف، فقد كانت مخصصة للصيد، لاسيما في ضيعة السيد أوين في وودهاوس وضيعة عمي جوز [جوزيا ويدجوود، ابن مؤسس مصنع إتروريا ووركس] في مير. وقد كان حماسي للصيد عظيما، حتى إنني كنت أضع حذائي المخصص للصيد مفتوحا بجوار سريري حين كنت أذهب للنوم كي لا أضيع نصف دقيقة في ارتدائه صباحا. وفي إحدى المرات، وصلت إلى بقعة بعيدة من ضيعة مير، وكان ذلك في العشرين من أغسطس لصيد الطيهوج الأسود، وقبل أن أدرك أنني قد ابتعدت، ظللت أتحرك ببطء وصعوبة في النباتات الخضراء الكثيفة والصنوبر الاسكتلندي مع القائم على منطقة الصيد على مدى اليوم.
لقد كنت أحتفظ بسجل دقيق أدون فيه جميع الطيور التي صدتها على مدى الموسم. وفي أحد الأيام، بينما كنت أصطاد في وودهاوس مع الابن الأكبر العقيد أوين، وابن عمه الرائد هيل، الذي أصبح فيما بعد لورد بيريك، واللذين كنت أكن لهما حبا جما، اعتقدت أنهما يستغلانني مع الأسف؛ فكلما أطلقت النار وظننت بأنني قتلت طائرا، تظاهر أحدهما بأنه يعيد حشو بندقيته، وصاح: «يجب عليك ألا تعد هذا الطائر؛ إذ إنني أطلقت النار عليه في الوقت نفسه.» وإذ أدرك القائم على منطقة الصيد المزحة، فإنه كان يجاريهما. وبعد بضع ساعات، أخبراني بالمزحة، لكنها لم تكن مزحة بالنسبة لي على الإطلاق؛ إذ إنني كنت قد أصبت عددا كبيرا من الطيور، لكنني لم أعرف عددها على وجه التحديد، ولم أستطع إضافتها إلى قائمتي، وهو ما اعتدت فعله من خلال عمل عقدة في قطعة من الخيط أربطها بعروة أحد أزرار ملابسي. وهذا ما اكتشفه صديقاي الخبيثان .
كم كنت أستمتع بالصيد، لكنني أعتقد أنني كنت أخجل من هذا الحماس، ولم أكن واعيا بذلك تماما؛ لأنني طالما حاولت أن أقنع نفسي بأن الصيد تمرين فكري؛ إذ يتطلب الكثير من المهارة لتحديد المكان الذي تجد فيه الكثير من الحيوانات والطيور التي يمكن اصطيادها، وكذلك للاستخدام الجيد للكلاب في الصيد.
ومن الزيارات الخريفية التي لا يمكنني نسيانها، زيارتي إلى مير عام 1827؛ إذ التقيت فيها السير جيه ماكينتوش، وهو أفضل متحدث قد استمعت إليه على الإطلاق. وقد سمعت بعد ذلك أنه قال: «إنني أجد في هذا الشاب شيئا مثيرا للاهتمام.» مما جعلني أشعر بالفخر. ولا بد أن قد قال ذلك بصفة أساسية، لما قد لمسه مني من اهتمام بجميع ما يقوله؛ إذ إنني لم أكن أفقه شيئا على الإطلاق فيما كان يتحدث فيه من موضوعات عن التاريخ والسياسة وفلسفة الأخلاق. وأعتقد أنه لأمر جيد أن يسمع شاب مثل هذا الثناء من رجل عظيم مثله؛ إذ إنه سيساعده على أن يظل على المسار الصحيح، بالرغم من أنه من الممكن أو حتى من المؤكد أن يثير فيه الغرور.
كانت زياراتي إلى مير على مدى هاتين السنتين أو الثلاث التالية، ممتعة للغاية، بغض النظر عن رحلات الصيد الخريفية. لقد كنا نتمتع في الحياة هناك بكامل الحرية؛ فقد كان الريف هناك جميلا للسير أو الركوب، وفي المساء، كانت تدور بيننا محادثات ممتعة للغاية، ولم تكن محادثات شخصية بدرجة كبيرة، وذلك كما هي العادة في تجمعات الأسر الكبيرة، وكذلك كنا نستمتع ببعض الموسيقى. وفي الصيف، اعتادت الأسرة بكاملها على الجلوس على درجات الرواق المعمد القديم؛ حيث تقع حديقة الزهور من أمامه، ويظهر انعكاس الضفة الخشبية المنحدرة والموجودة في الجهة المقابلة من المنزل، على البحيرة والتي نجد فيها بين الحين والآخر، سمكة تطل من الماء أو طائرا مائيا يجدف في مائها. كانت هذه الأمسيات التي قضيتها في مير، هي أكثر ما قد ترك في ذهني صورة بهذه الحيوية. كما أنني كنت شديد التعلق بعمي جوز وكنت أبجله للغاية؛ فقد كان قليل الكلام ومتحفظا، وهو ما قد يجعل منه رجلا مريعا إلى حد ما، غير أنه كان يتحدث معي في بعض الأحيان. لقد كان مثالا للرجل المستقيم، الذي يمتاز بحسن التقدير. ولا أعتقد أن قوة على الأرض كانت تجعله يحيد ولو بوصة واحدة عما كان يعتقد أنه المسار الصحيح. وقد اعتدت على أن أربطه في ذهني بتلك القصيدة الغنائية الشهيرة لهوراس، التي نسيتها الآن، لكنني أتذكر منها بعض الكلمات، مثل: «التهديد الناتج عن غضب طاغية.» (1) كامبريدج في الفترة من 1828 إلى 1831
بعد أن قضيت سنتين دراسيتين في إدنبرة، أدرك والدي، أو لعله قد سمع من أختي، أنني لا أرغب في أن أكون طبيبا؛ لذا فقد اقترح علي أن أصبح من رجال الدين. لقد كان معارضا تماما لفكرة أن أصبح رجلا لاهيا عاطلا، وهو ما بدا آنذاك على أنه وجهتي المرجحة. طلبت منه بعض الوقت لأفكر في الأمر؛ إذ من القدر القليل الذي سمعته أو فكرت فيه بشأن الموضوع، كنت مترددا بشأن تصريحي بالإيمان بجميع العقائد الثابتة التي تتبناها كنيسة إنجلترا، رغم أنني قد أعجبتني فكرة أن أكون قسا بالريف. وبناء على ذلك، فقد قرأت كتاب بيرسون عن العقيدة بعناية وحرص، وكذلك بضعة كتب عن الألوهية؛ وإذ لم تساورني أي شكوك على الإطلاق حينها في الحقيقة المؤكدة والحرفية لكل كلمة من الإنجيل، فسرعان ما أقنعت نفسي بأنه لا بد أن عقيدتنا مقبولة تماما.
وبالنظر إلى شدة ما تعرضت له من هجوم من جانب المتدينين المتشددين؛ فإنه ليبدو أمرا مثيرا للسخرية أنني كنت أنتوي ذات يوم أن أصبح من رجال الدين. أنا لم أتخل قط عن نيتي تلك وكذلك لم يتخل أبي عن أمنيته هذه، غير أنهما قد ماتتا على نحو طبيعي حين غادرت كامبريدج وانضممت إلى رحلة «البيجل» بصفتي مختصا في التاريخ الطبيعي. ولئن كان من الممكن أن نثق بعلماء الفراسة، فإنني كنت سأصلح من أحد الجوانب لأن أكون رجل دين؛ فقبل بضع سنوات، أرسل إلي أمناء أحد الجمعيات الألمانية المعنية بعلم النفس، خطابا يحثونني فيه على أن أرسل إليهم صورة فوتوغرافية لي، وبعد ذلك بفترة قصيرة، تلقيت منهم خطابا بمجريات أحد الاجتماعات، وقد بدا منه أن شكل رأسي كان محل نقاش عام، وقد أعلن أحد المتحدثين أن رأسي به ذلك الانتفاخ الذي يدل على التبجيل، وهو كبير بما يكفي لعشرة من القساوسة.
ونظرا لاتخاذ القرار بأن أكون من رجال الدين، فقد كان لزاما علي أن ألتحق بإحدى الجامعات الإنجليزية وأن أنال شهادة منها، لكن نظرا لأنني لم أفتح كتابا كلاسيكيا واحدا منذ أن غادرت المدرسة، فقد هالني أنني اكتشفت نسياني لكل ما تعلمته، بالرغم من أن ذلك قد يبدو غير معقول، وذلك في السنتين الفاصلتين فحسب، حتى إنني لم أعد أتذكر سوى القليل من الحروف اليونانية؛ ولهذا، فإنني لم أتابع إجراءات الالتحاق بكامبريدج في الوقت المعتاد في أكتوبر، بل درست مع معلم خاص في شروزبيري وذهبت إلى كامبريدج بعد عطلة أعياد الميلاد، في بداية عام 1828. وسرعان ما استعدت معرفتي الملائمة لمستوى المدرسة وكنت أستطيع ترجمة السهل من الكتب اليونانية، مثل ملحمتي هوميروس والإنجيل باليونانية، بمهارة متوسطة.
وبالنسبة إلى السنوات الثلاث التي قضيتها في كامبريدج، فقد كان ذلك وقتا مهدرا، ولم تكن الدراسة الأكاديمية فيها تختلف شيئا عن الدراسة في إدنبرة أو المدرسة. اخترت دراسة الرياضيات، وذهبت حتى في صيف عام 1828 مع معلم خاص (وهو رجل ممل للغاية) إلى بارماوث، لكنني كنت أتقدم فيها ببطء شديد؛ فقد كانت دراستها منفرة بالنسبة لي، وقد كان السبب الأساسي في ذلك هو أنني لم أستطع أن أجد أي معنى في المراحل الأولى لدراسة علم الجبر. ولم يكن هذا التعجل سوى حماقة مني، وقد أسفت بعد ذلك أسفا شديدا على أنني لم أواصل الدراسة حتى أتمكن على الأقل من فهم المبادئ الأساسية في الرياضيات بدرجة كافية؛ إذ يبدو أن الرجال الذين تمكنوا من ذلك يتمتعون بحاسة إضافية، غير أنني أعتقد أنني لم أكن لأحرز سوى درجة ضعيفة للغاية فيها. وأما بالنسبة إلى الكلاسيكيات، فلم أفعل شيئا سوى أنني قد حضرت عددا قليلا من المحاضرات الإجبارية، وقد كان حضورا شكليا فحسب. وفي عامي الثاني، كان علي أن أذاكر على مدى شهر أو شهرين لكي أنجح في الاختبار التمهيدي لنيل درجة الليسانس، وهو ما تمكنت من فعله بسهولة. ومرة أخرى في عامي الأخير، رحت أدرس ببعض الحماس كي أنال شهادتي النهائية، فراجعت الأعمال الكلاسيكية مع القليل من الجبر وحساب إقليدس، وهذا الأخير كنت أستمتع به بدرجة كبيرة، كما كانت هي الحال في المدرسة. ولكي أجتاز اختبار الليسانس، كان علي أيضا أن أدرس كتابي «براهين المسيحية» و«الفلسفة الأخلاقية» لبيلي. وقد درستهما بتدقيق، وأنا مقتنع بأنني كنت سأتمكن من أن أعيد كتابة الكتاب الأول بأكمله دون خطأ واحد، لكنني لم أكن لأتمكن بالطبع من كتابته بتلك اللغة الواضحة التي كتبه بها بيلي. وقد استمتعت بمنطق هذا الكتاب وكذلك بمنطق كتابه «اللاهوت الطبيعي»، قدر ما كنت أستمتع بحساب إقليدس. وقد كانت دراسة هذه الأعمال دراسة متأنية دون محاولة حفظها عن ظهر قلب، هي الجزء الوحيد من الدراسة الأكاديمية الذي كنت أرى آنذاك وما زلت أرى كذلك، أنه الجزء الأقل فائدة في تثقيف عقلي. لم أكن أفكر آنذاك في فرضيات بيلي، وإذ كنت أصدقها دون شك، فقد كنت مفتونا بالمسار الجدلي الطويل الذي اتخذه، وكنت مقتنعا به. ولما أن أجبت جيدا عن الأسئلة المتعلقة بكتب بيلي في الاختبار، وكذلك فيما يتعلق بإقليدس، ولم أفشل فشلا ذريعا فيما يتعلق بالأعمال الكلاسيكية؛ فقد حصلت على مرتبة جيدة بين الطلاب الذين لم يحصلوا على أعلى الدرجات. ومن الغريب أنني لا أستطيع أن أتذكر ترتيبي بالتحديد، وتتأرجح ذاكرتي بين المرتبة الخامسة والعاشرة والثانية عشرة في القائمة. [لقد ورد اسمه في المرتبة العاشرة بقائمة يناير 1831.]
كانت المحاضرات العامة عن فروع متعددة من المعارف والعلوم تلقى في الجامعة، وكان حضورها طوعيا إلى حد ما، لكنني كنت قد ضقت ذرعا بالمحاضرات في إدنبرة حتى إنني لم أحضر محاضرات سيجويك التي كانت تتميز بالبلاغة والإمتاع، ولربما لو فعلت ذلك، لأصبحت عالم جيولوجيا في وقت سابق على ما فعلت. وبالرغم من ذلك، فقد كنت أحضر محاضرات هنزلو عن علم النبات، وأحببتها للغاية لوضوحها الشديد وما كان يحضره هنزلو من رسومات توضيحية رائعة، لكنني لم أدرس علم النبات. وقد اعتاد هنزلو أن يأخذ طلابه، ومنهم عدد من الأعضاء الأقدم في الجامعة، في رحلات ميدانية، سيرا على الأقدام أو في العربات أو في قارب عبر النهر، لأماكن بعيدة، ويلقي محاضراته عن النباتات والحيوانات النادرة التي يشاهدونها هناك. وقد كانت هذه الرحلات ممتعة.
بالرغم من أن هناك بعض الجوانب الأخرى المضيئة فيما قضيته من وقت في كامبريدج، وذلك كما سنرى الآن، فقد كان وقتا مهدرا للأسف، بل أسوأ من ذلك. فنظرا لحبي الشديد للقنص والصيد، ولركوب الخيل في الريف حين لم يكن ذلك متوفرا، انضممت إلى مجموعة رياضية والتي كان من أعضائها بعض الفتيان المتهتكين محدودي التفكير. وقد اعتدنا على أن نلتقي مساء للعشاء معا في معظم الأحيان، وكثيرا ما كان يحضر هذه الأمسيات بعض من الرجال الأعلى منزلة، وأحيانا كنا نفرط في الشراب وننطلق في غناء مرح ثم نلعب بعض ألعاب الورق بعد ذلك. إنني أدرك أنه يجدر بي أن أخجل من الأيام والأمسيات التي قضيتها على هذه الحال، لكني لما كنت أستمتع بصحبة بعض أصدقائي، وقد كنا نقضي وقتا مبهجا للغاية، فلا يسعني إلا أن أشعر بالسرور الشديد حين أستعيد ذكرياتي في هذه الأوقات.
ويسعدني بالرغم من ذلك أن أقول إنني قد حظيت بالعديد من الأصدقاء الآخرين الذين اختلفت طباعهم بدرجة كبيرة. فلقد جمعتني صداقة حميمة بويتلي، [وهو المبجل سي ويتلي، كاهن درم الفخري، وأستاذ الفلسفة الطبيعية المساعد السابق في جامعة درم] والذي حصل فيما بعد على أعلى الدرجات في الرياضيات في كامبريدج، وقد اعتدنا أن نذهب معا باستمرار للسير في جولات طويلة. وقد نقل إلي الاهتمام بالصور والصور المنقوشة الجيدة، التي ابتعت بعضا منها. ولقد كنت أزور متحف فيتسويليام باستمرار، وأعتقد أن حسي الفني كان جيدا إلى حد ما؛ فلطالما أعجبتني أفضل الصور، وكنت أناقشها مع المسئول عن المتحف. كما أنني قد قرأت كتاب السير جوشوا رينولد باهتمام كبير. وبالرغم من أن هذا الاهتمام لم يكن مغروسا لدي بالفطرة، فإنه قد استمر معي لسنوات عدة، وقد استمتعت كثيرا بالعديد من الصور المعروضة في المتحف الوطني بلندن، حتى إن صورة سباستيان ديل بيمبو كانت تثير في شعورا بالجلال والسمو.
وقد انضممت أيضا إلى مجموعة موسيقية، وأعتقد أن ذلك كان من خلال صديقي الودود هربرت، [وهو الراحل جون موريس هربرت، قاضي كارديف ودائرة مونماوث] الذي حصل على درجة عالية في الرياضيات. ومن خلال معرفتي بهؤلاء الرجال واستماعي إليهم وهم يعزفون الموسيقى، نما اهتمامي الكبير بالموسيقى، وغالبا ما كنت أختار موعد ذهابي للتجول بما يسمح لي بسماع الترانيم في كنيسة كلية كينجز كوليدج. وقد كان ذلك يمنحني سرورا عظيما، حتى إن القشعريرة كانت تنتابني أحيانا في جسمي. وأنا أثق أن اهتمامي هذا بالموسيقى وحسي الفني الذي تشكل فيها، لهو أمر بعيد كل البعد عن التصنع أو حتى التقليد؛ فقد اعتدت بوجه عام أن أذهب وحدي إلى كينجز كوليدج، وأحيانا كنت أستعين بالصبيان من جوقة المنشدين لكي يغنوا في حجرتي. وبالرغم من ذلك، فأنا لا أمتلك أذنا موسيقية تستطيع تمييز النشاز في اللحن ولا أن أحافظ على الإيقاع وأشدو بلحن على النحو الصحيح، وإنه لأمر ملغز حقا أنني كنت أتمكن من الاستمتاع بالموسيقى.
وسرعان ما أدرك أصدقائي الموسيقيون ذلك الأمر، وأخذوا أحيانا يتندرون علي بأن يعقدوا لي اختبارا يتمثل في حساب عدد الأنغام التي يمكنني تمييزها عند عزفها بوتيرة أسرع أو أبطأ. وقد كان لحن «ليحفظ الله الملك» عسيرا ومحيرا في تمييز أنغامه حين كان يعزف بمثل هذه الطريقة. وقد كان هناك رجل آخر أيضا، أذنه ليست موسيقية كأذني، ومن الغريب أنه كان يعزف قليلا على الناي، غير أنني قد تغلبت عليه ذات مرة في واحد من هذه الاختبارات الموسيقية.
غير أنني لم أمارس في كامبريدج أيا من الأنشطة بمثل هذا الحماس وذلك الشعور بالمتعة الذي كنت أمارس به نشاط جمع الخنافس. وقد كان كل هذا الشغف والحماس، لجمعها فحسب؛ إذ إنني لم أكن أشرحها، ونادرا ما كنت أقارن سماتها الخارجية بأوصافها المنشورة، لكنني كنت أحدد أسماءها على أي حال. وسوف أوضح دليلا على حماسي هذا؛ بينما كنت أنزع لحاء شجرة قديم في أحد الأيام، رأيت خنفستين نادرتين، وأمسكت كل واحدة منهما في يد، ثم رأيت ثالثة من نوع مختلف ولم أتحمل أن أضيعها؛ لذا فقد وضعت الخنفساء التي كنت أحملها في يدي اليمنى بفمي. يا إلهي! لقد أفرزت في فمي سائلا لاذعا جدا، وقد ألهب لساني، فاضطررت إلى أن أبصق الخنفساء من فمي، فضاعت مني، هي والخنفساء الثالثة.
لقد كنت بارعا للغاية في الجمع وابتكرت له طريقتين؛ فقد كنت أستعين بعامل لكي يكشط الطحالب عن الأشجار القديمة في فصل الشتاء، ويضعها في كيس كبير، وكذلك كان يجمع القمامة من قاع القوارب التي كانت تنقل البوص من المستنقعات؛ ومن ثم، فقد كنت أحصل على أنواع نادرة للغاية. إن مقدار سروري حين رأيت في كتاب «صور للحشرات البريطانية» لستيفنز تلك الكلمات السحرية «التقطها المحترم تشارلز داروين» كان يفوق سرور أي شاعر برؤية أول قصيدة تنشر له. لقد تعرفت على علم الحشرات من خلال ابن ابن عمة أبي ويليام داروين فوكس، وقد كان رجلا ماهرا ولطيفا، وكان لا يزال آنذاك في كلية كرايست، وقد توطدت أواصر الصداقة فيما بيننا. وبعد ذلك، أصبحت على قدر جيد من المعرفة بالأمر، وكنت أذهب لجمع الحشرات مع ألبرت واي من كلية ترينيتي، وهو الذي أصبح فيما بعد عالم آثار مشهورا، وكذلك مع إتش تومسون من الكلية نفسها، والذي أصبح فيما بعد رائدا في مجال الزراعة، ورئيس شركة سكة حديدية كبيرة وكذلك أحد أعضاء البرلمان. وهكذا، يبدو أن الاهتمام بجمع الخنافس يعطي دلالة على النجاح في الحياة مستقبلا!
إنني أتعجب من ذلك الانطباع الذي لا يمحى، والذي خلفته في عقلي العديد من الخنافس التي أمسكت بها في كامبريدج. يمكنني أن أتذكر بكل دقة، شكل بعض الأعمدة بعينها، وكذلك بعض الأشجار القديمة والضفاف التي وجدت عليها بعض الخنافس الجيدة. كانت خنفساء الصليب الأرضية الجميلة كنزا في تلك الأيام، وقد رأيت هنا في داون خنفساء تجري عبر أحد الممرات، لكنني حين التقطتها لاحظت على الفور أنها تختلف اختلافا طفيفا عن خنفساء الصليب الأرضية، واتضح بعد ذلك أنها الخنفساء الأرضية بي كوادريبيمكتاتوس
، وهي صنف مختلف عنها أو نوع شديد الصلة بها، لا يختلف عنها إلا قليلا في الشكل. لم أر في هذه الأيام الخوالي أيا من الخنافس الأرضية ليسينياس
Licinus
وهي حية، وهي التي لا تميزها العين غير المدربة عن العديد من الخنافس الأرضية السوداء، لكن أبنائي قد وجدوا هنا واحدة منها، وقد أدركت على الفور أنها جديدة علي، لكنني لم أبصر أي خنفساء بريطانية على مدى العشرين عاما الماضية.
إنني لم أذكر حتى الآن الحادثة التي أثرت في حياتي العملية كلها أكثر من أي شيء آخر، ألا وهي: صداقتي مع البروفيسور هنزلو؛ فقبل أن ألتحق بكامبريدج، سمعت عنه من أخي باعتباره رجلا يلم بجميع فروع العلوم، وبناء على هذا، فقد كنت مستعدا لتبجيله. لقد كان يستضيف في منزله لقاء مفتوحا كل أسبوع في المساء، يحضره جميع الطلبة وبعض أعضاء الجامعة الأكبر سنا من المهتمين بالعلوم. وسرعان ما تلقيت دعوة للحضور، عبر فوكس، وانتظمت في الذهاب إلى هناك. وفي وقت قصير، توطدت علاقتي بهنزلو، وعلى مدى النصف الثاني من وجودي في كامبريدج، كنت أذهب معه في جولات سير طويلة في معظم الأيام؛ ولهذا، فقد أطلق علي بعض الأساتذة لقب «الرجل الذي يسير مع هنزلو»، وكثيرا ما كان يدعوني في المساء لتناول العشاء مع أسرته. كان يتمتع بقدر كبير من المعرفة في علم النبات والحشرات والكيمياء وعلم المعادن والجيولوجيا. وكان يجد متعته الكبرى في استخلاص النتائج من الملاحظات المتواصلة الدقيقة، وكان يتمتع بسداد الرأي، وكذلك كان تفكيره سليما ومتوازنا بوجه عام، غير أنني لا أعتقد أن أحدا سيقول إنه كان يمتلك الكثير من النبوغ الأصيل. كان متدينا للغاية وشديد التمسك بعقيدته حتى إنه قد أخبرني ذات يوم أنه كان سيشعر بشديد الأسى إن تغيرت كلمة واحدة في القواعد التسع والثلاثين للإيمان وفقا لكنيسة إنجلترا. أما صفاته الأخلاقية، فقد كانت جديرة بالإعجاب من جميع النواحي؛ لم يكن في تكوينه مثقال ذرة من كبر، أو غير ذلك من المشاعر الحقيرة؛ فلم أر أحدا بهذا القدر من التواضع وهو الذي كان لا يفكر في نفسه أو مصلحته إلا قليلا. كما كان هادئ المزاج والطباع، ويتمتع بكياسة وذوق لا حدود لهما. بالرغم من ذلك، فقد رأيت أنه يمكن أن يثور غضبا من أي تصرف سيئ، إلى أقصى درجات السخط والتصرف الحازم.
لقد رأيت ذات يوم بينما كنت أسير معه في شوارع كامبريدج منظرا مريعا وكأننا نشاهد حدثا من الثورة الفرنسية؛ فقد شهدنا اعتقال اثنين من نباشي القبور، وبينما هما يؤخذان إلى السجن، حررهما من رجل الشرطة حشد من بعض الرجال الأشداء الذين راحوا يسحبونهما من سيقانهما عبر الطريق الموحل والحجري. كان الوحل يغطيهما تماما، وقد نزفا من وجهيهما، سواء من تلقي الركلات أو من الحجارة. كانا يبدوان كالجثث، لكن الحشد كان كثيفا للغاية؛ فلم أبصر هذين الكائنين البائسين سوى للحظات خاطفة. ولم أر في حياتي غضبا أشد من ذلك الذي رأيته مرتسما على وجه هنزلو حين رأينا ذلك المشهد البشع. لقد حاول أن يخترق الحشد مرارا، لكن ذلك كان محالا؛ فاندفع مسرعا إلى العمدة، وأخبرني بألا أتبعه، وطلب مني أن أذهب لإحضار المزيد من رجال الشرطة. وقد نسيت القضية فيما عدا أن الرجلين قد دخلا السجن دون أن يقتلا.
لقد كان إحسان هنزلو واسعا ولا حدود له، كما قد أثبتت ذلك خططه الممتازة لمساعدة الفقراء من سكان أبرشيته، وذلك حين أصبح كاهنا لأبرشية هيتشام بعد ذلك بسنوات. لا بد أن لصداقتي مع رجل مثله فائدة كبيرة للغاية. ولا أستطيع هنا أن أقاوم ذكر هذه الحادثة البسيطة، التي تبرز تفهمه وعطفه؛ فبينما كنت أفحص بعض حبوب اللقاح على سطح رطب، لاحظت أن الأنابيب بارزة؛ فاندفعت ذاهبا إليه أخبره باكتشافي المدهش. والآن لا يسعني إلا أن أتخيل أن أي عالم نبات آخر لم يكن ليفعل أي شيء آخر سوى السخرية مني ومن مجيئي في مثل هذه العجلة لأخبره بذلك، غير أنه اتفق معي في أنها ظاهرة غريبة، وشرح لي معناها، ثم أوضح لي أيضا أنها ظاهرة معروفة للغاية؛ ومن ثم، فلم أكن خجلا من نفسي على الإطلاق، وإنما كنت مسرورا لأنني اكتشفت هذه الحقيقة بنفسي، غير أنني قد عزمت على ألا أسرع في التصريح باكتشافاتي بعد ذلك.
كان الدكتور هيوويل أحد الرجال الكبار السن المميزين الذين كانوا يأتون لزيارة هنزلو، وفي كثير من الأحيان، كنت أصحبه سيرا على الأقدام إلى منزله ليلا. وقد كان يلي السير جيه ماكينتوش في كونه أفضل من استمعت إليهم يتحدثون في الموضوعات المعقدة. وأما ليونارد جينينز [الذي كان سوم جينينز الشهير أحد أبناء عمومة والده] الذي نشر فيما بعد بعض المقالات الجيدة في التاريخ الطبيعي؛
1
فقد كان أخا زوجة هنزلو وكثيرا ما كان يمكث معه. لقد زرته في بيته الكنسي، الذي يقع على حدود منطقة فينز [سوافهام بولبيك]، وصحبته في العديد من الجولات التي استمتعت فيها بالحديث معه عن التاريخ الطبيعي. وتعرفت أيضا على العديد من الرجال الآخرين الذين كانوا أكبر مني سنا، ولم يكونوا من المهتمين بالعلوم، لكنهم كانوا أصدقاء لهنزلو. كان أحدهم اسكتلنديا، وهو أخو السير ألكسندر رامزي، وكان معلما في كلية يسوع: لقد كان رجلا لطيفا، لكنه لم يعش طويلا. ومن هؤلاء الرجال أيضا السيد دوز، الذي أصبح فيما بعد رئيس كاتدرائية هيرفيرد، واشتهر بنجاحه في تعليم الفقراء. وقد اعتاد هذان الرجلان وغيرهما ممن هم في المكانة نفسها أن يذهبوا مع هنزلو في رحلات بعيدة إلى الريف كان يسمح لي بالذهاب فيها معهم، وقد كانوا يعاملونني بغاية اللطف.
حين أعيد النظر في الماضي، أستدل منه على أنني كنت أتفوق على بقية الشباب في شيء ما، وإلا لما سمح لي أولئك الرجال بالاختلاط بهم، وهم أكبر مني في السن والمكانة الأكاديمية. ولم أكن مدركا لمثل هذا التفوق بالطبع، وأذكر أن صديقي تيرنر، وهو أحد الأصدقاء الذين كنت أمارس معهم الرياضة، قد رآني منشغلا بالعمل مع خنافسي؛ فقال بأنني سأصبح عضوا في الجمعية الملكية ذات يوم، وقد بدت لي تلك الفكرة حينها مستحيلة.
خلال عامي الأخير في كامبريدج، قرأت كتاب «سرد شخصي» لصاحبه هومبولت، بعناية واهتمام شديدين، وقد أثار في هذا العمل، وكذلك كتاب السير جيه هيرشيل «مقدمة إلى دراسة الفلسفة الطبيعية»، حماسا متوقدا لأن أضيف إلى ذلك الصرح العظيم للعلوم الطبيعية، حتى إن كان ما سأضيفه جزءا يسيرا للغاية. لم يؤثر في كتاب آخر، ولا حتى عشرات من الكتب، مثلما أثر في هذان الكتابان. لقد نسخت من كتاب هومبولت فقرات طويلة عن تينيريف، وقرأتها بصوت عال في إحدى تلك الرحلات السابق ذكرها، على (حسب اعتقادي) هنزلو ورامزي ودوز؛ ذلك أنني كنت قد تحدثت في مرة سابقة عن عظمة جزيرة تينيريف، وقد أعلن بعضهم عن رغبتهم في الذهاب إليها، لكنني أعتقد أنها لم تكن رغبة صادقة تماما. أما أنا، فقد كانت رغبتي صادقة تماما، وتحدثت مع تاجر في لندن كي أسأله عن السفن، لكن تلك الخطة قد ألغيت بالطبع، بسبب رحلة «البيجل».
كنت أقضي عطلة الصيف في جمع الخنافس وقراءة بعض الكتب والذهاب في جولات قصيرة. أما في الخريف، فقد كان وقتي كله مخصصا للصيد، لا سيما في وودهاوس ومير، وأحيانا مع إيتون الصغير في إيتون. وبصفة عامة، فإن السنوات الثلاث التي قضيتها في كامبريدج، كانت هي الأكثر مرحا في حياتي السعيدة؛ إذ كنت آنذاك بصحة ممتازة ومنشرح الصدر في معظم الأوقات.
حيث إنني قد قدمت إلى كامبريدج في البداية في أعياد الميلاد؛ فقد كان علي أن أدرس لفصلين دراسيين بعد النجاح في الاختبار النهائي، في بداية عام 1831، وقد أقنعني هنزلو آنذاك بأن أبدأ في دراسة الجيولوجيا؛ ولذا حين عدت إلى شروبشاير، رحت أفحص القطاعات، وقمت بتلوين خريطة خاصة بالأجزاء المحيطة بشروزبيري. وكان البروفيسور سيجويك ينوي زيارة شمال ويلز في بداية أغسطس ليستكمل أبحاثه الجيولوجية الشهيرة على الصخور القديمة، وقد طلب منه هنزلو أن يصحبني معه؛ وبناء على ذلك، فقد أتى وبات الليلة في منزل أبي.
دخلت معه في محادثة قصيرة في ذلك المساء، والتي قد تركت انطباعا قويا في ذهني. كان أحد العمال قد أخبرني أنه بينما كان يفحص حفرة قديمة من الحصى بالقرب من شروزبيري، قد وجد صدفة حلزونية استوائية كبيرة وبالية، كالتي نراها في القطع التي تزين مدافئ البيوت الريفية، ولأنه رفض بيع الصدفة، فقد كنت مقتنعا بأنه وجدها في الحفرة بالفعل. أخبرت سيجويك بالواقعة، وفورا قال (وكان محقا بلا شك) إنه لا بد أن أحدا قد ألقاها في الحفرة، لكنه أضاف بعد ذلك أنها إن كانت جزءا من الحفرة بالفعل، فسوف تكون كارثة عظيمة للجيولوجيا؛ إذ إن ذلك سيطيح بكل ما نعرفه عن الرواسب السطحية في مقاطعات منطقة ميدلاند. والواقع أن هذه الطبقات الأرضية من الحصى تعود إلى العصر الجليدي، وقد وجدت فيها بعد ذلك بسنوات بعض الأصداف القطبية المكسورة. لكنني كنت في غاية الدهشة حينذاك من أن سيجويك لم يكن مسرورا بهذا الاكتشاف الرائع لوجود صدفة استوائية بالقرب من السطح في وسط إنجلترا. وبالرغم من قراءتي للكثير من الكتب العلمية المتنوعة، فإن تلك الحادثة هي أول ما جعلني أدرك تماما أن العلم يقوم على تجميع الحقائق؛ بحيث يمكن استخلاص النتائج والقوانين العامة منها.
وفي الصباح التالي، ذهبنا إلى لانجولين وكوني وبانجور وكابل كيريج. وقد كان لتلك الجولة فائدة كبيرة لي؛ إذ جعلتني أتعرف قليلا على كيفية فهم الطبيعة الجيولوجية لبلد ما. فكثيرا ما كان سيجويك يرسلني في اتجاه مواز للاتجاه الذي يسلكه، ويطلب مني أن أحضر معي عينات من الصخور وأن أحدد ترسب الطبقات على الخريطة. وأنا أشك بأنه قد فعل ذلك لأي شيء سوى مصلحتي؛ فما كان لعلمي القليل أن يساعده بأي شيء. وفي هذه الجولة، شهدت مثالا صارخا على مدى سهولة أن يغفل المرء ظواهر معينة رغم وضوحها الشديد، حتى يلاحظها أحدهم. فقد مكثنا ساعات عدة في كوم إدوال، نفحص الصخور بعناية شديدة؛ إذ كان سيجويك مترقبا لأن يجد بعض الحفريات بها، لكن أحدا منا لم يلاحظ قط أي أثر لتلك الظواهر الجليدية الرائعة التي تحيط بنا؛ فلم نلاحظ الصخور المحززة ولا الجلاميد الجاثمة ولا الركام الجليدي الجانبي والطرفي. لكن كانت تلك الظواهر بارزة للغاية، لدرجة أنني ذكرت في ورقة بحثية قد نشرت بعد ذلك بسنوات في مجلة «فيلوسوفيكال ماجازين»
2
أن منزلا قد أكلته النيران لم يكن ليبوح بقصته بوضوح أكبر من هذا الوادي. ولو ظل هذا الوادي ممتلئا بكتلة جليدية، لكانت هذه الظواهر أقل وضوحا مما هي عليه الآن.
وفي كابل كيريج، تركت سيجويك بمفرده وسرت في اتجاه مستقيم مستعينا بالبوصلة والخريطة عبر الجبال وصولا إلى بارماوث، ولم أسلك أي طريق ما لم يكن متوافقا مع مساري؛ فأتيت على بعض الأماكن البرية الغريبة، وقد استمتعت كثيرا بهذه الطريقة في السفر. زرت بارماوث لأرى بعض الأصدقاء من كامبريدج كانوا يقومون بالدراسة هناك، ثم عدت إلى شروزبيري ومير من أجل الصيد؛ ففي هذا الوقت، كنت أحسبني قد جننت إن تخليت عن صيد الحجل في سبيل الجيولوجيا أو غيرها من العلوم. (2) رحلة «البيجل» من 27 ديسمبر 1831 إلى 2 أكتوبر 1836
حين عدت إلى المنزل بعد جولتي الجيولوجية القصيرة في شمال ويلز، وجدت خطابا من هنزلو يخبرني فيه بأن القبطان فيتزروي مستعد لأن يخصص جزءا من مقصورته لأي شاب يتطوع بالذهاب معه دون أجر باعتباره اختصاصيا في التاريخ الطبيعي في رحلة «البيجل». وأعتقد أنني قد أوردت في دفتر يومياتي شرحا لجميع الظروف التي حدثت حينذاك؛ لذا لن أذكر هنا سوى أنني تحمست على الفور لقبول العرض، غير أن أبي عارض بشدة، لكنه لحسن الحظ قد قال لي: «إذا وجدت رجلا واحدا حكيما ينصحك بالذهاب، فسوف أعطيك موافقتي.» لذا، فقد كتبت خطابا في ذلك المساء ورفضت العرض. وفي الصباح التالي، ذهبت إلى مير لكي أستعد لليوم الأول من سبتمبر، وبينما كنت أصيد في الخارج ، بعث عمي [جوزايا ويدجوود] في طلبي، وعرض علي أن يقلني بالعربة إلى شروزبيري ويتحدث مع والدي؛ إذ كان يرى أنه من الحكمة أن أقبل العرض. ولطالما كان أبي يرى أنه من أرجح الرجال عقلا، ووافق على الفور بمنتهى اللطف. لقد كنت مسرفا بعض الشيء في كامبريدج؛ لذا، فقد قلت لوالدي كي أواسيه: «يجب أن أكون بارعا جدا لأنفق أكثر من مخصصاتي المالية وأنا على متن «البيجل».» فأجابني بابتسامة: «لكنهم أخبروني بأنك بارع للغاية.»
في اليوم التالي، ذهبت إلى كامبريدج لكي أرى هنزلو، ومن هناك، ذهبت إلى لندن لكي أرى فيتزروي، وسرعان ما رتبنا الأمر. وحين توطدت علاقتي بفيتزروي فيما بعد، سمعت أنه كاد يرفضني بسبب شكل أنفي! لقد كان من أشد المعجبين بلافاتار والمؤيدين له، وكان مقتنعا بأنه يستطيع أن يحكم على شخصية المرء من خلال شكل ملامحه، وقد كان يشك في أن شخصا بمثل أنفي يمكن أن يكون لديه القدر الكافي من الطاقة والعزم للقيام بالرحلة، لكنني أعتقد أنه اقتنع بعد ذلك بأن أنفي لم تعبر جيدا عني.
كان فيتزروي يتمتع بشخصية فريدة تمتاز بالعديد من الصفات النبيلة؛ فقد كان مخلصا لواجبه، وكريما إلى أقصى درجة، وجريئا، وحاسما، وكذلك كان يتمتع بنشاط لا حدود له. وكان صديقا مخلصا لجميع من هم تحت قيادته؛ فقد كان يخوض كل عسير لمساعدة من يستحقون المساعدة. وكان رجلا وسيما شديد الشبه بالنبلاء، ولطيفا دمث الخلق، وقد كان يشبه في ذلك خاله الشهير اللورد كاسلراي، وذلك كما أخبرني الكاهن في ريو. وعلى أي حال، لا بد أنه قد ورث الكثير من ملامحه من الملك تشارلز الثاني؛ فقد أعطاني الدكتور ووليك مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي كان قد جمعها، وقد أدهشني ما رأيته من شبه شديد بين فيتزروي وبين إحدى الشخصيات فيها، وحين نظرت إلى اسمه، وجدت أنه إتش إي سوبيسكي ستيوارت، وهو كونت ألباني وسليل الملك نفسه.
كان فيتزروي يتمتع بمزاج سيئ للغاية. وكانت أسوأ حالاته عادة في الصباح الباكر، وبعينيه الحادتين كعيني العقاب ، كان يمكنه أن يكتشف أي خطأ في السفينة؛ فيلوم من فعله لوما قاسيا. لقد كان لطيفا للغاية معي، لكنه كان رجلا يصعب العيش معه على مستوى شخصي، وقد كان ذلك حتميا إذ كنا نقضي الوقت معا في مقصورته التي كنا نتشاركها. دبت بيننا خلافات عدة؛ ففي بداية الرحلة في باهيا في البرازيل على سبيل المثال، أيد العبودية واستحسنها، بينما كنت أبغضها، وأخبرني أنه زار للتو أحد ملاك العبيد الكبار، وقد نادى هذا الرجل على عدد من عبيده وسألهم عما إذا كانوا سعداء أم لا، وما إذا كانوا يريدون الحرية، فأجابوا بأنهم لا يريدونها. وقد سألته بعد ذلك، ببعض السخرية ربما، عما إذا كان يعتقد أن إجابة العبيد في حضور سيدهم تعني أي شيء على الإطلاق، فاستشاط غضبا وقال إنني أشكك في كلامه وإننا لا يمكننا العيش معا بعد الآن. وقد ظننت أنني سأرغم على مغادرة السفينة، لكن بمجرد أن انتشر الخبر، وهو ما حدث بسرعة؛ إذ طلب القبطان من الملازم الأول أن يذهب لتهدئة غضبه، وذلك من خلال الإساءة إلي، شعرت براحة كبيرة؛ إذ تلقيت دعوة من جميع صغار الضباط بمشاركة غرفتهم. غير أنه بعد ساعات قليلة، قد أبدى فيتزروي مروءته المعتادة وأرسل إلي أحد الضباط باعتذار منه وطلبه بأن أستمر في العيش معه.
لقد كان شخصا من أنبل من عرفتهم على الإطلاق، وذلك في العديد من الجوانب.
لقد كانت رحلة «البيجل» هي أهم حدث في حياتي على الإطلاق، وقد حددت شكل مساري المهني بأكمله، لكنها توقفت على أمر صغير للغاية، وهو أن عمي قد عرض علي أن يقلني في عربته لمسافة ثلاثين ميلا حتى شروزبيري، وهو أمر ما كان ليفعله الكثيرون من الأعمام، وكذلك على أمر تافه للغاية مثل شكل أنفي. لقد كنت أشعر دوما بأنني أدين لهذه الرحلة أنها وفرت لي الفرصة في أن أحظى بأول تدريب وتثقيف حقيقي لذهني؛ فدفعتني إلى الاهتمام الشديد بالعديد من فروع التاريخ الطبيعي؛ ومن ثم، فقد تحسنت مهاراتي في الملاحظة، بالرغم من أنها كانت جيدة على الدوام.
لقد كانت دراسة الطبيعة الجيولوجية لجميع الأماكن التي نزورها من أهم الأمور؛ إذ كان الاستدلال المنطقي يؤدي في ذلك دورا كبيرا؛ فعند فحص منطقة جديدة للمرة الأولى، فإننا لا نجد شيئا أدعى للقنوط من فوضى الصخور، غير أن تسجيل ترتيب الطبقات، وطبيعة الصخور، والحفريات في أماكن متعددة، مع عمل بعض الاستنتاجات والتنبؤ بما سنجده في أماكن أخرى، سرعان ما يجعل معالم المنطقة وخصائصها تتضح شيئا فشيئا، ويصبح تركيب المنطقة بأكملها مفهوما إلى حد ما. كنت قد أحضرت معي الجزء الأول من كتاب لايل «مبادئ الجيولوجيا»، وهو الذي درسته بعناية كبيرة، وقد أفادني فائدة عظيمة في العديد من النواحي. وكان أول مكان أفحصه على الإطلاق، وهو سانت جاجو في جزر الرأس الأخضر (كيب دي فيردي)، قد كشف لي بوضوح عن التميز الرائع لأسلوب لايل في تناول علم الجيولوجيا، وذلك مقارنة بأسلوب أي مؤلف آخر كنت أصطحب أعماله في ذلك الوقت أو قرأت له بعد ذلك.
ومن المهام الأخرى التي كنت أقوم بها جمع الحيوانات من الفئات جميعها، مع وصفها باختصار وتشريح العديد من البحري منها. غير أنني لم أكن أستطيع الرسم، ولم أمتلك قدرا كافيا من المعرفة بعلم التشريح؛ ومن ثم فقد اتضح أن الكثير من الملاحظات التي دونتها في أثناء الرحلة عديم الفائدة بدرجة كبيرة. وبهذا، فقد أضعت الكثير من الوقت، فيما عدا الوقت الذي قضيته في اكتساب بعض المعرفة عن القشريات؛ إذ أفادني ذلك في سنوات لاحقة حين أجريت أفرودة عن هدابيات الأرجل.
كنت أقتطع جزءا من فترة النهار أكتب فيه يومياتي، وقد كنت أبذل قصارى جهدي كي أصف كل ما رأيته بدقة ووضوح شديد، وقد كان ذلك تدريبا جيدا. وكذلك كانت مفكرتي في جزء منها بمنزلة خطابات إلى عائلتي، وقد كان بعضها يرسل إلى إنجلترا متى سنحت الفرصة بذلك.
بالرغم من ذلك، فكل ما ذكرته سابقا من هذه الدراسات المتنوعة المتخصصة لا يعدل في أهميته عادة المثابرة والانتباه الشديد لأي شيء أكون منخرطا فيه، والتي اكتسبتها حينذاك. وقد كان لكل ما أفكر فيه أو أقرؤه صلة مباشرة بما أراه أو ما هو متوقع أن أراه، وقد استمرت معي هذه العادة الذهنية على مدى السنوات الخمس التي قضيتها في الرحلة. وأنا متيقن من أن هذا التدريب هو ما مكنني من القيام بأي شيء قد أنجزته في مجال العلوم.
وإذ أعيد النظر في الماضي، أدرك الآن أن حبي للعلوم قد طغى بالتدريج على جميع اهتماماتي الأخرى. فعلى مدى العامين الأولين، استمر معي شغفي القديم بالصيد بالدرجة نفسها تقريبا، وقد اصطدت بنفسي جميع الطيور والحيوانات التي اقتنيتها في مجموعتي، لكنني قد بدأت أتخلى عن بندقيتي شيئا فشيئا، ثم أعطيتها لخادمي؛ إذ كان الصيد يتداخل مع عملي، لا سيما مع فهم التركيب الجيولوجي لبلد ما. وقد اكتشفت، وإن كان ذلك بنحو غير واع وغير محسوس، أن المتعة التي أجنيها من الملاحظة والاستدلال هي أكبر كثيرا من المتعة التي كنت أجنيها من المهارة والرياضة. وأما ما إذا كان ذهني قد أصبح أكثر تطورا من خلال ما قمت به في الرحلة من أبحاث ومجهودات، فهو أمر مرجح، ويدل على ذلك تعليق أبي، والذي كان أكثر من عرفتهم دقة في الملاحظة، وكان أيضا ذا نزعة شكوكية وغير مؤمن على الإطلاق بعلم فراسة الدماغ: إذ فور أن رآني بعد عودتي من الرحلة، استدار إلى أخواتي وقال لهن باندهاش: «عجبا! لقد تغير شكل رأسه بعض الشيء.»
لنعد الآن ثانية إلى الرحلة. في الحادي عشر من سبتمبر (عام 1831)، ذهبت مع فيتزروي في زيارة سريعة إلى سفينة «البيجل» في بليموث، ومن هناك ذهبت إلى شروزبيري لكي أودع أبي وأخواتي لأني توقعت أني لن أراهم لفترة طويلة. وفي الرابع والعشرين من أكتوبر، أقمت في بليموث وظللت هناك حتى السابع والعشرين من ديسمبر، وذلك حين غادرت «البيجل» أخيرا شواطئ إنجلترا لكي تذهب في رحلتها للإبحار حول العالم. كنا قد حاولنا الإبحار مرتين قبل ذلك، غير أن العواصف العاتية كانت تعيدنا مرة أخرى. وقد كان هذان الشهران اللذان قضيتهما في بليموث هما الأكثر تعاسة على الإطلاق، بالرغم من أنني كنت أشغل نفسي فيها بشتى الطرق؛ فقد كنت مغموما لابتعادي عن عائلتي وأصدقائي لفترة طويلة، وقد بدا لي الطقس كئيبا بدرجة لا يمكن وصفها. وكذلك كنت أعاني من ألم في القلب وعدم انتظام نبضاته، ومثل غيري العديد من الشباب معدومي الخبرة، ولا سيما مع معرفتي السطحية بالطب، فقد كنت مقتنعا بأنني أعاني من مرض في القلب. لم أستشر أي طبيب؛ إذ إنني كنت أتوقع أن أسمع حكمه بأنني غير صالح للذهاب في الرحلة، وكنت قد عزمت على الذهاب بالرغم من جميع المخاطر.
لا أحتاج هنا إلى سرد أحداث الرحلة - الأماكن التي زرناها وما فعلناه فيها - إذ إنني قد قدمت وصفا كافيا لذلك في يومياتي التي نشرت. إن عظمة نباتات المناطق الاستوائية ما تزال تتجلى الآن أمام ذهني بحيوية أكثر من أي شيء آخر؛ رغم أن ما أثارته في الصحاري العظيمة في باتاجونيا والجبال المكسوة بالغابات في أرخبيل تييرا ديل فويجو من إحساس بالجلال قد ترك في ذهني انطباعا لا يمحى. وكذلك فإن رؤية همجي عار في موطنه الأصلي لهو مشهد لا ينسى. كما كانت العديد من جولاتي في المناطق البرية، التي كنت أقوم بها على ظهر جوادي أو على متن القوارب والتي كان بعضها يستمر لأسابيع، مثيرة للغاية، ولم يكن ما كنت أجده فيها من المشقة وبعض المخاطر سوى عقبة يسيرة في ذلك الوقت، لكنها حتى لم تعد كذلك فيما بعد. وإنني لأنظر إلى بعض إنجازاتي العلمية فيها برضا كبير؛ مثل حل مشكلة الجزر المرجانية، والتوصل إلى التركيب الجيولوجي لجزر معينة؛ مثل جزيرة سانت هيلينا. وكذلك لا يمكنني إغفال اكتشاف العلاقات المميزة التي تربط بين الحيوانات والنباتات التي تستوطن العديد من الجزر في أرخبيل جالاباجوس، وعلاقتها جميعا بسكان أمريكا الجنوبية.
أستطيع القول إنني قد بذلت قصارى جهدي في الرحلة وكان ذلك نابعا من استمتاعي الخالص بالبحث، وكذلك من رغبتي القوية في إضافة القليل من الحقائق إلى هذا القدر الضخم من الحقائق المعروفة في مجال العلوم الطبيعية. غير أنني كنت أطمح أيضا إلى أن أحظى بمكانة جيدة بين رجال العلم؛ أما ما إذا كنت أكثر طموحا من معظم زملائي في العمل في الرحلة أم لا، فذلك ما لا أستطيع تكوين رأي بشأنه.
لقد كانت الطبيعة الجيولوجية لسانت جاجو، لافتة للنظر بنحو كبير بالرغم من بساطتها؛ فقد تدفق فيها فيما مضى تيار من الحمم البركانية على قاع البحر المكون من الأصداف والمرجانيات المسحوقة الحديثة، وهو الذي حولته إلى صخر صلب أبيض. لقد ارتفعت الجزيرة بأكملها إلى الأعلى منذ ذلك الحين، لكن خط الصخر الأبيض قد كشف لي حقيقة جديدة ومهمة، وهي أنه قد حدث بعد ذلك هبوط حول فوهات البراكين، التي كانت نشطة منذ ذلك الحين وصبت المزيد من الحمم البركانية. لقد خطر لي في بداية الأمر حينذاك أنني قد أكتب كتابا عن الطبيعة الجيولوجية للبلاد المختلفة التي زرتها، وقد ملأني ذلك بالحماسة والسرور. لقد كانت تلك ساعة لا تنسى، وإنني ما زلت أتذكر بوضوح ذلك المنحدر المنخفض الذي يتكون من الحمم البركانية، والذي جلست أستريح تحته، بينما تتوهج الشمس بالحرارة، وتنمو بالقرب مني بعض النباتات الصحراوية الغريبة، ومن تحت أقدامي توجد المرجانيات الحية في البرك التي يصنعها المد والجزر. وفي وقت لاحق في الرحلة، طلب مني فيتزروي أن أقرأ عليه بعضا من مذكراتي، وقد قال بأنها تستحق النشر؛ وهكذا فقد أصبح لدي مشروع كتاب آخر!
وقبيل نهاية الرحلة، تلقيت خطابا من أخواتي، عندما كنت في أسينشان، جاء فيه أن سيجويك قد زار والدي وأخبره بأنني سأتبوأ مكانة كبيرة بين رجال العلم البارزين. لم أفهم في ذلك الوقت كيف تسنى له أن يعرف أي شيء عما كنت أقوم به، لكنني سمعت (بعد ذلك على ما أعتقد) أن هنزلو قد قرأ بعضا من الخطابات التي أرسلتها له على الجمعية الفلسفية في كامبريدج،
3
وطبعها لتوزيعها على أعضائها. وكذلك فقد لاقت مجموعة الحفريات العظمية التي أرسلتها لهنزلو اهتماما كبيرا من علماء الحفريات. وبعد قراءة هذا الخطاب، تسلقت جبال أسينشان ورحت أخطو بخطوات واثقة عليها حتى دوت الصخور البركانية تحت مطرقتي الجيولوجية. إن كل ذلك يدل على مدى طموحي، لكنني أعتقد أنه يمكنني أن أقول بصدق إنه في السنوات اللاحقة، وبالرغم من حرصي الشديد على نيل استحسان رجال مثل لايل وهوكر، وهم الذين كانوا أصدقائي، فإنني لم أحرص كثيرا على نيل استحسان الجمهور. وأنا لا أعني بذلك أن الاستقبال الإيجابي لكتبي، أو تحقيقها لمبيعات كبيرة، لم يكن يسعدني بدرجة كبيرة، غير أن هذا الشعور بالسعادة، سرعان ما كان يتلاشى، وأنا متأكد أنني لم أحد عن مساري مقدار بوصة واحدة لأحظى بالشهرة. (3) من عودتي إلى إنجلترا (2 أكتوبر 1836) حتى زواجي (29 يناير 1839)
كانت هذه الفترة والتي تمثلت في سنتين وثلاثة أشهر، هي الفترة الأكثر نشاطا في حياتي، بالرغم من أنني لم أكن على ما يرام في بعض الأحيان، وكنت شاردا في أحيان أخرى. وبعد التردد لمرات عديدة على شروزبيري ومير وكامبريدج ولندن ذهابا وإيابا، استقرت إقامتي في كامبريدج [بشارع فيتسويليام] في الثالث عشر من ديسمبر؛ حيث كانت مجموعاتي كلها تحت رعاية هنزلو. وقد أقمت هناك لمدة ثلاثة شهور، وفحصت معادني وصخوري بمساعدة البروفيسور ميلر.
بدأت في الإعداد ل «يوميات الرحلات» ولم يكن ذلك عملا شاقا؛ إذ كنت قد دونت يومياتي بعناية، وكان جهدي الأساسي منصبا على كتابة ملخص بنتائجي العلمية الأكثر أهمية. وبناء على طلب لايل، أرسلت إلى الجمعية الجيولوجية، تقريرا قصيرا بملاحظاتي عن ارتفاع ساحل تشيلي.
4
في السابع من مارس عام 1837، أقمت في شارع جريت مالبرا في لندن، وظللت هناك قرابة العامين إلى أن تزوجت. وخلال هذين العامين، أنهيت يومياتي وقرأت العديد من الأوراق البحثية على الجمعية الجيولوجية، وبدأت في إعداد مخطوطة كتابي «ملاحظات جيولوجية» ورتبت لنشر عملي «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»». وفي يوليو، فتحت أول دفتر لي للكتابة عن بعض الحقائق المرتبطة بموضوع أصل الأنواع، والذي ما برحت أفكر فيه وأعمل عليه دون توقف على مدى العشرين عاما التالية.
وخلال هذين العامين، اندمجت أيضا قليلا في المجتمع، وعملت كأحد الأمناء الشرفيين للجمعية الجيولوجية. كما أنني قد التقيت كثيرا بلايل واقتربت منه. وكانت إحدى سماته البارزة هي تشجيعه لأعمال الآخرين، وقد كنت مندهشا وسعيدا في الوقت نفسه حين أظهر اهتمامه بآرائي عن الشعاب المرجانية، وهي التي شرحتها له عند عودتي إلى إنجلترا. لقد شجعني ذلك كثيرا، وقد كان لنصائحه ومثاله تأثير عظيم على شخصي. وفي هذه الأثناء أيضا، كنت ألتقي كثيرا بروبرت براون؛ فكثيرا ما كنت أزوره وأجلس معه على الإفطار في صباح أيام الأحد، وقد كان حديثه يفيض بكنز من الملاحظات الشائقة والتعليقات الثاقبة، لكنها دائما ما كانت ترتبط بنقاط محددة، ولم يناقش معي مطلقا الأسئلة العامة أو الكبيرة فيما يتعلق بالعلوم.
وخلال هذين العامين، قمت بالعديد من الجولات القصيرة للاسترخاء، وقمت بجولة أطول إلى الطرق المتوازية في منطقة جلين روي، وهي التي قد نشرت سردا لها في مجلة «فيلوسوفيكال ترانزاكشنز».
5
لقد كانت هذه الورقة البحثية فاشلة للغاية، وإنني لأشعر بالخزي منها؛ فحيث إنني كنت منبهرا بما رأيته من ارتفاع أرض أمريكا الجنوبية، فقد عزوت السبب في هذه الخطوط الساحلية المتوازية إلى فعل البحر، لكنني اضطررت إلى التخلي عن هذا الرأي حين طرح أجاسي نظريته عن البحيرة الجليدية. ولأن ذلك كان هو التفسير الوحيد في ظل الحالة المعرفية آنذاك، فقد أيدت نظرية فعل البحر، وكان خطئي هذا درسا جيدا لي بألا أثق في العلم بمبدأ الاستبعاد.
ولأنني لم أستطع العمل بمجال العلم طيلة اليوم، فقد قرأت خلال هذين العامين قدرا كبيرا في مختلف الموضوعات، ومنها بعض الكتب المتعلقة بموضوعات ما بعد الطبيعة، غير أن مثل هذه الدراسات لم تكن تناسبني. وفي هذه الفترة، كنت أستمتع كثيرا بشعر ووردزوورث وكولريدج، ويمكنني الفخر بأنني قد قرأت قصيدة «النزهة» بأكملها مرتين. وقبل ذلك، كانت قصيدة «الفردوس المفقود» لميلتون هي المفضلة عندي، وحتى في جولاتي في أثناء رحلة «البيجل»، حين كان يتوجب علي اختيار كتاب واحد، فدائما ما كنت أختار كتابا لميلتون. (4) من زواجي 29 يناير 1839 والإقامة في شارع أبر جاور، إلى مغادرة لندن والاستقرار في داون في 14 سبتمبر 1842 [بعد أن يتحدث عن حياته الزوجية السعيدة وأطفاله، يواصل قائلا]:
في أثناء فترة إقامتنا في لندن، وهي التي استمرت لثلاث سنوات وثمانية أشهر، لم أنجز الكثير في مجال العلوم، بالرغم من أنني كنت أعمل فيها جاهدا قدر استطاعتي، وقد عملت فيها أكثر مما عملت في أي فترة مقابلة على مدى حياتي بأسرها. وقد كان ذلك بسبب ما يعتريني من توعك متكرر، وبسبب مرضي الشديد الذي امتد لفترة طويلة. وحين كنت أتمكن من القيام بأي شيء، كنت أخصص الجزء الأكبر من وقتي لعملي عن «الشعاب المرجانية»، والذي كنت قد بدأته قبل زواجي، والذي جرى تصحيح بروفة الطباعة الأخيرة منه في السادس من مايو عام 1842. لقد استغرق مني هذا الكتاب عشرين شهرا من العمل الشاق، بالرغم من صغر حجمه؛ إذ كان علي قراءة كل ما كتب عن جزر المحيط الهادئ، وكذلك الرجوع إلى العديد من الخرائط. لقد حظي الكتاب بتقدير كبير من جانب رجال العلم، وأعتقد أن النظرية التي يتضمنها قد أصبحت الآن راسخة.
لم أبدأ أيا من أعمالي بمثل هذه الروح الاستدلالية التي بدأت بها هذا الكتاب؛ فقد تشكلت النظرية بأكملها على الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية، وذلك قبل أن أرى أي شعاب مرجانية في الواقع؛ لذا، لم يكن علي سوى أن أتثبت من صحة آرائي وأعززها من خلال الفحص الدقيق للشعاب المرجانية الحية. بالرغم من ذلك، فيجب أن أشير إلى أنني قضيت هذين العامين في دراسة تأثير زيادة الارتفاع في الأرض على نحو متقطع، مع عوامل التعرية وترسب الرواسب، على سواحل أمريكا الجنوبية. ولا شك في أن هذا قد دفعني إلى التفكير مليا في آثار الهبوط، وقد كان من السهل جدا أن أستبدل في خيالي بالترسب المستمر للرواسب ازدياد نمو المرجانيات. ولكي أتمكن من القيام بذلك، كان علي أن أشكل نظريتي عن تكون الحيود المرجانية والجزر المرجانية الحلقية.
وإضافة إلى عملي على الشعاب المرجانية في أثناء إقامتي في لندن، قرأت على الجمعية الجيولوجية بعض الأوراق البحثية عن الجلاميد الصخرية المنجرفة بفعل الأنهار الجليدية في أمريكا الجنوبية،
6
والزلازل،
7
وكذلك عن دور دود الأرض في تكوين العفن.
8
كما أنني قد واصلت الإشراف على نشر كتابي «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»». ولم أتوقف قط عن جمع الحقائق المتعلقة بأصل الأنواع، وكنت أفعل ذلك أحيانا حين يقعدني المرض عن القيام بأي شيء آخر.
في صيف عام 1842، تحسنت صحتي وأصبحت أقوى مما كنت عليه لبعض الوقت، وذهبت إلى شمال ويلز في رحلة قصيرة بمفردي، لملاحظة تأثير الأنهار الجليدية القديمة التي كانت تملأ جميع الوديان الأكبر سابقا. وقد نشرت تقريرا قصيرا عما رأيته في مجلة «فلوسوفيكال ماجازين».
9
وقد أثارت هذه الرحلة اهتمامي بدرجة كبيرة، وقد كانت تلك هي آخر مرة تمكنت فيها من تسلق الجبال أو السير لمسافات طويلة، وهما أمران ضروريان للعمل الجيولوجي.
في الجزء الأول من فترة إقامتنا في لندن، كنت أمتلك من القوة ما يكفي للاندماج في المجتمع، ورأيت عددا كبيرا من رجال العلم، وغيرهم من الرجال البارزين بنحو أو بآخر. وسوف أوضح هنا انطباعاتي عن بعضهم، بالرغم من أنني ليس لدي الكثير مما يستحق أن يقال.
التقيت بلايل أكثر مما التقيت بأي شخص على الإطلاق، قبل زواجي وبعده. وفي رأيي، كان ذهنه يتميز بالوضوح والحيطة وسداد الرأي، مع قدر كبير من التميز والأصالة. وحين كنت أخبره بأي من ملاحظاتي عن الجيولوجيا، لم يكن ليهدأ بالا حتى يرى المسألة بأكملها، وغالبا ما كان يساعدني على رؤيتها بوضوح أكثر من ذي قبل. وكان يقدم جميع اعتراضاته الممكنة على اقتراحي، وحتى بعد أن تنفد كلها، فإنه يظل متشككا لفترة طويلة. وقد كان من صفاته أيضا تشجيعه الصادق لأعمال غيره من رجال العلم.
بعد عودتي من رحلة «البيجل»، شرحت له آرائي عن الشعاب المرجانية، وهي التي كانت تختلف عن آرائه، وقد أدهشني للغاية وشجعني كذلك ما أبداه من اهتمام شديد. لقد كان يجد في العلم متعة كبيرة، وكان يكن اهتماما شديدا تجاه مستقبل البشرية. كان عطوفا للغاية ومتحررا تماما في معتقداته الدينية، لكنه كان يؤمن بشدة بالله. وكان إنصافه بارزا للغاية، وقد اتضح ذلك إذ تحول إلى مناصرة نظرية الارتقاء، بالرغم من أنه اشتهر بمعارضة آراء لامارك، لكن ذلك كان بعد تقدمه في السن. لقد ذكرني بأنني قلت له قبل سنوات عديدة عندما كنا نناقش معارضة المدرسة القديمة من علماء الجيولوجيا لآرائه الجديدة: «لكم سيكون جيدا لو أن العلماء يموتون عندما يبلغون الستين؛ إذ إنهم لو عاشوا أكثر من ذلك، لعارضوا بالتأكيد جميع الأفكار الجديدة.» بالرغم من ذلك، فقد تمنى لو أنه يعيش.
إن علم الجيولوجيا يدين إلى لايل بالكثير، أكثر من أي شخص آخر على الإطلاق، في رأيي. وحين كنت على وشك البدء في رحلة «البيجل»، نصحني هنزلو الحصيف، الذي كان كغيره من علماء الجيولوجيا في ذلك الوقت يؤمن بتتابع الكوارث الجيولوجية، بأن أحضر الجزء الأول من كتاب «مبادئ الجيولوجيا» الذي كان قد نشر للتو، وأدرسه، على ألا أقبل بالآراء التي يقول بها على أي حال. لكم اختلف الآن رأي الناس في هذا الكتاب! وإنني أفتخر إذ أتذكر أن أول مكان مارست فيه عملي بالجيولوجيا، وهو سانت جاجو الموجود في أرخبيل الرأس الأخضر، قد أقنعني بالتميز الشديد لآراء لايل عما سواها مما قرأت أو عرفت من غير كتب لايل.
ويمكننا رؤية ذلك الأثر القوي الذي خلفته أعمال لايل يتضح جليا في تقدم العلوم في فرنسا وإنجلترا؛ فمن الممكن أن نعزي السبب في التجاهل التام الحالي لفرضيات إيلي دو بومون الجامحة، مثل فرضيته عن «فوهات الارتفاع» وكذلك «خطوط الارتفاع» (وقد سمعت عن الفرضية الأخيرة من سيجويك وهو يمتدحها للغاية في الجمعية الجيولوجية.) إلى لايل.
كنت ألتقي كثيرا بروبرت براون أو «رائد علم النبات» كما كان يدعوه هومبولت. وقد كنت أرى أن أهم ما يميزه في رأيي هو براعة ملاحظاته ودقتها البالغة. لقد كان غزير المعرفة بدرجة استثنائية، لكن أغلب هذه المعرفة قد مات معه بسبب خوفه الشديد من ارتكاب أي خطأ على الإطلاق. وقد أغدق علي من معرفته دون حساب، غير أنه كان كتوما أحيانا بنحو غريب فيما يتعلق ببعض النقاط. كنت قد زرته مرتين أو ثلاثا قبل رحلة «البيجل»، وفي إحدى هذه المرات، طلب مني أن أنظر في مجهر وأصف ما أراه. وقد فعلت ذلك، وأعتقد الآن أن ما رأيته كان تيارات البروتوبلازم الرائعة في خلية نباتية ما. وقد سألته بعد ذلك أن يخبرني بماهية ما رأيته، لكنه أجابني: «ذلك هو سري الصغير.»
لقد كان قادرا على البذل والعطاء إلى أبعد حد؛ فحتى حين كان كبيرا ومعتل الصحة وغير قادر على بذل أي مجهود شاق، كان يوميا يزور (كما أخبرني هوكر) خادما كبير السن كان يعيش على مسافة منه، (وهو الذي كان يعوله) ويقرأ له بصوت عال. وإن ذلك لكاف لأن يغفر له أي كتم للعلم أو غيرة فيه.
وسوف أذكر هنا بعض الرجال البارزين الآخرين، الذين كنت أراهم في بعض الأحيان، رغم أنني لا أملك الكثير مما يستحق الذكر في هذا الشأن. لقد كنت أبجل السير جيه هيرشيل أشد التبجيل، وقد سررت بتناول العشاء معه في منزله الجميل الموجود في رأس الرجاء الصالح، ثم في منزله بلندن بعد ذلك. وقد التقيت به أيضا في بعض المناسبات الأخرى. لم يكن هيرشيل كثير الكلام، لكن كل كلمة كان يقولها تستحق الاستمتاع إليها.
وذات مرة على الإفطار في منزل السير آر موركيسون، التقيت بالعالم المرموق هومبولت، الذي شرفني بأن عبر عن رغبته في لقائي. لقد خاب أملي قليلا في هذا الرجل العظيم، لكنني قد أفرطت في توقعاتي بشأنه على الأرجح. وأنا لا أتذكر شيئا محددا من لقائنا سوى أنه كان مرحا جدا وقد تحدث كثيرا.
ويذكرني ... بباكل الذي التقيته ذات مرة في منزل هينزلي ويدجوود. لقد سررت كثيرا لتعلمي منه نظامه في جمع الحقائق. وقد أخبرني بأنه اشترى جميع الكتب التي قرأها وأعد فهرسا كاملا بجميع الحقائق الواردة في كل منها، وهي التي كان يعتقد أنها قد تخدم أغراضه، وأنه يستطيع دائما أن يتذكر في أي كتاب قد قرأ معلومة بعينها؛ إذ كان يتمتع بذاكرة رائعة. وقد سألته كيف كان يستطيع منذ البداية أن يحدد الحقائق التي ستخدم أغراضه، وقد أجابني بأنه لا يعرف، لكن حدسه كان يقوده؛ ونظرا لعادته في إعداد الفهارس، فقد كان بإمكانه أن يذكر عددا هائلا من الإحالات في جميع المواضيع، وهو ما يتضح في كتابه «تاريخ الحضارة». وقد وجدت هذا الكتاب شائقا للغاية وقرأته مرتين، لكنني أشك أن ما ذكره فيه من تعميمات قد يكون لها أي قيمة على الإطلاق. لقد كان باكل متحدثا رائعا، وقد كنت أستمع إليه دون أن أتفوه بكلمة واحدة، وما كنت لأتمكن من ذلك؛ إذ إنه لم يكن يترك ثغرة واحدة. وحين بدأت السيدة فارار بالغناء، اندفعت وثبا وقلت له إن علي أن أستمع إليها، وبعد أن ابتعدت عنه، التفت إلى صديق وقال له (وفقا لما سمعه أخي): «حسنا، إن كتب السيد داروين أفضل كثيرا من حديثه.»
ومن رجال الأدب العظماء، التقيت ذات مرة بسيدني سميث في منزل دين ميلمن. وقد كنت أجد في كل كلمة يتحدث بها شيئا ممتعا بنحو لا يمكن تفسيره، وربما كان ذلك يعود جزئيا لما توقعته من شعوري بالاستمتاع في الحديث معه. كان يتحدث عن الليدي كورك، وهي التي كانت في هذا الوقت طاعنة في السن. تلك هي السيدة التي قال عنها إنها قد تأثرت للغاية بموعظة كان قد ألقاها عن حب الخير، حتى إنها «اقترضت» جنيها من أحد الأصدقاء ووضعته في الطبق المخصص للصدقة. وقد قال بعد ذلك: «إنه لأمر شائع الاعتقاد بأن صديقته الغالية العجوز، قد جرى إغفالها.» وقد قال ذلك بما لا يدع مجالا للشك في أنه كان يعني أن الشيطان هو من أغفلها. أما الكيفية التي تمكن بها أن يعبر عن ذلك، فهذا ما لا أعرفه.
كنت قد التقيت أيضا بماكولي في منزل اللورد ستانهوب المؤرخ؛ ونظرا لأنه لم يكن على العشاء سوى شخص آخر فقط، فقد حظيت بفرصة كبيرة في الاستماع إليه وهو يتحدث، وقد كان لطيفا للغاية. لم يتحدث كثيرا، وما كان لرجل مثله أن يفعل ذلك بالطبع؛ إذ إنه كان يسمح للآخرين بأن يديروا دفة الحديث، وهو ما قام به.
لقد قدم لي اللورد ستانهوب ذات يوم برهانا صغيرا وغريبا على دقة ذاكرة ماكولي وسعتها. لقد اعتاد الكثير من المؤرخين أن يلتقوا في منزل اللورد ستانهوب، وبينما كانوا يناقشون الموضوعات المختلفة، كانوا يختلفون أحيانا مع رأي ماكولي، وغالبا ما كانوا يعودون إلى كتاب ما ليحددوا أي الطرفين كان على صواب. أما مؤخرا، فقد لاحظ ستانهوب أن أحدا من المؤرخين لم يكن ليكلف نفسه عناء ذلك الأمر، وأنهم كانوا يوافقون على ما يقول به ماكولي دون أي مراجعة.
وفي مناسبة أخرى في منزل اللورد ستانهوب، التقيت بمجموعة أخرى من أصدقائه من المؤرخين ورجال الأدب، وكان من بينهم موتلي وجروت. وبعد الغداء، سرت مع جروت على مدى ساعة تقريبا في أرجاء حديقة تشيفنينج، وقد وجدت حديثه شائقا للغاية وسرني منه بساطته وغياب مظاهر الادعاء من تصرفاته.
وقد كنت فيما مضى أتناول العشاء أحيانا مع الإيرل الكبير، والد ستانهوب. لقد كان رجلا غريبا، لكنني قد أحببت ذلك القدر القليل الذي عرفته عنه. لقد كان صريحا وودودا ولطيفا. وكان يتسم بملامحه المميزة البارزة، وبشرته بنية اللون، وحين رأيته، كانت جميع ملابسه بنية اللون. بدا أنه يؤمن بكل ما لا يصدقه الآخرون، وقد قال لي ذات مرة: «لم لا تتخلى عن ترهاتك في الجيولوجيا وعلم الحيوان وتلتفت إلى العلوم الخفية؟» لقد ذهل ستانهوب، الذي كان يحمل لقب اللورد ماهون في ذلك الوقت، من هذا الكلام الموجه إلي، أما زوجته الفاتنة، فقد بدا عليها الاستمتاع.
إن آخر من سأتحدث عنه هنا هو كارلايل، الذي قد التقيت به مرات عديدة في منزل أخي، ومرتين أو ثلاثا في منزلي. لقد كان حديثه حيويا وشائقا، تماما ككتاباته، لكنه كان يطيل الحديث أحيانا في الموضوع نفسه. أتذكر عشاء مضحكا في منزل أخي، وكان من بين القليلين الذين حضروه، بابيدج ولايل، وقد كانا يحبان الحديث. لكن كارلايل قد أسكت الجميع؛ إذ ظل يحاضر طوال فترة العشاء عن مزايا الصمت. وبعد العشاء، قدم بابيدج بطريقته المتجهمة، شكره إلى كارلايل لمحاضرته الشائقة عن الصمت.
كان كارلايل يسخر من الجميع تقريبا؛ ففي أحد الأيام في منزلي، قال عن كتاب جروت «تاريخ» إنه «مستنقع نتن الرائحة، ليس به شيء روحاني.» لقد كنت أعتقد دوما، حتى نشر عمله «ذكريات»، أنه يسخر جزئيا بدافع الفكاهة، أما الآن، فأنا أشك في ذلك. لقد كانت هيئته تدل على أنه رجل مكتئب ويكاد يكون قانطا، لكنه خير في الوقت نفسه، وقد اشتهر بضحكته الصافية الصادقة. أعتقد أن إحسانه كان حقيقيا، غير أنه كان مشوبا بقدر ليس بالقليل من الغيرة. ولا يمكن لأحد أن ينكر قدرته الاستثنائية في رسم صور للأشياء والناس، وفي رأيي أن ما يرسمه من صور أكثر حيوية ووضوحا من جميع الصور التي يرسمها ماكولي. أما ما إذا كانت الصور التي يرسمها للرجال حقيقية أم لا، فذلك أمر آخر.
لقد كان بارعا للغاية في إقناع الأشخاص ببعض الحقائق الأخلاقية الجليلة. غير أن آراءه عن العبودية كانت منفرة؛ فقد كان يرى الجبروت شيئا صحيحا. وأرى أن عقله كان محدودا للغاية، حتى مع استبعاد جميع فروع العلوم، التي كان يبغضها. وإنه ليدهشني أن كينجسلي قد قال عنه إنه رجل قادر على المساهمة في تقدم العلم. لقد كان يهزأ من القول بأن عالم رياضيات؛ مثل هيوويل، يستطيع الحكم على آراء جوته عن الضوء، بينما أصر أنا على أنه يستطيع. وكان يرى أنه من العبث أن يهتم أحد بما إذا كانت كتلة جليدية قد تحركت على نحو أسرع أو أبطأ قليلا من المعتاد، أو ما إذا كانت قد تحركت على الإطلاق. وأعتقد أنني لم أر شخصا لا يتناسب عقله مع البحث العلمي بقدر كارلايل.
في أثناء إقامتي في لندن، كنت أواظب قدر استطاعتي على حضور اجتماعات العديد من الجمعيات العلمية، وعملت أمينا للجمعية الجيولوجية. لكن حضور هذه الاجتماعات، إضافة إلى العيش في مجتمع المدينة، لم يكن مناسبا لصحتي؛ لذا فقد قررت أنا وزوجتي أن ننتقل إلى الإقامة بالريف، وقد فضل كلانا الإقامة هناك، ولم نندم قط على هذا القرار. (5) الإقامة في داون من 14 سبتمبر 1842 حتى الوقت الحالي، عام 1876
بعد العديد من المحاولات التي ذهبت هباء للبحث عن منزل في سري وأماكن أخرى، وجدنا هذا المنزل وابتعناه. سرني التنوع في أشكال النباتات وهو ما تتميز به المناطق الجيرية، وقد كان ذلك مختلفا تماما عما اعتدت عليه في مقاطعات منطقة ميدلاند، كما أنني كنت أكثر سرورا بهدوء المكان وطابعه الريفي. وبالرغم من ذلك، فلم يكن المكان معزولا، كما وصفه كاتب بإحدى الدوريات الألمانية، وهو الذي قال إنه لا يمكن الوصول إلى بيتي إلا بعد مسافة من ركوب البغال! وقد عاد علينا استقرارانا في هذا المكان بميزة عظيمة لم نكن نتوقعها، وهي أنه كان ملائما للغاية لكي يتردد علينا أطفالنا باستمرار.
قلة هم من يمكنهم أن يعيشوا حياة أكثر انعزالا من تلك التي عشناها؛ فبخلاف الزيارات القصيرة إلى منازل الأقارب، وزيارة شاطئ البحر أو أي مكان آخر في بعض الأحيان، لم نكن نغادر المنزل. وفي أثناء الجزء الأول من إقامتنا، اندمجنا قليلا في المجتمع، واستقبلنا في المنزل بعض الأصدقاء، لكن صحتي دائما ما كانت تتأثر سلبا بالإثارة، وهو ما كان يجلب علي نوبات شديدة من القيء والارتجاف. ولهذا؛ فقد اضطررت إلى التخلي عن حفلات العشاء لسنوات عديدة، وقد كان ذلك يمثل حرمانا لي بعض الشيء؛ إذ كانت هذه الحفلات تحسن دوما من مزاجي؛ ولهذا السبب نفسه، لم أستطع أن أدعو إلى منزلي سوى عدد قليل من معارفي من رجال العلم.
لقد كانت متعتي الأساسية وشاغلي الوحيد على مدى حياتي كلها هو العمل في مجال العلوم، وقد كانت الإثارة التي أشعر بها من هذا العمل تجعلني أنسى ما أعانيه من ألم يومي لبعض الوقت، أو تنسيني إياه تماما. وبهذا، لا يتبقى لدي ما أدونه عن الجزء الباقي من حياتي سوى نشري لأعمالي المتعددة؛ إذ ربما تكون بعض التفاصيل عن كتابتها وخروجها للنور جديرة بالذكر . (5-1) أعمالي العديدة المنشورة
في الجزء الأول من عام 1844، نشرت ملاحظاتي عن الجزر البركانية التي زرتها في رحلة «البيجل». وفي عام 1845، بذلت قصارى جهدي في تصويب طبعة جديدة من عملي «يوميات الأبحاث»، والذي كان قد نشر في الأصل عام 1839، كجزء من عمل فيتزروي. إن نجاح هذا العمل، وهو كتابي البكر، دائما ما يداعب خيلائي أكثر من أي كتاب آخر لي. وحتى يومنا هذا، فإنه لا يزال يحقق مبيعات كبيرة في إنجلترا والولايات المتحدة، وقد ترجم للمرة الثانية إلى الألمانية والفرنسية ولغات أخرى. وإنه لأمر مدهش أن يستمر كتاب للرحلات، لا سيما أنه عن رحلة علمية، في تحقيق هذا النجاح بعد سنوات عديدة من نشره لأول مرة؛ فقد بيعت في إنجلترا عشرة آلاف نسخة من الطبعة الثانية. وفي عام 1846، نشر كتابي «ملاحظات جيولوجية عن أمريكا الجنوبية». وقد دونت في مفكرة يومية صغيرة ظللت محتفظا بها أن كتبي الثلاثة عن الجيولوجيا (وفيها «الشعاب المرجانية») قد استغرقت أربع سنوات ونصف السنة من العمل المتواصل؛ «والآن قد مرت عشر سنوات منذ عودتي إلى إنجلترا، فكم عاما قد أضاعها المرض علي؟» وليس لدي ما أقوله عن هذه الكتب الثلاثة سوى أنه قد أدهشني طلب طبعات جديدة منها مؤخرا.
10
في أكتوبر من عام 1846، بدأت عملي عن «هدابيات الأرجل.» وحين زرت ساحل تشيلي، وجدت نوعا غريبا للغاية يحفر في أصداف حلزونيات أذن البحر التشيلي
Concholepas ، وقد كان يختلف اختلافا كبيرا عن جميع ما رأيته من هدابيات الأرجل؛ فاضطررت إلى أن أضعه في رتبة فرعية جديدة له وحده. ومؤخرا قد اكتشف على شواطئ البرتغال جنس حفار مشابه. ولكي أتمكن من فهم تركيب ذلك النوع الجديد الذي اكتشفته من هدابيات الأرجل، كان علي أن أفحص العديد من الأنواع المعروفة وأشرحها، حتى انتهى بي الحال تدريجيا إلى تناول المجموعة كلها. وقد عملت على هذا الموضوع بنحو منتظم على مدى السنوات الثماني التالية، وفي نهاية المطاف، نشرت مجلدين سميكين [نشرتهما جمعية راي] يضمان وصفا لجميع الأنواع الحية المعروفة في هذه الرتبة، وكتيبين صغيرين من قطع الربع عن الأنواع المنقرضة منها. وليس لدي شك بأن السير إي بولور ليتن كان يقصدني حين كتب في إحدى رواياته عن بروفيسور يدعى لونج، كان قد كتب مجلدين ضخمين عن أنواع البطلنيوس.
وبالرغم من أنني اشتغلت بهذا العمل لمدة ثمانية أعوام، فقد دونت في مفكرتي أن المرض قد أضاع علي عامين منها؛ وبناء على ذلك، فقد ذهبت عام 1848 إلى مولفرن لعدة أشهر طلبا للعلاج المائي، الذي قد نفعني كثيرا؛ ولهذا فقد كنت قادرا على استئناف العمل حين عدت إلى المنزل. لقد كنت مريضا للغاية، حتى إنني لم أتمكن من حضور جنازة والدي حين توفي في الثالث عشر من نوفمبر عام 1848، أو أن أقوم بواجبي كأحد المنفذين لوصيته.
أعتقد أن لعملي على هدابيات الأرجل قيمة كبيرة؛ فإلى جانب وصف العديد من الأشكال الجديدة والمميزة، أوضحت أوجه التشابه فيما يتعلق بأجزائها المختلفة - وقد اكتشفت الجهاز اللاصق بالرغم من أنني ارتكبت خطأ كبيرا بشأن الغدد اللاصقة - وأخيرا فقد أثبت أنه يوجد في أجناس معينة ذكور دقيقة مكملة للخناثى ومتطفلة عليها. وقد ثبتت صحة هذا الاكتشاف الأخير تماما في النهاية، بالرغم من أن أحد الكتاب الألمان قد عزا الأمر بالكامل إلى خيالي الخصب. إن هدابيات الأرجل من المجموعات الشديدة التنوع والتي يصعب تصنيفها، وقد أفادني عملي عليها فائدة عظيمة حين كان علي أن أناقش في كتابي «أصل الأنواع» مبادئ التصنيف الطبيعي. وبالرغم من ذلك، فأنا لست متأكدا مما إذا كان هذا العمل يستحق كل هذا الوقت الكبير الذي استهلكه.
بداية من سبتمبر 1854، كرست وقتي بأكمله لترتيب تلك الكومة الهائلة من الملاحظات التي كتبتها، والملاحظة وإجراء التجارب فيما يتعلق بتحول الأنواع. فلشد ما أذهلني ما اكتشفته في سهول البامبا خلال رحلات «البيجل» من حفريات لحيوانات كبيرة مغطاة بدروع كالتي نراها على حيوانات الأرماديلو المدرعة التي تعيش الآن، وقد أذهلتني أيضا الطريقة التي تتبعها الحيوانات القريبة الصلة من بعضها في الحلول محل بعضها بعضا في التقدم نحو جنوب القارة، هذا بالإضافة إلى الطابع الأمريكي الجنوبي الذي تتميز به معظم الكائنات الموجودة في أرخبيل جالاباجوس، ولا سيما ما يوجد بينها من اختلاف طفيف في كل جزيرة من جزر المجموعة، بالرغم من أنه لا يبدو على أي من هذه الجزر أنها قديمة للغاية من الناحية الجيولوجية.
لقد كان جليا أنه لا يمكن تفسير حقائق مثل هذه وغيرها الكثير إلا بافتراض أن هذه الأنواع قد عدلت بالتدريج، وقد لازم هذا الموضوع ذهني طوال الوقت. وبالقدر نفسه، فقد كان من الجلي أيضا أنه لا يمكن لنا أن نعزي تلك الحالات التي لا تحصى من التكيف الرائع للكائنات الحية مع ظروفها الحياتية؛ مثل قدرة نقار الخشب أو ضفدع الشجر على تسلق الأشجار أو انتشار البذور من خلال الخطاطيف أو الريش، إلى فعل الظروف المحيطة ولا إلى إرادة هذه الكائنات (لا سيما في حالة النباتات). ولطالما انشغلت بالتفكير بشأن أساليب تكيف الكائنات، ولما لم يكن لهذه الأساليب تفسير بعد، فقد بدا لي استخدام الأدلة غير المباشرة في محاولة إثبات أن الأنواع قد عدلت تدريجيا أمرا لا طائل منه.
بعد عودتي إلى إنجلترا، بدا لي أنه من خلال اتباع مثال لايل في الجيولوجيا، وجمع كل الحقائق المتعلقة بأي شكل من الأشكال بتباين النباتات والحيوانات، في ظروف التدجين أو في ظروف البيئة الطبيعية، يمكنني إلقاء بعض الضوء على الموضوع بأكمله. فتحت أول دفتر لكتابة ملاحظاتي في يوليو من عام 1837، وكنت أتبع بدقة مبادئ المنهج العلمي التي وضعها بيكون، وبدون تشكيل أي نظرية، رحت أجمع الحقائق على نطاق شامل، ولا سيما الحقائق المتعلقة بالتكاثر في ظروف التدجين، وقد قمت بذلك من خلال الاستفسارات المطبوعة وتبادل الحديث مع البارعين من مربي الحيوانات والطيور والقائمين على زراعة النباتات، وكذلك من خلال القراءة الموسعة؛ فحين أرى قائمة الكتب التي قرأتها ولخصتها في جميع المجالات، بما في ذلك سلاسل كاملة من الدوريات والمجلات العلمية، أندهش من اجتهادي ومثابرتي. وسرعان ما أدركت أن الانتقاء كان هو العامل الأساسي في نجاح الإنسان في تكوين أعراق ناجحة من الحيوانات والنباتات . وبالرغم من ذلك، فقد ظل مدى انطباق فكرة الانتقاء على الكائنات الحية التي تعيش في البيئة الطبيعية لغزا بالنسبة لي لبعض الوقت.
في أكتوبر من عام 1838؛ أي بعد خمسة عشر شهرا من البدء في استقصائي المنهجي، تصادف أنني كنت أقرأ على سبيل الاستمتاع عمل مالثس الشهير عن النمو السكاني، ولأنني كنت على استعداد تام لإدراك قيمة الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة، وهو الذي شهدته في جميع ملاحظاتي الطويلة والمستمرة لعادات الحيوانات والنباتات، فقد خطر لي على الفور أنه في مثل هذه الظروف، ستبقى التباينات المواتية على الأرجح، وأما التباينات غير المواتية، فسوف تندثر، وسينتج عن ذلك تشكيل أنواع جديدة. وبناء على ذلك، توصلت أخيرا إلى نظرية أستخدمها في العمل، لكنني كنت حريصا للغاية على تجنب الحكم المسبق، حتى إنني قررت أن أنتظر لبعض الوقت، وألا أبدأ حتى في كتابة أي شيء ولو حتى مسودة قصيرة عنها. وفي يونيو عام 1842، سمحت لنفسي لأول مرة بأن أشبع رغبتي في كتابة ملخص قصير للغاية لنظريتي؛ فكتبت ملخصا بالقلم الرصاص في خمس وثلاثين صفحة، وقد توسع هذا الملخص في صيف عام 1844، فبلغ 230 صفحة، وهي التي نسختها مرة أخرى بخط جيد وما زلت أحتفظ بها.
بالرغم من ذلك، فقد أغفلت في ذلك الوقت، مشكلة مهمة للغاية، وإنه ليدهشني كيف أنني قد أغفلتها وأغفلت حلها، إلا أن يكون ذلك من قبيل ما يسمى ببيضة كولومبوس الذي يشير إلى فكرة رائعة أو اكتشاف يبدو بسيطا أو سهلا بعد حدوثه. وتتمثل هذه المشكلة في أن الكائنات العضوية المنحدرة من الأصل نفسه غالبا ما تتشعب صفاتها حين تصبح معدلة. ويصبح تشعبها الشديد واضحا من طريقة ترتيب الأنواع جميعها في أجناس ثم الأجناس في فصائل ثم الفصائل في رتب ثم الرتب في رتب فرعية، إلى آخر ذلك، وأن بإمكاني أن أتذكر البقعة المحددة التي كنت أمر بها وأنا في عربتي حين خطر لي الحل فامتلأت به سرورا، وقد كان ذلك بعد أن انتقلت إلى داون بفترة طويلة. والحل كما أعتقد، هو أن الذرية المعدلة لجميع الأشكال السائدة والمتزايدة غالبا ما تتكيف مع أماكن عديدة وشديدة التنوع في منظومة الطبيعة.
في بداية عام 1856، نصحني لايل بأن أكتب آرائي بتفصيل كامل، وقد بدأت تنفيذ نصيحته على الفور بنطاق يزيد ثلاثة أضعاف أو أربعة عن النطاق الذي كنت أتبعه بعد ذلك في كتابة عملي «أصل الأنواع»؛ غير أنه لم يكن سوى ملخص للمواد التي جمعتها، وقد أنجزت نصف العمل بهذا المعدل. بالرغم من ذلك، فقد أطيح بخططي؛ ففي صيف عام 1858، كان السيد والاس، وهو الذي كان في أرخبيل الملايو حينئذ، قد أرسل لي مقالة بعنوان «عن ميل الضروب إلى الاختلاف كليا عن نمطها الأصلي»، وقد كانت هذه المقالة تتضمن نظريتي نفسها. وقد عبر لي السيد والاس عن رغبته في أن أرسل المقالة إلى لايل للفحص والتمعن، إن استحسنتها.
وردت الظروف التي دفعتني إلى الموافقة على طلب لايل وهوكر بالسماح بنشر مقتطف من مخطوطتي، مع خطاب إلى آسا جراي بتاريخ 5 سبتمبر 1857، في الوقت نفسه مع مقال والاس في دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي» 1858، ص45. في البداية، كنت معرضا عن الموافقة؛ إذ إنني حسبت أن السيد والاس سوف يرى قيامي بذلك أمرا غير مبرر على الإطلاق؛ فلم أكن حينئذ أعرف مدى كرمه ونبل أخلاقه. لم يكن ذلك المقتطف من مخطوطتي ولا خطاب آسا جراي مجهزين للنشر، وقد كتبا بطريقة رديئة، أما مقال السيد والاس، فقد كان مكتوبا بأسلوب فصيح وواضح. وبالرغم من ذلك، فلم يحظ إنتاجنا المشترك إلا بقدر قليل من الاهتمام، والإشارة الوحيدة التي أذكر أنها قد نشرت عن هذا العمل، هي إشارة البروفيسور هوتون من دبلين، وقد كان رأيه فيه أن كل ما هو جديد فيه خاطئ، وكل ما هو صواب فيه قديم. ويوضح ذلك مدى ضرورة شرح أي آراء جديدة بإسهاب كاف كي تثير انتباه الجمهور.
في سبتمبر من عام 1858، تفرغت بناء على النصيحة التي شدد عليها كل من لايل وهوكر لإعداد كتاب عن تحول الأنواع ، لكنني كثيرا ما كنت أضطر إلى التوقف عن العمل فيه نظرا لاعتلال صحتي، والزيارات القصيرة التي كنت أقوم بها إلى مصحة الدكتور لين الرائعة للعلاج المائي في مور بارك. لقد لخصت المخطوطة التي كنت قد بدأت في العمل فيها على نطاق أكبر كثيرا في عام 1856، وأكملت الكتاب على هذا النطاق الضيق نفسه. وقد استغرق مني إنجازه ثلاثة عشر شهرا وعشرة أيام من العمل الشاق، ونشر بعنوان «أصل الأنواع» في نوفمبر 1859. وبالرغم من أنني صححت فيه وأضفت إليه قدرا غير هين في الطبعات التالية، فقد ظل هو الكتاب نفسه بصفة أساسية.
لا شك في أنه العمل الأهم في حياتي، وقد كان ناجحا للغاية من البداية. لقد بيعت الطبعة الأولى الصغيرة منه، التي كانت تتكون من 1250 نسخة، في يوم النشر، ونفدت الطبعة الثانية التي تكونت من 3000 نسخة بعدها بفترة قصيرة. وقد بيعت في إنجلترا ستة عشر ألف نسخة حتى الآن (1876)، وهو عدد كبير بالنظر لطبيعة الكتاب الجافة. وقد ترجم إلى جميع اللغات الأوروبية تقريبا، بما فيها الإسبانية والبوهيمية والبولندية والروسية. ووفقا للآنسة بيرد، فقد ترجم أيضا إلى اليابانية، وهو يدرس كثيرا هناك. وقد ظهر عنه مقال بالعبرية أيضا يقول بأن النظرية قد وردت في العهد القديم! ظهر عنه عدد كبير من المراجعات، وقد ظللت لبعض الوقت أجمع كل ما كتب عنه وعن كتبي المرتبطة به، وقد بلغ عدده 265 (مع استثناء المراجعات التي نشرت في الصحف)، غير أنني توقفت عن ذلك يئسا بعد فترة. وقد ظهر عن الموضوع العديد من الكتب والمقالات المنفصلة، وكان يصدر في ألمانيا فهرس أو قائمة بالكتب التي صدرت عن «الداروينية» كل عام أو عامين.
أعتقد أن جزءا كبيرا من نجاح كتاب «أصل الأنواع» يرجع إلى أنني قد كتبت قبل نشره بفترة طويلة، مسودتين مكثفتين له، وكذلك إلى قيامي في النهاية بتلخيص مخطوطة أكبر بكثير، وهي نفسها التي كانت ملخصا. وبهذه الطريقة، تمكنت من اختيار الحقائق والاستنتاجات الأكثر وضوحا. كما أنني ظللت أتبع قاعدة ذهبية على مدى سنوات عديدة ؛ فكنت كلما مرت علي حقيقة أو ملاحظة أو فكرة جديدة تعارض نتائجي العامة، أسجلها على الفور دون توان؛ إذ إنني اكتشفت بالخبرة أن مثل هذه الحقائق والأفكار تضيع من الذاكرة على الأرجح أكثر من الأفكار والحقائق المتوافقة مع نتائجي. وبفضل هذه العادة، لم يكن هناك سوى عدد قليل جدا من الاعتراضات على آرائي الذي لم أكن على الأقل على علم به وحاولت الإجابة عنه.
ولقد قيل في بعض الأوقات إن نجاح «أصل الأنواع» يثبت «أن الموضوع كان مطروحا» أو «أن العقول كانت مهيأة له»، غير أنني لا أعتقد أن ذلك كان صحيحا تماما؛ إذ إنني كنت أستطلع أحيانا آراء عدد ليس بالقليل من علماء التاريخ الطبيعي، ولم يبد أن أيا منهم كانت لديه أي شكوك بشأن ديمومة الأنواع. وينطبق ذلك أيضا على لايل وهوكر؛ إذ بالرغم من أنهما كانا يستمعان إلي باهتمام، فلم يبد أنهما كانا يوافقان على ما أقول. وقد حاولت مرة أو مرتين أن أشرح لبعض العلماء ما أعنيه بالانتقاء الطبيعي، لكنني فشلت بصورة ملحوظة. أما ما أعتقد أنه صحيح تماما، فهو أن عقول علماء التاريخ الطبيعي قد خزنت عددا لا حصر له من الحقائق التي خضعت للملاحظة المتقنة، وأصبحت على استعداد بأن تأخذ أماكنها المناسبة حالما تظهر أي نظرية تستوعب هذه الحقائق وتطرح لها تفسيرا كافيا. ومن العناصر الأخرى التي ساهمت في نجاح الكتاب هو حجمه المتوسط، وأنا أدين بذلك لظهور مقال السيد والاس؛ فلو كنت قد نشرت الكتاب بالنطاق الذي كنت أكتب به في عام 1856، لزاد حجم الكتاب أربعة أضعاف أو خمسة، ولما صبر على قراءته إلا عدد قليل.
لقد ربحت الكثير من تأجيلي للنشر، منذ عام 1839 تقريبا حين توصلت إلى تصور واضح للنظرية، وحتى عام 1859، ولم أخسر شيئا على الإطلاق؛ إذ إنني لم أهتم كثيرا بقدر ما ينسبه إلي الناس من أصالة، سواء أينسبون معظمها إلي أم إلى والاس، ولا شك في أن مقاله قد ساعد كثيرا في التمهيد لاستقبال النظرية. ولقد غفلت عن نقطة واحدة فحسب طالما ندمت عليها، وهي أن أستخدم الفترة الجليدية في تفسير سبب وجود الأنواع نفسها من النباتات والقليل من الحيوانات على قمم الجبال البعيدة والمناطق القطبية. لقد أعجبني هذا الرأي كثيرا حتى إنني قد كتبت عنه بإسهاب، وأعتقد أن هوكر قد قرأه قبل أن ينشر إي فوربس تقريره الشهير
11
عن الموضوع بسنوات. وما زلت أعتقد أنني كنت على صواب في النقاط القليلة التي اختلفنا فيها. وبالطبع فإنني لم أشر في أي كتابات مطبوعة إلى أنني قد توصلت إلى هذا الرأي منفردا.
لم أشعر بالرضا والسعادة في أثناء عملي على النقاط المختلفة في كتاب «أصل الأنواع» قدر ما كنت أشعر به في أثناء العمل على تفسير السبب في الاختلاف الكبير في العديد من الطوائف بين الجنين والحيوان البالغ، والتشابه الوثيق بين أجنة الحيوانات التي تنتمي إلى الطائفة نفسها. لا أتذكر أن المراجعات المبكرة لكتاب «أصل الأنواع» قد تناولت تلك النقطة، وأتذكر أنني قد عبرت عن دهشتي من هذا الأمر في خطاب إلى آسا جراي. وفي السنوات الأخيرة، نسب العديد من النقاد الفضل في ذلك إلى فريتز مولر وهاكل، اللذين بلا شك قد شرحا هذه النقطة على نحو أكثر تفصيلا، وأكثر صحة مني في بعض الجوانب. لقد كان لدي من المادة العلمية ما يكفي فصلا بأكمله عن هذا الموضوع، وقد كان علي أن أطيل في المناقشة؛ إذ يبدو أنني قد فشلت في إقناع قرائي، وأنا أرى أن من ينجح في ذلك هو من يستحق أن ينسب إليه كل الفضل.
ويقودني ذلك إلى الإشارة إلى أن النقاد طالما عاملوني بصدق في معظم الأوقات، هذا إن أغفلنا من لا يمتلكون القدر الكافي من المعرفة العلمية؛ فهم لا يستحقون الانتباه إليهم على أي حال. وكثيرا ما تعرضت آرائي للتحريف الشديد والمعارضة المريرة والاستهزاء بها، لكنني أعتقد أن كل ذلك قد حدث بنية حسنة بصفة عامة. وفي مجمل الأمر، أنا لا أشك في أن أعمالي قد تلقت أكثر مما تستحق من الثناء مرارا وتكرارا. وأنا سعيد لأنني قد تجنبت الخلافات، وأنا أدين بالفضل في ذلك إلى لايل الذي نصحني بشدة منذ سنوات عديدة، بخصوص أعمالي الجيولوجية، بألا أنخرط في الخلافات؛ إذ إن ذلك نادرا ما يعود بأي نفع، وهو مضيعة عظيمة للوقت والجهد.
كلما اكتشفت أنني قد أخطأت أو أن عملي تشوبه بعض العيوب، وكذلك حين كنت أتعرض للنقد الشديد والازدراء، وحتى حين كنت أتلقى أكثر مما أستحق من الثناء، حتى إنني كنت أرتعب من ذلك، وجدت راحة كبيرة في أن أردد على نفسي مئات المرات أنني «قد بذلت قصارى جهدي وقدمت أفضل ما عندي، وأنه ليس بوسع أي أحد أن يفعل أكثر من ذلك.» وأتذكر أنني رحت أفكر بينما كنت في خليج جود ساكسيس في تييرا ديل فويجو (وأعتقد أنني كتبت خطابا إلى أسرتي يتضمن هذا المعنى.) بأنني لا يمكن أن أوظف حياتي أي توظيف أفضل من المساهمة بالنزر اليسير في الإضافة إلى مجال العلوم الطبيعية. وقد فعلت ذلك بأفضل قدراتي، ويمكن للنقاد أن يقولوا ما يشاءون، لكنهم لن يستطيعوا أن يحطموا هذا الاقتناع.
في الشهرين الأخيرين من عام 1859، انهمكت تماما في إعداد طبعة ثانية من كتاب «أصل الأنواع»، إضافة إلى عدد هائل من المراسلات. وفي الأول من يناير عام 1860، بدأت في ترتيب ملاحظاتي للعمل على كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، لكنه لم ينشر حتى بداية عام 1868؛ ويعود السبب في التأخير بصورة جزئية إلى ما كان ينتابني من نوبات مرض متكررة، تلك التي استمرت إحداها سبعة أشهر، وأما السبب الآخر في تأخر النشر، فهو أنني كنت أشعر أحيانا بالرغبة في النشر عن مواضيع أخرى كانت تثير اهتمامي بصورة أكبر في ذلك الوقت.
في الخامس عشر من مايو 1862، نشر كتابي الصغير عن «تلقيح السحلبيات» والذي استغرق مني عشرة أشهر؛ كانت معظم الحقائق الخاصة به قد تراكمت ببطء على مدى العديد من السنوات السابقة. وفي صيف عام 1839، إضافة إلى الصيف السابق عليه، على ما أعتقد، دفعتني الرغبة إلى دراسة التلقيح المتبادل أو الخلطي للزهور عن طريق الحشرات؛ إذ إنني كنت قد توصلت إلى نتيجة من تأملاتي في موضوع أصل الأنواع مفادها أن التبادل قد أدى دورا مهما في الإبقاء على أشكال معينة ثابتة كما هي. وقد ظللت أبحث في هذا الموضوع على مدى فصول الصيف التالية تقريبا، وزاد اهتمامي به بدرجة كبيرة منذ أن حصلت في نوفمبر 1841، عبر نصيحة روبرت براون، على نسخة من الكتاب الرائع «الكشف عن أسرار الطبيعة» لصاحبه سي كيه سبرينجل وقرأته، وقد كان ذلك بناء على نصيحة روبرت براون. وعلى مدى عدد من السنوات قبل 1862، كنت مهتما بالبحث في موضوع تلقيح السحلبيات البريطانية على وجه التحديد، وقد بدا لي أن الخطة الأنسب هي أن أقوم بإعداد بحث مكتمل قدر الإمكان عن هذه المجموعة من النباتات، وذلك بدلا من استخدام ذلك القدر الهائل من المواد عن النباتات الأخرى، والذي كنت قد جمعته ببطء قبل ذلك.
وقد ثبت أن قراري هذا كان حكيما؛ فمنذ ظهور كتابي، ظهر عدد هائل من الأوراق البحثية والأعمال المنفصلة عن تلقيح جميع أنواع الزهور، وقد كانت هذه الأعمال أفضل كثيرا مما كان من الممكن أن أقدمه في عملي. وها قد عرفت الآن جدارة سبرينجل المسكين العجوز بعد موته بسنوات عديدة، وذلك بعد فترة طويلة من التجاهل.
خلال السنة نفسها، نشرت في دورية «جورنال أوف ذا لينيان سوسايتي» ورقة بحثية بعنوان «عن شكلي زهرة الربيع، أو الحالة ثنائية الشكل لها»، وكذلك نشرت على مدى السنوات الخمس التي تليها، خمس ورقات بحثية أخرى عن النباتات الثنائية الشكل والنباتات الثلاثية الشكل. وأنا لا أعتقد أن أي شيء قمت به على مدى حياتي العلمية بأكملها قد منحني هذا القدر الكبير من الرضا الذي منحني إياه التوصل إلى تركيب هذه النباتات. كنت قد لاحظت في عام 1838 أو 1839، ثنائية شكل زهرة الكتان الأصفر، وقد حسبت في البداية أنها مجرد حالة مختلفة لا معنى لها. لكن عند دراسة الأنواع الشائعة من زهرة الربيع، وجدت أن الشكلين كانا على درجة كبيرة من الشيوع والثبات، بما لا يسمح بالنظر إليهما بهذه الطريقة؛ ولهذا، فقد أصبحت مقتنعا بدرجة كبيرة بأن زهرة الربيع العطري وزهرة الربيع الشائعة في طريقهما إلى أن تصبحا منفصلتي الجنس؛ فقد كانت المدقة القصيرة في الشكل الأول والسداة القصيرة في الشكل الآخر، تتجهان إلى الإجهاض، ووفقا لهذه الرؤية، تكون النباتات معرضة لمحنة. بالرغم من ذلك، فحالما لقحت الزهور ذات المدقات القصيرة بحبوب اللقاح من الزهور ذات الأسدية القصيرة، اتضح أن ذلك ينتج عددا من البذور أكبر مما ينتجه غيرها من الاتحادات المحتملة الأربعة؛ ومن ثم، فقد تحطمت نظرية الإجهاض تماما. وبعد المزيد من التجارب، اتضح أن درجة القرابة التي تربط بين الشكلين، بالرغم من أنهما كانا خنثويين تماما، هي درجة القرابة نفسها التي تربط بين أي زوج متغاير الجنس من الحيوانات المعتادة. ولنا في جنس الخثري
Lythrum
مثال أكثر روعة لحالة نجد فيها ثلاثة أشكال يحمل كل منها للآخر درجة القرابة نفسها. وقد اكتشفت بعد ذلك أن الذرية التي تنتج عن اتحاد اثنين من النباتات التابعة للأشكال نفسها، تمثل تشابها غريبا وقريبا مع الهجائن الناتجة عن اتحاد نوعين متباينين.
في خريف عام 1864، انتهيت من ورقة بحثية طويلة عن «النباتات المتسلقة»، وأرسلتها إلى الجمعية اللينية. وقد استغرقت مني كتابة هذه الورقة أربعة شهور، لكنني كنت مريضا للغاية حين تلقيت بروفات الطباعة، فاضطررت إلى أن أتركها على حال سيئة، وبما يشوبها من غموض في معظم الأجزاء. لم تحظ الورقة بقدر كبير من الانتباه، لكنها قد حققت مبيعات جيدة بعد تحريرها جيدا ونشرها ككتاب منفصل في عام 1875. وقد دفعني إلى الاهتمام بهذا الموضوع ورقة بحثية قصيرة لآسا جراي نشرت في عام 1858 كنت قد قرأتها. وقد أرسل إلي جراي بعض البذور، ومع زراعة النباتات، أصبحت منبهرا وحائرا للغاية إزاء تلك الحركات الالتفافية للمحالق والسيقان؛ وقد كانت هذه الحركات بسيطة جدا في واقع الأمر، رغم أنها تبدو للوهلة الأولى معقدة للغاية، حتى إنني قد حصلت على المزيد من النباتات المتسلقة لكي أدرس الموضوع بأكمله. وقد ازداد اهتمامي بالموضوع بدرجة كبيرة ؛ إذ إنني لم أكتف على الإطلاق بالتفسير الذي قدمه هنزلو في محاضراته عن النباتات الملتفة، والذي يرى أن هذه النباتات تميل تلقائيا إلى أن تنمو على نحو لولبي. وقد ثبت أن هذا التفسير خاطئ تماما؛ إذ إن بعض أساليب التكيف التي نشهدها في النباتات المتسلقة لا تقل جمالا عن تلك التي تتبناها السحلبيات لضمان حدوث التلقيح المتبادل.
كما ذكرت سابقا، فإنني كنت قد بدأت في كتابي «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» في بداية عام 1860، لكنه لم ينشر حتى بداية عام 1868. لقد كان كتابا ضخما وقد استغرق مني أربع سنوات وشهرين من العمل الشاق. وقد طرحت فيه جميع ملاحظاتي وعددا كبيرا من الحقائق التي جمعتها من مصادر متعددة عن إنتاجنا عن طريق التدجين. وقد تناولت في الجزء الثاني الأسباب والقوانين الخاصة بالتباين والوراثة وغير ذلك، بالقدر الذي تسمح به معرفتنا الحالية. وقرب نهاية العمل، قدمت فرضيتي عن شمولية التكوين، وهي التي أسيء التعامل معها. إن الفرضية التي لا تثبت صحتها ليست لها قيمة كبيرة، وقد تكون عديمة القيمة تماما، لكن إذ جمع شخص بعد ذلك ملاحظات تؤكد صحة هذه الفرضية، فإنني سأكون بذلك قد قدمت خدمة كبيرة؛ فحينها سنتمكن من الربط بين عدد مذهل من الحقائق المنفصلة لتصبح واضحة ومفهومة. وفي عام 1875، ظهر من هذا الكتاب طبعة ثانية ومنقحة على نحو كبير، وهو ما كلفني قدرا كبيرا من العمل الشاق.
في فبراير من عام 1871، نشر كتابي «نشأة الإنسان»؛ ففور أن أصبحت مقتنعا في عام 1837 أو 1838 أن الأنواع الحية يمكن أن تتغير، لم أستطع أن أتجنب الاعتقاد بأن الإنسان كذلك لا بد أنه يخضع إلى هذا القانون. وبناء على ذلك، بدأت في جمع ملاحظات عن الموضوع لإشباع رغبتي في المعرفة فحسب دون أي نية للنشر، غير أن ذلك لم يستمر لوقت طويل. وبالرغم من أن كتاب «أصل الأنواع» لا يناقش نشوء أي نوع محدد من الأنواع الحية، فقد رأيت أنه من الأفضل أن أضيف فيه أنه من خلال هذا العمل «سيلقى الضوء على نشأة الإنسان وتاريخه»، وذلك لئلا يتهمني أي رجل فاضل بإخفاء آرائي. وعلاوة على ذلك، فإن تناول الموضوع دون الإشارة إلى اعتقادي بخصوص نشأة الإنسان، كان سيصبح أمرا عقيما يضر بنجاح الكتاب.
لكن حين وجدت أن العديد من علماء التاريخ الطبيعي قد تقبلوا نظرية تطور الأنواع الحية بنحو كامل، رأيت أنه من الأفضل أن أواصل العمل على الملاحظات التي أمتلكها، وأن أنشر بحثا خاصا عن أصل الإنسان ونشأته. وقد كنت سعيدا للغاية بالقيام بذلك؛ إذ أتيحت لي الفرصة في مناقشة الانتقاء الجنسي بنحو كامل، وهو موضوع لطالما كان يثير اهتمامي بدرجة كبيرة. إن هذا الموضوع، وكذلك الخاص بتباين إنتاجنا الداجن، مع الأسباب والقوانين التي تحكم تباين الأنواع الحية الناتجة في ظروف التدجين، وكذلك الوراثة، والتلقيح المتبادل في النباتات، هي الموضوعات الوحيدة التي تمكنت من الكتابة فيها بنحو كامل لكي أستخدم جميع المواد العلمية التي جمعتها. لقد استغرق مني كتاب «نشأة الإنسان» ثلاثة أعوام في كتابته، لكن جزءا من هذا الوقت قد ضيع علي كالعادة نظرا لاعتلال صحتي، وكذلك قد أنفقت بعضه في الإعداد لطبعات جديدة من كتبي وبعض الأعمال الصغيرة الأخرى. وقد ظهرت طبعة ثانية ومنقحة على نحو كبير من كتاب «نشأة الإنسان» عام 1874.
نشر كتابي عن «التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان» في خريف عام 1872، وقد كانت نيتي أن أخصص للموضوع فصلا في كتاب «نشأة الإنسان»، لكن حالما بدأت في تجميع ملاحظاتي معا، رأيت أنها ستستلزم كتابا مستقلا.
ولد طفلي الأول في السابع والعشرين من ديسمبر عام 1839، وقد بدأت على الفور منذ أول فجر له في هذه الحياة، في تدوين ملاحظات عن جميع ما يبديه من انفعالات؛ فحتى في هذه الفترة المبكرة كنت مقتنعا بأن جميع الانفعالات بكل أشكالها الأعقد والأدق، لا بد أن لها أصلا طبيعيا قد نشأت منه بالتدريج. وفي صيف العام التالي، 1840، قرأت العمل الرائع الذي أنجزه السير سي بيل عن التعبير عن الانفعالات، وقد زاد ذلك من اهتمامي بالموضوع بدرجة كبيرة، غير أنني لم أوافقه الرأي على الإطلاق في اعتقاده بأن العديد من العضلات قد صممت خصيصا للتعبير عن الانفعالات. وابتداء من هذا الوقت، ظللت مهتما بالموضوع، أبحث فيه بين الحين والآخر، فيما يتعلق بالإنسان والحيوانات المدجنة كذلك. وقد حقق الكتاب مبيعات جيدة؛ فقد بيعت منه 5267 نسخة في يوم النشر.
في صيف عام 1860، كنت أستجم وأستريح بالقرب من هارتفيلد، والتي ينتشر فيها نوعان من النباتات المندرجة تحت جنس الندية، وقد لاحظت أن العديد من الحشرات قد وقعت في شراك أوراقهما. أخذت معي إلى المنزل بعضا من هذه النباتات، وحين قدمت لها الحشرات، شاهدت حركة مجساتها، وقد دفعني ذلك إلى التفكير بأنه من المحتمل أن تكون الحشرات قد وقعت في الشرك لسبب معين. ولحسن الحظ، خطر بذهني أن أقوم باختبار حاسم، وهو أن أضع عددا كبيرا من أوراقها في سوائل نيتروجينية وغير نيتروجينية لها الكثافة نفسها، وفور أن رأيت أن النوع الأول فقط هو الذي استثار الحركة في الأوراق، أدركت أن ذلك حقل جديد وجيد للأبحاث.
على مدى السنوات التالية، كنت كلما حظيت بفسحة من الوقت، واصلت العمل على تجاربي. وقد نشر كتابي عن «النباتات الآكلة الحشرات» في يوليو عام 1875؛ أي بعد ملاحظاتي الأولى بستة عشر عاما. وقد كان في تأخر نشر هذا الكتاب فائدة عظيمة لي، كما هي الحال مع بقية كتبي؛ إذ يصبح المرء بعد مرور فترة طويلة قادرا على أن ينقد عمله بنفسه، وبجودة تقترب للغاية من تلك التي يقدمها في نقد عمل شخص آخر. لقد كان اكتشاف حقيقة أن نباتا معينا، حين يتعرض للإثارة المناسبة، يفرز سائلا يحتوي على حمض ومادة مخمرة، تشبه السوائل الهاضمة لدى الحيوانات، بالتأكيد اكتشافا هاما.
في خريف هذا العام 1876، سوف أنشر كتابا عن «تأثيرات التلقيح المتبادل والتلقيح الذاتي في المملكة النباتية» وسوف يشكل هذا الكتاب تكملة لكتاب «تلقيح السحلبيات»، وهو الذي وضحت فيه مدى المثالية التي كانت عليها وسائل التلقيح المتبادل، وسوف أقوم في هذا الكتاب الجديد بتوضيح أهمية النتائج. على مدى أحد عشر عاما، كنت أقوم بالتجارب التي أوردتها في هذا الكتاب، وما دفعني إلى القيام بها سوى ملاحظة عارضة. وقد كان لا بد لهذه الملاحظة العارضة أن تتكرر بالطبع قبل أن تسترعي كامل انتباهي إلى تلك الحقيقة الهامة التي تقول بأن الشتلات الناتجة عن التلقيح الذاتي للأصل الأبوي، تكون أقصر من الشتلات الناتجة عن التلقيح المتبادل للأصل الأبوي وأضعف منها، حتى في الجيل الأول. وإنني آمل أيضا في إعادة نشر نسخة منقحة من كتابي عن السحلبيات، وكذلك الأوراق البحثية التي نشرتها عن النباتات الثنائية الشكل والنباتات الثلاثية الشكل، مع بعض الملاحظات الإضافية عن بعض النقاط المتصلة بها، والتي لم يتسن لي الوقت قط في ترتيبها. وسوف أكون قد استنفدت جميع قواي حينئذ، وسأكون مستعدا لأن أدعو الرب قائلا: «والآن فلتطلقني بسلام.» (5-2) كتب في الأول من مايو 1881
نشر كتاب «تأثيرات التلقيح المتبادل والتلقيح الذاتي» في خريف عام 1876، وأنا أعتقد أن النتائج الواردة فيه تساهم في تفسير وجود ذلك العدد اللانهائي من الوسائل المبتكرة الرائعة لانتقال حبوب اللقاح من نبات إلى آخر من النوع نفسه. بالرغم من ذلك، وبناء على ملاحظات هيرمان مولر، فإنني أرى الآن أنه كان علي التركيز بصورة أكبر على وسائل التكيف العديدة للتلقيح الذاتي، وهي التي كنت على دراية جيدة بالكثير منها. وقد نشر من كتابي «تلقيح السحلبيات» طبعة أكثر تفصيلا في عام 1877.
في هذا العام نفسه، ظهر كتاب «الأشكال المختلفة للزهور، إلى آخره» وفي عام 1880، ظهر منه طبعة ثانية. ويتكون هذا الكتاب بصفة أساسية من عدة أوراق علمية عن الزهور ذات الأعضاء الجنسية متفاوتة الأطوال، التي كانت قد نشرت في الأصل عن طريق الجمعية اللينية، والتي خضعت للتحرير وإضافة الكثير من المواد الجديدة إليها، مع تقديم ملاحظات على بعض الحالات الأخرى التي يحمل فيها النبات نفسه نوعين من الزهور. وكما ذكرت سابقا، فإن أيا من اكتشافاتي الصغيرة لم يمنحني من السرور ما شعرت به حين تمكنت من تفسير ظاهرة تفاوت أطوال الأعضاء الجنسية في الزهور. وأعتقد أن النتائج المترتبة على تلقيح هذه الزهور بإحدى الطرق التهجينية، لها أهمية كبيرة؛ إذ إنها ترتبط بموضوع عقم الهجائن، غير أن هذه النتائج لم يلاحظها سوى عدد قليل من الأشخاص.
في عام 1879، نشرت ترجمة لعمل «حياة إيرازموس داروين» لصاحبه الدكتور إرنست كراوس، وقد أضفت وصفا لشخصيته وعاداته، من مواد كنت أمتلكها. لقد كانت الحياة القصيرة التي عاشها هذا الرجل تثير اهتمام العديد من الأشخاص، وقد فوجئت أن عدد النسخ المبيعة لم يزد على 800 أو 900 نسخة.
في عام 1880، نشرت بمساعدة [ابني] فرانك، كتابنا عن «قوة الحركة في النباتات»، وقد كان ذلك عملا شاقا. ويرتبط الكتاب بعض الشيء بكتابي الصغير عن «النباتات المتسلقة»، مثلما يرتبط كتاب «التلقيح المتبادل» بكتاب «تلقيح السحلبيات»؛ فوفقا لمبدأ التطور، لم يكن من الممكن تفسير السبب في أن النباتات المتسلقة قد تطورت إلى العديد من المجموعات التي تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا، ما لم تكن النباتات جميعها تمتلك قدرا بسيطا من القدرة على القيام بالحركة بنحو مماثل. وقد أثبت صحة هذا التفسير، وقادني ذلك إلى تعميم أكثر شمولا، وهو أن أعظم أنواع هذه الحركات وأهمها، وهي التي يحفزها الضوء وقوة الجاذبية وغير ذلك، هي أشكال معدلة من الحركة الأساسية المتمثلة في الالتفاف الدائري. ولطالما كنت أشعر بالسعادة لرفع النباتات لمستوى الكائنات المتعضية؛ لذا فقد سررت بنحو خاص لتوضيح ما يقوم به طرف جذر النبات من حركات كثيرة، وما تظهره من حسن تكيف مثير للإعجاب.
لقد أرسلت الآن (1 مايو 1881) إلى المطابع مخطوطة كتاب صغير عن «تكون العفن النباتي بفعل الديدان»، وهو موضوع لا يشكل أهمية كبيرة، ولا أعلم إن كان سيثير اهتمام القراء أم لا، لكنه يثير اهتمامي. [جدير بالذكر أنه في الفترة بين نوفمبر 1881 وفبراير 1884، بيعت من هذا الكتاب 8500 نسخة.] وهو تكملة لورقة بحثية قصيرة كنت قد قرأتها على الجمعية الجيولوجية منذ ما يزيد على أربعين عاما، وقد قمت فيها بإحياء أفكار جيولوجية قديمة.
الآن وقد ذكرت جميع الكتب التي نشرتها، وهي التي تمثل معالم بارزة في حياتي، فلا يتبقى لي بعدها إلا القليل مما يمكنني قوله. إنني لا ألاحظ أي تغيير في طريقة تفكيري على مدى آخر ثلاثين عاما فيما عدا نقطة واحدة سأذكرها بعد قليل، والواقع أنه ليس ثمة تغيير متوقع سوى التدهور العام. غير أن أبي قد عاش حتى بلغ الثالثة والثمانين، وظل ذهنه حادا كما كان دائما، وظلت جميع قدراته كما هي دون أن يخفت توهجها، وأنا أرجو أن أموت قبل أن يتأثر أدائي الذهني بدرجة كبيرة. أعتقد أنني قد أصبحت أكثر براعة قليلا في تخمين التفسيرات الصحيحة، وفي تصميم الاختبارات التجريبية، لكن ذلك على الأرجح نتيجة الممارسة فقط وتراكم مخزون أكبر من المعرفة. ولا زلت أواجه القدر نفسه من الصعوبة التي كنت أواجهها دائما في التعبير عن نفسي بإيجاز ووضوح، وقد كلفتني هذه الصعوبة ضياع الكثير من الوقت، لكنها قد أفادتني كذلك إذ دفعتني إلى التمهل والتفكير مليا في كل جملة تخرج مني؛ ومن ثم فقد تسنى لي أن أكتشف ما ارتكبت من أخطاء فيما أعرضه من تسويغ منطقي أو في ملاحظاتي أو ملاحظات الآخرين.
يبدو أن ثمة شيئا كارثيا في ذهني يدفعني دائما إلى كتابة رؤيتي أو فرضيتي في البداية بطريقة خاطئة أو غريبة. لقد اعتدت في السابق على أن أفكر في الجمل قبل تدوينها، لكنني اكتشفت منذ عدة سنوات طريقة أخرى وجدت أنها توفر الوقت، وهي أن أكتب ما يدور في عقلي بخط رديء وبأسرع ما أستطيع، مع اختزال نصف الكلمات، ثم أدقق بعد ذلك في تصويبها؛ فغالبا ما تكون الجمل التي تكتب بسرعة وعفوية أفضل كثيرا من تلك التي أتحرى كتابتها.
والآن، وبعد أن ذكرت كل هذا القدر عن أسلوبي في الكتابة، سوف أضيف أنني في الكتب الكبيرة، أقضي وقتا طويلا في إعداد الترتيب العام للمحتوى؛ فأبدأ بإعداد تخطيط عام ومبدئي للمحتوى في صفحتين أو ثلاث، ثم أتبعه بآخر أطول منه يتكون من عدة صفحات، مستخدما كلمة واحدة أو بضع كلمات للإشارة إلى موضوع بأكمله أو مجموعة من الحقائق. ثم أستطرد بعض الشيء في الكتابة عن كل من هذه العناوين، التي غالبا ما يتغير موقعها قبل أن أبدأ بالكتابة بتفصيل وإسهاب. وكما هي الحال في العديد من كتبي، فإنني أستخدم الحقائق التي توصل إليها الآخرون عن طريق الملاحظة استخداما مكثفا؛ ونظرا لأنني أعمل دائما على عدد من الموضوعات المختلفة في الوقت نفسه، فإنني أحتفظ بعدد كبير من حافظات الأوراق يتراوح عددها بين الثلاثين والأربعين، وأضعها في خزائن ذات رفوف، وعلى كل منها عنوان موضوع محدد، وبهذا، أتمكن من أن أضع فيها مذكرة أو مرجعا منفصلا. إنني أبتاع الكثير من الكتب، وفي نهاية كل منها، أصنع فهرسا بالحقائق التي ترتبط بعملي، أو، إذا لم يكن الكتاب أحد كتبي، أكتب ملخصا مستقلا له، وأضع هذه الملخصات في درج كبير. وقبل البدء في أي موضوع، ألقي نظرة على جميع الفهارس القصيرة وأصنع منها فهرسا عاما ومرتبا، وحين أختار ما أريده من حافظات الأوراق، سواء أكانت واحدة أم اثنتين، تصبح لدي جميع المعلومات التي جمعتها في حياتي جاهزة للاستخدام.
لقد ذكرت أن عقليتي قد تغيرت على مدى العشرين أو الثلاثين عاما الأخيرة في جانب واحد؛ فحتى سن الثلاثين أو بعدها، كنت أستمتع بشدة بالعديد من أنواع الشعر؛ مثل أعمال ميلتون وجراي وبايرون ووردزوورث وكولريدج وشيلي، وحتى حين كنت صبيا في المدرسة، كنت أستمتع بشدة بأعمال شكسبير، لا سيما مسرحياته التاريخية. وقد ذكرت أيضا أن اللوحات كانت تبهجني بعض الشيء فيما سبق، وكانت الموسيقى تمنحني متعة عظيمة. أما الآن، وعلى مدى سنوات عديدة فأنا لا أتحمل أن أقرأ بيتا واحدا من الشعر؛ فقد حاولت مؤخرا أن أقرأ لشكسبير، لكنني وجدته مملا بنحو لا يحتمل حتى إنني قد شعرت بالغثيان. وقد فقدت اهتمامي باللوحات والموسيقى تقريبا. وقد أصبحت الموسيقى تنشط ذهني وتحفزني على التفكير في الموضوع الذي أعمل عليه، ولم تعد تبهجني كما في السابق. ما زلت أجد بعض الاستمتاع في مشاهدة المناظر الجميلة، لكنها لم تعد تمنحني ذلك السرور البديع التي كانت تمنحني إياه من قبل. وعلى العكس من ذلك ، فإن الروايات، والتي هي أعمال من نسج الخيال، رغم أنها ليست على قدر عال من الأهمية، ظلت لسنوات تمنحني سرورا وراحة رائعة، وأنا غالبا ما أكن التقدير لجميع الروائيين. وقد قرئ على مسامعي عدد هائل من الروايات، وأنا أحب جميع الروايات، ما دامت على قدر معقول من الجودة، ولا تنتهي بنهاية تعيسة - وهو أمر يجب أن يمنعه القانون. وبالنسبة لي، فإن الرواية لا ترقى إلى المرتبة الأولى إلا أن تكون بها شخصية يمكن أن نكن لها حبا عميقا، وحبذا لو كانت امرأة جميلة.
إن هذه الحالة العجيبة والمؤسفة من فقدان القدرة على تذوق الفنون الراقية لهي أمر غريب للغاية؛ إذ إن كتب التاريخ والسير الذاتية وكتب الرحلات (بغض النظر عن أي حقائق علمية قد تحتوي عليها)، وكذلك المقالات في جميع الموضوعات، ما تزال تثير اهتمامي بالقدر نفسه كما كانت دائما. ويبدو أن عقلي قد أصبح ضربا من الآلات المعدة لاستخلاص القوانين العامة من بين مجموعات ضخمة من الحقائق، غير أنني لا أستطيع أن أفهم السبب في أن ذلك قد تسبب في ضمور ذلك الجزء وحده من العقل، الذي يتوقف عليه تذوق هذه الفنون الراقية. وأعتقد أن أي شخص يتمتع بعقل أعلى تنظيما من عقلي، أو أفضل تكوينا، لن يعاني مما أعانيه، وإن كان لي أن أعيش حياتي مرة أخرى، لوضعت قاعدة في حياتي تتضمن قراءة بعض الشعر والاستماع إلى بعض الموسيقى مرة في الأسبوع على الأقل؛ فلربما كان ذلك الجزء الذي ضمر من عقلي الآن، سيظل نشطا إن تعرض للاستخدام المستمر. إن فقدان القدرة على تذوق هذه الفنون، لهو فقدان للسعادة، وربما يضر بالقدرات الذهنية، والأرجح أنه مضر للجانب الأخلاقي؛ إذ يضعف الجانب العاطفي من طبيعتنا.
لقد حققت كتبي مبيعات كبيرة في إنجلترا، وترجمت إلى العديد من اللغات، وكذلك صدرت منها عدة طبعات في الدول الأجنبية. وقد سمعت أن نجاح أي عمل في بلد أجنبي هو الاختبار الأفضل لقيمته الدائمة، وأنا لا أثق فيما إن كان هذا القول جديرا بالثقة تماما ، لكن بالقياس على هذا المعيار، فإن اسمي سيبقى مترددا لبضع سنين؛ لذا، ربما يكون من المفيد هنا محاولة تحليل القدرات الذهنية والظروف التي توقف عليها نجاحي، بالرغم من أنني أدرك أن أحدا لا يستطيع أن يقوم بهذه المهمة بنحو صحيح.
إنني لا أتمتع بسرعة الفهم أو البديهة التي يتميز بها غيري من الرجال البارعين، ومنهم هكسلي على سبيل المثال؛ ولهذا فأنا ناقد سيئ؛ فحين أقرأ كتابا أو ورقة بحثية للمرة الأولى، فإنها تثير إعجابي بوجه عام، ولا أدرك مواطن ضعفها إلا بعد فترة ليست بالهينة من التأمل والتفكر. وأما قدرتي على متابعة سلسلة طويلة وخالصة التجريد من الأفكار، فهي محدودة للغاية؛ ولهذا السبب، لم أكن لأحقق أي نجاح في مجال الميتافيزيقيا أو الرياضيات. إنني أتمتع بذاكرة هائلة، لكنها مشوشة؛ فهي تكفي لأن تجعلني حريصا؛ إذ تشير إلي على نحو غامض بأنني قد لاحظت أو قرأت شيئا يتعارض مع النتيجة التي يقودني تفكيري إليها، أو يؤيدها، وبعد فترة من الوقت، أستطيع أن أتذكر بوجه عام المصدر الذي يجب أن أبحث فيه عما أرجع إليه. والحق أن ذاكرتي ضعيفة جدا في أحد الجوانب، وهو أنني لم أستطع قط أن أتذكر تاريخا واحدا أو بيتا من الشعر لما يزيد على بضعة أيام.
لقد قال عني بعض النقاد: «حسنا، إنه يتمتع بقدرة جيدة على الملاحظة، لكنه يفتقر إلى القدرة على التسويغ المنطقي!» وأنا لا أعتقد أن ذلك يمكن أن يكون صحيحا؛ إذ إن كتاب «أصل الأنواع» هو نقاش جدلي طويل من أوله إلى آخره، وقد أقنع عددا ليس بالقليل من الرجال البارعين، ولم يكن لأحد أن يكتبه دون أن يمتلك القدرة على التسويغ المنطقي. وأنا أتمتع بحظ جيد من الابتكار، وكذلك من حسن الإدراك والتقدير، بالدرجة التي يتمتع بها أي محام أو طبيب بارع بعض الشيء، لا أكثر، في رأيي.
وأما عن الجانب المميز في، فأنا أعتقد أنني أتفوق على الغالبية العظمى من الناس في الالتفات إلى الأمور التي يسهل أن تفلت من الانتباه ، وملاحظتها بعناية. ولقد ثابرت بأقصى ما أستطيع على الملاحظة وجمع الحقائق. والأهم من ذلك، أن حبي للعلوم الطبيعية ظل متقدا وثابتا.
بالرغم من ذلك، فإن ما ساعد كثيرا هذا الحب الخالص هو طموحي إلى أن أحظى بتقدير زملائي من علماء التاريخ الطبيعي. ومنذ بداية شبابي، تملكتني رغبة شديدة في فهم أي شيء ألاحظه أو تفسيره؛ أي تجميع الحقائق كلها تحت قوانين عامة. وهذه الأسباب مجتمعة قد أمدتني بالقدرة على الصبر للتأمل والتفكر في أي مسألة غير مفهومة، مهما طالت المدة لأي عدد من السنوات. وأعتقد أنني لست قادرا على الاتباع الأعمى لآراء غيري من الأشخاص. وكنت أسعى دوما إلى الحفاظ على عقلي حرا لكي أكون قادرا على التخلي عن أي فرضية مهما بلغ حبي لها (وأنا لا أستطيع أن أقاوم تكوين فرضية جديدة عن كل موضوع)، فور أن تتضح أي حقائق تعارضها. والواقع أنه لم يكن لدي خيار للتصرف بما هو دون ذلك، وباستثناء موضوع الشعاب المرجانية، فأنا لا أتذكر فرضية واحدة لم تتغير بعد ذلك أو تعدل بدرجة كبيرة. وقد دفعني ذلك تلقائيا إلى عدم الثقة على نحو كبير في التفكير الاستنباطي في العلوم المختلطة. وعلى الجانب الآخر، فإنني لست متشككا بشدة، وأنا أعتقد أن هذا الإطار الذهني يضر بتقدم العلوم. فمن المحبذ لرجل العلم أن يتحلى بقدر معقول من التشكك وذلك لتجنب إهدار الكثير من الوقت، غير أنني قابلت عددا ليس بالقليل من الرجال أعرف يقينا أنهم كثيرا ما أحجموا عن الملاحظة أو إجراء التجارب، التي كانت ستثبت فائدتها، سواء بنحو مباشر أو غير مباشر.
وللتوضيح، سوف أعرض أغرب حالة عرفتها. كان أحد الرجال الأفاضل (وهو الذي قد سمعت بعد ذلك أنه عالم نبات محلي جيد) قد كتب إلي من المقاطعات الشرقية يخبرني أن بذور أو حبوب الفاصوليا الخضراء قد نبتت هذا العام في كل مكان على الجانب المخالف للمألوف من القرن. وقد كتبت له ردا على خطابه أطلب منه المزيد من المعلومات؛ إذ لم أكن أفهم ما يعنيه، غير أنني لم أتلق منه ردا إلا بعد فترة طويلة للغاية. ثم قرأت بعد ذلك في جريدتين، كانت تنشر إحداهما في كنت والأخرى في يوركشاير، بعض الأخبار التي تذكر أنها لحقيقة جديرة بالملاحظة أن «حبوب الفاصوليا في هذا العام قد نمت على الجانب المخالف للمألوف.» لذا، فقد ظننت أنه لا بد أن هناك أساسا لمثل هذا الادعاء العام؛ وبناء على هذا، فقد ذهبت إلى البستاني الذي يعمل لدي، وهو رجل عجوز من كنت، وسألته عما إذا قد سمع بأي شيء عن ذلك؛ فأجابني: «أوه، كلا يا سيدي، لا بد أن هناك خطأ ما؛ فالفاصوليا لا تنمو على الجانب المخالف للمألوف إلا في السنة الكبيسة، ولسنا في سنة كبيسة.» وقد سألته بعد ذلك عن الشكل الذي تنمو عليه في السنوات الكبيسة، لكنني اكتشفت أنه لا يعرف شيئا عن كيفية نموها في أي وقت، وإنما كان متمسكا باعتقاده فحسب.
وبعد فترة من الوقت، أرسل إلي الشخص الذي كان قد أخبرني بالأمر في البداية الكثير من الاعتذارات قائلا إنه لم يكن ليرسل إلي، لو أنه لم يسمع ذلك من العديد من المزارعين البارعين، لكنه قد تحدث إليهم بعد ذلك، ولم يفهم أي منهم على الإطلاق ما كان يعنيه بكلامه. وهكذا، فقد أصبح لدينا اعتقاد - هذا إذا كان من الممكن أن نطلق على أي ادعاء لا يتضمن أي فكرة محددة اسم اعتقاد - قد انتشر في معظم أنحاء إنجلترا دون أي دليل على الإطلاق.
لم أعرف على مدى حياتي سوى ثلاثة ادعاءات خاطئة عن عمد، وربما كانت إحداها أكذوبة (وقد كان هناك العديد من الأكاذيب العلمية)، غير أنها قد وردت في إحدى الدوريات الزراعية الأمريكية. وقد كانت تتعلق باستيلاد سلالة جديدة من الثيران في هولندا، وذلك من خلال التهجين المتبادل لأنواع معينة من البقر (التي قد تصادف أني أعرف أن بعضها يصبح عقيما معا) وقد كان الكاتب يتمتع بالصفاقة إذ أعلن أنه قد تواصل معي وأنني كنت شديد الانبهار بأهمية هذه النتائج. وقد عرفت بهذا المقال؛ إذ أرسله إلي محرر في إحدى الدوريات الزراعية الإنجليزية، طالبا لرأيي في إعادة نشره.
وأما الحالة الثانية، فقد كانت تقريرا عن ضروب عديدة قد أنتجت من أنواع متعددة من زهرة الربيع، التي أثمرت تلقائيا عن مجموعة كاملة من البذور، بالرغم من أن النباتات الأصلية كانت محمية بعناية بحيث لا يمكن للحشرات الاقتراب منها. وقد نشر هذا التقرير قبل أن أكتشف معنى تفاوت أطوال الأعضاء الجنسية في الزهور، ولا شك في أن الادعاء بأكمله كان كاذبا، أو كان هناك إهمال شديد في إبعاد الحشرات، بدرجة يصعب تصديقها.
وأما الحالة الثالثة، فقد كانت أكثر غرابة؛ فقد نشر السيد هوث في كتابه عن «اقتران الأقارب» مقتطفات طويلة من باحث بلجيكي ذكر أنه قد استولد أرانب من أزواج وثيقي القرابة على مدى أجيال عديدة دون أي تأثيرات ضارة. وقد نشر التقرير بإحدى أكثر الدوريات العلمية احتراما، وهي الدورية الخاصة بالجمعية الملكية البلجيكية. وبالرغم من ذلك، فلم أستطع تجنب ما انتابني من شكوك، ولم أكن أعرف سببا لذلك، سوى أنه لم يكن ثمة سابقة من هذا القبيل، كما أن خبرتي في استيلاد الحيوانات قد دفعتني إلى التفكير بأن حدوث مثل هذا الاحتمال ضعيف للغاية.
ولهذا، وبعد تردد كبير، كتبت إلى البروفيسور فان بيندين أسأله عما إذا كان الكاتب جديرا بالثقة أم لا. وسرعان ما جاءني الرد بأن الجمعية قد صدمت صدمة عظيمة؛ إذ اكتشفت أن التقرير بأكمله كان مزيفا. [جدير بالذكر أن السيد هوث قد أوضح بنفسه عدم صحة الادعاءات التي استند إليها، وذلك في قصاصة ألحقها بجميع نسخ كتابه التي لم تكن قد بيعت بعد.] وقد جرت مواجهة الكاتب علنيا في الدورية وطلب منه تحديد المكان الذي احتفظ فيه بهذا العدد الكبير من الأرانب في أثناء قيامه بتجاربه، والتي لا بد أنها قد استغرقت عدة سنوات، غير أنه لم يرد.
لقد كانت عاداتي منهجية، وكان لذلك أهمية كبيرة في مجال عملي. وأخيرا، قد أصبحت أتمتع بفسحة من الوقت؛ إذ لم يعد علي أن أكسب قوت يومي. وحتى اعتلال صحتي، فبالرغم من أنه قد أهدر عدة سنوات من حياتي، فقد كفاني إلهاءات المجتمع ولهوه.
ولهذا، فإنني أرى أن نجاحي كأحد رجال العلم، بغض النظر عن المدى الذي بلغه، كان نتاجا للعديد من الظروف والقدرات العقلية المتنوعة والمعقدة. والأهم من بينها، كان هو حبي للعلوم، والصبر اللامتناهي على طول التفكر في أي موضوع، والمثابرة على ملاحظة الحقائق وجمعها، وقدرا لا بأس به من الابتكار وكذلك من حسن التمييز. وبهذه القدرات المتوسطة التي أمتلكها، فإنه لمن المدهش حقا أن أكون قد أثرت بقدر غير هين في رأي العلماء بشأن بعض النقاط المهمة.
شكل منزل داون من الحديقة. بإذن من مجلة «سينتشري ماجازين».
الفصل الثالث
ذكريات من حياة والدي اليومية
أسعى في هذا الفصل لأن أقدم لمحة عن حياة والدي اليومية. وقد رأيت أنني يمكنني القيام بذلك من خلال رسم صورة سريعة للحياة اليومية في منزل داون، التي سوف تتخللها بعض الذكريات التي تستدعيها الذاكرة. والعديد من تلك الذكريات، التي هي ذات معنى لمن كانوا يعرفون والدي، ستبدو مملة وتافهة للغرباء. وبالرغم من ذلك، فسوف أذكرها لعلها تبقي على ذلك الانطباع عن شخصيته الذي ما زال باقيا لدى من عرفوه وأحبوه؛ وهو انطباع واضح جدا ولا يمكن ترجمته إلى كلمات في آن واحد.
بالنسبة إلى مظهره الشخصي (وفي ظل هذه الأيام التي نشهد فيها انتشار الصور الفوتوغرافية)، ليس هناك داع لأن نقول الكثير. لقد كان يبلغ من الطول ستة أقدام تقريبا، لكنه لم يكن يبدو طويلا للغاية؛ إذ كان ظهره محنيا بدرجة كبيرة، وقد استسلم في آخر أيامه لهذا الانحناء، لكنني أستطيع أن أتذكره قبل ذلك بفترة طويلة، وهو يقف مستقيما مع بعض الاهتزاز يطيح بذراعيه إلى الخلف ليفتح صدره. لقد كان يخلف عنه انطباعا بأنه نشيط أكثر مما هو قوي، ولم تكن كتفاه عريضتين بما يتناسب مع طوله، لكنهما لم تكونا صغيرتين بالتأكيد. لا بد أنه كان يتمتع بقدرة كبيرة على التحمل حين كان شابا صغيرا؛ ففي إحدى الجولات الاستكشافية الشاطئية، التي كان يقوم بها في رحلة «البيجل»، كان الجميع يعانون من ندرة المياه، وكان هو أحد الرجلين اللذين كانا أكثر قدرة على المثابرة بحثا عن الماء. لقد كان نشيطا حين كان صبيا، وكان يمكنه أن يقفز حاجزا يحاذي ارتفاعه «تفاحة آدم» الموجودة في رقبته.
كان يسير متأرجحا، وهو يستند على عصا كعبها من الحديد الثقيل، وهي التي كان يدق بها على الأرض بصوت عال، فتصدر حين كان يمشي بها على «الممشى الرملي» في داون طقطقة متواترة الإيقاع، والتي ظلت ذكرى واضحة للغاية لدى كل منا. وعند عودته من جولته التي كان يقوم بها في منتصف النهار، حاملا في معظم الأحوال معطفه الواقي من المطر أو عباءته؛ وذلك لشعوره بالحر الشديد، يستطيع المرء أن يرى أنه يحافظ على خطوته المتأرجحة تلك ببعض الجهد. كانت خطوته في داخل المنزل بطيئة ومجهدة في أغلب الأحيان، وحين كان يصعد الدرج في العصر، كان صوت وقع أقدامه يتردد ثقيلا، كما لو أنه كان يبذل مجهودا كبيرا في كل خطوة. أما حين كان ينهمك في عمله، فقد كان يتحرك بسرعة وسهولة كافيتين. وكثيرا ما كان يهرول داخلا إلى الردهة في أثناء قيامه بالإملاء ليشتم بعض النشوق، تاركا باب المكتب مفتوحا وصائحا بالكلمات الأخيرة من جملته في أثناء سيره. وأحيانا، كان يستخدم في داخل المنزل عصا مصنوعة من خشب البلوط تشبه عصا التسلق الصغيرة، وقد كانت تلك علامة على أنه يشعر بالدوار.
بالرغم من قوته ونشاطه، فإنني أعتقد أنه لم يكن يتمتع قط بالرشاقة في الحركة؛ فلم يكن بارعا في استخدام يديه، ولم يكن يجيد الرسم على الإطلاق. (إن الشكل الذي يمثل محتويات الخلية مجمعة في كتابه «النباتات آكلة الحشرات» من رسمه.) وقد كان يشعر بالأسف الشديد لذلك، وطالما كان يؤكد الأهمية القصوى لأن يسعى الشباب من الباحثين في التاريخ الطبيعي إلى إجادة الرسم.
كان بارعا في التشريح تحت المجهر البسيط، لكنني أعتقد أن ذلك يعود إلى ما كان يتمتع به من صبر وما يوليه من عناية بالغة. لقد كان يعتقد أن العديد من التفاصيل الصغيرة المتعلقة بالبراعة في التشريح لهي أمر يكاد يفوق مستوى القدرات البشرية. وكان يتحدث كثيرا بإعجاب عما شهده من براعة نيوبورت في تشريح نحلة طنانة؛ إذ استخرج جهازها العصبي بعد أن جزها بضع مرات فقط بمقص رفيع كان يمسكه، كما اعتاد والدي أن يوضح، وهو يرفع مرفقه، وبأسلوب يضمن تحقيق درجة كبيرة من الثبات الضروري بالطبع. لقد كان والدي يعتقد أن إعداد المقاطع التشريحية إنجاز عظيم، وفي العام الأخير من حياته، أبدى طاقة مدهشة وبذل قصارى جهده لكي يتعلم كيفية إعداد مقاطع من أوراق النباتات وجذورها. لم تكن يداه ثابتتين بما يكفي للإمساك بالشيء المراد قطع جزء منه، وقد كان يستخدم مشراحا دقيقا عاديا، تكون البقعة المخصصة للإمساك بالشيء مثبتة بإحكام، وتنزلق الشفرة على سطح زجاجي عند إعداد المقاطع. وقد اعتاد على السخرية من نفسه ومهارته في إعداد المقاطع، وهي التي كان يقول عنها: «إنها تجعله عاجزا عن الكلام من فرط الإعجاب بها.» بالرغم من ذلك، فلا بد أنه كان يتمتع بدقة النظر والقدرة على تنسيق حركاته؛ إذ كان بارعا في التصويب بالبندقية حين كان شابا، وفي الرمي حين كان صبيا. لقد قتل ذات يوم أرنبا بريا كان يجلس في حديقة الزهور في شروزبيري، وذلك برميه بقطعة صغيرة من الرخام، وحين أصبح رجلا، قتل ذات مرة طائرا ملتوي المنقار برميه بقطعة من الحجارة. لقد كان مستاء للغاية لقتله هذا الطائر بلا جدوى، حتى إنه لم يذكر الأمر لسنوات، ثم وضح بعد ذلك أنه ما كان ينبغي له أن يرميه بقطعة الحجارة، إذا لم يكن متأكدا من أنه فقد مهارته القديمة في الرمي.
كان يتململ بأصابعه في أثناء السير، وقد وصف ذلك في أحد كتبه بأنها عادة رجل عجوز. وكثيرا ما كان يمسك أحد معصميه بيده الأخرى حين كان يجلس، وقد كان يجلس واضعا ساقا على ساق، وقد كانت الساقان تتصالبان بدرجة كبيرة من شدة نحافتهما ، ويتضح ذلك في إحدى صوره الفوتوغرافية. وقد كان يرفع كرسيه الموجود في المكتب وفي غرفة الاستقبال إلى مستوى أعلى من المعتاد في الكراسي الأخرى؛ ذلك أن الجلوس على كرسي منخفض الارتفاع أو حتى في الارتفاع المعتاد كان يتسبب في شعوره بعدم الارتياح. وقد اعتدنا أن نسخر من قيامه بزيادة ارتفاع كرسيه في غرفة الاستقبال أكثر وأكثر بوضع عدد من مساند القدمين فوقه، ثم معادلة النتيجة بأن يضع قدميه على كرسي آخر.
كانت لحيته كثة وغير مهذبة في معظمها، وقد كان شعره رماديا يمتزج بالأبيض، ناعما لا خشنا، وكان مموجا أو مجعدا. وكان شاربه يبدو مشوها بعض الشيء، بقصته القصيرة العريضة. وقد أصابه الصلع فيما بعد، ولم يتبق في رأسه سوى بعض من الشعر الداكن بالخلف.
كان وجهه متورد اللون، ولعل ذلك قد جعل الناس يظنون أنه أقل اعتلالا مما كان عليه. لقد كتب إلى الدكتور هوكر (13 يونيو 1849) يقول: «إن الجميع يظنون أنني أبدو جميلا مشرق الوجه، ويظن معظمهم أنني أدعي المرض، لكنك لم تكن قط واحدا من هؤلاء.» ويجب أن نتذكر أنه كان مريضا للغاية في تلك الفترة وكان مرضه فيها أشد كثيرا من مرضه في السنوات الأخيرة من حياته. كانت عيناه بلون رمادي يميل إلى الزرقة، ويتدلى من فوقهما حاجبان بارزان وكثيفا الشعر. كان أعلى جبينه متغضنا، لكن وجهه كان خاليا من الخطوط أو العلامات فيما عدا ذلك. ولم تكن تعابير وجهه تدل على ما يعانيه من تعب مستمر.
حين كانت محادثة ممتعة تثير فيه الحماس، كانت سلوكياته كلها تصبح مشرقة ومفعمة بالحيوية على نحو رائع، وقد كان وجهه ينخرط بشدة في هذه الحيوية العامة. كانت ضحكته طلقة ورنانة، كضحكة من يكرس نفسه بكل ود واستمتاع للشخص والشيء اللذين يمتعانه. وغالبا ما كانت تبدر عنه إيماءة وهو يضحك، كأن يرفع يديه أو ينزل إحداهما بضربة بها. وأعتقد أنه كان يميل إلى استخدام الإيماءات بنحو عام، وكثيرا ما كان يستخدم يديه في شرح أي شيء (تلقيح الزهور، على سبيل المثال )، وقد كان يبدو أنه يستخدمهما كوسيلة مساعدة له وليس للمستمع. وكان يفعل ذلك في مناسبات كان معظم الأشخاص فيها يوضحون شروحاتهم باستخدام رسومات تخطيطية مرسومة بالقلم الرصاص.
كان يرتدي ملابس فضفاضة داكنة اللون. وفي سنوات حياته الأخيرة، توقف عن ارتداء القبعة الطويلة حتى في لندن، وكان يرتدي قبعة سوداء ناعمة في الشتاء، وقبعة كبيرة من القش في الصيف. وكان لباسه في خارج المنزل يتألف عادة من العباءة القصيرة التي تظهر في الصورة الفوتوغرافية التي التقطها له إليوت وفراي، وهو يميل على عمود في الشرفة. وهناك أمران غريبان فيما يتعلق بلباسه داخل المنزل، وهما أنه كان يضع شالا على كتفيه في أغلب الأحيان، وأنه كان يمتلك حذاء عالي الرقبة واسعا للغاية، ومصنوعا من القماش ومبطنا بالفراء، وهو الذي كان يرتديه فوق حذائه في داخل المنزل. ومثل غيره من الأشخاص الرقيقي الصحة، فقد كان يعاني من الحرارة ومن البرودة على حد سواء؛ كما لو أنه لا يستطيع تحقيق التوازن بين الحرارة الشديدة والبرودة الشديدة. وغالبا ما كان يشعر بالحر الشديد عندما تشغل ذهنه بشدة مسألة ما؛ فكان يخلع معطفه إذا حدث أي خطب في مسار عمله.
كان يستيقظ مبكرا وأعتقد أن ذلك يعود بصفة أساسية إلى أنه لم يكن يستطيع أن يستلقي في السرير، وأعتقد أنه كان سيحب أن ينهض أبكر مما كان يفعل. وكان يذهب في جولة قصيرة قبل الإفطار، وتلك عادة اكتسبها حين ذهب لأول مرة إلى مصحة للعلاج المائي، وقد حافظ عليها حتى آخر حياته تقريبا. وقد كنت أحب أن أذهب معه وأنا فتى صغير، والآن ترادوني ذكرى بعيدة ومبهمة لحمرة شروق الشمس في فصل الشتاء، وذكريات الرفقة الممتعة، إضافة إلى شعوري بالزهو والافتخار فيما يتعلق بهذا. وقد كان يسليني وأنا فتى صغير بأن يخبرني كيف أنه رأى في جولات سابقة له، في بواكير الصباح في الشتاء، مرة أو مرتين الثعالب وهي تهرول إلى منازلها عند الفجر.
وبعد أن يتناول الإفطار بمفرده في الثامنة إلا الربع تقريبا، كان يذهب إلى العمل على الفور، وكان يرى أن الساعة والنصف بين الساعة الثامنة والتاسعة والنصف هي من أفضل الأوقات التي يعمل فيها. وفي التاسعة والنصف، كان يذهب إلى غرفة الاستقبال لقراءة ما ورده من خطابات، مبتهجا إن لم يكن لديه الكثير منها، وقلقا في بعض الأحيان إن كانت كثيرة. ثم كان يستمع إلى أي خطابات خاصة بالعائلة تقرأ عليه بصوت عال وهو مستلق على الأريكة.
وكانت فترة القراءة بصوت عال، وهي التي كانت تتضمن أيضا قراءة جزء من رواية، تستمر حتى العاشرة والنصف تقريبا، ثم يعود والدي إلى العمل حتى الثانية عشرة أو الثانية عشرة والربع. وبحلول هذا الوقت، كان يعتبر أن يوم عمله قد انتهى، وغالبا ما كان يقول بصوت راض: «لقد أنجزت قدرا جيدا من العمل هذا اليوم.» بعد ذلك، كان يذهب إلى الخارج سواء أكان الجو صحوا أم مطيرا، وكانت كلبته التيرير البيضاء بولي، تذهب معه حين يكون الجو صحوا، لكنها كانت ترفض الذهاب معه في المطر، أو كانت تقف في الشرفة مترددة، وعلى وجهها تعبير يمتزج فيه الاستياء والخزي من افتقادها للشجاعة، غير أن ضميرها كان يسود في الغالب، وفور أن يتضح لها أنه قد ذهب بالفعل، لم تكن تطيق أن تتخلف عنه.
لقد كان أبي دائما شغوفا بالكلاب، وحين كان شابا، كان ماهرا في سرقة حب الحيوانات الأليفة التي تربيها أخته؛ ففي كامبريدج، فاز بحب كلب ابن عمه دابليو دي فوكس، وربما كان ذلك هو الوحش الصغير الذي اعتاد على أن يتسلل إلى سريره، وينام عند قدميه كل ليلة. وكان لوالدي أيضا كلب نكد، وقد كان مخلصا له للغاية، لكنه لم يكن ودودا مع أي شخص آخر، وحين عاد من رحلة «البيجل»، تذكره الكلب لكن بطريقة غريبة كان أبي مغرما بروايتها، وهي أنه قد دخل إلى الفناء ونادى عليه بطريقته القديمة، فاندفع الكلب ورافقه في سيره دون أن يبدي أي انفعال أو إثارة، كما لو أن ذلك الأمر نفسه قد حدث في اليوم السابق، لا قبل خمس سنوات. وقد عرض أبي هذه القصة في كتابه «نشأة الإنسان»، الطبعة الثانية، صفحة 74.
لم يبق في ذاكرتي سوى كلبين هما اللذان أذكر أنهما قد تعلقا بوالدي. وكان أحدهما كلب ريتريفر كبير نصف أصيل، يجمع بين اللونين الأبيض والأسود، وكان يدعى بوب، وكنا ونحن أطفال نحبه بإخلاص. وهو الكلب الذي تعرض قصة «انفعال الصوبة الزراعية» الخاصة به في كتاب «التعبير عن الانفعالات».
لكن الأكثر تعلقا بوالدي من الكلاب هي الكلبة بولي التي سبق ذكرها. وقد كانت كلبة بيضاء من نوع فوكس تيرير، وكانت قوية وحادة الذكاء وعطوفة. كانت إذا اعتزم صاحبها السفر، تكتشف دائما هذه الحقيقة من علامات حزم الأغراض التي تجري في غرفة المكتب، ويصيبها الحزن تبعا لذلك. وكانت تبتهج أيضا إذ ترى علامات إعدادات غرفة المكتب استعدادا لعودته إلى المنزل. لقد كانت كائنا صغيرا ماكرا، وقد اعتادت على أن ترتجف أو تبدي التعاسة حين يمر بها أبي، بينما تنتظر عشاءها، وكأنها تعرف أنه سيقول (كما كان يفعل في معظم الأحوال) إنها «كانت تتضور جوعا.» وقد اعتاد أبي على أن يجعلها تمسك قطع البسكويت من فوق أنفها، وقد كان يشرح لها بكل عطف ووقار أن عليها أن تكون «كلبة مطيعة للغاية». كانت لديها علامة على ظهرها هي موضع حرق قديم، وقد نما فيها الشعر من جديد باللون الأحمر بدلا من الأبيض، وقد كان أبي يثني على وجود هذه الخصلة من الشعر؛ إذ إنها تتوافق مع نظريته عن شمولية التكوين؛ فقد كان أبوها من نوع بول تيرير أحمر، ومن ثم فإن ظهور الشعر الأحمر بعد الحرق يوضح وجود بريعمات حمراء كامنة. لقد كان أبي رقيقا مع بولي بنحو رائع، ولم يبد أي ضجر على الإطلاق مما كانت تتطلبه من رعاية؛ مثل السماح لها بالدخول من الباب أو الخروج إلى الشرفة والنباح على «الأشخاص الأشقياء»، وهو واجب قد ألزمت به نفسها وقد كانت تستمتع به كثيرا. وقد توفيت، بل الأدق أننا اضطررنا إلى إنهاء حياتها بعد وفاته بأيام قليلة.
عادة ما كان أبي يبدأ الجولة التي يقوم بها في منتصف النهار، بزيارة الصوبة الزراعية، وهناك كان يفحص أي بذور نابتة أو أي نباتات تستدعي الفحص بين الحين والآخر، لكنه نادرا ما كان يجري أي ملاحظات جادة في هذا الوقت. بعد ذلك، كان يذهب في جولته، سواء حول «الممشى الرملي» أو خارج أرضه بجوار المنزل. كان «الممشى الرملي» عبارة عن شريط ضيق من الأرض، يبلغ امتداده فدانا ونصفا، ويحيط به ممشى من الحصى. وعلى جانب منه، توجد أجمة قديمة بها عدد من أشجار البلوط الكبيرة الحجم إلى حد ما، وهي التي كانت بمنزلة ملاذ ظليل للمشي، وأما الجانب الآخر، فقد كان يفصله عن حقل العشب المجاور سياج منخفض من شجيرات الزعرور، وقد كان يطل على واد هادئ ينتهي عند الأرض المرتفعة باتجاه حافة تل ويسترام، مع أيكة من أشجار البندق وأجمة من أشجار اللاركس، وهي بقايا غابة كبيرة كانت تمتد على طريق ويسترام. وقد سمعت والدي يقول إن سحر هذا الوادي الصغير البسيط قد ساعده على الاستقرار في داون.
زرع والدي في الممشى الرملي مجموعة متنوعة من الأشجار، مثل أشجار البندق والحور الرومي والليمون والنير والقضبان والحناء والقرانيا، مع صف من أشجار البهشية على طول الجانب المكشوف. كان أبي قبل ذلك يقوم بعدد معين من الدورات في كل يوم وكان يحسب عددها باستخدام كومة من صخور الصوان؛ إذ كان يركل واحدة منها على الطريق كلما مر بها. أما في السنوات الأخيرة، فأنا لا أعتقد أنه حافظ على عدد معين من الدورات، وإنما كان يقوم بأكبر عدد ممكن تساعده عليه صحته. كان الممشى الرملي هو الفناء الذي نلعب فيه حين كنا صغارا، وفيه كنا نرى والدي باستمرار وهو يقوم بجولاته. كان يحب أن يرى ما كنا نفعله، وكان مستعدا على الدوام لأن يشارك فيما نلهو فيه. وإنه لمن الغريب أن أول ما لدي من ذكريات تتعلق بوالدي والممشى الرملي تتوافق مع آخر ذكرياتي، وهو ما يوضح مدى ثبات عاداته وعدم تغيرها.
في بعض الأحيان ، حين يكون بمفرده، كان يقف ساكنا أو يمشي بهدوء ليراقب الطيور والحيوانات. وفي مرة من هذه المرات، تسلقت على ظهره وساقيه بعض السناجب اليافعة، بينما راحت أمها تنادي عليها بالتياع، وهي لا تزال في موقعها بالشجرة. لقد كان يعثر دائما على أعشاش الطيور، حتى في سنواته الأخيرة، وقد كنا نظن، ونحن ما نزال أطفالا، أنه يتمتع بموهبة فذة في ذلك الأمر. وفي تلك الجولات الهادئة التي كان يقوم بها، شاهد بعض أنواع الطيور الأقل شيوعا، لكنني أعتقد أنه لم يكن يخبرني بذلك حين كنت ولدا صغيرا؛ إذ إنه أدرك ما كنت أعانيه من ضيق شديد إن لم أتمكن من رؤية طائر السيسكن أو الحسون أو أيا ما كان الطائر الذي رآه. وقد كان يحكي لنا كيف أنه كان يسير بهدوء في «بيج-وودز» حين رأى ثعلبا نائما بالنهار، وهو الذي قد كان مندهشا للغاية حتى إنه حدق في أبي قبل أن يبتعد. وقد كان يرافق أبي في هذه الجولة كلب من نوع سبيتز، لكنه لم يبد أي علامة تدل على الإثارة تجاه الثعلب، وقد كان أبي ينهي القصة بتعجبه من وهن عزيمة الكلب.
ومن الأماكن التي كان يحبها كذلك منطقة «أوركيس بانك» التي تقع أعلى وادي كودهام الهادئ، حيث كانت تنبت السحلبيات المسكية وسحلبيات الذبابة بين أشجار العرعر، وسحلبيات السيفالنثيرا
Cephalanthera
والنيوتيا تحت أغصان شجر الزان. وقد كان مغرما كذلك بالغابة الصغيرة «هانجروف»، التي كانت أعلى هذه المنطقة قليلا، وأنا أتذكره وهو يجمع الأعشاب منها حين تراءى له تحديد أسماء الأنواع الشائعة هناك. وقد كان مغرما بتكرار قول أحد صبيانه الصغار الذي وجد نوعا من العشب لم يره أبوه من قبل فوضعه بجانب طبقه في أثناء العشاء معلقا: «أنا مستكشف أعشاب استثنائي!»
لقد كان أبي يستمتع كثيرا بالتريض على مهل في الحديقة بصحبة أمي أو بعض أطفاله، أو التنزه معهم جميعا بالجلوس على أحد المقاعد الموجود على العشب، لكنه عادة ما كان يجلس على العشب مباشرة، وأنا أتذكر أنه كان كثيرا ما يستلقي تحت إحدى أشجار الليمون الكبيرة، واضعا رأسه على الرابية الخضراء الموجودة عند قاعدتها. وحين كنا نجلس في الخارج في أجواء الصيف الجافة، عادة ما كنا نسمع البكرة الضخمة الموجودة في البئر وهي تدور؛ ولهذا فقد أصبح هذا الصوت مرتبطا بتلك الأيام السعيدة. لقد كان يحب مشاهدتنا ونحن نلعب كرة المضرب على العشب، وكثيرا ما كان يلقي لنا بأي كرة شاردة، مستخدما مقبض عصاه المقوس.
وبالرغم من أنه لم يشارك بصفة شخصية في أعمال الحديقة، فقد كان يستمتع كثيرا بجمال الزهور؛ مثل باقات الأزالية التي غالبا ما كانت تزين غرفة الاستقبال. وأعتقد أنه كان يمزج في بعض الأحيان بين إعجابه بتركيب الزهرة وجمالها الجوهري، وذلك على سبيل المثال في حالة زهور الدايلترا
Dielytra
المتدلية الضخمة بلونيها الأبيض والوردي. وبالطريقة نفسها، فقد كان يكن حبا، نصفه علمي ونصفه فني، لزهرة اللوبيليا الزرقاء الصغيرة؛ ونظرا لإعجابه بالزهور، فكثيرا ما كان يسخر من الألوان الباهتة المستخدمة في الفنون، ويقارنها بما تتسم به الطبيعة من ألوان زاهية. لقد كنت أحب سماعه وهو يعبر عن إعجابه بالزهور؛ لقد كان ذلك ضربا من الامتنان للزهرة نفسها، وحبا شخصيا لرقة لونها وشكلها. وأنا أتذكره ذات مرة وهو يلمس برفق زهرة قد أعجبته؛ ولم يكن ما رأيته منه يختلف عن ذلك الإعجاب البسيط الذي قد يبديه الأطفال.
لم يكن يسعه ألا يضفي السمات البشرية على الأشياء الطبيعية. وقد كان هذا الشعور يتجلى مدحا أو ذما؛ فقد كان يقول مثلا عن بعض الشتلات: «تلك الشتلات الوضيعات، إنهن يفعلن بالضبط ما لا أريده منهن.» وبنبرة تجمع بين الغيظ والإعجاب، كان يتحدث عن براعة ورقة نبات الميموزا في القيام بالالتواء حول نفسها والخروج من حوض ماء كان قد حاول تثبيتها فيه. وتتضح هذه الروح أيضا في حديثه عن نبات الندية وديدان الأرض وغير ذلك. (يقارن ليسلي ستيفن في كتابه «سويفت»، طبعة عام 1882، صفحة 200، بين ما كان يجريه سويفت من بحث حول سلوكيات الخدم وعاداتهم وبين ملاحظة أبي للديدان، فيقول: «إن الفرق هو أن داروين لم يكن يكن للديدان سوى المشاعر الطيبة.»)
وفي حدود ما أتذكره، فقد كان النشاط الترفيهي الوحيد الذي يقوم به أبي خارج المنزل، إضافة إلى المشي، هو ركوب الخيل، الذي قد بدأ ممارسته بناء على نصيحة الدكتور بينس جونز، وقد حالفنا الحظ فعثرنا له على جواد قصير قوي القوائم، وقد كان في غاية السلاسة والهدوء، واسمه «تومي». لقد كان يستمتع بهذه الجولات استمتاعا بالغا، وكان يقوم بعدد من الجولات القصيرة كي يتمكن من العودة إلى المنزل في وقت الغداء. ويتناسب ريفنا مع هذا الأمر؛ فهو يمتلئ بالوديان الصغيرة، مما يضفي التنوع على الطريق الذي سيكون مملا في أي أرض منبسطة. وأعتقد أن والدي لم يكن بطبيعته مغرما بالخيل، ولم يكن كثير التقدير لذكائها، وقد كان يسخر كثيرا من «تومي» لما كان يبديه من وجل حين كان يمر مرة بعد أخرى بتلك الكومة التي تتألف من بقايا تقليم السياج، في أثناء دورانه حول الحقل. وأعتقد أن أبي كان يدهش من نفسه حين يتذكر جسارته في ركوب الخيل، ثم يتذكر ما حل به من التقدم في العمر واعتلال الصحة؛ إذ انتزعا منه جلده. لقد كان يقول إن ركوب الخيل كان أنجع من السير في منعه عن التفكير؛ إذ كان ينشغل بالجواد بالدرجة الكافية التي تمنعه عن أي تفكير حقيقي جاد. وكذلك كان تغيير المناظر جيدا لصحته ومعنوياته.
ولسوء الحظ، سقط تومي بقوة وهو على ظهره ذات مرة في منطقة كيستون كومان، وقد حدثت له حادثة أخرى مع جواد آخر، فأضرتا بأعصابه، ونصح بالتوقف عن ركوب الخيل.
وإذا ذهبت إلى ما هو أبعد من تجربتي الخاصة ورحت أستعيد ما سمعته منه عن حبه للرياضة وغير ذلك، فأستطيع أن أتذكر القدر الكثير، لكنه سيكون تكرارا لما ورد في عمله «ذكريات». لقد كان مولعا وهو في المدرسة بلعبة ضرب الكرة بالمضرب، وتلك هي اللعبة الوحيدة التي كان بارعا بها. وكان مولعا كذلك ببندقيته وهو لا يزال صبيا، وأصبح قناصا جيدا. وقد اعتاد أن يحكي كيف أنه تمكن وهو في أمريكا الجنوبية من اصطياد ثلاثة وعشرين من طيور الشنقب بأربع وعشرين طلقة فحسب، وقد كان حريصا على أن يضيف أنه لم يكن يعتقد أنها بضراوة طيور الشنقب الإنجليزية.
كانت وجبة الغداء تقدم في داون بعد الجولة التي كان أبي يقوم بها في منتصف النهار، ويمكنني هنا أن أتحدث قليلا عن وجباته بصفة عامة. لقد كان يحب الحلوى كالأطفال، وذلك من سوء حظه؛ إذ إنه دائما ما كان يمنع من تناولها. ولم يكن ناجحا في الحفاظ على ما اتخذه من «عهود»، كما كان يسميها، بالامتناع عن تناول الحلوى، ولم يكن يعتبر أنها ملزمة له على الإطلاق، ما لم يقطعها على نفسه بصوت عال.
لم يكن يشرب من الخمر إلا قليلا جدا، لكنه كان يستمتع به، وقد كان هذا القدر القليل ينعشه ويعيد إليه حيويته. لقد كان يرتعب من احتساء الخمر، ودائما ما كان يحذر أبناءه من الإفراط فيه؛ إذ يسهل على المرء الانقياد إلى ذلك. وأنا أتذكر أنني سألته ببراءة ذات مرة وأنا طفل صغير، عما إذا كان قد شعر بالانتشاء من الخمر قبل ذلك، وقد أجابني بجدية شديدة أنه يشعر بالخزي إذ أفرط في الشراب ذات مرة في كامبريدج. وقد ترك ذلك لدي انطباعا عميقا؛ ولهذا فإنني لا زلت أتذكر المكان الذي سألته فيه هذا السؤال.
وبعد أن يتناول غداءه، كان يقرأ الجريدة مستلقيا على الأريكة في غرفة الاستقبال. وأعتقد أن الجريدة هي المادة غير العلمية الوحيدة التي كان يقرؤها بنفسه، أما المواد الأخرى من روايات وأدب رحلات وتاريخ، فقد كانت تقرأ عليه بصوت عال. لقد كان يهتم بأمور الحياة اهتماما كبيرا؛ ولهذا فقد هناك الكثير مما يهمه في الجريدة، رغم أنه كان يسخر من الإسهاب في المجادلات، وأعتقد أنه لم يكن يقرؤها إلا إجمالا. وكان يولي السياسة قدرا لا بأس به من الاهتمام، لكن رأيه في مثل هذه الأمور كان يتشكل وفقا للظروف، لا بعد أي قدر من التفكير.
بعد قراءة الجريدة ، يحين الوقت المخصص لكتابة الخطابات. وقد كان يكتب هذه الخطابات، وكذلك مخطوطات كتبه، وهو يجلس على كرسي ضخم مصنوع من شعر الخيل بجوار المدفأة، ويسند ورقته على لوح يضعه على ذراعي الكرسي. وحين تكون الخطابات التي يجب أن يكتبها طويلة أو كثيرة، فإنه كان يمليها من مسودة يكتبها على ظهر أوراق مخطوطاته أو بروفات الطباعة، وقد كان يصعب قراءة خطه في هذه المسودات، حتى على نفسه أحيانا. وقد وضع قاعدة تقضي بالاحتفاظ ب «جميع» الخطابات التي كان يستقبلها، وقد تعلم هذه العادة من والده، وقال إنها أفادته فائدة عظيمة.
كان يتلقى خطابات عديدة من بعض الحمقى وعديمي الأخلاق، وكان يرد عليها جميعا. وقد كان يقول إنه إن لم يرد عليها، فسوف يثقل ذلك ضميره فيما بعد. ولا شك في أن الكياسة التي كان يبديها في الرد على جميع هذه الخطابات كان لها تأثير عظيم، وهو ما تولد عنه ذلك الانطباع العام الواسع الانتشار عن لطف طبيعته، وهو ما تجلى بقوة عند موته.
وقد كان يراعي مراسليه في أمور أخرى أقل أهمية؛ فحين كان يملي علي خطابا لشخص غريب على سبيل المثال، كان يقول لي في معظم الأحيان: «عليك أن تحاول الكتابة بأسلوب جيد؛ إذ إن الخطاب موجه لشخص غريب.» وعادة ما كانت تكتب خطاباته بافتراض أنها ستقرأ دون عناية؛ لذا فحين كان يملي علي، كان يحرص على إخباري بأن أبدأ أي قسم مهم بفقرة واضحة «كي تلفت الانتباه»، كما كان يقول غالبا. لكم كان يفكر في المشقة التي يعانيها الآخرون إذ يطرح عليهم الأسئلة؛ وهو ما سيتضح جيدا من خطاباته. ومن الصعب أن نقول أي شيء عن النبرة العامة في خطاباته، لكنها ستتحدث عن نفسها. ومن اللافت للنظر فيها، هي الدماثة التي لا تتغير التي كتبت بها، ولدي دليل على هذه السمة في المشاعر التي كان يكنها له محاميه السيد هاكون؛ فبالرغم من أنه لم يلتق أبي على الإطلاق، فقد كان يكن له مشاعر صداقة خالصة، وكان يتحدث بصفة خاصة عن خطاباته، على أساس أنها من النوع الذي يندر أن يتلقاه المرء في مجال الأعمال، فكان يقول: «كل ما كنت أفعله كان صوابا، وكان يشكرني شكرا غامرا على كل شيء.»
كان لديه نموذج مطبوع للرد على المراسلين المزعجين، لكنه نادرا ما كان يستخدمه على الإطلاق، وأعتقد أنه لم يجد قط فرصة مناسبة تماما ليستفيد من استخدامه فيها. أتذكر أنه قد تلقى خطابا من شخص غريب يقول فيه إنه قد أخذ على عاتقه تأييد نظرية التطور في إحدى الجمعيات النقاشية، ولما كان رجلا يافعا ومشغولا وليس لديه من الوقت ما يكفي للقراءة، فقد كان يأمل في أن يحصل على ملخص لآراء والدي. وحتى هذا الشاب العجيب قد حظي برد مهذب، لكنني لا أعتقد أنه قد حصل على الكثير من المواد لحديثه. وقد كانت القاعدة التي يتبعها والدي هي أن يشكر من يهدون له كتبا، لا نشرات. وقد كان يعبر في بعض الأحيان عن اندهاشه من قلة عدد الأشخاص الذين كانوا يشكرونه على كتبه التي كان يهديها لهم بأريحية، لكن الخطابات التي كان يتلقاها ممن يفعلون ذلك كانت تمنحه سعادة كبيرة؛ فعادة ما كان تقديره لقيمة جميع أعماله متواضعا للغاية، حتى إنه كان يندهش بوجه عام مما تثيره من اهتمام.
وأما فيما يتعلق بأمور المال والأعمال، فقد كان حريصا ودقيقا على نحو ملحوظ. كان يحتفظ بالحسابات بعناية بالغة، ويصنفها ويسويها في نهاية العام مثل أي تاجر. إنني أتذكر السرعة التي كان يصل بها إلى دفتر حساباته ليسجل أي شيك قد جرى دفعه، وكأنه في عجلة لتسجيله قبل أن ينساه. ولا بد أن والده قد جعله يعتقد أنه سيكون أفقر مما كان عليه في واقع الأمر، ولا بد أن بعض الصعوبة التي واجهها أبي لإيجاد منزل في الريف، كان يعود إلى المبلغ المتواضع الذي شعر بأنه مستعد لتقديمه لهذا الغرض. بالرغم من ذلك، فقد كان يشعر بأن أحواله المالية ستتحسن بعد ذلك؛ إذ إنه يذكر ذلك في عمله «ذكريات» على أنه أحد الأسباب التي جعلته لا يقبل على ممارسة الطب بحماس كما لو كان سيفعل لو أنه كان في حاجة ماسة لكسب عيشه منه.
كان يحب الاقتصاد في استخدام الورق، لكن ذلك كان على سبيل الهواية، لا الاقتصاد الحقيقي. كان يحتفظ بجميع ما كان يجده في الخطابات التي ترده من صفحات فارغة، ويضعها في حافظة خاصة لكي يستخدمها في كتابة الملاحظات. إن احترامه للورق هو الذي دفعه إلى كتابة هذا القدر الكثير على ظهور صفحات مخطوطاته القديمة، غير أنه بذلك قد أدى لسوء الحظ إلى تدمير أجزاء كبيرة من المخطوطات الأصلية لكتبه. وقد امتدت مشاعره تجاه الورق لتشمل المخلفات الورقية، وقد كان يعترض بنحو شبه مازح، على تلك العادة التي تتسم باللامبالاة والتي تتمثل في إلقاء أي لفافة ورقية في نار المدفأة بعد استخدامها لإشعال شمعة.
لقد كان أبي سخيا وكريما للغاية مع جميع أطفاله فيما بتعلق بالمال، ولدي سبب خاص لأتذكر لطفه، وذلك حين أتذكر الطريقة التي سدد لي بها بعض ديوني في كامبريدج؛ إذ جعل الأمر يبدو كما لو كان فضيلة مني أن أخبره بشأنه. وفي سنواته الأخيرة، وضع مخططا ينم عن لطفه وكرمه، وهو تقسيم ما يزيد عن حاجته من مال في نهاية العام على أبنائه.
كان يكن احتراما عظيما للبراعة في ممارسة الأعمال وإدارتها، وكثيرا ما كان يتحدث بإعجاب عن أحد الأقارب الذي استطاع مضاعفة ثروته. وكثيرا ما كان يقول عن نفسه مازحا إن ما كان يفتخر به «فعلا» هو أنه استطاع ادخار بعض المال، وكذلك كان يشعر بالرضا عما جناه عن كتبه من نقود. لقد كان قلقه بشأن الادخار نابعا بدرجة كبيرة من مخاوفه بألا يتمتع أبناؤه بقدر كاف من الصحة الجيدة التي تمكنهم من كسب عيشهم، وهو هاجس ظل يساوره لسنوات عديدة. وأتذكر على نحو غير واضح قوله: «أشكر الله على أنه سوف يكون لديكم خبز وجبن.» وقد كنت صغيرا للغاية حينها، فكنت أميل إلى فهمها بمعناها الحرفي.
بعد أن كان ينتهي من الخطابات في نحو الساعة الثالثة من بعد الظهيرة، كان يستريح في غرفة نومه؛ إذ كان يستلقي على الأريكة ويدخن لفافة من التبغ، ويستمع إلى رواية أو كتاب غير علمي. لم يكن يدخن إلا في وقت الراحة، أما النشوق، فقد كان بمنزلة منبه وكان يستخدمه في أثناء العمل. لقد ظل يتناول النشوق على مدى سنوات عديدة من حياته؛ إذ اكتسب هذه العادة وهو لا يزال طالبا في إدنبرة. وقد كان لديه علبة فضية جميلة للنشوق، كانت قد أهدتها له السيدة ويدجوود وهي سيدة من مير، وقد كان يعتز بهذه العلبة كثيرا، لكنه لم يكن يحملها إلا نادرا؛ إذ كانت تغريه بتناول الكثير منه. وقد تحدث في أحد خطاباته المبكرة عن توقفه عن تناول النشوق لمدة شهر، وتحدث عن شعوره بأنه أصبح «بليدا وغبيا وكئيبا لأقصى حد.» وقد أخبرني جارنا وكاهننا السابق، السيد برودي إنيس، أن والدي قد قرر ذات مرة ألا يتناول النشوق إلا وهو بعيد عن المنزل، وأضاف: «إنه ترتيب مناسب لي تماما؛ إذ إنني أحتفظ بعلبة في مكتبي يمكنني الوصول إليها من الحديقة دون أن أستدعي أحد الخدم، كما أن ذلك كان يتيح لي فرصة أكبر في أن أتبادل الحديث لدقائق مع صديقي العزيز.» وعادة ما كان يتناول النشوق من جرة زجاجية موضوعة على منضدة البهو؛ إذ كان قطع هذه المسافة من أجل نشقة أمرا مثبطا بعض الشيء، وقد كان صوت انفتاح الغطاء مألوفا للغاية. وأحيانا كان يخطر له وهو يجلس في غرفة الاستقبال أن نار مدفأة المكتب قد خمدت بعض الشيء، وحين كان أحدنا يعرض أن يعتني بأمرها، يتضح أنه كان يرغب أيضا في الحصول على بعض النشوق.
لم يبدأ أبي في التدخين باستمرار إلا في سنواته الأخيرة، بالرغم من أنه كان قد تعلم التدخين مع رجال الجاوتشو في جولاته على الخيول في سهول البامبا، وقد سمعته يتحدث عن الراحة العظيمة التي كان يجلبها تناول قدح من المتة مع لفافة من التبغ حين كان يتوقف بعد جولة طويلة ولا يستطيع الحصول على طعام لبعض الوقت.
غالبا ما كانت القراءة بصوت عال تبعثه على النوم، ولقد كان يشعر بالأسف إذ يغفل عن أجزاء من إحدى الروايات؛ فقد كانت أمي تواصل القراءة خشية أن يوقظه توقف الصوت. كان ينزل من غرفته في الرابعة ليرتدي ثيابه استعدادا لجولة المشي الخاصة به، وقد كان مواظبا للغاية حتى إننا لنتوقع سماع وقع خطواته نازلا على الدرج في غضون دقائق من الرابعة.
كان يعمل من الساعة الرابعة والنصف حتى الخامسة والنصف، ثم يأتي إلى غرفة الاستقبال ولا يقوم بشيء حتى يحين الوقت (في السادسة تقريبا) كي يصعد مجددا لفترة استراحة ثانية، يستمع فيها إلى رواية تقرأ عليه مع تدخين لفافة من التبغ.
في السنوات الأخيرة، تخلى عن تناول وجبة العشاء، وكان يكتفي بتناول قدح من الشاي مع بيضة أو قطعة صغيرة من اللحم في السابعة والنصف بينما كنا نتناول العشاء. ودائما ما كان يغادر الغرفة بعد العشاء معتذرا بقوله إنه سيدة عجوز ويجب أن يسمح لها بمغادرة الغرفة مع السيدات. وقد كان ذلك إحدى العلامات والنتائج العديدة لما يعانيه من ضعف واعتلال مستمرين في الصحة. وكان، إذا تحدث لقرابة نصف ساعة، شعر بإرهاق شديد بحيث لا يتمكن من النوم طوال الليل وقد يفقد قدرته على إنجاز نصف العمل في اليوم التالي.
غرفة المكتب في داون. بإذن من مجلة «سينتشري ماجازين».
بعد العشاء، كان يلعب لعبة الطاولة مع والدتي؛ فكانا يلعبان جولتين كل ليلة، وقد ظلا يحتفظان على مدى سنوات عديدة بسجل لعدد الجولات التي فاز بها كل منهما، وقد كان أبي يحظى بالنصيب الأكبر منها. وقد أصبح أبي متحمسا للغاية تجاه هذه الجولات؛ فكان عند الخسارة ينعى حظه السيئ بمرارة، وينفجر بغضب زائف من حظ أمي الجيد.
بعد لعب الطاولة، كان يقرأ بنفسه كتابا علميا في غرفة الاستقبال أو في المكتب، إن كانت الغرفة صاخبة.
وفي المساء، بعد أن يكون قد قرأ قدر ما سمحت به قواه، وقبل أن تبدأ المطالعة بصوت عال، عادة ما كان يستلقي على الأريكة ويستمع إلى أمي وهي تعزف على البيانو. لم يكن يتمتع بأذن موسيقية جيدة، لكنه كان يكن حبا حقيقا للموسيقى الجيدة. ودائما ما كان يشكو أن استمتاعه بالموسيقى قد قل مع تقدمه في العمر، غير أنني أتذكر أن حبه للألحان الجيدة كان قويا. ولم أسمعه يدندن قط إلا بلحن واحد وهو لحن الأغنية الويلزية «طوال الليل» («آر هيد ي نوس») والذي كان يؤديه بنحو صحيح، وقد اعتاد أن يدندن أيضا بلحن أغنية أوتاهيتية قصيرة. ونظرا لافتقاره إلى الأذن الموسيقية، لم يكن يستطيع تمييز اللحن إن استمع إليه مرة أخرى، لكنه ظل يحب الألحان نفسها التي أحبها من قبل، وعند الاستماع إلى إحدى المقطوعات القديمة المفضلة لديه، فإنه غالبا ما كان يقول: «إنها مقطوعة جميلة، ما اسمها؟» لقد كان يحب أجزاء من سيمفونيات بيتهوفن بنحو خاص، وأجزاء صغيرة لهاندل، وقد أعد قائمة قصيرة بجميع المقطوعات التي كان يحبها من بين المقطوعات التي كانت تعزفها أمي، مع كتابة كلمات قليلة عن الانطباع التي كانت تتركه عليه كل منها، لكن هذه الملاحظات قد ضاعت مع الأسف. كان يلاحظ الاختلافات الطفيفة في أسلوب العزف، وكان يستمتع كثيرا بعزف الراحلة السيدة فيرنون لاشينجتون. وحين أتى هانس ريختر لزيارة داون في يونيو من عام 1881، أثار فيه أداؤه الرائع في العزف على البيانو حماسا عظيما. وكان يستمتع كثيرا بالغناء الجيد، وكانت مشاعره تتأثر حتى تكاد أن تذرف دموعه عند سماع الأغنيات العظيمة أو الحزينة. ولم يكن يمل قط من سماع ابنة أخيه الليدي فارار وهي تغني أغنية سوليفان «هل سيأتي؟» («ويل هي كام؟»). لقد كان متواضعا للغاية فيما يتعلق بذوقه الفني؛ لذا فقد كان يسر كثيرا حين يجد أن آخرين يتفقون معه.
كان تعبه يشتد في المساء، لا سيما في السنوات الأخيرة، وكان يغادر غرفة الاستقبال في نحو العاشرة، ويذهب إلى السرير في العاشرة والنصف. وعادة ما كانت حالته تسوء في الليل؛ فيجلس في السرير مستيقظا لساعات وهو يعاني من التعب. وكان يعاني في الليل من نشاط أفكاره ، ويضنيه عقله من التفكير في مسألة كان قد قرر أن يتجنب التفكير فيها. وبالليل كذلك، كان يطارده كل ما حيره في النهار أو أزعجه، وأعتقد أنه كان يعاني حينئذ إن لم يكن قد أجاب عن خطاب من أحد الأشخاص المزعجين.
إن القراءة المنتظمة، التي ذكرتها من قبل، قد استمرت على مدى سنوات عديدة، وقد مكنته من التعرف على قدر كبير من ضروب الأدب الخفيفة. لقد كان مولعا للغاية بالروايات، وأتذكر جيدا كيف أنه كان يتلهف على شعوره بالسرور للاستماع إلى رواية جديدة تقرأ عليه، بينما هو مستلق أو يدخن لفافة من التبغ. لقد كان يهتم اهتماما كبيرا بالحبكة والشخصيات، ولم يكن يحاول قط أن يعرف نهاية الرواية قبل أن يصل إليها، وكان يرى أن إلقاء نظرة على نهاية القصة قبل نهايتها سمة أنثوية سيئة. لم يكن يستمتع بالروايات التي تنتهي بنهايات حزينة؛ ولهذا فلم يكن يستمتع كثيرا بروايات جورج إليوت، بالرغم من أنه كثيرا ما كان يتحدث جيدا عن روايتها «سايلاس مارنر» ويثني عليها. أما روايات والتر سكوت والآنسة أوستن والسيدة جاسكيل، فقد كانت تقرأ عليه مرارا وتكرارا، حتى لا يعد من الممكن قراءتها مرة أخرى. كان يحتفظ بكتابين أو ثلاثة يقرؤها في الوقت نفسه؛ رواية مثلا مع كتاب سيرة ذاتية وكتاب عن الرحلات. ولم يكن من عادته أن يقرأ الكتب غير المألوفة أو الكتب القديمة، وإنما كان يكتفي غالبا بالكتب المعاصرة التي كان يحصل عليها من مكتبات الإعارة.
إنني لا أعتقد أن ذوقه وآراءه فيما يتعلق بالأدب كانت في نفس مستوى غيرها من الجوانب الذهنية لديه. لقد كان هو نفسه يعتقد أنه غير حري بأن يدلو بدلوه فيما يتعلق بالمسائل المتعلقة بالذوق الأدبي، وذلك بالرغم من وضوح رأيه فيما يتعلق بما يروق له وما لا يروق له، وكثيرا ما كان يتحدث عمن هم حري بهم أن يدلوا بدلوهم فيها، وعما يحبون ويكرهون، وكأنهم يشكلون طائفة لا يملك هو أن ينتمي إليها.
وفيما يتعلق بجميع أمور الفن، فغالبا ما كان يميل للسخرية من النقاد المعترف بهم، قائلا إنهم يشكلون آراءهم وفقا للنمط السائد؛ لذا، فقد اعتاد أن يقول عن الرسم مثلا كيف أنهم في أيامه كانوا يحتفون احتفاء كبيرا ببعض الروائع الفنية وقد أصبحت الآن مهملة. إن حبه للصور حين كان شابا صغيرا يعد دليلا على أنه كان يكن التقدير لفن رسم الصور الشخصية على أساس أنه عمل فني، لا مجرد محاكاة للأصل. بالرغم من ذلك، فقد كان يسخر كثيرا من ضآلة قيمة الصور الشخصية المرسومة، قائلا إن صورة فوتوغرافية واحدة تساوي الكثير من الصور المرسومة، كما لو كان غافلا عن القيمة الفنية للصور الشخصية المرسومة. لكنه غالبا ما كان يقول ذلك لإقناعنا بالتخلي عن فكرة رسم صورة شخصية له؛ إذ كان يجد ذلك أمرا مزعجا للغاية.
لقد عزز من هذه الطريقة في النظر إلى نفسه على أنه جاهل في جميع أمور الفن، عدم ميله إلى الادعاء، وهو ما كان جزءا من شخصيته. وفيما يتعلق بأمور الذوق وكذلك الأمور الأكثر جدية، فلطالما كانت لديه الشجاعة في التعبير عن آرائه. بالرغم من ذلك، فإنني أتذكر مثالا يبدو مناقضا لذلك، وذلك عندما كان يشاهد رسومات تيرنر في غرفة نوم السيد راسكين، ولم يعترف حينها، كما فعل لاحقا، بأنه لا يفهم على الإطلاق ما يراه السيد راسكين جميلا فيها. لكن هذا القدر القليل من الادعاء لم يكن لغرض في نفسه، وإنما كان مجاملة لمضيفه. لقد ابتهج كثيرا حين أحضر له السيد راسكين بعدها صورا فوتوغرافية لبعض الرسومات (أعتقد أنها كانت صورا شخصية لفاندايك)، وقد بدا أنه كان يعتز بآراء والدي فيها ويقدرها.
لقد كانت معظم قراءاته العلمية باللغة الألمانية، وقد كان يجد في ذلك مشقة عظيمة؛ فحين كنت أطلع على أي كتاب بعده، فإنني كثيرا ما كنت أندهش، بالنظر إلى العلامات التي يضعها بالقلم الرصاص كل يوم في المكان الذي توقف عنده، من أنه لم يكن يستطيع أن يقرأ في المرة الواحدة سوى القدر القليل. وقد اعتاد أن يطلق على اللغة الألمانية كلمة «اللعينة» وينطقها كما لو كانت كلمة إنجليزية. كان شديد السخط على الألمان لاقتناعه بأنهم يستطيعون الكتابة بصورة مبسطة إن أرادوا، وكثيرا ما كان يثني على الدكتور إف هيلدبراند؛ إذ كان يكتب الألمانية بالوضوح نفسه الذي تتسم به اللغة الفرنسية. وقد كان في بعض الأحيان يعطي لإحدى صديقاته، وهي سيدة ألمانية محبة لوطنها، جملة بالألمانية وكان يتندر عليها إن لم تستطع ترجمتها بفصاحة. أما هو، فلم يتعلم الألمانية إلا عن طريق المجاهدة باستخدام قاموس، وقد كان يقول إن طريقته الوحيدة هي أنه كان يقرأ الجملة الكثير والكثير من المرات، حتى يتراءى المعنى له في النهاية. وحين بدأ في تعلم الألمانية قبل وقت طويل، راح يفتخر بذلك (كما اعتاد هو أن يقول) أمام السير جيه هوكر، الذي رد عليه قائلا: «أوه، يا رفيقي العزيز، لا يعد ذلك شيئا؛ فقد بدأت في تعلمها مرات عديدة.»
بالرغم من عدم معرفته بقواعد اللغة الألمانية، فقد تمكن من فهم الجمل بنحو رائع، وأما الجمل التي لم يستطع فهمها، فقد كانت جملا صعبة بالفعل. لم يحاول قط أن يتحدث الألمانية بنحو صحيح، وإنما كان ينطق الكلمات بنطقها الإنجليزي، وقد كان ذلك يمثل صعوبة ليست بالهينة بالنسبة له حين كان يقرأ جملة بالألمانية طالبا ترجمتها. لم يكن بالتأكيد يحسن سماع الأصوات الملفوظة؛ لذا فقد كان محالا بالنسبة له أن يدرك الاختلافات الطفيفة في النطق.
كان يهتم اهتماما كبيرا بالعديد من فروع العلوم التي لم يكن متخصصا بها؛ لذا، فقد كان لآرائه تأثير كبير وواسع في مجال العلوم الحيوية؛ إذ إنه كان يجد شيئا مثيرا للاهتمام في معظم أقسام هذا المجال. لقد قرأ قدرا كبيرا من العديد من الأعمال المميزة، وأجزاء كبيرة من المراجع مثل كتاب هكسلي «تشريح اللافقاريات» أو كتاب مثل كتاب بالفور «علم الأجنة»، بالرغم من أن التفاصيل الواردة فيه لا تقع في مجال تخصصه على الإطلاق. وبالرغم من أنه لم يدرس الكتب المفصلة والمتخصصة في موضوع واحد، فقد كان يكن لها أكبر درجات الإعجاب.
وأما فيما يتعلق بالعلوم غير الحيوية، فقد كان يشعر بالتعاطف مع الأعمال التي لا يستطيع الحكم عليها. على سبيل المثال، كان يقرأ مجلة «نيتشر» بأكملها تقريبا، بالرغم من أن القدر الأكبر من محتواها يناقش مسائل الرياضيات والفيزياء. وكثيرا ما سمعته وهو يقول إنه كان يشعر ببعض الرضا حين يقرأ مقالا لا يستطيع فهمه. أتمنى لو أنني أستطيع أن أقلد طريقته في السخرية من نفسه.
ومن الجدير بالملاحظة أيضا، كيف أنه قد حافظ على اهتمامه بموضوعات كان قد عمل عليها سابقا، وقد كان هذا هو الحال بنحو لافت للنظر مع الجيولوجيا. وفي أحد خطاباته إلى السيد جود، كتب إليه أبي يرجوه أن يزوره قائلا إنه أصبح نادرا ما ينغمس في محادثة عن الجيولوجيا منذ موت لايل. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك، ملاحظاته عن الحصى العمودي في الترسبات المجروفة عند ساوثامبتون، والتي لم يقم بها إلا قبل وفاته ببضع سنوات وناقشها في خطاب إلى السيد جيكي. ومرة أخرى في خطاباته إلى الدكتور دورن، يوضح أن اهتمامه بالبرنقيلات لا يزال حاضرا. وأعتقد أن ذلك كله يعود إلى حيوية ذهنه ومثابرته، وهما سمتان قد سمعته يتحدث عنهما كما لو أنه يشعر بأنه موهوب للغاية في هذا الجانب. لم يكن يتحدث عن نفسه مفتخرا بامتلاكه لمثل هذه الملكات، لكنه كان يقول إنه يتمتع بالقدرة على الاهتمام بأي موضوع أو مسألة بنحو أو بآخر لعدد طويل من السنوات. ويتضح مدى امتلاكه لهذه القدرة حين ننظر في عدد المسائل المختلفة التي حلها، مع مراعاة الفترة المبكرة التي بدأ فيها بالتفكير في بعضها.
لقد كان سكونه في غير أوقاته المعتادة للراحة، علامة مؤكدة على اعتلال صحته؛ إذ لم يكن لنظام حياته أن يختل على الإطلاق طالما كان بصحة جيدة إلى حد ما. وقد كان يقضي أيام الآحاد كغيرها من أيام الأسبوع، ولكل منها الأوقات المخصصة للعمل وتلك المخصصة للراحة. ومن المحال تقريبا لمن لم يشهد حياته اليومية أن يدرك مدى أهمية نمط حياته اليومية الذي ذكرته لسلامه النفسي، وكذلك مدى الألم والصعوبة التي كان يجدها في محاولة إنجاز أي شيء فيما دونه. لقد كان أي ظهور عام يرهقه، حتى ولو كان بسيطا للغاية؛ فقد ذهب في عام 1871 إلى كنيسة القرية الصغيرة لحضور زفاف ابنته الكبرى، لكنه استطاع بالكاد أن يتحمل المشقة الناتجة عن وجوده في مثل هذا الاحتفال القصير. وينطبق الأمر نفسه على غير ذلك من المناسبات القليلة التي حضر فيها احتفالات مماثلة.
إنني أتذكره قبل أعوام طويلة في احتفال بتعميد طفل، وهي ذكرى لم تغب عني؛ إذ بدا ذلك حادثا استثنائيا وغريبا للغاية بالنسبة إلينا كأطفال. وأتذكر أيضا نظرته في جنازة أخيه إيرازموس بوضوح شديد، وهو واقف بين الثلج المتناثر ملتفا بمعطفه الأسود الطويل المخصص للجنائز، وقد ارتسمت على وجهه نظرة وقورة تنم عن استغراق حزين.
وحين حضر مجددا بعد سنوات عديدة، اجتماعا للجمعية اللينية، شعر كأنها مهمة خطيرة، وقد كانت كذلك بالفعل؛ فلم يكن ليتخذ قرارا كهذا دون الشعور بالقلق والخوف ولم يكن لينفذه دون أن يتحمل عاقبة ذلك من المعاناة والتعب. وبالمثل، فقد تسبب له حفل إفطار قد دعي إليه لدى السير جيمس باجيت، مع بعض الضيوف المميزين للمؤتمر الطبي عام 1881، بالإجهاد الشديد.
لقد كان الصباح المبكر هو الوقت الوحيد الذي يتمكن فيه من بذل مثل هذا المجهود، مع بعض الحصانة مما كان يليه من تعب وإرهاق؛ بالتالي، كان يفضل أن يقوم بزياراته إلى أصدقائه من رجال العلم في لندن، في أبكر وقت ممكن مثل العاشرة صباحا. ولهذا السبب أيضا، كان يبدأ رحلاته في أول رحلة قطار في الصباح، وقد اعتاد أن يصل منازل أقربائه في لندن بينما كانوا ما يزالون يبدءون يومهم.
كان يحتفظ بسجل دقيق للأيام التي كان يعمل فيها والأيام التي كان فيها اعتلال صحته يحول بينه وبين العمل؛ ومن ثم يتمكن من حساب عدد الأيام التي ضاعت سدى في أي سنة محددة. وكان هذا السجل عبارة عن مفكرة صفراء ليتس صغيرة، كان يتركها مفتوحة على رف المدفأة، ومن تحتها مفكرات الأعوام السابقة ، وقد كان يسجل فيها أيضا اليوم الذي يبدأ فيه عطلته ويوم عودته منها إلى المنزل.
كانت أكثر عطلاته تواترا هي زياراته إلى لندن لمدة أسبوع لزيارة منزل أخيه (6 شارع كوين آن) أو منزل ابنته (4 شارع بريانستون). وعادة ما كانت أمي هي التي تقنعه بأخذ هذه العطلات القصيرة حين يتضح من زيادة تواتر «الأيام السيئة» أو دوار الرأس الذي يصيبه أنه قد أنهك نفسه في العمل أكثر من اللازم. كان يذهب دون رغبة حقيقية منه، ويظل يعقد معها صفقات شديدة؛ فيشترط مثلا أن يعود إلى البيت بعد خمسة أيام بدلا من ستة. وحتى إن كان مسافرا لأسبوع واحد فقط، كان لا بد من البدء في حزم الأمتعة مبكرا في اليوم السابق للسفر، وكان يقوم هو بنفسه بالجزء الأكبر من هذا فيما يتعلق بأمتعته. وكان الجزء الأكبر من مشقة الرحلة يتمثل بالنسبة له، في السنوات الأخيرة على الأقل، في الترقب، وفي ذلك الشعور الغامر بالبؤس الذي كان يعاني منه قبل الرحلة مباشرة؛ فرحلة طويلة بعض الشيء، مثل تلك الرحلة التي قام بها إلى كونيستون، لم ترهقه إلا بالقدر القليل على نحو يثير الدهشة، مقارنة بمدى الاعتلال الذي كان يعاني منه، ولا شك في أنه قد استمتع بها إلى حد غريب وبطريقة صبيانية بعض الشيء.
وبالرغم من أن بعض قدراته الجمالية بحسب قوله قد أخذت تضعف بالتدريج، فإن حبه للمناظر الطبيعية ظل حاضرا وقويا؛ فكل جولة كان يقوم بها في كونيستون كانت تمنحه متعة جديدة، وهو لم يمل قط من الثناء على جمال الريف المتقطع بالتلال الموجود عند رأس البحيرة.
ومن الذكريات السعيدة في هذا الوقت (1879) تلك الخاصة بزيارتنا المبهجة إلى جراسمير، والتي كتبت عنها أختي: «إن اليوم المثالي واستمتاع والدي المفعم بالحيوية وانطلاقه قد رسما صورة في ذهني أحب أن أتذكرها. إنه لم يكن يطيق أن يجلس ساكنا في العربة عند دورانها، بل كان ينهض كي يستمتع بالمنظر من كل نقطة جديدة، وحتى أثناء العودة، ظل يتحدث عن جمال بحيرة رايدال ووتر ، رغم أنه لم يكن ليسمح بالقول بأن جراسمير تتساوى على الإطلاق مع محبوبته كونيستون.»
وإلى جانب هذه العطلات الطويلة، كان يقوم بزيارات أقصر منها إلى الأقارب، مثل زيارته إلى منزل زوج أخته بالقرب من تل ليث هيل، ومنزل ابنه بالقرب من ساوثامبتون. وهو دائما ما كان يستمتع على وجه الخصوص بالتجول بأراضي الريف المفتوحة الخشنة، مثل الأراضي العامة الموجودة بالقرب من تل ليث هيل وساوثامبتون، أو الأراضي البور المغطاة بنبات الخلنج التابعة لغابة آشداون أو الأرض «الخشنة» المبهجة بالقرب من منزل صديقه السير توماس فارار. لم يكن متكاسلا حتى وهو في هذه العطلات، وكان يجد أشياء ليقوم بملاحظتها؛ ففي هارتفيلد، أخذ يشاهد نبات الندية وهو يمسك بالحشرات وما دونها، وفي توركي، كان يلاحظ تلقيح أحد أجناس السحلبيات (اللولوبة)، وكذلك توصل إلى العلاقات بين الجنسين فيما يتعلق بنبات الزعتر.
كان يبتهج دوما بعودته إلى البيت بعد عطلاته، وكان يستمتع كثيرا بما كان يلقاه من ترحاب من كلبته بولي، التي كانت تصبح جامحة من فرط الإثارة، فتظل تلهث وتنبح بصوت حاد، وتندفع في الغرفة صعودا على الكراسي وهبوطا منها، وقد اعتاد أن ينحني إلى الأسفل حتى يصل إليها ويقرب وجهه إلى وجهها ويتركها تلعقه، بينما يتحدث إليها بصوت رقيق وملاطف للغاية.
لقد كان أبي يتمتع بالقدرة على أن يضفي على هذه العطلات الصيفية سحرا تشعر به جميع الأسرة بقوة. لقد كان ضغط العمل الذي يعاني منه في البيت يتطلب منه أن يتحلى بأقصى حد من قدرته على التحمل، وحين كان يتحرر منه، فإنه كان يستقبل العطلة باستمتاع شبابي يجعل صحبته أمرا باعثا على البهجة، وكنا نشعر بأننا نرى منه في أسبوع العطلة ما لا نراه على مدى شهر في البيت.
بالرغم من ذلك، فقد كان لبعض هذه الغيابات عن المنزل تأثير مثبط عليه؛ إذ يبدو أن غياب هذا الإجهاد المعتاد الذي كان يتعرض له قبلها إن أنهكه العمل في المنزل أكثر من اللازم، كان يجعله يغرق في حالة غريبة من المرض الشديد .
وإلى جانب العطلات التي ذكرتها، كانت هناك زياراته إلى مصحات العلاج المائي؛ فحين مرض بشدة في عام 1849 وأصبح يعاني من اعتلال مستمر، حثه صديق له على أن يجرب العلاج المائي، وقد وافق أخيرا على أن يذهب إلى مصحة الدكتور جالي في مولفرن. وتوضح خطاباته إلى السيد فوكس ما كان للعلاج من تأثير جيد عليه، ويبدو أنه قد ظن أنه وجد علاجا لمتاعبه، لكنه كجميع العلاجات، لم يكن له سوى تأثير مؤقت عليه. بالرغم من ذلك، فقد كان في البداية يجد أن تأثيره جيد للغاية، حتى إنه حين عاد إلى المنزل بنى لنفسه منضحة وتعلم رئيس الخدم كيف يحممه.
قام بالعديد من الزيارات إلى مصحة مور بارك للعلاج المائي لصاحبها الدكتور لين، والتي توجد في سري بالقرب من ألدرشوت. وقد كانت هذه الزيارات ممتعة، ودائما ما كان يتذكرها بسرور. وفي الثاني والعشرين من أكتوبر من عام 1882، في محاضرة للدكتور ريتشاردسون تتحدث عن أبي، قرأ خطابا أرسله إليه الدكتور لين يتحدث فيه عن ذكرى والدي، والذي منه أقتبس ما يلي:
في المؤسسات العامة كمؤسستي، كان يحاط بالطبع بالعديد من الشخصيات المختلفة من الجنسين، وغالبا ما كانوا يختلفون عنه اختلافا كبيرا؛ باختصار كانوا من عامة الناس، مثلما تكون الأغلبية في كل مكان، لكنهم كانوا بالنسبة له على الأقل، رفاقه في الإنسانية وفي المرض. ولم يكن هناك من هو أكثر لطفا وتفهما وودا وجاذبية منه بنحو عام ... إنه لم يسع أبدا، كما هو الحال غالبا مع المتحدثين الجيدين، إلى احتكار الحديث، بل كان يجد متعة أكبر في العطاء والأخذ، وقد كان مستمعا جيدا بقدر ما كان متحدثا جيدا. ولم يقم على الإطلاق بإلقاء العظات أو الخطب، وإنما كان حديثه، سواء أكان في الجد أو المرح (وقد كان كل يأتي في دوره)، حيويا وموحيا ومشرقا ومثيرا.
يمكننا رسم صورة عن علاقته بأسرته وأصدقائه مما سبق ذكره، ومن المحال أن نحاول رسم صورة كاملة عن هذه العلاقات، لكننا يمكننا أن نكتب عنها بتفصيل أكثر قليلا. بالنسبة إلى حياته الزوجية، فلا أستطيع أن أتحدث عنها إلا بأقل القليل. لقد كانت علاقته مع أمي تظهر طبيعته الرقيقة والودية في أجمل صورها. لقد كان يجد سعادته في حضورها، ومن خلالها وجد الرضا والسرور الهادئ في حياته، التي كان من الممكن أن تظللها الكآبة لولا وجودها.
يوضح كتاب «التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان» كيف أنه كان يراقب أطفاله عن قرب. وقد كان من سماته المميزة (كما سمعته يتحدث بذلك)، أنه بالرغم من تلهفه على أن يلاحظ تعبير البكاء لدى أحد الأطفال ملاحظة دقيقة، فإن تعاطفه مع الحزن الذي يشعر به الطفل، كان يفسد عليه ملاحظته. ويتضح لنا من دفتره الذي كان يسجل فيه العبارات التي كان يقولها أطفاله، ما كان يستمده منهم من سرور. ويبدو أنه كان يحتفظ بذكرى مفعمة بالأسى عن أيام طفولتهم التي خبت؛ لذا فقد كتب في عمله «ذكريات»: «حين كنتم صغارا للغاية، كنت أستمتع باللعب معكم جميعا، وأعتقد والحسرة تعتصرني أن مثل هذه الأيام لن تعود ثانية.»
وكي أوضح رقة طبيعته، يمكنني أن أقتبس من دفتره بعض الجمل التي كتبها عن ابنته الصغيرة آني بعد موتها بأيام قليلة:
طفلتنا المسكينة، آني، ولدت في شارع جاور في الثاني من مارس 1841، وتوفيت في مولفرن في منتصف نهار الثالث والعشرين من أبريل عام 1851.
إنني أكتب هذه الصفحات القليلة، إذ أعتقد أننا في السنوات اللاحقة إذا عشنا فستساعدنا هذه الانطباعات التي أدونها هنا على تذكر سماتها الأساسية بوضوح أكبر. إنني حين أتأملها من أي جانب، فإن السمة الأساسية التي تنبثق في ذهني على الفور، هي مرحها المبهج الذي يمتزج بسمتين أخريين هما حساسيتها التي قد يغفل عنها بسهولة الغرباء، وعاطفتها القوية. كان مرحها وحيويتها يشعان من كامل سيمائها، وكانا يجعلان كل حركة لها مليئة بالمرونة ومفعمة بالحياة والنشاط. لقد كانت مشاهدتها أمرا ممتعا ومبهجا، وها هو وجهها الغالي ينبثق الآن أمامي؛ إذ كانت في بعض الأحيان تهبط على السلم جريا، وهي تحمل لي جرعة من النشوق قد اختلستها لأجلي ، وجميع تكوينها يشع بهجة من كونها تمنح الآخرين البهجة. وحتى حين كانت تلعب مع أبناء عمومتها وتنهمك في اللعب والمرح إلى حد الصخب، كانت نظرة واحدة من عيني، لا نظرة سخط بالطبع (إذ أحمد الله أنها لم تر مني هذه النظرة أبدا)، وإنما نظرة تستدعي تعاطفها، كانت كفيلة بتغيير جميع قسماتها لبضع دقائق.
وأما السمة الأخرى في شخصيتها والتي جعلت من مرحها وحيويتها سببا للبهجة، فهي عاطفتها القوية، والتي كانت تتجلى في طبيعتها شديدة التعلق والمحبة للملاطفة. وقد اتضح ذلك منذ أن كانت طفلة رضيعة؛ إذ لم تكن لتهدأ قط دون أن تلمس والدتها حين كانت ترقد معها في السرير، ثم أصبحت مؤخرا، حين تمرض، تظل ممسكة بإحدى ذراعي أمها تداعبها مهما طال الوقت. وحين كان يشتد بها المرض، فإن استلقاء والدتها بجوارها في السرير يبدو أنه كان يهدئها بطريقة مختلفة إلى حد كبير عما كان ليهدئ أيا من أطفالنا الآخرين. وكذلك كان الأمر معي، إذ كانت تقضي في أي وقت من الأوقات ما يزيد عن نصف ساعة في ترتيب شعر رأسي، وذلك كي «تجعله جميلا»، كما اعتادت أن تقول، أو تسوية ياقتي أو أكمامي؛ أي، أنها باختصار كانت تقضي هذا الوقت في ملامستي ومداعبتي.
وإلى جانب مزاجها المرح هذا، كانت ودودة وصريحة ومنطلقة وأمينة وتلقائية، دون مقدار ذرة من التحفظ. كان عقلها نقيا وشفافا؛ فكان المرء يشعر أنه يعرفها تماما ويمكن أن يثق بها. ولطالما كنت أعتقد أنه، مهما يكن من أمر، فيجب أن يكون لدينا حين يتقدم بنا العمر، على الأقل جانب محب في روحنا ما كان لأي شيء أن يغيره أبدا. لقد كانت جميع حركاتها تتسم بالعنفوان والنشاط وفي الغالب الرشاقة. وحين كانت تذهب معي في جولتي حول الممشى الرملي، وبالرغم من أنني أسير بسرعة، فإنها غالبا ما كانت تسبقني وهي تسير متراقصة بأجمل طريقة ممكنة، وكان وجهها الغالي يشرق دوما بأجمل الابتسامات. لقد كانت تتدلل علي أحيانا في أعذب صورة وهي التي ما تزال ذكراها تأسرني . وكثيرا ما كانت اللغة التي تستخدمها مفعمة بالمبالغة، وكنت حين أمازحها بالمبالغة فيما قالته، كانت ترفع رأسها لأعلى قليلا، وهو ما يتجلى بوضوح أمام عيني الآن، ثم تقول متعجبة: «أوه! يا أبي! يا له من أمر مخجل!» وفي مرضها الأخير الذي دام فترة قصيرة، كان سلوكها ملائكيا بحق؛ لم تتذمر ولو لمرة واحدة، ولم تشاكس أبدا، ودائما ما كانت تراعي مشاعر الآخرين، وكذلك كانت تعبر عن شكرها لكل ما يقدم لها بمنتهى الرقة وبطريقة تبعث على الأسى. وحين كان يصيبها الإنهاك الشديد حتى يكون من الصعب عليها الحديث، كانت تثني على كل ما يقدم لها، وقد قالت عن قدح من الشاي إنه «جيد بنحو جميل.» وحين قدمت لها بعض الماء قالت: «أشكرك بشدة»، وأعتقد أن تلك كانت هي آخر كلماتها الثمينة التي تحدثت بها إلي تلك الشفاه العزيزة على قلبي.
لقد فقدنا بهجة المنزل وسلوانا حين يتقدم بنا العمر. لا بد أنها كانت تعرف مقدار حبنا لها. آه، لو أنها تعرف الآن مدى الحب الخالص العميق الذي لا نزال، وسنظل دوما، نكنه لوجهها البهيج العزيز! فلتحل عليها البركة!
30 أبريل 1851
لقد كنا، نحن أطفاله، نستمتع كثيرا بالألعاب التي كان يلعبها معنا، لكنني لا أعتقد أنه كان يصخب كثيرا معنا؛ إذ أعتقد أن صحته كانت تعوقه عن أي لعب عنيف. كان يحكي لنا بعض القصص أحيانا، وقد كان ذلك أمرا مبهجا للغاية، ويعود السبب في ذلك جزئيا إلى ندرة حدوثه.
وتتضح الطريقة التي اتبعها في تنشئتنا من خلال قصة قصيرة عن أخي ليونارد، والتي قد كان أبي مغرما بحكيها. كان أبي قد دخل إلى غرفة الاستقبال ذات مرة ووجد ليونارد يتراقص على الأريكة، وهو ما كان ممنوعا للحفاظ على النوابض؛ فقال له أبي: «أوه، ليني، ليني، إن ذلك يخالف جميع القواعد.» فأجابه أخي قائلا: «إذن، أعتقد أنه من الأفضل لك أن تخرج من الغرفة.» أعتقد أنه على مدى حياته كلها، لم يتحدث مطلقا إلى أي من أطفاله بأي كلمة غاضبة، لكنني متيقن من أنه لم يخطر ببالنا على الإطلاق أن نعصيه. أتذكر جيدا أن أبي قد وبخني ذات مرة على إهمالي في أمر ما، وما زلت أتذكر ما اعتراني من مشاعر الحزن، وكذلك اهتمام أبي بأن يبددها عني؛ إذ سرعان ما تحدث إلي بعدها بعطف كبير. وقد ظل يعاملنا بطريقته المبهجة العطوفة علينا طوال حياته. إنني أتعجب أحيانا أنه تمكن من ذلك؛ إذ إن عائلتنا تتسم بالتحفظ، لكنني أرجو أن يكون قد عرف مدى السرور الذي كان يبعثه فينا عطفه وكلماته المحبة. وبعد أن أصبحت رجلا، كثيرا ما كنت أتمنى أن يمرر أبي يده ويمسح بها على شعري، بينما هو واقف خلف الكرسي الذي أجلس عليه، كما كان يفعل حين كنت طفلا. لقد كان يسمح لأبنائه الكبار بأن يضحكوا ويمزحوا معه، وكان بوجه عام يتعامل معنا من منطلق المساواة التامة بيننا وبينه.
لقد كان يهتم دائما بخطط ونجاحات كل منا. وقد كنا نمزح معه قائلين بأنه لا يثق بأبنائه، لأنه على سبيل المثال، كان يتردد بعض الشيء بشأن توليهم بعض المهام التي لم يكن يثق في أنهم يلمون بالقدر الكافي من المعرفة عنها. بالرغم من ذلك، فغالبا ما كان يميل إلى استحسان ما نقوم به. وحين كنت أرى أنه قد أولى قيمة كبيرة لأي شيء قمت به، كان يستاء ويكاد أن ينفجر في غضب مصطنع. لقد كانت شكوكه جزءا من تواضعه بخصوص أي شيء يتعلق به، وأما آراؤه المحابية لما نقوم به، فقد كانت نتيجة لطبيعته التي تتسم بالتعاطف، والتي جعلته متساهلا مع الجميع.
كان يحافظ دائما على التعبير عن شكره لأبنائه بطريقته الرائعة، ولم يحدث قط أن كتبت له خطابا أو قرأت عليه شيئا، دون أن أتلقى منه بضع كلمات رقيقة تعبر عن امتنانه. وقد كان حبه وعطفه تجاه حفيده الصغير برنارد عظيما، وكثيرا ما كان يتحدث عما كان يجده من سرور لرؤية «وجهه الصغير أمامه» على الغداء. وقد اعتاد هو وبرنارد أن يقارنا بين أذواقهما؛ كيف أنهما على سبيل المثال يفضلان السكر البني على الأبيض وما إلى ذلك، والنتيجة هي: «إننا نتفق دوما، أليس كذلك؟»
وتكتب أختي عنه، فتقول:
إن أول ذكرى لي عن والدي هي استمتاعنا بلعبه معنا. لقد كان متعلقا بأطفاله بصورة عاطفية، بالرغم من أنه لم يكن من محبي الأطفال بوجه عام. وقد كان بالنسبة لنا جميعا أكثر رفاق اللعب إمتاعا، وأكثر من لديه القدرة على التعاطف. إنه لأمر محال بالطبع أن نصف بشكل كاف، مدى البهجة التي كان يمنحها لعائلته، سواء وهم أطفال أو في المراحل اللاحقة من حياتهم.
ومن الأدلة على مدى توافقنا معه ومدى تقديرنا له كرفيق للعب، أن أحد أبنائه عندما كان في نحو الرابعة من عمره قد حاول أن يرشوه بستة بنسات كي يأتي ويلعب معنا في وقت العمل. وقد كنا جميعا نعلم مدى قداسة وقت العمل بالنسبة له، غير أنه قد بدا لنا من المستحيل أن يرفض أي شخص ستة بنسات.
لا شك أنه كان أكثر الممرضين صبرا وأقدرهم على بعث البهجة. إنني أتذكر ما كان يبدو لي ملاذا من الأمان والراحة حين يصيبني المرض؛ إذ أتدثر على الأريكة في غرفة مكتبه بينما أتطلع بتراخ إلى الخريطة الجيولوجية القديمة المعلقة على الحائط. لا بد أن ذلك كان في أثناء وقت عمله؛ إذ إنني أرى صورته في ذهني دوما وهو جالس على الكرسي ذي الذراعين المصنوع من شعر الخيل، بجوار ركن المدفأة.
ومن الدلائل الأخرى على ما كان يتسم به من صبر لا متناه، هو رد فعله حينما كنا نشن غارات على غرفة المكتب عندما نكون في حاجة ملحة للحصول على شريط طبي لاصق أو خيط أو دبابيس أو مقص أو طوابع أو مسطرة قدمية أو مطرقة. كانت غرفة المكتب لا تخلو من هذه وغيرها من الأغراض الضرورية، وهي المكان الوحيد الذي كنا نعرف يقينا أننا سنجد فيه هذه الأغراض. وقد كنا نشعر أنه ليس من الصواب أن ندخلها في أوقات العمل، لكننا كنا نفعل أحيانا إن كانت الحاجة لذلك ملحة للغاية . وأنا أتذكر نظرته الصبورة حين قال ذات مرة: «لا تظني أنه لا يمكنك الدخول مجددا، لقد قوطعت كثيرا من قبل.» كنا نرهب الدخول للحصول على شريط طبي لاصق، ذلك أنه كان يكره أن يرانا وقد جرحنا أنفسنا، لخوفه علينا ولحساسيته الشديدة لرؤية الدم كذلك. وأنا أتذكر جيدا بقائي مترصدة في الممر حتى يصبح هو على بعد مسافة آمنة؛ فأذهب خلسة للحصول على الشريط الطبي اللاصق.
حين أعيد النظر في حياتنا، يبدو لي أنها كانت منتظمة للغاية في هذه الفترة المبكرة، وباستثناء الأقارب (وعدد قليل من الأصدقاء المقربين)، فإنني لا أعتقد أن أحدا كان يأتي إلى المنزل. وبعد تلقي الدروس، كان يسمح لنا دائما بالذهاب حيثما نريد، وغالبا ما كنا نذهب إلى غرفة الاستقبال والحديقة، وذلك حتى نكون بالقرب من أبي وأمي كليهما. لقد كنا نستمتع كثيرا حين كان يحكي لنا قصصا عن رحلة «البيجل» أو عن أيامه المبكرة في شروزبيري؛ مثل قصصه عن أيام المدرسة وعن اهتماماته في فترة الصبا. وفي بعض الأحيان أيضا، كان يقرأ على أطفاله بعض الكتب مثل روايات سكوت، وأتذكر أيضا بضع محاضرات عن المحرك البخاري.
لقد كنت مريضة بعض الشيء على مدى خمس سنوات في الفترة بين سن الثالثة عشرة والثامنة عشرة، وعلى مدى فترة طويلة للغاية (أظن أنها قد امتدت لسنوات)، اعتاد أن يلعب معي كل عصر جولتين من لعبة الطاولة. وقد كان يلعب معي بحماس شديد، وأتذكر أننا اعتدنا في وقت من الأوقات على الاحتفاظ بسجل للجولات التي فاز بها كل منا؛ ولما كان هذا السجل في صالحه، فقد احتفظنا بقائمة للمرات التي حصل فيها كل منا على رقمين متماثلين على النرد؛ إذ كنت مقتنعة بأنه أفضل مني في رمي النرد.
كان صبره وتعاطفه لا حدود لهما في هذه الفترة المرهقة من المرض، وعندما كان المرض يشتد علي أحيانا، كنت أشعر أن تعاطفه عميق للغاية. وحين كانت حالتي تسوء للغاية، كنا نذهب إلى بيت عمتي في هارتفيلد، في ساسيكس، وفور وصولنا بأمان، كان يذهب إلى مور بارك لقضاء أسبوعين في مصحة العلاج المائي. إنني أتذكر الآن كيف أنني ما كنت أتحمل وجوده في غرفتي بعد عودته؛ فقد كان تعبير وجهه الذي يفيض بالمشاعر والتعاطف الرقيق، يثير مشاعري للغاية، إذ كان يتجدد بعد غيابه القصير.
كان يهتم بجميع مساعينا واهتماماتنا، وقد كان يشاركنا حياتنا بطريقة قلما يفعلها الآباء. لكنني على يقين أن أحدا منا لم يشعر أن مثل هذه الحميمية تتدخل بأقل قدر مع احترامنا أو طاعتنا له؛ فجميع ما كان يقوله، كان يمثل حقيقة وقانونا لنا. وكان دائما يولي ذهنه كليا للإجابة عن أي من أسئلتنا. وقد أدركت من إحدى المناسبات التافهة مقدار اهتمامه بما كنا نهتم به؛ فهو لم يكن يحب القطط كثيرا، رغم أنه كان محبا لما تفعله القطط الصغيرة من أمور لطيفة. بالرغم من ذلك، فقد كان يعرف جميع ما يتعلق بقططي العديدة ويتذكرها، وكان يستطيع التحدث عن عادات القطط المميزة منها، وكذلك طباعها حتى بعد موتها بسنوات.
ومن الصفات الأخرى التي كان يتسم بها في معاملته لأطفاله، احترامه لحريتهم وشخصيتهم، وأتذكر أنني كنت أستمتع بهذا الإحساس بالحرية، حتى وأنا ما زلت طفلة صغيرة. لم يكن أبي وأمي يرغبان حتى في معرفة ما نفعله أو نفكر فيه ما لم نرغب نحن في إخبارهما. لقد كان أبي يشعرنا دوما بأن كلا منا كيان له آراؤه وأفكاره التي يقدرها هو؛ لذا فإن أفضل ما فينا كان يتجلى في سماء حضوره.
لا أعتقد أن مبالغته في تقدير صفاتنا الجيدة، من الناحية الفكرية أو الأخلاقية، قد جعلنا متكبرين، كما قد يتوقع البعض، بل زادنا تواضعا وامتنانا له. والسبب في ذلك بلا شك هو أن التأثير الذي كانت تخلفه فينا طباعه وطبيعته العظيمة وإخلاصه، كان أدوم وأعمق من أي قدر يسير من إعلاء الذات كان من الممكن أن يتسبب فيه مدحه لنا أو ثناؤه علينا.
وأما بصفته سيد المنزل، فقد كان يحظى بالحب والاحترام من جميع الخدم؛ لقد كان يتحدث إليهم دائما باحترام، مستخدما عبارة «هلا تكرمت» حين يطلب من أحدهم القيام بأي شيء. ونادرا ما كان يغضب من أحد الخدم، ومما يدل على ندرة ذلك أنني سمعته ذات مرة حين كنت صغيرا يوبخ أحد الخدم ويتحدث إليه بغضب؛ فشعرت بأنه أمر مروع، وأتذكر أنني عدوت هاربا إلى أعلى إذ ترك ذلك عندي إحساسا عاما بالرهبة. لم يكن يشغل نفسه برعاية الحديقة والأبقار وما إلى ذلك، وكان يعتبر أنه مسئول عن الخيول بدرجة طفيفة للغاية؛ حتى إنه كان يتساءل بتشكك عما إذا كان بإمكانه أن يحصل على حصان وعربة ليرسلهما إلى كيستون لإحضار بعض نباتات الندية أو إلى مشاتل ويسترام طلبا لبعض النباتات أو ما شابه.
وأما فيما يتعلق بالضيافة، فقد كان أبي يتمتع بجاذبية خاصة كمضيف: لقد كان حضور الزائرين يبعث فيه الحماس ويظهر أفضل ما فيه. لقد كان يقول دوما عن منزل شروزبيري إن والده كان يرى أنه يجب العناية بالضيوف، وهو يتحدث في أحد خطاباته إلى فوكس عن استحالة كتابة خطاب بينما المنزل مليء بالضيوف. وأعتقد أنه دائما ما كان يشعر بشيء من عدم الارتياح لعدم قدرته على الترفيه عن ضيوفه والترحيب بهم بدرجة أكبر، لكن النتيجة كانت جيدة؛ فللتعويض عن أي خسارة، فقد كان المغنم أن الضيوف كانوا يشعرون بكامل الحرية في التصرف كما يحلو لهم. كان الضيوف المألوفون لدينا تماما هم الذين يبقون من يوم السبت إلى الاثنين، وأما من كانوا يقيمون لفترة أطول، فقد كانوا عادة من الأقارب، وكان ينظر إليهم على أنهم مسئولية أمي بدرجة أكبر.
وإضافة إلى الضيوف، فقد كان هناك بعض الزوار من الأغراب والأجانب أحيانا، وقد كنا نستضيفهم على الغداء ثم يرحلون بعد الظهيرة. وكان حريصا على أن يوضح لهم مدى بعد المسافة بين لندن وداون ومدى المشقة التي سيتعرضون لها في الرحلة، مسلما بنحو لا واع بأنهم سيجدون الرحلة شاقة كما كان يحدث معه. وإن لم يتراجعوا بالرغم من ذلك، فإنه كان يرتب لهم رحلاتهم، ويخبرهم بالموعد الذي يمكنهم المجيء فيه، وبنحو عملي، يخبرهم أيضا بموعد رحيلهم. لقد كان من الممتع رؤيته وهو يصافح ضيفا يرحب به للمرة الأولى؛ لقد كانت يده تندفع بطريقة تشعر المرء بأنها تسارع لتقابل يدي الضيف. ومع أصدقائه القدامى، كانت يده تمتد لتقابل اليد الأخرى بتلويحة حميمية، ودائما ما كانت طريقته في المصافحة تبعث في الراحة عند رؤيتها. وأما السمة الأساسية في وداعه، فقد كانت تتمثل في طريقته العذبة إذ يقف على الباب موجها الشكر إلى ضيوفه على زيارتهم له.
لقد كانت زيارات الغداء تلك مناسبات رائعة للترفيه، ولم يكن فيها أي ملل أو فتور، وكان أبي يبدو مبتهجا ونشيطا على مداها كلها. لقد وصف البروفيسور دي كوندول إحدى زياراته إلى داون، وذلك في وصفه لأبي، والذي يتسم بالإعجاب والتعاطف.
1
وهو يصف سلوكه بأنه يشبه سلوك «عالم» في أكسفورد أو كامبريدج. وأنا لا أجد هذا التشبيه دقيقا؛ فهو أكثر شبها ببعض الجنود في سلاسته وتلقائيته، وهو سلوك ينبع من افتقاره التام للتظاهر أو التصنع. لقد كان غياب التكلف في سلوكه وطريقته البسيطة التلقائية والتي كان يبدأ بها التحدث إلى ضيوفه لكي يفهم وجهات نظرهم، هما اللذين جعلا منه مضيفا رائعا لأي شخص غريب. وقد بدا أن اختياره للتحدث في موضوعات مبهجة، كان ينبع من طبيعته المتعاطفة، واهتمامه المتواضع المفعم بالحيوية بأعمال الآخرين.
أعتقد أن تواضعه قد تسبب للبعض في معاناة فعلية؛ فقد رأيت الراحل فرانسيس بالفور منزعجا للغاية؛ إذ نسبت إليه معرفة نقطة ما كان أبي قد أعلن أنه يجهلها تماما.
سيكون من الصعب أن نحيط بالسمات التي كانت تتصف بها محادثات أبي.
كان يخشى من تكرار قصصه أكثر من معظم الناس، ودائما ما كان يقول: «لا بد أنك قد سمعتني أقول» أو «يمكنني أن أقول إنني أخبرتك»، وقد كان ذلك من السمات المميزة التي كان لها تأثير غريب على محادثاته. غالبا ما كانت أول بضع كلمات من جملته تذكره بوجود استثناء أو سبب معارض لما كان في سبيله إلى الإدلاء به؛ ومن ثم، فإن ذلك كان يستحضر جملة أخرى ، فتصبح الجملة مكونة من جملة اعتراضية ضمن جملة اعتراضية، فيستحيل على المستمع في معظم الأحيان أن يفهم سياق ما كان يقوله إلى أن ينتهي من جملته. وقد كان يقول عن نفسه إنه ليس سريعا بما يكفي لينخرط في جدال مع أي شخص، وأعتقد أن ذلك كان صحيحا. فإذا لم يكن موضوع الجدال من القضايا التي كان يدرسها في ذلك الوقت، فإنه لم يكن يستطيع الحفاظ على متابعة الجدال بسرعة كافية. ويتضح ذلك حتى في خطاباته؛ ففي حالة الخطابين اللذين بعث بهما إلى البروفيسور سيمبر عن تأثير الانعزال، لم يتذكر مجموعة الحقائق التي أراد أن يتذكرها إلا بعد بضعة أيام من إرسال الخطاب الأول.
وحين كان يحار في أمر ما في أثناء الحديث، كان يعاني من تلعثم غريب في الكلمة الأولى من الجملة، وأنا لا أتذكر حدوث ذلك إلا مع الكلمات التي تبدأ بحرف
w ، ومن المحتمل أنه كان يعاني من بعض الصعوبة مع هذا الحرف؛ فقد سمعته يقول ذات مرة إنه لم يكن بإمكانه نطق هذا الحرف وهو فتى صغير، وأنهم كانوا يعرضون عليه ستة بنسات إن استطاع أن يقول
white wine
والتي كان ينطقها
rite rine . ومن المحتمل أن يكون والدي قد ورث هذه النزعة من إيرازموس داروين، الذي كان يتلعثم هو أيضا. (وقد كان أبي يروي إجابة إيرازموس داروين تذكرنا بأسلوب صامويل جونسون عن السؤال: «ألا تجد أن التلعثم أمر غير مريح للغاية يا دكتور داروين؟» والتي كانت على النحو التالي: «كلا يا سيدي لأنه يتيح لي الوقت لكي أفكر قبل أن أتحدث، وألا أسأل أسئلة سفيهة.»)
أحيانا كان يجمع بين تعبيراته المجازية بطريقة غريبة؛ فيستخدم مثلا عبارة «صامد مثل الحياة»، وهي مزيج بين «صامد من أجل حياته» «وصامد مثل الموت الزؤام.» وقد كان ذلك نابعا من رغبته المتلهفة للتأكيد على ما كان يقوله، مما كان يعطي انطباعا بالمبالغة في بعض الأحيان، حيث لم يكن يقصدها، لكنه كان يعطي كذلك انطباعا نبيلا بالاقتناع القوي الفياض، وذلك على سبيل المثال حين كان يقدم أدلته عن تشريح الحيوانات الحية أمام المفوضية الملكية، وقال كلماته عن القسوة: «إنها جديرة بالمقت والاشمئزاز.» وعندما كانت تصبح لديه آراء قوية وواضحة بشأن أي مسألة مماثلة، لم يكن يثق بقدرته على الحديث؛ إذ كان يغضب بسهولة، وقد كان يكره ذلك للغاية. لقد كان مدركا لحقيقة أن غضبه كان يميل لأن يتضاعف ويتضاعف، ولهذا السبب، فقد كان يخشى أن يوبخ أحد الخدم على سبيل المثال.
ومن أكبر الأدلة على تواضع والدي في أسلوبه في الحديث، أنه حين حضر لزيارته عدد من الزوار من طرف السير جون لاباك بعد ظهيرة يوم من أيام الآحاد، لم يبد عليه قط أنه كان يقوم بالوعظ أو إلقاء محاضرة، بالرغم من استحواذه على النصيب الأكبر من الحديث. وكان يتمتع بجاذبية خاصة حين «يغيظ» بمزاح أحدا، وقد كان يفعل ذلك بفرح كبير. وكان يتسم بخفة روح صبيانية في مثل هذه الأوقات، وتتجلى رقة طبيعته بقوة شديدة. وحين كان يتحدث مع سيدة يسر بالحديث معها ويستمتع به، كان من الممتع جدا مشاهدة سلوكه الذي يجتمع فيه المرح مع الاحترام.
حين كان يحضر لأبي عدد من الضيوف، فإنه كان يحسن التصرف: فيتحدث مع كل منهم على حدة لبعض الوقت، أو يجمع بين اثنين أو ثلاثة منهم معا حول كرسيه. ودائما ما كان حديثه في هذه المحادثات مفعما بوجه عام بقدر كبير من المرح أو الود الغامر بالبهجة. وربما يكون تذكري لعنصر الفكاهة السائد هو الأكثر حيوية في ذهني؛ فقد كانت أفضل الحوارات تدور مع السيد هكسلي، الذي كان يتسم بنزعته المماثلة إلى الدعابة، حتى إن لم تكن حاضرة في الحديث. كان أبي يستمتع بدعابة السيد هكسلي للغاية، وكثيرا ما كان يقول عنه: «يا لروعة حس الدعابة لدى هكسلي!» وأعتقد أنه كان يندمج في جدالات تغلب عليها الطبيعة العلمية (على هيئة العراك) مع لايل والسير جوزيف هوكر.
كان يقول إنه يحزنه ألا يشعر تجاه أصدقائه في آخر حياته بتلك المشاعر الدافئة التي كان يشعر بها في شبابه. لا شك في أن خطاباته الأولى التي أرسلها من كامبريدج كانت تبرهن على مدى صداقته القوية جدا مع هربرت وفوكس، ولم يكن لأحد سواه بالطبع أن يعترف بأن مشاعره تجاه أصدقائه لم تكن على الدرجة نفسها من الدفء طوال حياته. لم يكن يدخر وسعا في سبيل تقديم أي خدمة لأحد من الأصدقاء، وكان يبذل في ذلك جهده ووقته الثمينين عن طيب خاطر. لا شك في أنه كان يتمتع بقدرة غير عادية على أن يجعل أصدقاءه يتعلقون به. لقد حظي في حياته بالعديد من الصداقات الدافئة، لكن أواصر المودة التي جمعته بالسير جوزيف هوكر، كانت أقوى مما نراه عادة بين الرجال. لقد كتب في عمله «ذكريات» يقول: «لا أظن أنني قد عرفت من الرجال من هو أكثر جدارة بالمحبة من هوكر.»
كانت تجمعه بأهل القرية علاقة جيدة، وكان يعاملهم بلطف أفرادا وجماعات كلما تواصل معهم، وكذلك كان يهتم بجميع ما يتعلق بشئونهم ومعيشتهم. وبعد مرور بعض الوقت على انتقاله إلى المعيشة في داون، ساعد في تأسيس «ناد خيري»، وعمل أمينا لصندوقه على مدى ثلاثين عاما. وقد بذل عناء كبيرا في رعاية أمور هذا النادي، من الإشراف على حساباته وتسجيلها بدقة بالغة، والاستمتاع بما وصل إليه من أحوال مزدهرة. وقد اعتاد النادي في يوم اثنين العنصرة على القيام بمسيرة والتجول مع فرقة موسيقية ورايات والتجمع على الأرض المعشوشبة أمام منزلنا. وهناك، كان يلتقي بهم ويشرح لهم وضعهم المالي في حديث قصير تتخلله بعض الدعابات المعتادة. وفي أحيان كثيرة، لم يكن يتمتع بصحة جيدة، مما كان يجعل من هذا الاحتفال القصير مجهودا شاقا بالنسبة له، لكنني لا أعتقد أنه قد تخلف مرة عن لقائهم.
كان يقوم أيضا بمهام أمين الصندوق لنادي الفحم، فكان ذلك يشغله بعض الشيء، كما أنه قد عمل لبعض السنوات قاضيا محليا.
وفيما يتعلق باهتمام والدي بأمور القرية، فقد كان السيد برودي إنيس كريما للغاية؛ إذ أمدني بذكرياته عن ذلك، وهي كالتالي:
حين أصبحت كاهن داون في عام 1846، أصبحنا صديقين واستمرت صداقتنا حتى وفاته. وكان يعاملني أنا وأسرتي بعطف لم يتغير أبدا، وقد كنا نبادله ذلك بمودتنا الدافئة.
كان يهم بالمساعدة في جميع أمور الأبرشية، وكان على استعداد دائم لتقديم مساهماته السخية في جميع الأمور المتعلقة بالمدارس والأعمال الخيرية وغيرها من الأعمال، وبالنسبة إلى الاختلافات التي كانت تحدث في الأبرشية أحيانا كما يحدث في غيرها من الأبرشيات، فقد كنت دائما على يقين من مساندته لي. لقد كان يرى أنه ما دام الاعتراض ليس بالأمر المهم، فإنه سيساند رجل الدين، لأنه الأكثر دراية بالظروف، وهو الذي يتحمل المسئولية بأكملها.
كان حديثه مع الغرباء يتسم بالتهذيب المتحوط واتباع الآداب الرسمية إلى حد ما، لكنه في الواقع لم يتسن له الالتقاء بغرباء إلا في مناسبات قليلة.
لقد وصف
2
الدكتور لين، كيف أنه في المناسبة النادرة التي حضر فيها أبي محاضرة (للدكتور ساندرسون) في المعهد الملكي، «نهض جميع الحضور على أقدامهم ... للترحيب به»، بينما قد بدا هو «غير واع تقريبا أن هذا التصفيق الحاد من الممكن أن يكون من أجله.» لقد جعلته الحياة الهادئة في داون يرتبك في المناسبات التي تضم عددا كبيرا من الحضور؛ ففي أمسيات الجمعية الملكية، على سبيل المثال، كان يشعر بالضيق بسبب الأعداد الكبيرة. وكان شعوره بأن عليه أن يعرف الحضور، وما كان يعانيه من صعوبة في تذكر وجوه الناس في السنوات الأخيرة، من الأمور التي تضيف إلى أسباب عدم ارتياحه في مثل هذه المناسبات. لم يكن يدرك أن الناس سيتعرفون عليه من صوره الفوتوغرافية، وأتذكر عدم ارتياحه حين تعرف عليه أحد الغرباء في معرض كريستال بالاس للأحياء المائية.
لا بد لي أن أقول شيئا عن أسلوبه في العمل: من أهم السمات التي كانت تميزه هي احترامه للوقت؛ فهو لم ينس قط قيمته الثمينة. ويتضح ذلك على سبيل المثال في محاولته التقليل من عطلاته، وكذلك يتضح أكثر في محاولته لاختصار مدتها. وكثيرا ما كان يقول إن ادخار الدقائق هي الطريقة التي يمكن بها إنجاز العمل، وقد اتضح حبه لادخار الدقائق فيما كان يشعر به من فرق بين العمل لمدة ربع ساعة والعمل لمدة عشر دقائق؛ فهو لم يهدر قط بضع دقائق إضافية نتيجة لتفكيره بأنها لا تستحق استغلالها في العمل. وكثيرا ما كنت أندهش من طريقته في استنفاد جميع قواه في العمل إلى أقصى حد حتى إنه كان يتوقف عن الإملاء فجأة قائلا: «أعتقد أن علي ألا أعمل أكثر من ذلك.» وتتضح رغبته الشديدة في توفير الوقت مرة أخرى من خلال سرعته في الحركة في أثناء العمل، وأتذكر أنني لاحظت ذلك على وجه التحديد حين كان يقوم بتجربة على جذور الفول، التي كانت تتطلب بعض العناية في التنفيذ؛ إذ كان من الضروري أن يجرى تثبيت أجزاء البطاقات الصغيرة على الجذور بحرص وبطء، لكن الحركات البينية كانت تتم كلها بسرعة، مثل تناول حبة جديدة ورؤية ما إن كان الجذر سليما أم لا، وخرقه بدبوس ثم تثبيته على فلينة ورؤية ما إذا كان رأسيا أم لا، وكذلك بعض الأمور الأخرى؛ وكان يقوم بكل هذه الأمور بنوع من التلهف المكبوح. ودائما ما كان يعطي الانطباع بأنه يستمتع بالعمل دون أي ضجر. ولدي صورة عنه كذلك، وهو يسجل نتائج تجربة ما، إذ كان ينظر بتلهف إلى كل جذر وما إلى ذلك، ثم يكتب بالدرجة نفسها من اللهفة ملاحظاته، وأتذكر أيضا حركة رأسه السريعة صعودا وهبوطا للنظر إلى الأغراض ثم تدوين الملاحظات.
لقد كان يوفر كثيرا من الوقت من خلال عدم القيام بالشيء نفسه مرتين. وبالرغم من أنه كان يكرر بصبر التجارب حين يرجى من ذلك أي نفع، فإنه لم يكن يتحمل تكرار تجربة كان لها أن تنجح من المرة الأولى إن كان قد أولاها كامل عنايته، مما كان يسبب له قلقا مستمرا من أن تضيع التجربة سدى؛ فقد كان يشعر بأن التجربة لها قداستها، مهما كانت بساطتها. وكان يأمل أن يتعلم من التجربة بأقصى درجة ممكنة؛ لذا فإنه لم يكن يقيد نفسه بملاحظة النقطة المحددة التي صممت التجربة لملاحظتها، وقد كان يتمتع بقدرة رائعة على ملاحظة العديد من الأشياء. لا أعتقد أنه كان يهتم بالملاحظات الأولية أو التحضيرية، والتي كان الغرض منها استخدامها كدلائل، ثم يجب أن تعاد مرة أخرى. وكان لا بد أن يكون لكل تجربة يجريها بعض النفع، وأتذكر في هذا السياق مدى حثه على ضرورة الاحتفاظ بالملحوظات المدونة عن التجارب التي فشلت، وقد كان يلتزم بهذه القاعدة دائما.
لقد كان يعاني من الهلع نفسه بخصوص إهدار الوقت فيما يتعلق بالجانب الأدبي من عمله، وكذلك كان يشعر بالحماس نفسه تجاه ما كان يقوم به في اللحظة الحاضرة، مما جعله حريصا على ألا يضطر إلى أن يعيد قراءة أي شيء، دونما ضرورة إلى ذلك.
كان يميل إلى استخدام الطرق البسيطة وعدد قليل من الأدوات. وقد زاد استخدام المجهر المركب بدرجة كبيرة منذ شبابه، وذلك على حساب المجهر البسيط. وإننا لنجده الآن أمرا غريبا أنه لم يأخذ معه مجهرا مركبا في رحلة «البيجل»، لكنه قد اتبع في ذلك نصيحة روبرت داون، الذي كان من الثقات في مثل هذه الأمور. ودائما ما كان شديد التفضيل لاستخدام المجهر البسيط، وكان يرى بأنه مهمل للغاية في هذه الأيام، وأن على المرء أن يرى أكبر قدر ممكن بالمجهر البسيط قبل أن يستخدم المجهر المركب. وهو يتحدث عن هذا الأمر في أحد خطاباته ويقول إنه يرتاب دوما في عمل أي شخص لا يستخدم المجهر البسيط أبدا.
كانت منضدة التشريح الخاصة به عبارة عن لوح سميك، مثبت بإحدى نوافذ غرفة المكتب؛ وقد كانت أقل ارتفاعا من المنضدة العادية؛ لذا فلم يكن يتسنى له العمل عليها واقفا، لكنه لم يكن ليفعل ذلك على أي حال للحفاظ على قواه. كان يجلس إلى منضدة التشريح على كرسي خفيض غريب بلا ذراعين أو ظهر كان ملكا لوالده، والذي كان مقعده يدور حول محور رأسي، وهو مثبت على عجلات كبيرة لكي يتسنى له الاستدارة بسهولة من جانب إلى آخر. كانت أدواته المعتادة وما إلى ذلك تتناثر على المنضدة، وكان يوجد في الجوار عدد من النثريات على منضدة مستديرة مليئة بالأدراج المتشعبة، التي كانت تدور على محور رأسي، وتوجد على جانبه الأيسر، حين يجلس إلى منضدة المجهر. أما الأدراج، فقد كانت تحمل العناوين: «أفضل الأدوات»، «الأدوات التقريبية»، «العينات»، «تحضيرات العينات» ... إلخ. والأمر الأكثر غرابة بشأن محتويات هذه الأدراج، هي العناية الكبيرة في الاحتفاظ ببعض الجذاذات الصغيرة وغيرها من الأغراض العديمة القيمة تقريبا؛ فقد كان يؤمن بالاعتقاد الشائع أنك إن رميت شيئا، فسوف تحتاج إليه مباشرة؛ ولهذا فقد تراكمت الأغراض هناك.
لو نظر أي شخص إلى أدواته وغيرها من الأغراض المتناثرة على الطاولة، فإنه كان ليندهش من البساطة والارتجال والغرابة.
على جانبه اليمين، كانت توجد بعض الرفوف مع عدد من النثريات، والأكواب والصحون وصناديق البسكويت المعدنية لاستنبات البذور، وبطاقات من الزنك وصحون مليئة بالرمل وغير ذلك. وبالنظر إلى ما كان أبي عليه من تنظيم ومنهجية في الأمور الأساسية، فإنه من الغريب أن نجد أنه قد تحمل وجود العديد من الأشياء المستعملة قبل ذلك؛ فبدلا من الحصول على صندوق مصنوع على شكل محدد، ومصبوغ باللون الأسود من الداخل، فإنه كان يبحث عن شيء مشابه لما كان يريده ويصبغه بالأسود من الداخل باستخدام دهان الأحذية. ولم يكن يهتم بالحصول على أغطية زجاجية مصنوعة بشكل خاص لأوعية استنبات البذور، وإنما كان يستخدم قطعا مكسورة ذات أشكال مختلفة، وأحيانا كان يوجد بها زاوية ضيقة تبرز بلا جدوى من أحد الجانبين. بالرغم من ذلك، فإن معظم التجارب التي كان يجريها، كانت من النوع البسيط ولم تكن تستدعي أغراضا غاية في الإتقان. وأعتقد أن عادته في هذا الصدد كانت تنبع بدرجة كبيرة من رغبته في حفظ قواه وعدم إهدارها على أمور غير ضرورية.
ويمكننا أن نذكر هنا شيئا عن طريقته في تمييز الأغراض. إذا كان لديه عدد من الأغراض التي يرغب في التمييز بينها، مثل أوراق الشجر والزهور وغير ذلك، فإنه كان يربط حول كل منها لونا مختلفا من الخيوط. وكان يستخدم هذه الطريقة بالتحديد حين يرغب في التمييز بين فئتين فقط من الأشياء؛ ولهذا ففي حالة التلقيح المتبادل والتلقيح الذاتي للزهور، كان يميز إحدى المجموعتين بخيط أسود والأخرى بخيط أبيض يربطه حول ساق الزهرة. أتذكر جيدا منظر مجموعتين من أغلفة البذور، وقد جمعهما في انتظار قياس وزنهما وعد محتوياتهما وما إلى ذلك، وقد استخدم قطعتين من الخيط الأبيض والأسود للتمييز بين الأواني التي ستوضعان فيها. وعندما كان عليه أن يقارن بين مجموعتين من الشتلات قد زرعتا في الإناء نفسه، فإنه كان يفصل بينهما بحاجز من صحائف الزنك، مع وضع بطاقة الزنك التي توضح التفاصيل الضرورية عن التجربة على جانب محدد دائما؛ وذلك حتى يتسنى له أن يعرف على الفور أيهما يمثل «التلقيح المتبادل» وأيهما يمثل «التلقيح الذاتي»، دون حاجة إلى قراءة البطاقة.
لقد تجلى على نحو واضح حبه لكل تجربة ورغبته المتلهفة على ألا يهدر ثمارها، في تجارب التلقيح المتبادل التي كان يقوم بها، وذلك من خلال حرصه الدقيق على ألا يحدث أي خلط في وضع أغلفة البذور على الأواني الخاطئة، وما شابه ذلك. ويمكنني أن أتذكر منظره وهو يحصي البذور تحت المجهر البسيط بانتباه شديد لا تستدعيه في العادة مهمة آلية مثل العد. أعتقد أنه كان يتصور كل بذرة على أنها عفريت صغير يحاول الإفلات منه إلى الكومة الخاطئة، أو الهرب منه تماما، وقد كان ذلك يضفي على العمل الإثارة التي تتسم بها الألعاب. كان يثق بالآلات ثقة عظيمة، ولا أظن أنه كان ليفكر في أن يرتاب في دقة مقياس أو كوب للقياس أو ما شابه ذلك. وقد اندهش حين اكتشف أن أحد الميكرومترات يختلف في قياسه عن الآخر. لم يكن يحتاج إلى الدقة العالية في معظم قياساته، ولم يمتلك أدوات قياس جيدة: كان يمتلك مسطرة قدمية قديمة طولها ثلاثة أقدام، وقد كانت ملكية عامة للمنزل بأكمله، وكنا نقترضها باستمرار لأنها هي الوحيدة التي كنا نعرف يقينا أنها موجودة في مكانها؛ هذا بالطبع إن لم يكن آخر من اقترضها قد نسي أن يضعها مجددا في مكانها. ولقياس ارتفاع النباتات، فإنه كان يستخدم قضيبا خشبيا طوله سبعة أقدام، كان قد استعان بنجار القرية في تدريجه. ثم بدأ بعد ذلك في استخدام المقاييس الورقية التي تتدرج إلى ملليمترات. وبالنسبة إلى الأغراض الصغيرة، فقد كان يستخدم الفرجار ومنقلة عاجية. وقد كان من سماته أنه يتحمل عناء كبيرا في اتخاذ قياساته باستخدام أدواته التقريبية بعض الشيء. ومن الأمثلة البسيطة على ثقته في المراجع أنه كان يحسب «البوصة على أساس الملليمترات»، وذلك من كتاب قديم، والذي قد اتضح عدم دقته. وكان لديه ميزان كيميائي يعود تاريخه إلى عهد عمله في الكيمياء مع أخيه إيرازموس. وبالنسبة إلى قياسات السعة، فقد كان يأخذها باستخدام وعاء زجاجي صيدلاني للقياس، وما زلت أتذكر جيدا مظهره الخشن وتدريجه السيئ، وأتذكر أيضا ما كان يوليه أبي من عناية كبيرة ليصبح خط السائل على التدريج. إنني لا أقصد بهذا الحديث عن أدواته أن أيا من تجاربه قد عانت من نقصان في دقة القياسات، وإنما أقدم به مثالا على وسائله البسيطة وثقته في الآخرين؛ ثقته على الأقل في صانعي الأدوات، والتي كانت صناعتهم بأكملها لغزا بالنسبة له.
ويحضرني الآن عدد من سماته الذهنية، والتي تتعلق بصفة خاصة بطريقته في العمل. هناك سمة ذهنية يبدو أنها كانت ذات فائدة عظيمة ومميزة في قيادته إلى التوصل للاكتشافات، والتي تتمثل في قدرته على ملاحظة الاستثناءات على الدوام، وعدم إغفالها على الإطلاق. إن الجميع يلاحظون وجود الاستثناءات حين تكون واضحة للغاية ومتكررة، لكنه كان يتمتع بحدس خاص للانتباه إلى وجود أي استثناء. إن أي نقطة تبدو بسيطة وغير مرتبطة بالعمل الحالي، تغيب عن انتباه العديد من الرجال بشكل غير واع تقريبا، ويعزون السبب فيها إلى تفسير غير محكم، والذي هو في واقع الأمر ليس تفسيرا على الإطلاق، لكن مثل هذه الأمور، هي ما كان يتوقف عندها، ويبدأ بالعمل منها. وبطريقة ما، يمكننا أن نرى أنه لا شيء مميز في هذه العملية؛ فهي الطريقة التي أدت إلى التوصل للعديد من الاكتشافات، وإنما أذكرها فقط لأنني بينما كنت أشاهده وهو يعمل، فإنني قد تأثرت كثيرا بقيمة هذه القدرة للعالم التجريبي.
ومن السمات الأخرى التي اتضحت في عمله التجريبي، هي قدرته على المثابرة في العمل على موضوع محدد، وقد كان يعتذر عن صبره قائلا إنه لا يستطيع احتمال الهزيمة، كما لو كان ذلك من نقاط الضعف. وكثيرا ما كان يستشهد بالقول: «إن الإصرار هو السبيل إلى النجاح»، وأعتقد أن الإصرار يعبر عن إطاره الذهني بنحو أفضل من المثابرة؛ فالمثابرة لا تكفي للتعبير عن رغبته الشديدة في إجبار الحقيقة على الإفصاح عن نفسها. وكثيرا ما كان يقول إنه من المهم للمرء أن يعرف النقطة الصحيحة التي يجب عندها التخلي عن أي بحث. وأعتقد أن ميله إلى تخطي هذه النقطة هو ما كان يجعله يعتذر عن مثابرته، وأضفى طابع الإصرار على عمله.
كثيرا ما كان يقول إنه لا يمكن للمرء أن يكون ملاحظا جيدا إن لم يكن منظرا نشيطا. ويعيدني ذلك إلى ما قلته عن موهبته في الانتباه إلى الاستثناءات؛ فكأنه كان مشحونا بقدرته على وضع النظريات، والتي كانت مهيأة للتدفق في أي اتجاه عند حدوث أي اضطراب بسيط؛ لذا فلم يكن لأي حقيقة مهما كانت صغيرة ألا تتسبب في تدفق فيض من النظريات، وبهذا تتضخم الحقيقة ويكون لها أهمية. وبهذه الطريقة فقد حدث تلقائيا أن تواردت على ذهنه العديد من النظريات التي يتعذر تعضيدها، لكن من حسن الحظ أن قدرته على النظر في الأفكار التي تطرأ على ذهنه وتدقيقها كانت تعادل ثراء خياله. لقد كان منصفا تجاه نظرياته ولم يدنها قبل أن يتحقق منها؛ ولهذا فقد كان مستعدا لاختبار ما قد يبدو لمعظم الناس على أنه لا يستحق الاختبار. وقد كان يدعو هذه المحاولات الجامحة باسم «تجارب الحمقى» وكان يستمتع بها للغاية. وكمثال على ذلك يمكنني أن أذكر أنه حين اكتشف الحساسية الشديدة للورقات الجنينية في النباتات من جنس الحساسة
Biophytum
تجاه اهتزازات الطاولة، تخيل أنها قد تكون قادرة على استقبال ذبذبات الصوت؛ ولهذا فقد طلب مني أن أعزف على زمخري بالقرب من إحداها. (ولا يعد ذلك مثالا على الاستفاضة في وضع النظريات فيما يتعلق بشيء بسيط، وإنما يعبر عن رغبته في اختبار أكثر الأفكار غير المحتملة.)
لقد كان حب التجريب قويا لديه للغاية، وإنني لأستطيع تذكر الطريقة التي كان يقول بها: «لن أهدأ حتى أخضع هذا للتجربة.» وكأنما كانت هناك قوة خارجية تدفعه إلى ذلك. وكان يستمتع بإجراء التجارب أكثر من استمتاعه بالعمل الذي لا ينطوي إلا على التسويغ المنطقي، وحين كان ينخرط في تأليف كتاب يتطلب تقديم الحجج وترتيب الحقائق، كان يشعر بأن العمل التجريبي سيكون بمنزلة استراحة أو عطلة؛ ولهذا، فحين كان يعمل على كتابه «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، في الفترة بين 1860 و1861، توصل إلى فهمه لتلقيح السحلبيات، وكان يرى نفسه متكاسلا إذ أولى هذا الأمر هذا القدر الكبير من الوقت. وإنه لأمر مثير أن ندرك أنه قد قام بجزء مهم للغاية من العمل البحثي، على سبيل تمضية الوقت، والاستراحة من عمل أكثر جدية. وتتضمن خطاباته إلى هوكر في هذه الفترة بعض العبارات مثل: «فليسامحني الله على تكاسلي؛ فأنا مهتم بهذا العمل على نحو سخيف.» ويتجلى استمتاعه الشديد باستيعاب أساليب التكيف للتلقيح بقوة في هذه الخطابات. إنه يتحدث في أحد الخطابات عن نيته في العمل على جنس الندية على سبيل الاستراحة من كتابة عمله «نشأة الإنسان» وقد وصف في عمله «ذكريات» شعوره الكبير بالرضا بعد أن توصل إلى حل مسألة تفاوت أطوال الأعضاء الجنسية في الزهور. وقد سمعته يذكر أنه قد استمتع بالطبيعة الجيولوجية لأمريكا الجنوبية أكثر من أي شيء آخر. ربما يكون ذلك السرور الذي كان يستمده من العمل الذي يستدعي الملاحظة الدقيقة هو ما جعله يقدر أي ثناء يتلقاه على قواه في الملاحظة أكثر من أي احتفاء بملكاته الأخرى.
لم يكن يكن احتراما كبيرا للكتب، وإنما كان يعتبرها مجرد أدوات تستخدم في العمل؛ لذا لم يجلدها، وإذا تهرأ أحد الكتب الورقية من كثرة الاستخدام، كما حدث مع كتاب «التلقيح» لمولر، فإنه كان يحفظه من التفكك التام من خلال وضع مشبك معدني على ظهره. وبالمثل فإنه كان يقسم الكتب الثقيلة إلى نصفين كي يسهل حملها. وقد كان يتفاخر بأنه جعل لايل ينشر الطبعة الثانية من أحد كتبه في جزأين بدلا من واحد، وذلك بأن أخبره أنه اضطر إلى تقسيمه إلى نصفين. وكثيرا ما كان يتعامل مع النشرات بقسوة أكثر من الكتب؛ إذ كان يمزق الصفحات التي لا يهتم بها، لتوفير الحيز الذي تشغله. ونتيجة لجميع تلك الممارسات، فإن مكتبته لم تكن مزينة، وإنما كانت لافتة للنظر؛ إذ كان يبدو بوضوح أنها مجموعة من الكتب المخصصة للعمل.
كان أبي منهجيا في الطريقة التي يتبعها في قراءة الكتب والنشرات المرتبطة بعمله. فقد كان يخصص رفا يضع عليه جميع الكتب التي لم يقرأها بعد، وآخر تنقل إليه بعد قراءتها وقبل تصنيفها. وكثيرا ما يتحسر على كتبه التي لم يقرأها، لأنه كان يعرف أنه لن يتمكن من قراءة العديد منها. وقد كانت كتب عديدة تنقل إلى الكومة الأخرى في الحال، وقد كانت هذه الكتب تحمل علامة الصفر عند نهايتها لتدل على أنها لا تضمن أي فقرات قد حددها، أو كان يكتب عليها أحيانا «لم يقرأ» أو «جرى تصفحها فقط». كانت الكتب تتراكم في الكومة المخصصة للكتب التي قرئت حتى يفيض بها المكان، وبعد الكثير من الامتعاض، كان يخصص يوما لتصنيفها. كان يكره القيام بهذه المهمة، وحين يصبح القيام بها ضرورة ملحة، فإنه غالبا ما كان يقول في نبرة يأس: «يجب علينا بالفعل ترتيب هذه الكتب في وقت سريع.»
في كل كتاب كان يقرؤه، كان يحدد بعض الفقرات المتعلقة بعمله. وحين كان يقرأ كتابا أو نشرة أو غير ذلك، كان يرسم خطوطا بالقلم الرصاص على جانب الصفحة ويضيف ملاحظات قصيرة في أغلب الأحيان، وفي النهاية، كان يكتب قائمة بالصفحات التي بها فقرات مميزة. وعندما يحين موعد تصنيف الكتاب ووضعه في المكان المخصص، كان يعيد النظر في الصفحات التي تحتوي على ملاحظاته، ومن ثم يعد ملخصا سريعا للكتاب. وقد يكتب هذا الملخص تحت ثلاثة عناوين أو أربعة في صفحات مختلفة، وفيها يجري تصنيف الحقائق وإضافتها إلى الحقائق التي سبق جمعها في مختلف الموضوعات. وكانت لديه مجموعة أخرى من الملخصات التي كان يرتبها وفقا للدورية لا الموضوع. وحين كان يجمع الحقائق على نطاق واسع في السنوات المبكرة، كان معتادا على القراءة وإعداد الملخصات بهذه الطريقة لسلاسل بأكملها من الدوريات.
وفي بعض خطاباته المبكرة، كان يتحدث عن ملء العديد من الدفاتر بالحقائق لكتابه عن الأنواع، لكن المؤكد أنه قد بدأ في وقت مبكر في تبني خطته في استخدام حافظات الأوراق، والتي يصفها في عمله «ذكريات». وقد شعر كل من والدي ودي كوندول بالسرور لاكتشافهما أنهما قد استخدما الخطة نفسها في تصنيف الحقائق. ويصف دي كوندول هذه الطريقة في كتابه «علم النباتات»، وهو يذكر في وصفه لوالدي مدى الرضا الذي شعر به حين رأى خطته تنفذ في داون.
وإضافة إلى حافظات الأوراق التي يوجد منها عشرات مليئة بالملاحظات، توجد لفائف ضخمة من المخطوطات التي كان يضع عليها عنوان «مستخدمة»، وكان يضعها بعيدا. كان يشعر بقيمة مذكراته وكان لديه ذعر من أن تدمرها النيران. أتذكر حين حدث إنذار بالحريق ذات مرة، أنه كان يرجوني أن أتوخى شديد الحذر، ثم أضاف بجدية شديدة أن حياته ستكون تعيسة إن تلفت مذكراته وكتبه.
وهو يعبر عن هذا الشعور نفسه فيما كتبه عن فقدان إحدى مخطوطاته، وقد كان فحوى كلامه: «لدي نسخة منها وإلا لكان قد قتلني فقدانها.» وحين كان ينوي تأليف كتاب، فإنه كان يبذل الكثير من الوقت والجهد في إعداد هيكل أو خطة للكتاب بأكمله، وكذلك في تكبير العناوين وتشعيبها، وذلك كما يصف في عمله «ذكريات». وأعتقد أن هذا الترتيب الدقيق للخطة لم يكن جوهريا على الإطلاق في بناء حجته، لكنه كان ذلك لطريقة العرض وترتيب الحقائق. ولأن كتابه «حياة إيرازموس داروين» قد طبع في البداية في قصاصات، فإن نمو الكتاب من مجرد هيكل كان واضحا للغاية، وقد تغير ترتيب الكتاب فيما بعد لأنه كان رسميا للغاية وذا طبيعة حاسمة، وبدا وكأنه يعرض شخصية جده من خلال تقديم قائمة بصفاته، لا صورة كاملة.
وفي سنواته الأخيرة فقط، تبنى خطة للكتابة كان مقتنعا بأنها الأنسب له، وهي التي وصفها في «ذكريات» والتي تتمثل في كتابة نسخة مبدئية مباشرة دون أن يعير الأسلوب أي اهتمام. وكان من عادته أن يشعر بأنه لا يستطيع الكتابة بالقدر الذي يرغب فيه من العناية إن استخدم أفضل الأوراق؛ لذا فإنه كان يكتب على ظهر أوراق بروفات الطباعة أو المخطوطات. وبعد ذلك، كان يعيد النظر في النسخة المبدئية ويعد نسخة منقحة؛ ولهذا الغرض، فقد كان لديه أوراق فولسكاب واسعة المسافة بين السطور، وقد كانت السطور ضرورية لكي يتفادى الكتابة عن قرب، فيكون التصويب أمرا عسيرا. بعد ذلك، تصوب النسخة المنقحة ويعاد نسخها ثم ترسل إلى المطابع. وكان السيد إي نورمان هو الذي يتولى عملية النسخ، وكان قد بدأ هذا العمل قبل سنوات عديدة حين كان مدرس القرية في داون. وقد أصبح والدي معتادا للغاية على خط السيد نورمان حتى إنه لم يكن يستطيع تصويب أي مخطوطة، حتى حين يكون أحد أبنائه قد كتبها بوضوح، إلى أن يعيد السيد نورمان نسخها. وحين تعود المخطوطة من عند السيد نورمان، فإنها تصوب مرة أخرى ثم ترسل إلى المطابع، ثم يأتي دور تنقيح بروفات الطباعة وتصويبها، وهو ما كان أبي يجده عملا مملا للغاية.
وفي هذه المرحلة، كان يبدأ في التفكير بجدية في أسلوب كتابته. وحين كان يصل إلى هذه المرحلة، فإنه عادة ما كان يبدأ في عمل آخر للترويح عن نفسه. والواقع أن عملية تصويب القصاصات كانت تتم على مرحلتين: وهما التصويب بالقلم الرصاص أولا، ثم إعادة النظر فيما جرى تصويبه وكتابته بالحبر.
وحين كان الكتاب يمر بمرحلة «القصاصات»، كان أبي يسر بتلقي التصويبات والاقتراحات من الآخرين؛ ولهذا فقد ألقت أمي نظرة على بروفات الطباعة لكتاب «أصل الأنواع». وفي بعض الأعمال المتأخرة، كانت أختي السيدة ليتشفيلد هي التي تقوم بالجزء الأكبر من التصويب، وبعد زواج أختي، أصبح الجزء الأكبر من العمل من نصيبي .
وفي هذا الشأن، تكتب أختي السيدة ليتشفيلد:
لقد كان هذا العمل مشوقا للغاية في حد نفسه، وقد كان العمل لأجله، أمرا مبهجا بنحو لا يمكن التعبير عنه. لقد كان دائما على استعداد للاقتناع بأن أي تغيير مقترح هو تحسين، وكان يعبر دائما عن خالص امتنانه للجهد المبذول. ولا أعتقد أنه قد نسي أن يخبرني بمدى التحسين الذي قمت به في رأيه، ويكاد أن يعتذر إن لم يوافق على أحد التعديلات. وأعتقد أنني قد شعرت برقته وتواضعه الفريدين من خلال العمل معه، بطريقة لم أكن لأعرفها بأي سبيل آخر.
لم يكن يكتب بسهولة، وكان يميل إلى عكس جمله سواء في الحديث أو الكتابة؛ إذ كان يضع العبارة الوصفية قبل أن يوضح ما تصفه. وكان يصوب الكثير، وكان حريصا على التعبير عن نفسه بأفضل نحو ممكن قدر الإمكان.
ولعل القدر الأكبر من التعديلات اللازمة كان يتمثل في النقاط المبهمة بسبب حذف رابط ضروري في عملية التبرير المنطقي، ولا بد أن ذلك كان يتمثل في شيء كان قد حذفه لمعرفته المفصلة بالموضوع. لم يكن هذا ناتجا عن خطأ في تسلسل الأفكار لديه، وإنما إلى أنه لم ينتبه إلى أن الكلمات التي اختارها لا تعبر عن الفكرة المعروضة وذلك لأنه قد ألف الحجة التي يسوقها. وكثيرا ما كان يضع الكثير في الجملة الواحدة؛ فكان لا بد من تجزئتها إلى جملتين.
بوجه عام، إنني أرى أن أبي كان يبذل قدرا عظيما من الجهد في الجزء الأدبي من عمله، وقد كان ذلك بارزا للغاية. وكثيرا ما كان يسخر من نفسه أو يتذمر لما يجده من صعوبة في الكتابة باللغة الإنجليزية؛ فكان يقول مثلا بأنه إذا كان ثمة ترتيب سيئ للجملة يحتمل أن تكون عليه، فمن المؤكد أنه سيستخدمه. وفي إحدى المرات، شعر بالسرور والرضا عندما وجد أحد أفراد العائلة صعوبة في كتابة منشور قصير. وقد سر بتصحيح أخطائه والسخرية من النقاط المبهمة والجمل المعقدة وغير ذلك من العيوب؛ وبهذا فقد انتقم لنفسه من جميع النقد الذي كان عليه أن يتحمله. وقد اعتاد على أن يقتبس نصيحة الآنسة مارتينو إلى المؤلفين الشباب معبرا عن دهشته منها، وهي أن ينطلقوا في الكتابة ثم يرسلوا المخطوطات إلى جهة الطبع مباشرة دون تصويبها. بالرغم من ذلك، فقد كان يتصرف على نحو مشابه لذلك في بعض الأحيان. وحين كانت إحدى الجمل تتعقد على نحو لا أمل في إصلاحه، فإنه كان يسأل نفسه: «والآن، ما الذي تريد أن تقوله؟» وعادة ما كانت إجابته التي يدونها هي التي تزيل اللبس.
كان أسلوبه يحظى بالثناء؛ بالرغم من ذلك، فقد صرح لي خبير معروف بأن أسلوبه ليس جيدا. لكنه رغم كل شيء كان مباشرا وواضحا، وهو يشبه صاحبه في بساطته التي تقترب من السذاجة، وفي غياب الادعاء عنه. وكان لا يؤمن على الإطلاق بالفكرة الشائعة القائلة بأنه يجب على أي عالم أن يكتب بلغة إنجليزية سليمة، وكان يعتقد في الواقع أن العكس هو الصحيح. وكان يستخدم في الكتابة أحيانا، بعض التعبيرات القوية مثلما كان يفعل في الحديث؛ لذا، في الصفحة 440 من كتاب «أصل الأنواع»، يرد وصف لهدابيات الأرجل اليرقانية، يقول: «لها ستة أزواج من الأرجل جميلة التركيب المهيأة للسباحة، وزوج من الأعين المركبة الرائعة، وقرون استشعار غاية في التعقيد.» وقد اعتدنا أن نسخر منه بسبب هذه الجملة، وشبهناها بأحد الإعلانات. وتظهر هذه النزعة في الاستسلام للميل الحماسي في أفكاره، دون الخوف من أن يكون مضحكا، في مواضع أخرى من كتاباته.
لقد كانت نبرته الدمثة والودية نحو قارئه بارزة للغاية، ولا بد أن ذلك من الأمور التي أوشت بطبيعته العذبة إلى العديد ممن لم يروه أبدا. ولطالما شعرت بأنها حقيقة غريبة أن يكون الرجل الذي غير وجه العلوم الحيوية، وهو في هذا الشأن رائد العلماء المعاصرين، كان يكتب ويعمل بهذه الطريقة والروح اللتين لا تتسمان بالعصرية في جوهرهما. وعند قراءة كتبه، فإن المرء ليتذكر السابقين من علماء التاريخ الطبيعي، أكثر مما يتذكر كتاب المدرسة الحديثة. لقد كان عالما في التاريخ الطبيعي بالمعنى القديم للكلمة ؛ أي إنه رجل يعمل في العديد من فروع العلوم، ولا يتخصص في واحد منها فقط؛ ولهذا، فبالرغم من أنه قد أسس فروعا جديدة بأكملها من الموضوعات المميزة، مثل تلقيح الزهور والنباتات الآكلة الحشرات وثنائية الشكل وغير ذلك، فإنه حتى عند معالجته لمثل هذه الموضوعات لا يجعل القارئ يشعر بأنه يقرأ لعالم متخصص، بل يشعر أنه صديق يتحدث إليه صديقه الرجل الفاضل الدمث، وليس تلميذا يحاضره أستاذه. لقد كانت النبرة التي استخدمها في كتاب مثل «أصل الأنواع» ساحرة وعاطفية بعض الشيء؛ إنها نبرة رجل يقتنع بصدق أفكاره ولا يتوقع كثيرا أن يتمكن من إقناع الآخرين؛ فقد كان أسلوبه يناقض تماما أسلوب المتعصبين الذين يرغبون في إجبار الآخرين على الإيمان بآرائهم. إنه لا يشعر القارئ بأي ازدراء على الإطلاق لأي مقدار من الشك يمكن له أن يتخيله، وإنما يتعامل مع هذا الشك باحترام صبور. يبدو أن القارئ المتشكك وربما حتى القارئ غير العقلاني، كانا حاضرين دائما في تفكيره. وربما نتيجة لهذا الشعور، كان يبذل مجهودا كبيرا في النقاط التي كان يتصور أنها ستلفت نظر القارئ، أو توفر عليه المشقة فيغريه بالقراءة.
ولهذا السبب نفسه، كان يهتم اهتماما كبيرا بالرسومات التوضيحية في كتبه، وأعتقد أنه كان يوليها أكثر من قدرها. إن الرسومات التوضيحية في كتبه الأولى قد رسمها فنانون محترفون، وكان ذلك في كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» وكتاب «نشأة الإنسان» وكتاب «التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان». أما في أعماله «النباتات المتسلقة» و«النباتات آكلة الحشرات» و«حركات النباتات» و«أشكال الزهور»، فقد كانت الرسومات التوضيحية الواردة فيها إلى حد كبير من رسم بعض أولاده؛ إذ كان أخي جورج هو من رسم معظمها. لقد كان من الممتع أن نرسم له؛ إذ كان يفرط في الثناء على أدائنا المتواضع جدا. وأنا أتذكر جيدا طريقته العذبة التي كان يستقبل بها رسومات إحدى زوجات أبنائه، وكيف أنه كان ينهي عبارات الثناء قائلا: «أخبر أ... أن رسومات مايكل أنجلو لا تساوي شيئا مقارنة بهذه .» وبالرغم من أنه كان يفيض في الثناء، فإنه كان يتفحص الرسومات وكان يكتشف بسهولة أي خطأ أو إهمال فيها.
كان لديه ذعر من الإسهاب الشديد، وكان يبدو منزعجا ومضطربا للغاية حين وجد أن كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» يطول في يديه. وأتذكر أنه كان يتفق بشدة مع كلمات تريستام شاندي: «لا تدع أي إنسان يقول: هيا، فسوف أؤلف كتابا بقطع الاثني عشر.»
كان تقديره للمؤلفين الآخرين من سماته المميزة، مثلما كانت نبرته مع القارئ. فقد كان يتحدث عن جميع المؤلفين الآخرين كأشخاص يستحقون الاحترام. وفي الحالات، كما في حالة تجارب ... على نباتات جنس الندية، التي لم يكن يعتد كثيرا بالمؤلف، كان يتحدث عنه بطريقة لا تشي بذلك. وفي حالات أخرى، كان يتعامل مع الكتابات المرتبكة للجهلاء، كما لو أن الخطأ يقع على عاتقه أنه لم يفهمهم أو يقدرهم. وإلى جانب هذه النبرة العامة من الاحترام، فقد كانت له طريقة عذبة في التعبير عن رأيه في قيمة العمل المستشهد به، أو امتنانه لمعلومة خاصة قدمت إليه.
لم يكن شعوره الذي ينم عن الاحترام حميدا من الناحية الأخلاقية فحسب، بل أعتقد أنه قد أفاده من الناحية العملية؛ إذ جعله ذلك مستعدا للتفكير في أفكار جميع ضروب البشر وملاحظاتهم. وكان يكاد أن يعتذر عن ذلك قائلا إنه كان يميل في البداية إلى الإعلاء من قيمة أي شيء بنحو مرتفع للغاية.
ومن صفاته الذهنية الرائعة أنه بالرغم من شعوره القوي بالاحترام تجاه ما كان يقرؤه، فإنه كان يتمتع بغريزة قوية للغاية بخصوص ما إذا كان الشخص جديرا بالثقة أم لا. لقد بدا أنه يكون رأيا محددا للغاية عن دقة المؤلفين الذين كان يقرأ لهم، وكان يستخدم هذا الرأي في اختياره للحقائق التي يستخدمها في تقديم البرهان أو تقديم الأمثلة التوضيحية. وقد تولد انطباع لدي أنه كان يشعر بما لهذه القدرة في الحكم على جدارة الشخص بالثقة من قيمة كبيرة.
كان يؤمن تماما بميثاق الشرف الذي ينبغي أن يكون بين المؤلفين، وكان لديه ذعر من أي نوع من التراخي في الاستشهاد. كان يزدري الولع بالتشريف والتمجيد، وكثيرا ما كان يوجه اللوم إلى نفسه في خطاباته، وذلك لما كان يجده من سرور في نجاح كتبه، كما لو كان ذلك تخليا منه عن مثله العليا: حب الحقيقة وعدم الاهتمام بالشهرة. وكثيرا ما كان يسخر من نفسه لغروره وافتقاره إلى التواضع، وذلك حين كان يكتب إلى السير جيه هوكر، ما يسميه بخطاب متباه. ويوجد خطاب مثير بنحو مدهش كان قد كتبه إلى أمي، وهو يوصيها في حالة وفاته أن تنشر مخطوطة أول مقال قد كتبه عن التطور. وإنني أرى في هذا الخطاب رغبته الشديدة في نجاح نظريته بصفتها إسهاما في المعرفة بعيدا عن أي رغبة شخصية في الشهرة. لقد كان يتمتع بالطبع بتلك الرغبة الصحية في النجاح، والذي يتمتع بها كل إنسان يتمتع بقوة العزيمة. بالرغم من ذلك، فعندما نشر كتاب «أصل الأنواع»، كان من الواضح أنه كان يشعر بارتياح غامر لما لاقاه من تأييد وثناء من رجال مثل لايل وهوكر وهكسلي وآسا جراي، وهو لم يكن يحلم أو يرغب فيما حظي به من شهرة واسعة وكبيرة.
وإلى جانب بغضه للولع المفرط بالشهرة، فقد كان يبغض بالدرجة نفسها جميع المسائل التي تتعلق بالأسبقية؛ ففي خطاباته التي أرسلها إلى لايل في الوقت الذي نشر فيه كتاب «أصل الأنواع»، نجد أنه يعبر عما كان يشعر به من غضب لعدم تمكنه من كبت شعوره بخيبة الأمل، لما كان يظنه من قيام السيد والاس بإحباط جميع سنوات عمله. ويتضح حسه بميثاق الشرف الأدبي بقوة في هذه الخطابات، وكذلك تظهر مشاعره المتعلقة بالأسبقية مرة أخرى فيما عبر عنه في عمله «ذكريات» من إعجاب بإنكار الذات الذي أبداه السيد والاس.
كان لديه رأي واضح ومحدد بشأن الرد على الآخرين، بما في ذلك الرد على حالات الهجوم والمشاركة في جميع أنواع النقاشات. وهو يتضح ببساطة في خطاب قد كتبه إلى فالكونر (1863 (؟)) يقول فيه: «إذا حدث وشعرت نحوك بالغضب، وأنا أكن لك مشاعر الصداقة الخالصة، فسوف أبدأ في الشك بأنني قد أصبت بمس من الجنون. لقد شعرت بالأسف الشديد لردك، وأعتقد أنه كان خطأ في جميع الأحوال ويجب تركه للآخرين. وأما عن إمكانية تصرفي على النحو الذي تصرفت به تحت تأثير الاستفزاز، فذلك أمر مختلف.» لقد كان هذا الشعور ينبع بصورة جزئية من رقته الفطرية، ومن ناحية أخرى، فقد كان ينبع أيضا مما كان يسببه ذلك من إهدار للوقت والطاقة وتغيير للمزاج. وقد قال إنه يدين بإصراره على عدم الخوض في المناقشات إلى نصيحة لايل، وهي التي كان ينقلها بين أصدقائه الذين كانوا يشتغلون بالكتابة. (لقد تخلى عن هذه القاعدة في عمله «ملاحظات عن عادات نقار خشب سهول البامبا «الكولب السهلي»»، والذي نشر في دورية «بروسيدينجز أوف ذا زولوجيكال سوسايتي»، 1870، الصفحة 705: وكذلك في خطاب قد نشر في دورية «ذا أثنيام» (1863، الصفحة 554)، وقد أسف بعد ذلك على أنه لم يلتزم الصمت. وأما ردوده على الانتقادات، في الطبعات اللاحقة من كتاب «أصل الأنواع»، فهي لا تعد خرقا لهذه القاعدة.)
إذا أردنا أن نفهم طباع والدي في حياته العملية، فعلينا أن نضع في اعتبارنا دوما ظروف مرضه والتي كان يعمل دوما تحت تأثيرها. لقد تحمل مرضه بصبر ودون تذمر، حتى إن أولاده، كما أعتقد، لم يدركوا مدى معاناته المعتادة. وفي حالتهم، فإن ما يعزز من صعوبة إدراكهم لذلك الأمر، هي حقيقة أنهم يرونه على هذه الحال من المرض المستمر منذ أيام ذكرياتهم الأولى عنه، وقد رأوه أيضا رغم ذلك ممتلئا بالسعادة لجميع ما كان يسعدهم؛ ولهذا، ففي الفترات اللاحقة من حيواتهم، كان لا بد من الفصل بين إدراكهم لما كان يعانيه، وبين الانطباع الذي تشكل في طفولتهم تأثرا بما كان يمدهم به دائما من عطف صادق بينما هو يعاني من المصاعب التي لا يدركونها. ولا أحد بالطبع يعرف سوى أمي مقدار ما كان يتحمله من معاناة، وكذلك مقدار صبره المدهش. فهي، في جميع السنوات المتأخرة من حياته، لم تفارقه لليلة واحدة، وكانت تخطط يومها بما يسمح أن تشاركه ساعات راحته. وقد كانت تدرأ عنه كل مضايقة يمكن تلافيها ولم تبخل قط بأي شيء قد يجنبه بعض المشقة، أو يقيه الإجهاد المفرط، أو حتى قد يخفف عنه المتاعب العديدة التي كان يلقاها من اعتلال صحته. إنني أشعر بالتردد إزاء التحدث بحرية عن شيء على هذه الدرجة من القداسة مثل الإخلاص مدى الحياة، والذي كان وراء رعايتها الدائمة له برقة وعطف. بالرغم من ذلك، فإنني أعود وأكرر أنه لم يتمتع بصحة الأناس العاديين ولو ليوم واحد على الإطلاق على مدى أربعين عاما تقريبا، وقد كان ذلك من السمات الجوهرية في حياته؛ ومن ثم، فقد كانت حياته كفاحا طويلا ضد الإرهاق والإجهاد الناتجين عن المرض. ولا يمكننا أن نتحدث عن ذلك دون ذكر الظرف الوحيد الذي مكنه من تحمل هذا الإجهاد والكفاح حتى النهاية.
الخطابات
إن الخطابات المبكرة التي تمكنت من الوصول لها، هي تلك التي كتبها والدي حين كان طالبا في كامبريدج.
ولهذا، فلا بد لسردنا لتاريخ حياته، كما ورد في خطاباته، أن يبدأ من هذه الفترة.
الفصل الرابع
الحياة في كامبريدج
[تمتد حياة والدي في كامبريدج من بداية الفصل الدراسي الشتوي في عام 1828، حين أتى إليها طالبا مستجدا، إلى نهاية فصل مايو عام 1831، حين نال شهادته وغادر الجامعة.
ويظهر من سجلات الكلية أن والدي «قد التحق بها في فئة الطلاب الحاصلين على إعانة صغيرة، تحت إمرة كبير المعلمين شو» في 15 أكتوبر 1827. ولم يحضر والدي للإقامة حتى الفصل الدراسي الشتوي عام 1828؛ لذا، بالرغم من أنه قد اجتاز اختباراته في موعدها المحدد، فلم يتمكن من نيل شهادته في الموعد المعتاد؛ بداية الفصل الدراسي الشتوي عام 1831. وفي مثل هذه الحالة، عادة ما ينال الشخص شهادته قبل أربعاء الرماد، وهو يسمى حينها «حاصل على الدرجة العلمية في يوم الرماد»، ويصنف ضمن الحاصلين على الدرجة العلمية لذلك العام. بالرغم من ذلك، يرد اسم والدي في قائمة الحاصلين على الشهادة «في يوم المعمودية»، أو الذين حصلوا على الدرجة العلمية في الفترة بين أربعاء الرماد ويوم القديس يوحنا المعمدان (الرابع والعشرين من يونيو). (إذ قد ورد في «سجل كامبريدج»، بتاريخ الجمعة، 29 أبريل، 1831 ما يلي: «في يوم الثلاثاء الماضي، حصل تشارلز داروين الطالب بكلية كرايست على درجة الليسانس.») ومن ثم فقد ورد تصنيفه ضمن الحاصلين على درجة الليسانس عام 1832.
لقد ظل مقيما، على مدى فصل دراسي أو اثنين، في النزل الموجود أعلى متجر بيكون للتبغ، وهذا المتجر ليس هو ذلك المتجر الموجود في منطقة السوق، والذي يعرفه جيدا الآن جميع أهل كامبريدج، بل كان في شارع سيدني. ثم أقام بغرفة سكنية جيدة تطل على الطرف الجنوبي لأقدم ساحات كلية كرايست، وظل مقيما بها إلى أن انتهى من دراسته. (تقع الغرفة في الطابق الأول، على الجانب الغربي من الدرج الأوسط، وقد سمح مؤخرا بتعليق ميدالية (وهبها أخي للكلية) على جدار غرفة الجلوس بها.)
أما عن العوامل التي حددت اختيار هذه الكلية لأبي ولأخيه إيرازموس، فذلك مما لا سبيل لي إلى معرفته. لقد درس إيرازموس الأكبر؛ جدهما، في كلية سان جون، وربما كانت هذه الكلية مناسبة لهما؛ إذ إنها ترتبط بمدرسة شروزبيري. غير أنه يبدو أن حياة الطلاب في كلية سان جون في ذلك الوقت، كانت بها بعض المشاكل، وذلك بناء على ما يمكنني ملاحظته من انتقال قريب لي من هناك إلى كلية كرايست، ليتفادى أساليب التضييق المتبعة في هذه الكلية. وتوضح الأمر نفسه قصة أخرى رواها السيد هربرت
1
وهي كالتالي:
في بداية فصل أكتوبر الدراسي عام 1830، حدث أمر كانت له عواقب مزعجة بعض الشيء بالنسبة لي، وإن كانت هزلية. كان داروين قد طلب مني أن أذهب معه في جولة سير طويلة في منطقة فينز للبحث عن بعض المواد الطبيعية التي كان يرغب في الحصول عليها. وبعد يوم طويل ومرهق جدا من العمل، تناولنا العشاء معا متأخرا في المساء في غرفته بكلية كرايست، وحالما انتهينا من العشاء، ارتمينا على مقعدين مريحين وغرق كل منا في نوم عميق. استيقظت أنا أولا في نحو الثالثة صباحا، ولأنني أدري بالقواعد الصارمة في كلية سان جون وهي التي تقضي بأن يعود الطلاب إلى الكلية قبل منتصف الليل، فحين نظرت إلى ساعتي، اندفعت عائدا إلى غرفتي بأقصى سرعة خوفا من العواقب، وأملا في أن يقبل العميد عذري حين أخبره بالحقيقة. لكنه كان متعنتا ورفض أن يستمع إلى توضيحي للأمور أو إلى أي دليل قد أقدمه، وبالرغم من أنه لم يصدر عني أني قد حضرت إلى الكلية متأخرا على الإطلاق خلال فترة دراستي، وقد أصبحت الآن طالبا مجتهدا على وشك الحصول على الليسانس، ولدي خمسة طلاب أو ستة، فقد قرر حبسي داخل جدران الكلية وعدم الخروج منها حتى نهاية الفصل الدراسي. لم يكن لاستياء داروين حدود، ولم يتسبب تعسف العميد وظلمه في إثارة مشاعر الغضب لدى أصدقائي فحسب، بل كان موضوع احتجاج عدد من الأعضاء البارزين في الجامعة.
يبدو أن والدي لم يكن يواجه صعوبة في التعامل مع جميع الأشخاص الذين تعاقبوا على رئاسة كلية كرايست التي أعادت تأسيسها الليدي مارجريت. وقد كان انطباع المعاصرين لوالدي عن كلية كرايست في أيامهم، هو أنها كانت كلية لطيفة وهادئة نسبيا، ويسود فيها ميل إلى «الاهتمام بالخيول»؛ فقد اعتاد الكثير من الطلاب الذهاب إلى نيوماركت خلال السباقات، بالرغم من أن المراهنة لم تكن من الممارسات المعتادة. ولم يكن كبير المعلمين السيد شو، يثبطهم عن ذلك على الإطلاق؛ فعادة ما كان هو نفسه يرى حاضرا في هذه المناسبات. وقد كان بهذه الكلية نسبة مرتفعة بعض الشيء بين الطلاب العاميين الذين يدفعون نفقات تعليمهم؛ فقد كانوا ثمانية أو تسعة، والطلاب الذين يتقاضون إعانة؛ فقد كانوا ستين أو سبعين، مما يعني أنها كانت كلية غير مناسبة للرجال الذين يملكون المال ولا يفضلون الالتزام الصارم بالنظام.
وتوضح الطريقة التي كانت تقام بها الشعائر في الكنيسة، أن العميد على الأقل، لم يكن مفرط الحماس؛ فقد سمعت أبي وهو يحكي كيف أن العميد كان يقرأ في شعائر المساء بالكنيسة آيات بديلة من سفر المزامير، دون أن يتظاهر حتى بانتظار الحشد لكي يحظوا بفرصتهم في ترديدها . وإذا طال الوقت المخصص لقراءة الإنجيل، فإنه كان ينهض ويبدأ في قراءة سفر نشيد الأنشاد بعد أن يكون الطالب قد قرأ خمس عشرة أو عشرين آية.
ومن اللافت للنظر أن أبي غالبا ما كان يتحدث عن حياته في كامبريدج كما لو أنها كانت مضيعة للوقت، ناسيا أنه، بالرغم من أن معظم الدراسات المقررة كانت عقيمة بالنسبة له، قد حظي بالقدر الأكبر من أفضل مزايا الحياة الجامعية؛ من التواصل مع الآخرين، وكذلك فرصة أن ينمو ذهنه ويتطور بقوة. والواقع أنه كان يكن عظيم التقدير للمزايا التي اكتسبها من معرفته بالبروفيسور هنزلو وآخرين غيره، لكنه على ما يبدو كان يرى ذلك على أنه إحدى نتائج وجوده في كامبريدج التي كانت وليدة الصدفة، لا مزية يمكن أن ينسب الفضل فيها إلى كليته. وكان من أصدقاء والدي في كامبريدج، الراحل السيد جيه إم هربرت، وهو قاض بمحكمة المقاطعة في جنوب ويلز، وقد أسعدني الحظ بأن حصلت منه على بعض الملاحظات التي تساعدنا على تكوين فكرة عن مدى إبهار أبي لمعاصريه؛ فقد كتب السيد هربرت يقول: «أعتقد أنني قابلت داروين لأول مرة في ربيع عام 1828، إما في غرفة ابن عمي ويتلي في سان جون أو في غرفة شخص آخر من زملاء دراسته القدامى في شروزبيري، وهم الذين كانت تجمعني بمعظمهم أواصر صداقة متينة. لكن من المؤكد أنه في صيف هذا العام قد توطدت علاقتنا إلى حد الحميمية، وذلك حين تصادف أن كنا معا في باراموث نقضي العطلة الصيفية في القراءة مع معلمينا الخصوصيين: هو مع معلمه الخاص للرياضيات والأعمال الكلاسيكية؛ باترتون من سان جون، وأنا مع ييت من سان جون.»
لقد انتهى التفاعل بينهما بصورة عملية في عام 1831، حين ودع أبي هربرت في كامبريدج، وذلك حين انطلق في رحلة «البيجل.» وقد التقيت بالسيد هربرت ذات مرة وكان رجلا عجوزا حينذاك، ولقد أدهشني الدفء الواضح والمودة الصافية التي تذكر بها أبي. وتنتهي الملاحظات التي استشهدت بها بهذا الثناء الكريم: «لن يكون من المجدي أن أتحدث عن قدراته الفكرية الهائلة ... غير أنني لا أستطيع أن أنهي هذا الوصف السريع والمتشعب دون أن أدلي بشهادتي، وأنا لا أشك بأن جميع زملائه من الكلية الذين لا يزالون على قيد الحياة سيتفقون معي أنه كان أصدق الأصدقاء، وأطيبهم قلبا، وأكرمهم، وأكثرهم مودة، وأنه كان يؤيد كل ما هو خير وحقيقي، وأنه كان يمقت كل ما هو زائف أو دنيء أو قاس أو شرير أو غير شريف. إنه لم يكن عظيما فحسب، بل كان خيرا دون نزاع، وكان عادلا ومحبوبا.»
وتوجد قصتان سردهما السيد هربرت توضحان أن مشاعر أبي تجاه المعاناة، سواء كانت معاناة إنسان أو حيوان، قوية للغاية وبالدرجة نفسها منذ شبابه وحتى أيامه الأخيرة، وأولاهما كالتالي: «قبل أن يغادر كامبريدج، أخبرني بأنه قد قرر ألا يمارس الصيد بعد الآن؛ إذ إنه قد قضى يومين في الصيد في ضيعة صديقه السيد أوين في وودهاوس، وفي اليوم التالي، بينما كانا يمران بجانب من الأرض التي اصطادا عليها في اليوم السابق، وجد طائرا لم يمت، بل كان يعاني من طلقة قد أصابته في اليوم السابق. وقد ترك ذلك انطباعا أليما للغاية في ذهنه، حتى إنه لم يستطع التصالح مع ضميره بشأن استمراره في أن يستمد المتعة من هذه الرياضة التي تخلف مثل هذه المعاناة القاسية.»
ولكي ندرك قوة هذا الشعور الذي أدى إلى هذا القرار، يجب أن نتذكر مدى شغف أبي وحبه لهذه الرياضة، وأن نتذكره وهو صبي وقد صاد أول طائر شنقب له،
2
وكانت يداه ترتعشان من فرط الإثارة حتى إنه تمكن بالكاد من إعادة تعبئة بندقيته. أو يمكننا أن نفكر في جملة مثل «بروحي إن هي إلا مدة أسبوعين حتى بداية موسم الصيد، وإن كانت هناك من نعمة على الأرض، فهي الصيد.» (وهي التي قد كتبها أبي في خطاب إلى دابليو دي فوكس).
وأما القصة الأخرى التي يرويها السيد هربرت، فهي توضح أيضا رقة قلبه:
حين كنت أنا وهو في بارماوث، ذهبنا إلى عرض ل «الكلاب المدربة». وفي خضم هذا العرض الترفيهي، عجز كلب عن تنفيذ الخدعة التي أمره صاحبه بتنفيذها. وحين وبخه الرجل، أبدى الكلب تعبيرا مثيرا للشفقة كما لو كان خائفا من ضربه بالسوط. وحين رآه داروين، طلب مني أن أغادر معه قائلا: «هيا بنا، لا أستطيع أن أتحمل هذا أكثر من ذلك؛ لا بد أنهم يبرحون هذه الكلاب المسكينة ضربا.»
ومن اللافت للنظر أن هذا الشعور نفسه قد راود أبي بعد مرور هذه الحادثة بخمسين عاما حين رأى عرضا للكلاب في المتحف المائي في ويستمينستر، وفي هذه المرة، كان المدير قد أكد له أن الكلاب قد تدربت بالإثابة أكثر من العقاب. ويستطرد السيد هربرت في ملاحظاته قائلا: «لقد كان يحرك لدى المرء أعمق المشاعر، حين يتحدث عن أهوال تجارة العبيد مهاجما ومستنكرا، أو يتحدث عن مظاهر القسوة التي يتعرض لها البولنديون في وارسو ... هذه الأمور وغيرها من الأدلة قد تركت في ذهني اقتناعا بأنه لم يعش من قبله إنسان أكثر منه رقة وعطفا على الإنسانية.»
ويتفق أصدقاؤه القدامى من الكلية في الحديث بعاطفة دافئة عن طبيعته الودودة الكريمة وهو شاب. وبناء على ما تمكنوا من إخباري به، فقد تشكل لدي انطباع عن شاب يفيض بالحيوية، ويعيش حياة صحية متنوعة المشارب، لا حياة ليس فيها إلا العمل الدءوب في الدراسات المقررة في الكلية، بل هي مليئة بالاهتمامات الأخرى، التي كانت تمارس بحماس مبهج. الاهتمام بالحشرات وركوب الخيل والصيد في المستنقعات ومناسبات العشاء ولعب الورق وموسيقى كنيسة كينجز كوليدج والصور المنقوشة في متحف فيتسويليام وجولاته مع البروفيسور هنزلو؛ كل هذه الأمور قد اجتمعت معا لتملأ حياته بالسعادة. ويبدو أنه كان ينقل حماسه للآخرين؛ إذ يحكي السيد هربرت كيف أنه خلال هذا الصيف الذي قضياه في بارماوث، قد انضم بصفة مؤقتة إلى خدمة «العلم»، وهو ما كان يعني به أبي جمع الخنافس. كانا يقومان بجولاتهما اليومية معا بين التلال الواقعة خلف بارماوث، أو يتنقلان بالقارب عند مصب نهر ماوذاك، أو يبحران إلى سارن بادريج ليرسوا هناك في المياه الضحلة، أو يذهبان لصيد الذباب في بحيرات كورس-واي-جيدول. «في هذه المناسبات، كان داروين يمارس اهتماما بالحشرات بدأب شديد، فلا يبرح يلتقط العديد من الكائنات في أثناء سيره، ويضع في حقيبته جميع الأشياء التي يبدو أنها تستحق الاهتمام بها، أو المزيد من الفحص. وبعد فترة قصيرة، زودني بزجاجة من الكحول، والتي كان علي أن أضع بها أي خنفساء يبدو لي أنها من نوع غير معتاد. وقد أديت هذه المهمة ببعض الاجتهاد في جولاتي التي كنت أقوم بها سيرا على الأقدام، لكن للأسف نادرا ما كانت قدرتي على التمييز تمكنني من الحصول على مكافأة؛ فقد كانت النتيجة المعتادة حين يفحص محتويات زجاجتي، هي التعجب قائلا: «حسنا يا تشيربيري العجوز» [مشيرا بالطبع إلى هربرت لورد تشيربيري] (وهو اللقب الذي منحني إياه وكان يخاطبني به في العادة) ويضيف: «لن ينفعني شيء من كل هذا.»» ومرة أخرى، يقول الكاهن تي باتلر، الذي كان أحد أعضاء نادي القراءة ببارماوث في عام 1828: «لقد نقل إلي الاهتمام بعلم النبات، الذي قد لازمني طوال حياتي.»
أما رئيس الشمامسة واتكينز، وهو صديق آخر من أصدقاء والدي القدامى من الكلية، فيتذكر والدي وهو يفتش عن الخنافس في أشجار الصفصاف بين كامبريدج وجرانتشيستر، ويتحدث عن خنفساء معينة يتذكر أن اسمها هو «خنفساء الصليب» [خنفساء الصليب الأرضية]. لا بد أن أبي كان قد ابتهج بحماس شديد بشأن هذه الخنفساء لدرجة أن ينطبع اسمها في ذهن صاحبه فيتذكره بعد نصف قرن! ويستطرد واتكينز قائلا: «لا أنسى المحادثات الطويلة الشائقة التي دارت بيننا عن المناظر الطبيعية والنباتات الاستوائية بجميع أنواعها في البرازيل. وكذلك لا أنسى كيف أنه كان يحك ذقنه بحدة حين كان يتحمس بشأن هذه المواضيع، وكان يتحدث بفصاحة عن النباتات المتسلقة الخشبية والسحلبيات وغير ذلك.»
توطدت علاقته بهنزلو، البروفيسور في علم النبات، ومن خلاله، توطدت علاقته بغيره من الأعضاء الأقدم في الجامعة. وفي هذا الشأن، يكتب السيد هربرت قائلا: «بالرغم من ذلك، فقد حافظ على علاقته المتينة بأصدقائه الذين هم في نفس مكانته ، وفي تجمعاتنا المتكررة على الإفطار أو حفلات النبيذ أو العشاء، كان دائما من أكثر الحاضرين ابتهاجا وأكثرهم ألفة وترحيبا.»
لقد شكل والدي ناديا للعشاء مرة في الأسبوع، وكان يسمى نادي جورميه (لكن يذكر السيد هربرت أن اسمه كان نادي «جلوتون»). وقد كان أعضاؤه بخلاف والدي والسيد هربرت (الذي أقتبس منه ذلك) هم: ويتلي من كلية سان جون، الذي أصبح الآن يشغل منصب الكاهن الفخري في درم (والذي كان سابقا أستاذ الفلسفة الطبيعية المساعد في جامعة درم)؛ وهيفيسايد من سيدني، وهو الآن كاهن نوريتش؛ ولوفيت كاميرون من كلية ترينيتي، وهو الآن قس شورهام؛ وبلين من كلية ترينيتي، والذي شغل منصبا كبيرا خلال حرب القرم؛ وإتش لو (وهو الآن شيربروك) - وهو أخو لورد شيربروك - من كلية ترينيتي هول؛ وواتكينز من كلية إيمانويل، وهو الآن رئيس شمامسة يورك. ويبدو أن أصل تسمية النادي محاط بالغموض؛ إذ يقول السيد هربرت إنه قد اختير للسخرية من «مجموعة أخرى من الرجال الذين أطلقوا على أنفسهم اسما يونانيا طويلا يدل على «ولعهم بالفاخر من الطعام»، غير أنهم قد كذبوا ادعاءهم لمثل هذه التسمية، وذلك من خلال عادتهم الأسبوعية بتناول العشاء في نزل على جانب الطريق على بعد ستة أميال من كامبريدج، فيتناولون قطعا من لحم الضأن، أو الفاصولياء مع اللحم المقدد.» ويخبرني عضو آخر من أعضاء النادي أن اسم النادي قد ظهر لأن أعضاءه كانوا يميلون إلى تجربة «الطيور والحيوانات التي لم تكن معروفة من قبل للذوق الإنساني.» وهو يقول إنهم قد جربوا الباز والواق، لكن حماسهم قد تلاشى بعد أن جربوا بومة بنية عجوز، «وهي التي كان يتعذر وصف طعمها.» على أي حال، يبدو أن التجمعات كانت ناجحة وأنها كانت تنتهي ب «لعبة خفيفة من ألعاب الورق: لعبة الواحد والعشرين.»
ويقدم السيد هربرت سردا ممتعا للاختبارات الموسيقية التي وصفها أبي في «ذكريات»، وهو يؤكد حب أبي للموسيقى ويضيف: «إن ما كان يمنحه القدر الأكبر من البهجة، هو الاستماع إلى سيمفونية أو افتتاحية عظيمة لموزارت أو بيتهوفن ، والاستمتاع بما فيها من تناغم.» وفي إحدى المناسبات، يتذكر هربرت: «مرافقته إلى شعائر ما بعد الظهيرة في كنيسة كينجز كوليدج، وحينها سمعنا ترنيمة جميلة للغاية. وفي نهاية أحد الأجزاء، وهو الذي كان مدهشا للغاية، استدار إلي قائلا وهو يتنهد تنهيدة عميقة: «كيف حال ظهرك؟»» لقد كان يتحدث كثيرا عن شعوره بالبرد أو القشعريرة في ظهره عند سماع موسيقى جميلة.
وإضافة إلى حبه للموسيقى، فقد كان يكن بالطبع في ذلك الوقت حبا للآداب الرفيعة. ويخبرني السيد كاميرون أنه قد اعتاد أن يقرأ لوالدي أعمال شكسبير في غرفته في كلية كرايست، وكان أبي يستمتع بذلك كثيرا. وهو يتحدث أيضا عن «حبه الكبير للصور المنقوشة الرفيعة المستوى، لا سيما أعمال رافاييل مورجين ومولر، وكان يقضي الساعات في متحف فيتسويليام مستعرضا للمطبوعات في هذه المجموعة.»
وتوضح خطابات والدي إلى فوكس مدى شعوره العظيم بالقلق عند المذاكرة لأحد الاختبارات: «إنني أجتهد كثيرا في المذاكرة، لكنني لا أرغب في عمل أي شيء. والواقع أنني لم أفحص خنفساء واحدة في هذا الفصل الدراسي.» ولا بد أن يأسه من الرياضيات كان عميقا، وذلك حين عبر عن أمله أن يكون صمت فوكس راجعا إلى «انغماسك الشديد في سبر أغوار الرياضيات، وإذا كان الأمر كذلك، فليكن الله في عونك؛ فأنا أيضا على هذه الحال، مع اختلاف وحيد وهو أنني عالق بوحل القاع، وسوف أظل هناك.» ويقول السيد هربرت: «أعتقد أنه لم يكن يميل بطبيعته إلى الرياضيات، وأنه قد توقف عن دراسة الرياضيات قبل أن يتقن الجزء الأول من الجبر؛ إذ كانت لديه خصومة كبيرة مع الجذور الصماء ونظرية ذات الحدين.»
ولدينا بعض الأدلة من خطابات والدي إلى فوكس التي توضح نية أبي في أن يصبح كاهنا؛ فهو يكتب في 18 مارس 1829: «إنني سعيد لأنك تقرأ في اللاهوت، وأود أن أعرف الكتب التي تقرؤها، وآراءك فيها، وعليك ألا تخشى من أن تبدأ في وعظي قبل الأوان.» ويوضح وصف السيد هربرت أن أبي كانت تساوره الشكوك بشأن إمكانية أن يصبح كاهنا ؛ فهو يكتب : «لقد خضنا محادثة جادة بشأن دراسة الكهنوت، وأنا أتذكر أنه سألني بخصوص السؤال الذي طرحه الأسقف في احتفال الترسيم: «هل تثقون بأن الذي يحرككم من الداخل هو الروح القدس، وما إلى ذلك؟» وعما إذا كان يمكنني الإجابة بالإثبات أم لا. وحين أجبت بأنني لا أستطيع ذلك، قال لي: «ولا أنا أيضا يمكنني ذلك؛ ومن ثم لا يمكنني أن أصبح كاهنا».» ويبدو أن هذه المحادثة قد وقعت عام 1829، وإن كان ذلك صحيحا، فلا بد أن هذه الشكوك قد هدأت بعد ذلك؛ ففي مايو عام 1830، كان يتحدث عن تفكيره في دراسة اللاهوت مع هنزلو.
إن العدد الأكبر من الخطابات التالية موجه من أبي إلى ابن عمه، ويليام داروين فوكس. ويوضح تسلسل النسب الوارد في الفصل الأول، علاقة السيد فوكس بوالدي. ويبدو أن درجة القرابة قد ظلت تمثل مشكلة بالنسبة لوالدي؛ فهو يوقع في أحد الخطابات بالتوقيع «ابن العم/ن2.» والواقع أن الصداقة التي جمعت بينهما كانت تعود إلى كونهما طالبين معا. وتدل خطابات والدي على مدى صدق مشاعر الصداقة التي جمعت بينهما. وفي السنوات اللاحقة، حالت بينهما المسافة، والأسرة الكبيرة، واعتلال الصحة، لكن مشاعر الصداقة الدافئة قد ظلت بينهما. لم تتوقف بينهما المراسلات أبدا، بل استمرت حتى وفاة السيد فوكس عام 1880. رسم السيد فوكس كاهنا، وعمل رجل دين في الريف، إلى أن أجبره المرض على مغادرة مسكنه في غابة ديلامير فوريست. وقد ظل حبه للتاريخ الطبيعي قويا، وأصبح مربيا ماهرا للعديد من أنواع الطيور وغيرها. ويوضح فهرس «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» وكذلك مراسلات أبي المتأخرة، مقدار ما تلقاه من صديقه القديم من الكلية، من مساعدات كثيرة.]
من تشارلز داروين إلى جيه إم هربرت
مساء السبت [14 سبتمبر 1828]
عزيزي الغالي تشيربيري
إنني على وشك الوفاء بوعدي بالكتابة إليك، لكن يؤسفني أن أضيف أنه يوجد دافع أناني للغاية وراء ذلك. سوف أطلب منك أن تسدي إلي معروفا عظيما، ولا يمكنك أن تتخيل مقدار ما ستتفضل به علي بتوفير المزيد من عينات بعض الحشرات التي يمكنني أن أقول إنني أستطيع وصفها. في البداية، يجب أن أخبرك بأنني قد حصلت على بعض من أندر الحشرات البريطانية، ووجودها بالقرب من بارماوث هو حقيقة لا يعرفها علماء الحشرات؛ أعتقد أن علي أن أكتب بذلك إلى بعض علماء الحشرات المتميزين.
والآن لنعد إلى المهمة المطلوبة منك. مطلوب منك «الكثير» من العينات الإضافية إذا كان بإمكانك أن توفرها لي دون الكثير من العناء، وهي للحشرات التالية: الخنفساء ذات اللونين الأسود والبنفسجي، وهي توجد على كريج ستورم [وهي قمة التل الذي يقع خلف بارماوث مباشرة، والكلمة كلمة إنجليزية ويلزية هجينة] وتحت الصخور، يوجد أيضا خنفساء كبيرة ملساء لونها أسود تشبهها كثيرا؛ وأيضا خنفساء الجعران بلونها المعدني المائل للزرقة، وهي منتشرة «جدا» على جوانب التل. وإذا كان «بإمكانك» أن تتكرم بركوب المعدية والعبور بها، فسوف تجد تحت الصخور الموجودة على الأرض البور عددا كبيرا من الخنافس الطويلة الملساء شديدة السواد (أريد الكثير من هذه الخنافس)، وفي الظروف نفسها أيضا، توجد حشرة صغيرة جدا وردية اللون وبها بقع سوداء، ولها صدر منحن يبرز تحت الرأس. وعلى الأرض السبخة أمام المعدية، وبالقرب من البحر، وتحت الأعشاب البحرية القديمة والصخور وما إلى ذلك، ستجد خنفساء صغيرة شفافة يميل لونها إلى الصفرة، وعلى ظهرها علامتان أو أربع باللون الأسود. وتحت هذه الصخور، يوجد نوعان؛ أحدهما أكثر دكانة من الآخر، والنوع الذي أريده هو النوع فاتح اللون. إن هذين النوعين الأخيرين من الحشرات، «غاية في الندرة»، وإنك لتتكرم علي «للغاية» بحسن صنيعك هذا وتكبدك هذا العناء قريبا للغاية. أبلغ أرق تحياتي إلى باتلر وأخبره بنجاحي، ويمكنني أن أقول إنكما ستميزان هذه الحشرات بسهولة. أتمنى أن تكون يساريعه بخير، وأعتقد أن العديد من الخادرات تستحق الاحتفاظ بها. إنني لأخجل حقا من كتابة مثل هذا الخطاب الطويل عن أموري فحسب، لكنني أرجو أن ترد الخبيث بالطيب، وأن ترسل لي خطابا طويلا تخبرني فيه بجميع شئونك.
في الأسبوع الأول، اصطدت خمسة وسبعين طائرا، وهو عدد ضئيل للغاية ، لكنه لا يوجد سوى عدد قليل جدا من الطيور. بالرغم من ذلك، فقد قتلت زوجا من الطهيوج الأسود. ومنذ ذلك الحين، وأنا أقيم في منزل فوكس بالقرب من ديربي، وهو منزل لطيف للغاية، وقد سار الاجتماع الموسيقي على نحو جيد جدا. أريد أن أعرف ما إن كان ييتس قد أحب بندقيته، أم لا، وكذلك فيم استخدمها.
إن لم تكن الزجاجة كبيرة بالدرجة الكافية، فيمكنك أن تبتاع لي غيرها. ويمكنك أن تترك هذه الكنوز حين تمر بشروزبيري. وأتمنى أن تمكث معي يوما أو يومين، إن كان هذا بإمكانك؛ فأنا أتمنى ألا أحتاج إلى أن أخبرك بمدى السعادة التي سأشعر بها عند رؤيتك مجددا. لقد علق فوكس بأنه لا بد أن أصدقائي في بارماوث يتمتعون بالكريم من الطباع، وإن لم أكن أعرف هذا فيك أنت وباتلر، لما فكرت في أن أطلب منكما بذل هذا العناء.
خالص مودتي إليك يا عزيزي هربرت
صديقك المخلص
تشارلز داروين
أبلغ تحياتي إلى جميع الأصدقاء. [في يناير التالي، نجده يتطلع بكل سرور إلى بداية عام جديد من حياته في كامبريدج؛ فهو يكتب إلى فوكس ما يلي:
لقد انتظرت حتى اليوم حتى تتسنى لي الفرصة في كتابة خطاب، لكني لن أنتظر أكثر من ذلك. أهنئك بصدق وإخلاص على الانتهاء من جميع مهامك. أعتقد أنك قد نلت مكانة «جيدة للغاية»، بالنظر لما حققته من التفوق على العديد من الرجال الذين بدءوا معك في الدراسة. أتمنى حقا لو أنني كنت الآن في كامبريدج (بالرغم من أنها أمنية أنانية للغاية؛ إذ إنني لم أكن حاضرا معك في متاعبك وبؤسك) لأكون حاضرا في كل هذا النجاح والسعادة، وهو ما لم يتأت إلا بعد ما مضى من مصاعب. يا لحديثنا وجولاتنا وعملنا في مجال علم الحشرات! يجب أن تكون سافو هي أفضل الكلبات، وداش هو أفضل الكلاب، ثم «ليحل السلام على الأرض، والخير على البشر»، وأنا أعتقد بالمناسبة أن ذلك هو أفضل ما يمكن أن تجود به الكلمات في وصف السعادة.]
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
كامبريدج، الخميس [26 فبراير 1829]
عزيزي فوكس
حين وصلت هنا يوم الثلاثاء، اكتشفت ببالغ الأسى والدهشة، خطابا على الطاولة كنت قد كتبته إليك قبل أسبوعين، ولم يكلف الحاجب الغبي نفسه عناء إرساله. أظن أنك ما برحت تحسبني جاحدا دنيئا، لكنني على يقين بأنك ستشفق علي الآن؛ إذ لا شيء أكثر كدرا من كتابة أحد الخطابات سدى.
في الخميس الماضي، غادرت شروزبيري متوجها إلى لندن، ومكثت هناك حتى يوم الثلاثاء، والذي جئت فيه إلى هنا عبر عربة بريد «ذا تايمز». قضيت أول يومين بأكملهما مع السيد هوب [مؤسس كرسي أستاذية هوب في علم الحيوان في أكسفورد]، وقد قضينا جل وقتنا في التحدث عن الحشرات ومراقبتها. إن مجموعته رائعة للغاية، وهو أكرم عالم حشرات على الإطلاق؛ فقد أعطاني نحو 160 نوعا جديدا، والحقيقة أنه غالبا ما كان يرغب في إعطائي أندر الحشرات، والتي لم يكن لديه منها سوى عينتين. إن حديثه إلي لطيف للغاية، وهو يتمنى أن تزوره معي ذات مرة، متى كنا في لندن. وهو يثني على أعمالنا في علم الحشرات ثناء عظيما، ويقول إننا قد حظينا بعدد مدهش من الحشرات الجيدة. وأما يوم الأحد، فقد قضيته مع هولاند الذي أعارني حصانا لكي أركبه معه في الحديقة.
في مساء يوم الاثنين، تناولت الشاي مع ستيفنز [جيه إف ستيفنز، مؤلف كتاب «دليل الخنافس البريطانية»، 1839، وغيره من الأعمال.] إن خزانته أكثر روعة مما يمكن أن يحلم به أكثر علماء الحشرات حماسة، وقد كان رجلا قصيرا لطيفا ومرحا. وخلال إقامتي في المدينة، زرت المعهد الملكي والجمعية اللينية والحدائق الحيوانية وغيرها العديد من الأماكن التي يجتمع فيها علماء التاريخ الطبيعي. لو أنك كنت معي، لكنت رأيت لندن مكانا أكثر بهجة، وبالرغم من كل شيء، فقد وجدتها ألطف مما كنت أحسب أن هذه البقعة الموحشة من المنازل ستكون عليه.
بينما كنت في شروزبيري، تمكنت من صيد واحدة من البط الغواص (بلقشة أنثى، كما أحسب أنك تعرف.) لقد حنطها شو، وحين تسنح الفرصة، سوف أرسلها إلى أوزموستون. وقد اصطدنا أيضا خمسة من طيور الواكسوينج البوهيمية، وقد عرض شو ثلاثة منها للبيع؛ فهل سترغب في شراء واحدة منها؟ إنني لم أشكرك بعد على خطابك الأخير الطويل والممتع للغاية، غير أنه كان سيصبح أمتع كثيرا لو أنه كان يتضمن خبرا مبهجا بمجيئك إلى هنا. إن المرتين اللتين تناولت فيهما إفطاري بمفردي، قد جعلتاني أدرك بالفعل كم أنني سأفتقدك للغاية. ...
صديقي الغالي فوكس
إليك صادق مودتي
صديقك المخلص
سي داروين [وفي وقت لاحق في الفصل الدراسي الشتوي، يكتب إلى فوكس قائلا:
إنني أحيا حياة يومية هادئة؛ أقرأ قليلا في كتاب التاريخ الشهير الخاص بجيبون صباحا، وأقرأ قدرا كبيرا لفان جون في المساء، وأحيانا أقوم بجولة مع سيمكاكس، إلى جانب جولتي المنتظمة مع ويتلي، وتلك هي جميع الأعمال التي أقوم بها عادة في هذه الأيام. ألتقي كثيرا بهربرت وويتلي، وكلما زاد لقائي بهما، ازداد كل يوم ما أكنه من احترام لسجاياهما الكريمة وقدرتهما الممتازة على فهم الأمور. وقد أقاما حفلتين مبهجتين للغاية؛ وقد حضر ما يقرب من ستين رجلا في كلتا الليلتين.]
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
كلية كرايست [كامبريدج] 1 أبريل [1829]
عزيزي فوكس
لقد ذكرت في خطابك إلى هولدن أنك سررت إذ لاحظت «أنه من بين جميع الأنذال الذين عرفتهم، كنت أنا أكثرهم نذالة.» لن أبدي أي تعليق على هذه الملاحظة، غير أنني أثني عليك كثيرا في التصرف بناء عليها بدقة شديدة. والآن أود أن أعرف كيف تكون بأي حال أقل مني نذالة؟ أنت أيها العجوز البائس الكسول، لم لم تجب على خطابي الأخير، وأنا على يقين من أنني قد أرسلته إلى كليفتون قبل ما يقرب من ثلاثة أسابيع؟ لو لم أكن متلهفا بالفعل على معرفة ما تفعله، لكنت قد سمحت لك بأن تظل صامتا حتى ترى أنه قد حان الوقت لكي تتعامل معي كرجل محترم. والآن بعد أن نفست عن غضبي في تقريعك، وأخبرتك ما يجب عليك أن تعرفه، وأخبرتك بمدى رغبتي وتلهفي على معرفة أحوالك أنت وأسرتك في كليفتون، يكون الهدف من هذا الخطاب قد انتهى. ولو أنك فقط تعرف كم أفكر فيك، وكم آسف على غيابك، لكنت قد أرسلت لي منذ فترة طويلة، وأنا على يقين من ذلك.
إنني أجد الأجواء في كامبريدج تتسم بالسخافة، ولأنني لا أعرف هنا تقريبا أي أحد يمكن أن يتجول معي، إضافة إلى حالة شفتي المريضتين، فقد أدى بي ذلك إلى الدخول في حالة من البيات الشتوي ... لقد اكتشفت أن السيد هاربور قد ترك ... يحظى بالمجموعة الأولى من الخنافس؛ ومن ثم فقد حظينا بوداعنا الأخير، وقد تمثل دوري في هذا المشهد المؤثر في إخباره بأنه كان وغدا وضيعا، والإشارة إلى أنني سأركله على الدرج إن رأيته في غرفتي ثانية، ويبدو أن الرجل قد فوجئ بذلك تماما. ليس لدي أخبار أحكيها لك؛ فلا شك في أنه حين تنقطع الخطابات لفترة كما انقطعت بيننا، يكون من الصعب القيام بالخطوة الأولى مجددا. في الليلة الماضية، نشب حريق فظيع في لينتون، على مسافة أحد عشر ميلا من كامبريدج. وحين رأينا انعكاس الحريق واضحا بقوة في السماء، قررنا أنا وهول ووودير وتيرنر أن نذهب لنراها. انطلقنا في الساعة التاسعة والنصف، وركبنا إلى هناك وكأننا شياطين متجسدة، ولم نعد حتى الثانية صباحا. لقد كان منظرا مريعا تماما. ولا يمكنني أن أنهي خطابي دون أن أخبرك أنه من بين جميع الأنذال الذين قابلتهم، فإنك الأعظم والأفضل.
سي داروين
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس [كامبريدج، الخميس، 23 أبريل، 1829]
عزيزي فوكس
لقد أجلت الرد على خطابك الأخير على مدى هذه الأيام القليلة؛ فقد رأيت أن الكتابة إليك في ظل هذه الظروف الحزينة، لن تسبب لك على الأرجح سوى المتاعب. في هذا الصباح، تلقيت خطابا من كاثرين تخبرني فيه بهذا الحدث [وفاة أخت فوكس، السيدة بريستو]، والذي كنت أتمنى لو أنك تخبرني في خطابك بعدم صحته. إنني أكن لك ولعائلتك خالص المشاعر الصادقة، وفي الوقت نفسه، فإنني على يقين أنك ستعرف أين تبحث عن الدعم الذي يمكن للمرء أن يجده في مبادئه الحسنة وفي الدين. وبعد هذه الطمأنينة النقية والمقدسة التي يمنحنا الإنجيل إياها، فإنني على يقين أيضا أن مشاعر التعاطف والمواساة التي يقدمها جميع الأصدقاء تبدو بلا جدوى، بالرغم من أنها خالصة وصادقة؛ إذ إنني أرجو أن تصدق أنني قادر على الشعور بها. وفي مثل هذا الوقت العصيب، لن أقول أكثر من ذلك، فيما عدا أنني أثق في أن أباك والسيدة فوكس سيتحملان هذه المحنة، بالقدر الذي يمكن أن نأمله في مثل هذه الظروف.
يؤسفني يا عزيزي فوكس أننا لن نلتقي إلا بعد وقت طويل. وإلى ذلك الحين، لك خالص مودتي على الدوام.
صديقك المخلص
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
شروزبيري، الجمعة [4 يوليو، 1829]
عزيزي فوكس
لقد كان من المفترض أن أكتب لك قبل ذلك، غير أنني كنت منهمكا للغاية في أثناء الرحلة الاستكشافية، وقد كانت خاتمتها مؤسفة جدا، لدرجة أنني كنت تعيسا للغاية؛ فقررت ألا أكتب لك حتى أحظى بالهدوء في المنزل هذا الأسبوع. وأخيرا، قد منحني التفكير في ذهابي إلى وودهاوس الأسبوع المقبل الشجاعة لكي أحكي عن قصتي المؤسفة.
لقد انطلقت من هذا المكان قبل أسبوعين تقريبا، لكي أقوم مع السيد هوب برحلة استكشافية متعلقة بالحشرات، تمتد عبر شمال ويلز بأكملها، وقد كانت بارماوث هي وجهتنا الأولى. سارت الأمور معي في اليومين الأول والثاني على ما يرام، وحصلت على العديد من الحشرات الجيدة، لكن على مدى بقية الأسبوع، فجأة، ساءت فجأة حالة شفتي للغاية [غالبا من الإكزيما التي كان كثيرا ما يعاني منها]، وقد اعتلت صحتي أيضا حتى إنني لم أكن أقوى على الخروج من غرفتي، وفي يوم الاثنين، رجعت مجددا إلى شروزبيري محملا بالحزن والأسى. في اليومين الأول والثاني، حصلت على عدد من الحشرات الجيدة ... لكن في الأيام التي لم أستطع الخروج فيها، قام السيد هوب بالعديد من الأمور المذهلة ... واليوم، تلقيت منه مجموعة أخرى من الحشرات، مثل خنافس الكوليمبيتس وخنافس الكارابي
Carabi
وخنافس السالول
Elaters
الرائعة (نوعان من النوع القرمزي الفاقع). إنني على يقين أنك ستتعاطف مع الموقف المؤسف الذي تعرضت له، وقد عزمت على أن أغطي تلك الأرض التي غطاها هو قبل أن يأتي الخريف، وإذا كان العمل الجاد سيساعد في الحصول على الحشرات، فسوف أعود بمخزون عظيم. ...
مع تحياتي فوكس
صديقك المخلص
تشاز داروين
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
شروزبيري، 18 يوليو 1829
سوف أذهب الأسبوع القادم إلى مير لأقوم بجولتي المختصة بعلم الحشرات، وسوف أقيم هناك أسبوعا، وبالنسبة إلى بقية الصيف، فأنا أنوي أن أقضيه في الاستجمام والتجوال ... ربما تدرك أن لي وضعك نفسه، مع اختلاف وحيد، وهو أنك تتخذ قرارات جيدة، لكنك لا تلتزم بها أبدا، أما أنا، فأنا لا أتخذها أبدا؛ لذا لا يمكنني الالتزام بها. إنه لمن الجيد جدا أن أستمر في الكتابة على هذا النحو، غير أن علي المذاكرة للاختبار التمهيدي. لقد ابتسم جراهام وانحنى بأدب جم، حين كان يخبرني بأنه أحد الستة المكلفين بجعل الاختبار أشد صعوبة، وأنهم عزموا على أن يجعلوه مختلفا للغاية عن أي اختبار سابق؛ ولذلك كله، فإنني أعتقد أنه ستكون هناك متاعب كبيرة لجميع الطلاب المتكاسلين والمهتمين بعلم الحشرات. إننا ننتظر وصول إيرازموس إلى البيت في غضون أسابيع قليلة. إنه يعتزم قضاء الشتاء القادم في باريس. لا تنس أن تطلب قائمتي الحشرات اللتين نشرهما ستيفنز: إحداهما طبعت على الجانبين والأخرى على جانب واحد فقط؛ فسوف تجد أن لهما نفعا كبيرا في العديد من الجوانب.
مع تحياتي عزيزي الغالي فوكس
المخلص لك
سي داروين
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
كلية كرايست، الخميس [16 أكتوبر، 1829]
عزيزي فوكس
أخشى أن تكون غاضبا مني بشدة إذ لم أكتب لك خلال «ملتقى الموسيقى»، لكنني كنت منشغلا للغاية بالفعل؛ فما كان لدي وقت. لقد وصلت إلى هنا يوم الاثنين، ووجدت غرفتي في حالة مريعة من الفوضى؛ إذ كانوا يجددون الأرضية، ولك أن تحسب أنه كان لدي الكثير لأقوم به في هذين اليومين. إن «ملتقى الموسيقى» [في بيرمينجهام] هو أعظم تجربة قد خضتها، وأما عن ماليبران ، فإن الكلمات لا تفي حقها من الثناء؛ إنها أكثر من عرفتهم جاذبية على الإطلاق. لقد حظينا بمقتطفات من عدد من أفضل الأوبرات، مع تمثيل بعض الأدوار فيها، ولا يمكنك أن تتخيل مدى الروعة التي أضفاها ذلك على الحفلات لتصبح أفضل من جميع ما رأيته على الإطلاق. أدى جيه [جوزيبي] دي بيجنس دور «إيل فاناتيكو»، وحيث إنه كان يرتدي زيا غير معتاد، فإن ذلك أضفي على تمثيله تأثيرا أكبر. لقد ملأ المسرح بصيحات الضحك. لقد أعجبتني مدام بلاسيس للغاية، لكن ماليبران تظل هي الأفضل: لقد غنت بعض الأغنيات الكوميدية، ولا بد أن يكون قلب المرء قد قد من حجر لئلا يهيم تماما بها. لقد نزلت في مكان قريب للغاية من عائلة ويدجوود وأقمت معهم بنحو كلي، وقد كان ذلك لطيفا، ولو أنك كنت هنا، لأصبح هذا مثاليا تماما. لقد أرهقني ذلك بشدة، ولن أحاول أبدا بعد الآن أن أقوم بأمرين في اليوم نفسه. ...
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس [كامبريدج] الخميس [مارس 1830]
عزيزي فوكس
لقد نجحت في الاختبار التمهيدي! وأنا سعيد للغاية لدرجة أن أتواضع بالاعتذار عن عدم الكتابة في وقت أبكر من ذلك، لكنني أؤكد لك أنه قبل أن أدخل الامتحان وحين كانت أعصابي في حالة مرتبكة وضعيفة، كان شخصك المزعج عادة ما يبرز أمام عيني ويعنفني على كسلي. غير أنني قد نجحت؛ نجحت؛ نجحت، ويمكنني أن أملأ الورقة كلها بكتابة هذه الكلمة المبهجة. لقد ذهبت أمس، وعرفت هذه الأخبار السعيدة. لن أعرف الصف الذي سأنضم إليه إلا بعد أسبوع. إن الاختبار بأكمله يتم وفقا لنظام مختلف، ولذلك مزية كبيرة، وهي أنه ينتهي في يوم واحد، غير أنهم يتسمون بالصرامة، ويسألون عددا مهولا من الأسئلة.
والآن، فإنني أريد أن أعرف شيئا عن خططك. إنك تعتزم بالطبع المجيء إلى هنا؛ كم أنا سعيد أننا سنحظى بالكثير من المرح معا، ونمسك بالكثير من الخنافس، وسيسعدني كثيرا أن نذهب معا مرة أخرى إلى بعض أوكارنا التي كنا نرتادها. إن لدي طالبين واعدين في علم الحشرات ، وسوف نقوم بجولات منتظمة إلى منطقة فينز. فلتحم السماء الخنافس والسيد جينينز؛ إذ إننا لن نترك له زوجا واحدا في الريف بأكمله. لقد تدهورت حالة خزانتي الجديدة، وذلك أمر غريب بعض الشيء.
والآن في الوقت الحالي، أعتقد أن علي الذهاب إلى المدينة لبضعة أيام، للاستماع إلى أوبرا ولقاء السيد هوب، وأخي كذلك بالطبع، والذي يجب ألا يكون لدي مانع من رؤيته. إذا ذهبت في وقت مبكر جدا، فيمكنك أن تأتي بعدي، لكن إن أعددت خططك بنحو مؤكد؛ فسوف أرتب أموري وفقا لها؛ لذا فلترسل لي الرد في الحال. وأنا أنوط بك أن تجعل الأمور مواتية؛ أي أن تأتي مباشرة. لقد رسم هولدن وانطلق مسافرا يوم الاثنين. لا أعتقد أنه بخير حال. وتشابمان يريد مني ومنك أن نذهب لرؤيته حين تأتي، وهو يرسل إليك خالص تحياته. يجب أن تعذرني على هذا الخطاب القصير؛ إذ لم يعد لدي المزيد مما أخبرك به في خطاب هذا اليوم. أشتاق إلى رؤيتك مجددا، وإلى لقاء قريب.
صديقي الغالي فوكس
صديقك المخلص
تشارلز داروين [في أغسطس، كان في شمال ويلز وكتب إلى فوكس يقول:
لقد كنت أنوي أن أكتب لك كل ساعة في الأسبوعين الماضيين، لكنني بالفعل لم يكن لدي أي وقت. لقد غادرت شروزبيري في مثل هذا اليوم قبل أسبوعين، ومنذ ذلك الوقت، وأنا أعمل من الصباح حتى المساء في صيد الأسماك أو الخنافس. إن هذا اليوم بالفعل هو أول يوم راحة آخذه لنفسي؛ فأنا، في الأيام الممطرة، أذهب لصيد الأسماك، وفي الأيام الصحوة، أذهب لاصطياد الحشرات. ولعلك تذكر أنك في الأسبوعين السابقين لكل هذا، قد طلبت مني ألا أكتب لك؛ لذا فإنني أرجو أن أكون قد قدمت دفاعي لكوني لم أجب على خطابيك الطويلين والممتعين للغاية في وقت أبكر من ذلك.]
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس [كامبريدج، 5 نوفمبر، 1830]
عزيزي فوكس
إن وقتي ضيق للغاية في الوقت الحاضر، ولكم يثير اشمئزازي أن أقرأ أني لا أرغب في الكتابة لأي شخص . إنني لم أكتب سوى مرة واحدة لأهلي منذ أن جئت إلى هنا. لا بد أن ذلك يغفر لي عدم الرد على خطاباتك الثلاثة، والتي أنا لها في غاية الامتنان ...
إنني لم أمسك بأي حشرة في هذا الفصل الدراسي، ولم أشرع تقريبا في أي استقصاء. لو كان لدي وقت، لكنت قد أرسلت إليك بالحشرات التي وعدتك بها منذ فترة طويلة، لكنني بالفعل ليست لدي رغبة في القيام بأي شيء ولا وقت لذلك. إن المذاكرة تصيبني بكثير من الإحباط؛ فتلك اللعنة التي تتمثل في دراسة جميع موادي هي أمر لا يحتمل. إن هنزلو هو معلمي، وهو معلم «بارع للغاية»، والساعة التي أقضيها معه هي أفضل ساعة في اليوم على الإطلاق، وأنا أعتقد أنه أكمل من عرفت من الرجال. لقد ذهبت إلى بعض التجمعات اللطيفة في منزله في هذا الفصل الدراسي. إن حسن طباعه لا يحده حدود.
أعرف أنك ستشعر بالأسف الشديد لعلمك أن والد ويتلي العجوز المسكين قد مات. من الناحية الدنيوية، فإن ذلك سيكون له عواقب عظيمة على حياته؛ فسوف يعوقه ذلك لبعض الوقت عن الانضمام إلى جمعية الحقوق. (لا تنس الإجابة عن التالي:) كم دفعت ثمنا للطوق الحديدي الذي طلبت صنعه في شروزبيري؟ لأنني لا أريد أن أدفع المبلغ الذي طلبه الرجل في كامبريدج كاملا. لا تشغل نفسك بشأن فطر الفالوس؛ فقد ابتعت كلا النوعين. لقد سمعت من بعض الرجال أن هنزلو له آراء دينية غريبة، لكنني لم أر من ذلك شيئا، فماذا عنك؟ لقد سرني أن أسمع أنك، بعد كل هذا التأخير، قد سمعت بأبرشية يمكنك أن تقرأ فيها جميع الوصايا دون أن تؤذي حلقك. ولكم يسرني أيضا أن أسمع بأن والدتك تستمر في التحسن بوتيرة ثابتة. إنني أثق بأنه لن يكون لديك المزيد من الأسباب التي تدعو إلى الضيق. مع خالص أمنياتي لك بالسعادة يا صديقي الغالي فوكس.
وإليك خالص مودتي
صديقك المخلص
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
كامبريدج، الأحد، 23 يناير، 1831
عزيزي فوكس
أتمنى أن تعذرني في عدم الكتابة إليك قبل أن أنال درجتي؛ فقد كنت أشعر بنفور شديد غير مبرر من الكتابة إلى أي شخص. أما الآن، فأنا أهنئك من كل قلبي على النجاح في اختبارك، وأتمنى أن تجد أبرشيتك مريحة. وحتى لو لم يكن لدي سوى شلن واحد (وأنا ليس لدي الكثير على أي حال)، فسوف آتي وأزورك.
لست أدري السبب في أن الدرجات العلمية تسبب لنا التعاسة، سواء قبل نيلها أو بعده. إنني أتذكر أنك كنت تعيسا بما يكفي قبلها، وأستطيع أن أؤكد [لك] أنني الآن كذلك، ومما يزيد من سخافة الأمر، أنني لا أعرف السبب في هذه التعاسة. إنني أعتقد أنه احتياط جميل من الطبيعة ألا يأسف المرء كثيرا على مغادرة مكان بجمال كامبريدج، والذي من بين جميع المسرات فيه، وأنا أقولها الآن وإلى الأبد، لا شيء أعظم من صداقتي بك. لقد أرسلت إليك بجريدة أمس، وهي التي سترى فيها الترتيب الجيد [العاشر] الذي حظيت به في قائمة الناجحين في الاختبار الخاص بالطلاب المتقدمين للحصول على تقدير مقبول. بالنسبة إلى كلية كرايست، هل رأيت من قبل مؤسسة تعليمية تسعى لتخريج قادة ورواد؟ [يأتي «القائد» على رأس قائمة الناجحين، وأما الرواد، فهم آخر اثني عشر فردا في الترتيب في اختبار درجة الشرف للرياضيات.] ولم يتعرض أي من الرجال للرسوب، لا في كلية كرايست ولا كلية إيمانويل. كاميرون وثلاثة من طلاب كلية ترينيتي فشلوا في أن يكونوا ضمن قائمة الناجحين في اختبار درجة الشرف للرياضيات لكنهم حصلوا على الدرجة العلمية بتقدير مقبول! لم أستقر بشأن خططي بعد. أعتقد أنني سوف أبقى هنا في هذا الفصل الدراسي، ثم أذهب إلى شروزبيري كي أوفر بعض النفقات، ثم أعود وأنال درجتي.
قد يعذر المرء في الكتابة عن نفسه كثيرا إن كان قد نجح لتوه في الاختبار؛ ولهذا عليك أن تعذرني. وبالمبدأ نفسه، عليك أن تكتب لي خطابا تملؤه بالحكايات عن نفسك وخططك. إنني أريد أن أعرف بشأن اختبارك؛ فأخبرني عن حالة أعصابك، والكتب التي انتهيت من دراستها ومدى إتقانك لها. إن مثل هذا النوع من الأمور يثير اهتمامي؛ فحين يأتي الوقت، سأعاني أنا أيضا مثلك. إن معلمك تومسون، يرسل إليك تحياته، هو وويتلي أيضا. إذا أجبت على هذا الخطاب، فسوف أرسل إليك كل ما يمكن أن ترغب فيه من الإجابات الغبية.
إليك خالص مودتي يا عزيزي فوكس
تشاز داروين
الفصل الخامس
تعيين أبي في رحلة «البيجل»
في خطاب وجهه أبي إلى القبطان فيتزروي قبل أن تبحر «البيجل»، كتب يقول: «سيكون الرابع من نوفمبر يوما عظيما بالنسبة لي. إنه سيمثل بداية حياة جديدة، وسوف يكون بمنزلة عيد ميلاد لي حتى آخر حياتي.» (جدير بالذكر أن «البيجل» لم تبدأ أخيرا في الإبحار بنجاح إلا في السابع والعشرين من ديسمبر.)
والظروف التي أدت إلى هذا الميلاد الثاني، والتي هي أهم كثيرا مما كان أبي يتخيله حينئذ، ترتبط بحياته في كامبريدج، لكن ربما يكون من الأفضل أن نسردها في الفصل الحالي. وتأتي في صدارة هذه الظروف التي أدت إلى تعيين أبي في رحلة «البيجل» صداقته مع البروفيسور هنزلو؛ فقد كتب في مفكرة جيب أو دفتر يوميات، والذي يضم سجلا موجزا بالتواريخ وغيرها من الأمور على مدى حياته ما يلي:
1831. عيد الميلاد. نجحت في اختبار درجة الليسانس، وأقمت للفصلين الدراسيين التاليين.
وخلال هذه الأشهر، عشت كثيرا مع البروفيسور هنزلو، وكثيرا ما كنت أتناول معه العشاء وأسير معه؛ فتعرفت بعض الشيء على عدد كبير من الرجال المتعلمين في كامبريدج، مما أثار الحماس الذي لم تدمره حفلات العشاء والصيد.
في الربيع، زرت السيد دوز مع رامزي وكيربي، وتحدثنا بشأن رحلة إلى تينيريف. في الربيع، حثني هنزلو على التفكير في دراسة الجيولوجيا، وقدمني إلى سيجويك. وخلال فترة منتصف الصيف، مارست بعض أنشطة الجيولوجيا في شروبشاير.
أغسطس، ذهبت في جولة جيولوجية.
1
وقد كانت هذه الجولة في لانجولين وريثين وكوني وبانجور وكابل كيريج، حيث تركت البروفيسور سيجويك وعبرت الجبل إلى بارماوث.
سفينة «البيجل» ترسو على شاطئ نهر سانتا كروز.
وفي خطاب إلى فوكس (مايو 1831)، يكتب أبي: «إنني مشغول للغاية ... ألتقي كثيرا بهنزلو الذي لا أعرف إن كان حبي أم احترامي له أعظم.» وهو يعبر بدقة عن مشاعره لهذا الرجل الرائع في خطاب قد كتبه إلى المبجل إل بلومفيلد (وكان يدعى حينها بالمبجل إل جينينز) وذلك حين كان الأخير منشغلا في عمله «سيرة البروفيسور هنزلو» (الذي نشر عام 1862.) وقد استخدم الجزء المقصود
2
في أول مقالات الرثاء المنشورة في مجلة «نيتشر»، ويوضح السيد رومينز أن والدي «بينما يصف شخصية أخرى، فإنه، وبنحو لا واع، يقدم أدق وصف لنفسه»:
لقد ذهبت إلى كامبريدج في بداية عام 1828، ومن خلال بعض أصدقاء أخي من المختصين في علم الحشرات، سرعان ما تعرفت إلى البروفيسور هنزلو، الذي كان يشجع جميع المهتمين بأي فرع من فروع التاريخ الطبيعي بالقدر نفسه. ولم يكن هناك ما هو أبسط وأكثر ودا وبعدا عن الادعاء، من التشجيع الذي كان يمنحه لجميع الشباب من المهتمين بالتاريخ الطبيعي. وسرعان ما توطدت علاقتي به؛ إذ كان يتمتع بتلك المقدرة الهائلة في أن يجعل الشباب يتصرفون معه بارتياح، بالرغم من أننا كنا جميعا منبهرين بمقدار معرفته. قبل أن ألتقي به، سمعت أحد الشباب يلخص مؤهلاته بأن قال عنه ببساطة إنه يعرف كل شيء. وحين أفكر في كيف أننا قد شعرنا على الفور بالارتياح مع شخص أكبر سنا منا، وهو يتفوق علينا من جميع الجوانب بدرجة هائلة، أعتقد أن ذلك كان يعود إلى ما كان في طبعه من إخلاص واضح بقدر ما يعود لما يتمتع به من طيبة القلب، وربما يعود على نحو أكبر لافتقاره إلى جميع مظاهر الوعي بالذات؛ فقد كان المرء يدرك على الفور أنه لم يكن يفكر على الإطلاق في معارفه المتنوعة أو ذهنه الحاد، وإنما في الموضوع محل النظر فحسب. ومن محاسنه الأخرى، التي لا بد أنها كانت تبهر الجميع، هو أن سلوكه في التعامل مع الأشخاص المرموقين أو كبار السن لم يكن يختلف على الإطلاق عن سلوكه في التعامل مع الطلاب الصغار؛ فقد كان يتعامل مع الجميع بتلك الدماثة الجذابة نفسها. لقد كان يولي انتباهه إلى أبسط ملاحظة في أي فرع من فروع التاريخ الطبيعي، ومهما ارتكب المرء من خطأ تافه، فإنه كان يشرح له الأمر بوضوح وعطف؛ فما كان لأحد أن يتركه وهو يشعر باليأس، وإنما يصبح حريصا على أن يكون أكثر دقة في المرة القادمة. باختصار، لم يكن هناك من هو أفضل منه في نيل ثقة الشباب وتشجيعهم على ما يسعون إلى تحقيقه.
لقد كانت محاضراته في علم النبات مشهورة على نطاق واسع، وكانت واضحة كضوء النهار. لقد كانت معروفة للغاية حتى إن العديد من الأعضاء الأكبر سنا في الكلية كانوا يحضرون منها دورات دراسية متتابعة. وكان يقيم دعوة مفتوحة إلى منزله في إحدى أمسيات الأسبوع، وكان جميع المهتمين بالتاريخ الطبيعي يحضرون هذه الحفلات، وهي التي من خلال إتاحتها الفرصة للمهتمين بهذا المجال للتواصل فيما بينهم كان لها الفائدة نفسها في كامبريدج، وبطريقة جميلة جدا، التي للتجمعات الخاصة بالجمعيات العلمية في لندن. وفي بعض الأحيان، كان يحضر هذه الحفلات العديد من أكثر أعضاء الجامعة تميزا، وفقط حين لا يكون عدد الحضور كبيرا، فإنني كنت أستمع إلى عظماء الرجال في هذه الأيام، وهم يتحدثون في شتى الموضوعات بقدراتهم المتنوعة والمذهلة. ولم تكن تلك بالفائدة الهينة لبعض الشباب؛ إذ كان ذلك يحفز من نشاطهم الذهني وطموحهم. لقد كان يقوم ببعض الرحلات الاستكشافية مع طلابه في علم النبات، وذلك لمرتين أو ثلاث في كل دورة؛ فكان يأخذهم مثلا في جولة سير طويلة إلى موطن نبات نادر، أو في زورق عبر النهر إلى المستنقعات، أو في عربات إلى بعض الأماكن الأبعد مثل جالمينجاي لرؤية زهرة زنبق الوادي البرية، أو للإمساك في الأراضي البور بعلجوم ناترجاك
natter-jack
النادر. وقد كانت هذه الرحلات تترك في ذهني أثرا ممتعا. لقد كان يصبح مشرق النفس في مثل هذه المناسبات، وكأنه فتى صغير، وكان يضحك من قلبه كفتى صغير على الحظ السيئ لمن كانوا يطاردون الفراشات الخطافية الذيل الجذابة عبر المستنقعات المتكسرة الغادرة. وقد اعتاد أن يتوقف بين الحين والآخر ليشرح شيئا عن نبات ما أو غيره؛ وقد كان يخبرنا بمعلومة عن كل حشرة أو صدفة أو أحفورة نجمعها؛ إذ كان ملما بجميع فروع التاريخ الطبيعي. وبعد أن كنا ننتهي من يوم العمل، كنا نذهب لتناول العشاء في نزل أو منزل، وكلنا مرح وسرور. أعتقد أن جميع من كانوا يشتركون في هذه الرحلات، سيتفقون معي في الرأي أنها تركت انطباعا بهيجا لا ينسى في عقولنا.
وبمرور الوقت في كامبريدج، توطدت علاقتي بالبروفيسور هنزلو، الذي لم يكن لعطفه حدود؛ فقد كان يدعوني إلى منزله باستمرار، ويسمح لي بمرافقته في جولاته. كان يتحدث في جميع المواضيع، ومنها رؤيته للدين، وكان منفتحا تماما. إنني أدين لهذا الرجل الرائع بأكثر مما يمكن أن أعبر عنه ...
وعلى مدى السنوات التي صحبت فيها البروفيسور هنزلو، لم يحدث قط أن رأيت مزاجه قد تكدر ولو لمرة. لم يكن يسيء الظن بطباع أي شخص، بالرغم من أنه لم يكن بالغافل قط عن نواقص الآخرين. وقد كان يدهشني دوما أن عقله لم يكن حتى ليتأثر بأي مشاعر دنيا من الزهو أو الحسد أو الغيرة. ومع كل هذا الهدوء في مزاجه وإحسانه الكبير، فهو لم يكن رجلا خامل الطباع، وأعمى هو من لا يستطيع أن يرى أن هذا السطح الخارجي الهادئ، يخفي تحته عزيمة قوية وثابتة. وحين كان الأمر يتعلق بالمبادئ، فلم يكن لقوة على الأرض أن تجعله يحيد عنها ولو بمقدار شعرة ...
وعند تقليب النظر في شخصيته بامتنان وتبجيل، فإن سماته الأخلاقية تتجلى في منزلة أعلى رفعة من قدراته الذهنية، وذلك كما هو معهود لدى الأشخاص الأكثر رقيا.
وفي خطاب إلى المبجل إل بلومفيلد (جينينز)، 24 مايو 1862، نجد أن أبي كان يعبر عن الشعور نفسه الذي عبر عنه في خطابه قبل ثلاثين عاما:
إنني أشكرك بصدق على هديتك الطيبة عن سيرة هنزلو. لقد قرأت نصفها تقريبا، وقد أثارت اهتمامي للغاية. لم أكن أعتقد أنه كان بإمكاني أن أجله أكثر مما فعلت، لكن كتابك قد أعلى من قدره في عيني حتى بدرجة أكبر. ومن التقليب في صفحات النصف الأخير، أعتقد أن روايتك عنه ستكون ثمينة للغاية لأي رجل دين يرغب في أن يحتذي بمثال عزيزنا المسكين والنبيل هنزلو. لكم كان رجلا رائعا!
لقد كان للعمل الجيولوجي الذي ورد ذكره في مفكرة أبي أهمية أكيدة؛ إذ منحه بعض الخبرة العملية، وربما كانت أهميته الأكبر هي أنه قد ساعده في اكتساب بعض الثقة في نفسه. في يوليو من العام نفسه، 1831، كان «يعمل مثل نمر» في الجيولوجيا، وكان يحاول عمل خريطة جيولوجية لشروبشاير، لكنه «لم يجد الأمر بالسهولة التي كان يتوقعها.»
وفي خطابه إلى هنزلو في الوقت نفسه تقريبا، نجد أنه يحكي بعض الشيء عن عمله:
كان ينبغي أن أكتب إليك في وقت أبكر من ذلك، غير أنني أردت انتظار الكلينومتر، ويسرني أن أخبرك بأنني أعتقد أنه سيكون مفيدا جدا. لقد وضعت جميع الطاولات في غرفة نومي ورتبتها في كل اتجاه وزاوية ممكنين. سوف أجرؤ وأقول إنني قد قستها بهذا المقياس بأكبر درجة من الدقة قد يتمكن أي عالم جيولوجيا من تحقيقها ... لقد كنت أعمل في العديد من الأمور، فلم أحرز الكثير في الجيولوجيا. أشك بأنني سوف أعود من أول رحلة أقوم بها حاملا المطرقة والكلينومتر في يدي، وأنا أتحلى بالمزيد من المعرفة والحكمة، بل ستعيدني أكثر حيرة مما كنت عليه حين بدأت. إنني لم أنغمس حتى الآن إلا في الفرضيات، لكنها قوية للغاية حتى إنني أعتقد أنها لو تحققت ليوم واحد، فسوف تحل نهاية العالم.
لقد كان من الجلي أنه متحمس للغاية للعمل مع سيجويك؛ فقد كتب إلى هنزلو: «إنني لم أتلق خطابا من البروفيسور سيجويك؛ لذا فإنني أخشى ألا يذهب لفحص تكوينات نهر السيفرن الجيولوجية. وأنا أتمنى أن تكون قد بذلت كل ما في وسعك لتحثه على ذلك، وأثق بذلك.»
لقد حكى أبي في عمله «ذكريات» أجزاء من تلك الجولة.
وفيه أيضا نقرأ عن الجولة المتوقعة إلى جزر الكناري، والتي يذكرها بنحو عابر في خطاباته إلى فوكس وهنزلو.
في أبريل عام 1831، يكتب إلى فوكس: «في الوقت الحالي، أتحدث وأفكر وأحلم بخطة قد وضعتها بالذهاب إلى جزر الكناري. إنني أرغب في رؤية النباتات والمناظر الطبيعية الاستوائية منذ وقت طويل؛ ووفقا لههومبولت، فإن تينيريف مثال جميل للغاية.» ومرة أخرى في مايو: «بالنسبة إلى خطتي لزيارة جزر الكناري، فإنك قد تعجلت في سؤالك عنها. إن أصدقائي الآخرين يتمنون بكل صدق أن أكون هناك؛ فأنا أزعجهم باستمرار بالحديث عن المناظر الطبيعية الاستوائية وغير ذلك. سيذهب إيتون في الصيف القادم، أما أنا، فأتعلم الإسبانية.»
وفي وقت لاحق في هذا الصيف، اتخذت الخطة شكلا أكثر تحديدا، وبدا أن تاريخها قد تعين في يونيو عام 1832. وفي لندن، حصل على معلومات عن تكلفة الانتقال لجزر الكناري بالبحر، وقضى شهر يوليو في دراسة الإسبانية وظل يدعو فوكس بالإيطالية ب «الوغد العظيم»، للدلالة على معرفته بهذه اللغة، والتي كان يرى بالرغم من ذلك أنها «غبية جدا» مع ذلك، يبدو أنه كانت تساوره بعض الشكوك بخصوص حماس رفاقه بشأن الرحلة، حتى في ذلك الوقت؛ فهو يكتب إلى هنزلو (27 يوليو 1831): «آمل أن تكون ما زلت محتفظا بحماسك لرحلة الكناري. إنني أقرأ كتاب هومبولت مرة بعد أخرى، فهل تفعل الأمر نفسه؟ إنني أثق أنه لا شيء سيمنعنا من شجرة التنين هناك.»
ظلت أحلامه المتعلقة بتينيريف والعمل الجيولوجي، تلاحقه طوال الصيف، حتى عاد من بارماوث في يوم الأول من سبتمبر المقدس، وذلك حين تلقى خطاب تعيينه في رحلة «البيجل» بوصفه عالما في التاريخ الطبيعي.
وسيساعدنا المقتطف التالي من مفكرة الجيب في قراءة الخطابات:
عدت إلى شروزبيري في نهاية أغسطس. رفضت عرض الرحلة.
سبتمبر، ذهبت إلى مير، وعدت مع عمي جوز إلى شروزبيري ومنها إلى كامبريدج. لندن.
في الحادي عشر، ذهبت مع القبطان فيتزروي في سفينة بخارية إلى بليموث لرؤية «البيجل».
في الثاني والعشرين، عدت إلى شروزبيري مرورا بكامبريدج.
في الثاني من أكتوبر، غادرت منزلي، ومكثت في لندن.
في الرابع والعشرين، وصلت إلى بليموث.
أكتوبر ونوفمبر، كان هذان الشهران تعيسين جدا.
في العاشر من ديسمبر ، أبحرنا لكننا اضطررنا إلى العودة.
في الحادي والعشرين، أبحرنا مجددا، ثم عدنا.
في السابع والعشرين، أبحرنا من إنجلترا في رحلتنا البحرية.
من جورج بيكوك (رئيس كاتدرائية إيلي سابقا، وأستاذ الكرسي اللوندزي في علم الفلك في كامبريدج) إلى جيه إس هنزلو
7 شارع سافك، بول مول إيست [1831]
عزيزي هنزلو
سيقوم القبطان فيتزروي بعمل مسح للساحل الجنوبي لتييرا ديل فويجو، وبعد ذلك، سيزور العديد من جزر بحر الجنوب، ثم يعود من طريق الأرخبيل الهندي. إن السفينة مجهزة خصيصا للأغراض العلمية؛ لذا، فإنها مع هذا المسح، سوف توفر فرصة نادرة للمختص في علم التاريخ الطبيعي، وسيكون ضياعها سوء حظ عظيما.
ولقد عرض علي أن أرشح شخصا مناسبا للذهاب في هذه الرحلة في وظيفة مختص في التاريخ الطبيعي، وسوف يعامل بكل احترام. والقبطان شاب يافع يتحلى بالأخلاق الحميدة (فهو ابن أخي دوق جرافتون) وهو عظيم الحماس لمهنته، ويشاد به كثيرا. وإذا تمكن ليونارد جينينز من الذهاب، فتخيل كم الكنوز التي قد يحضرها معه! إذ سوف توضع السفينة تحت تصرفه، متى احتاج إليها في أبحاثه، ورأى ذلك ضروريا أو محبذا. وفي حالة غياب مثل هذا العالم الرائع، فهل من شخص آخر يمكنك أن ترشحه بقوة؟ ولا بد لهذا الشخص أن يكون أهلا لترشيحنا. فكر في هذا الأمر؛ فسوف تكون خسارة كبيرة لعلوم التاريخ الطبيعي إن ضاعت هذه الفرصة الممتازة. ...
سوف تبحر السفينة بحلول نهاية سبتمبر تقريبا.
اكتب إلي في الحال وأخبرني بما يمكن فعله.
خالص مودتي إليك يا عزيزي هنزلو
صديقك المخلص
جورج بيكوك
من جيه إس هنزلو إلى تشارلز داروين
كامبريدج، 24 أغسطس، 1831
عزيزي داروين
قبل أن أتطرق إلى الموضوع المباشر لهذا الخطاب، لنتشاطر الأسى على فقدان صديقنا الغالي المسكين رامزي، الذي قد سمعت بموته دون شك منذ فترة طويلة.
لن أخوض طويلا في هذا الحادث الأليم؛ إذ إنني آمل في رؤيتك قريبا، متوقعا أن تتحمس لقبول العرض الذي سأوشك أن أخبرك به، والذي يتمثل في ذهابك في رحلة إلى تييرا ديل فويجو ، ثم العودة إلى الوطن عن طريق جزر الهند الشرقية. لقد طلب مني بيكوك، والذي سيقرأ هذا الخطاب ويرسله إليك من لندن، أن أرشح له مختصا في التاريخ الطبيعي يرافق القبطان فيتزروي، وهو الذي عينته الحكومة لعمل مسح لطرف أمريكا الجنوبي. وقد قلت بأنني أعتقد أنك أنسب شخص مؤهل أعرفه ومن الأرجح أن يقبل بالقيام بمثل هذه المهمة. وأنا لم أقل ذلك على اعتبار أنك خبير في التاريخ الطبيعي، وإنما بوصفك مؤهلا تماما للجمع والملاحظة والانتباه إلى أي شيء يستحق الانتباه إليه في التاريخ الطبيعي. إن بيكوك يملك حق التصرف فيما يتعلق بهذا التعيين، وإن لم يجد شخصا يقبل بهذا العمل، فسوف تضيع الفرصة على الأرجح. إن القبطان فيتزروي (كما أفهم) يرغب في مرافق أكثر مما يرغب في مجرد جامع، ولن يقبل بأي شخص مهما كانت براعته في التاريخ الطبيعي، إلا أن يأتيه من ذكره أنه أيضا «رجل فاضل». أما التفاصيل المحددة مثل الراتب وما إلى ذلك، فأنا لا أعرف عنها شيئا. ستستغرق الرحلة عامين، وإذا أخذت معك الكثير من الكتب، فسوف تتمكن من تحقيق كل ما ترغب فيه، وسوف تحظى بالعديد من الفرص رهن إشارتك. باختصار، إنني أعتقد أنه لن توجد فرصة أفضل من تلك لرجل يتمتع بالطاقة والحماس؛ فالقبطان فيتزروي رجل شاب. وأما ما أرغب في أن تفعله، فهو أن تحضر هنا في الحال وتتشاور مع بيكوك (7 شارع سافك، بول مول إيست، أو نادي الجامعة) وأن تعرف المزيد من التفاصيل. لا تسمح لأي شكوك أو مخاوف بأن تراودك بأنك تفتقر إلى بعض المؤهلات؛ فأنا أؤكد لك أنك تتمتع بما يبحثون عنه تماما؛ ولهذا، فلتتخيل أنك قد ألقي القبض عليك وأمر بإرسالك في هذه البعثة من قبل صديقك المخلص.
جيه إس هنزلو
ستبحر هذه البعثة في الخامس والعشرين من سبتمبر (وليس قبل ذلك)؛ لذا فما من وقت تضيعه.
من جي بيكوك إلى تشارلز داروين [1831]
سيدي العزيز
لقد تلقيت خطاب هنزلو أمس في وقت متأخر للغاية؛ فلم أستطع أن أرسله إليك في بريد الليل ، وهو أمر لم أندم عليه؛ إذ إن ذلك قد سمح لي برؤية القبطان بوفورت من ديوان البحرية (كبير الهيدروجرافيين) وإخباره بالعرض الذي سأعرضه عليك. إنه يوافق عليه تماما، ويمكنك أن تعتبر أن الأمر قد أصبح تحت تصرفك تماما. إنني أثق بأنك ستقبله؛ فهو فرصة يجب ألا تفوتها. وأنا أتطلع باهتمام شديد إلى ما ستثمر عنه جهودك من فائدة وإضافة إلى مجموعاتنا الخاصة بالتاريخ الطبيعي.
وبيان الأمر كما يلي:
القبطان فيتزروي (ابن أخي دوق جرافتون) سيبحر في نهاية سبتمبر في سفينة لعمل مسح هو الأول من نوعه، للساحل الجنوبي لتييرا ديل فويجو، وبعد ذلك، سيزور جزر بحر الجنوب، ثم يعود إلى إنجلترا عن طريق الأرخبيل الهندي. البعثة مخصصة بالكامل للأغراض العلمية، وبصفة عامة، ستكون السفينة تحت إمرتك بينما تجري أبحاثك في التاريخ الطبيعي وما إلى ذلك. وأما القبطان فيتزروي، فهو ضابط كريم، متحمس، دمث الأخلاق ويحبه جميع زملائه من الضباط. لقد ذهب مع القبطان بيتشي وأنفق من ماله الخاص 1500 جنيه في إحضار ثلاثة من السكان الأصليين من باتاجونيا وتعليمهم. [هناك خطأ هنا؛ فقد ذهب مع «كينج» وليس «بيتشي». وأنا لا أجد اسم فيتزروي في قائمة ضباط بيتشي. عاد الأشخاص الثلاثة من أهل فويجو مع رحلة القبطان كينج.] وهو ينفق من ماله الخاص 200 جنيه في العام لكي يصطحب معه أحد الحرفيين؛ لذا، يمكنك أن تتأكد من أنه سيكون رفيقا لطيفا للغاية، وسيتجاوب بصدق مع جميع آرائك.
ستبحر السفينة في نهاية سبتمبر، وعليك ألا تتأخر في إبلاغ موافقتك للقبطان بوفورت، كبير الهيدروجرافيين بديوان البحرية. لقد ناقشت هذ الأمر كثيرا في مراسلاتي [مع هنزلو] الذي يشعر، كما أشعر أنا أيضا، بالتلهف الشديد لذهابك. وأتمنى ألا يحدث أي شيء آخر يحول دون ذلك الأمر. ...
إن ديوان البحرية لا يملك حق إعطائك راتبا، لكنهم سيقدمون لك تعيينا رسميا، ويزودونك بكل سبل الراحة. وإن كان الراتب ضروريا، فأعتقد أنه يمكن توفيره بالرغم من ذلك.
خالص تحياتي إليك يا سيدي الفاضل
المخلص لك
جورج بيكوك
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
شروزبيري، الثلاثاء [30 (؟) أغسطس 1831]
سيدي العزيز
لقد وصل خطاب السيد بيكوك في يوم السبت، وقد تسلمته في وقت متأخر مساء أمس. بالنسبة لي، فأنا أعتقد أنه يجب علي «بالطبع» أن أقبل، وبكل سرور، هذه الفرصة التي تكرمت بعرضها علي. لكن أبي، رغم أنه لا يرفض ذهابي، يشدد في نصيحته إلي بعدم الذهاب؛ لذا فلن أشعر بالراحة إن لم أتبع نصيحته.
وتتمثل اعتراضات والدي فيما يلي: إنها تقلل فرصتي في الاستقرار والعمل كرجل دين، وكذلك خبرتي القليلة في السفر بالبحر، و«ضيق الوقت»، واحتمال أني لا أروق للقبطان فيتزروي. ولا شك في أن ضيق الوقت فيما يتعلق بعمل جميع الاستعدادات هو اعتراض جاد للغاية؛ فليس الجسم وحده هو الذي يحتاج إلى الاستعداد، وإنما يحتاج العقل أيضا إلى الاستعداد للقيام بمثل هذا الأمر. بالرغم من ذلك، فلولا أبي، لقبلت بتحمل جميع المخاطر. ما السبب في عدم الاستقرار على تعيين مختص في التاريخ الطبيعي منذ فترة طويلة؟ إنني ممتن للغاية لما عانيته من متاعب في سبيل ذلك، ولا شك في أنها كانت ستصبح فرصة رائعة للغاية. ...
لقد جادت رحلتي مع سيجويك بنتائج رائعة. ولم أسمع بموت رامزي المسكين إلا قبل خطابك بأيام قليلة. لقد كنت محظوظا حتى الآن في عدم فقدان أي شخص أكن له تقديرا أو عاطفة، وبالرغم من أن معرفتي به لم تمتد إلا لفترة قصيرة للغاية، فقد كانت كافية لكي تجعلني أشعر بهذه المشاعر كلها، وبدرجة كبيرة. إنني لا أستطيع أن أصدق أنه لم يعد موجودا. لقد كان أفضل شخصية قد عرفتها على الإطلاق.
المخلص لك يا سيدي العزيز
تشارلز داروين
لقد كتبت إلى السيد بيكوك، وذكرت أنني قد طلبت منك أن تبلغني في حالة أنه لم يتسلم خطابي. وقد طلبت منه أيضا أن يتواصل مع القبطان فيتزروي. وحتى إن قررت الذهاب، فإن كراهية والدي لذلك سوف تستنفد جميع طاقتي، التي سوف أحتاج إلى قدر كبير منها. إنني أشكرك مرة أخرى؛ فهذه الفرصة تضيف القليل إلى ذلك القدر الثقيل اللطيف الذي أدين لك به من الامتنان.
من تشارلز داروين إلى آر دابليو داروين [مير] 31 أغسطس [1831]
أبي العزيز
يؤسفني أن أضايقك مرة أخرى. لكن بعد تفكير، أظن أنك ستعذرني مرة أخرى إذ أخبرك برأيي في عرض الرحلة. وأما عذري وسببي فهو اختلاف الطريقة التي ينظر بها جميع آل ويدجوود عن الطريقة التي تنظر بها إليها، أنت وأخواتي.
لقد قدمت لعمي جوز [جوزايا ويدجوود] ما أثق تماما أنه قائمة كاملة ودقيقة بجميع اعتراضاتك، وسيتكرم هو بأن يخبرك بآرائه فيها كلها. وسأرفق لك القائمة ورده عليها، لكن هل لي أن أطلب منك صنيعا واحدا؛ سيكون غاية في اللطف منك إن أرسلت لي إجابة محددة، نعم أم لا؟ وإذا كانت الأخيرة، فسيكون نكرانا عظيما مني ألا أخضع لحكمك الأفضل، ولعطفك الشديد الذي شملتني به طوال حياتي، ويمكنك أن تثق حينها بأنني لن أذكر الأمر مرة أخرى. وإن كانت إجابتك بنعم، فسوف أذهب إلى هنزلو مباشرة وأتشاور معه بوضوح، ثم آتي إلى شروزبيري.
إن الخطر لا يبدو لي عظيما، أنا وجميع وآل ويدجوود، ولا يمكن أن تكون الكلفة كبيرة، ولا أعتقد أن هذا الوقت سيكون مهدرا بدرجة أكبر مما لو بقيت في المنزل. لكنني أرجوك ألا تظن أنني عازم على الذهاب مهما يكن الأمر ويجب أن تتأكد أنني لن أتردد ل «لحظة واحدة» عن التراجع، إن رأيت أن عدم ارتياحك لن يزول بعد فترة قصيرة.
ولا بد لي من أن أقول مجددا بأنني لا أظن بأن هذا سيضر بسمعتي وحياتي العملية في المستقبل. إنني أتمنى ألا يزعجك هذا الخطاب بدرجة كبيرة. سوف أرسله بالعربة صباح الغد؛ فهل لك أن ترسل لي الرد في اليوم التالي بالطريقة نفسها، إن اتخذت قرارك مباشرة؟ وإن لم يصلك هذا الخطاب وأنت في المنزل، فأتمنى أن تجيب فور أن تتمكن من ذلك.
لست أدري كيف يمكنني أن أصف عطف عمي جوز؛ فلن أستطيع أن أنسى أبدا مدى اهتمامه بأمري.
إليك خالص مودتي يا والدي العزيز
ابنك المحب
تشارلز داروين [فيما يلي قائمة بالاعتراضات المشار إليها في الخطاب التالي: (1)
الإساءة إلى سمعتي كرجل دين فيما بعد. (2)
خطة جامحة. (3)
إنهم لا بد قد عرضوا وظيفة المختص بالتاريخ الطبيعي على آخرين كثر قبلي. (4)
ولما أنهم لم يقبلوها، فلا بد أنه ثمة بعض الاعتراضات الخطيرة على الباخرة أو الرحلة. (5)
إنني لن أستقر في حياة ثابتة في المستقبل. (6)
إن إقامتي لن تكون مريحة على الإطلاق. (7)
إنك [أي، الدكتور داروين] لا بد تنظر للأمر باعتباره تغييرا في مساري المهني. (8)
إنها مهمة عديمة الجدوى.]
من جوزايا ويدجوود إلى آر دابليو داروين
مير، 31 أغسطس، 1831 (اقرأ ذلك في النهاية) [كتب تشارلز داروين هذا بنفسه]
دكتور داروين العزيز
إنني أشعر بثقل مسئولية طلبك لي بالمساعدة بخصوص العرض الذي قدم إلى تشارلز، لكن لأنك كنت ترغب من تشارلز أن يستشيرني، فلا يمكنني أن أرفض ذكر وجهة نظري في هذه المسألة.
لقد أورد تشارلز ما يعتقد أنه يمثل اعتراضاتك الأساسية، وأعتقد أن أفضل طريقة يمكن أن أتبعها في هذا الشأن هي أن أذكر ما يخطر لي بشأن كل منها. (1)
إنني لا أعتقد أن ذلك سوف يسيء إلى سمعته كرجل دين بأي نحو، بل إنني أعتقد أنه عرض مشرف، وإن كان العمل بالتاريخ الطبيعي ليس بالتأكيد عملا مهنيا، فإنه مناسب للغاية لرجال الدين. (2)
إنني لا أعرف كيف أتطرق إلى هذا الاعتراض، لكنه سيكون لديه أهداف محددة يعمل على تحقيقها، وربما يساعده ذلك في اكتساب بعض عادات التطبيق ويعززها لديه، وأعتقد أنه قد يفعل ذلك بأي طريقة قد يقضي بها العامين القادمين في المنزل. (3)
لم يرد في ذهني هذا الخاطر عند قراءة الخطابات، وإذ أعدت قراءتها مع التفكير في هذا الخاطر، فإنني لا أجد أي أساس له. (4)
لا أعتقد أن ديوان البحرية سوف يرسل باخرة سيئة لمثل هذا الغرض. وأما بالنسبة إلى الاعتراضات على البعثة، فسوف تختلف في حالة كل شخص، ولا أعتقد أنه يمكن الاستدلال على أي شيء في حالة تشارلز، إن كان قد عرف أن آخرين قد اعترضوا. (5)
إنك أفضل مني بكثير تقديرا لشخصية تشارلز. وإذا قارنت هذا النمط الذي سيقضي به هذين العامين، بالنمط الذي سيقضيهما به على الأرجح إن لم يقبل بهذا العرض وكنت تعتقد أنه سيحيا حياة متقلبة ولن يكون قادرا على الاستقرار، فإن ذلك اعتراض وجيه بلا شك. لكن أوليس من المعتاد أن يستقر الملاحون في ظروف منزلية هادئة؟ (6)
لا يمكنني أن أبدي أي رأي بخصوص هذا الاعتراض سوى اعتقادي أنه لكونه يعمل لصالح ديوان البحرية، يحق له المطالبة بالحصول على أفضل ما تقدمه الباخرة من سبل الإقامة. (7)
لو كنت أرى أن تشارلز منهمك في الدراسات المهنية في الوقت الحالي، لكنت قد نصحت على الأرجح بعدم مقاطعتها، لكن الحال ليست كذلك، ولا أظنها ستكون كذلك. إن مسعاه الحالي للمعرفة يتفق مع المسار الذي سيسلكه في هذه البعثة. (8)
المهمة ستكون عديمة الجدوى بالنسبة إلى مهنته، لكن عند النظر إليه كرجل واسع الفضول، فإن المهمة توفر له فرصة لرؤية الأشخاص والأشياء، وهي فرصة لا تتاح إلا للقليل من الناس.
يجب أن تراعي أنه لم يكن لدي متسع من الوقت للتفكير، وأنك أنت وتشارلز من يجب عليهما اتخاذ القرار.
دكتور داروين العزيز
خالص مودتي إليك
المخلص
جوزايا ويدجوود
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
كامبريدج، ريد لايون [2 سبتمبر] 1831
سيدي العزيز
لقد وصلت للتو، وسوف تخمن السبب. لقد غير والدي رأيه. وأعتقد أن الفرصة لا تزال موجودة.
إنني أشعر بالإرهاق الشديد وسوف أخلد إلى النوم.
أكاد أجزم أنك لم تتسلم خطابي الثاني بعد.
متى يمكنني أن آتي لك في الصباح؟ أرسل لي إجابة شفهية.
طابت ليلتك
المخلص
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى الآنسة سوزان داروين
كامبريدج، الأحد صباحا [4 سبتمبر]
عزيزتي سوزان
لأن الخطاب لم يكن ليرسل البارحة؛ فقد أجلت كتابته إلى اليوم. لقد خضت رحلة شاقة، لكنني وصلت إلى كامبريدج وأنا في غاية النشاط. لقد قضيت يوم أمس بأكمله مع هنزلو، لنفكر فيما سنفعله، وذلك أمر عظيم بالنسبة لي. ومن عظيم حسن الحظ أنني أعرف شخصا يحمل اللقب وود، وهو ابن أخي لورد لندنديري. إنه صديق رائع للقبطان فيتزروي، وقد كتب له بشأني. لقد سمعت جزءا من خطاب للقبطان فيتزروي مؤرخ بتاريخ سابق، وهو يقول فيه: «إن لدي طاقما جيدا ومناسبا من الضباط، ومعظم رجالي قد ذهبوا إلى هناك قبل ذلك.» يبدو أنه ذهب إلى هناك في السنوات القليلة الماضية؛ لقد ذهب على متن هذه السفينة التي اختارها الآن، وكان يتولى المرتبة الثانية في قيادتها. إنه لا يبلغ من العمر سوى ثلاثة وعشرين عاما، لكنه تولى الكثير من المهام، وفاز بالقلادة الذهبية في بورتسموث. يقول عنه ديوان البحرية إن خرائطه هي الأفضل. لقد كان لديه الاختيار من بين سفينتين، وقد اختار الأصغر. سيعطيني هنزلو خطابات لجميع المسافرين الموجودين في المدينة، الذين يعتقد أنه يمكنهم مساعدتي.
لا يملك بيكوك سوى مكان واحد لمختص في التاريخ الطبيعي، وكان ليونارد جينينز هو أول من عرضت عليه هذه الفرصة، وقد كاد أن يقبل بها حتى إنه حزم أمتعته. لكن لما أن كانت له وظيفة يتكسب منها، فلم ير أنه من الصواب أن يتركها؛ إذ كان ذلك سيتسبب في شعور جميع عائلته بالأسف الشديد. ولم يكن من المستبعد أن يقبل بها هنزلو نفسه؛ فقد تكرمت السيدة هنزلو بإعطاء موافقتها على ذلك دون أن يطلب منها، لكنها قد بدت في غاية الحزن، فحدد هنزلو موقفه بالرفض على الفور. ...
يؤسفني أن الأمر سيتطلب نفقات كثيرة في البداية. إن هنزلو شديد المعارضة لفكرة أخذ الكثير من الأغراض؛ إذ إن ذلك هو الخطأ الذي يقع به جميع الرحالة اليافعين. إنني أكتب وكأن الأمر قد تقرر، لكن هنزلو يخبرني بألا أتخذ قراراي «بأي حال من الأحوال»، حتى أخوض محادثات طويلة مع القبطان بوفورت والقبطان فيتزروي. إلى اللقاء. سأكتب إليك باستمرار. أرسلي إلي على العنوان: 17 سبرينج جاردنز. لا تخبري «أحدا» في شروزبيري الآن. يجب أن تفعلي ذلك.
تشارلز داروين
لقد كنت مرهقا للغاية في هذا المساء الذي قضيته في شروزبيري، حتى إنني لم أشكر أيا منكم على لطفكم ، ولو حتى بنصف مقدار ما شعرت به.
خالص مودتي إلى أبي.
إن السبب في رغبتي بعدم إخبار الناس في شروزبيري، هو أن ذلك سيجعل الأمر أكثر سهولة إن لم أذهب.
من تشارلز داروين إلى الآنسة إس داروين
17 سبرينج جاردنز، الاثنين [5 سبتمبر 1831]
ليس لدي سوى القليل من الوقت؛ فما لدي وقت أضيعه في إعادة كتابة الخطابات؛ لذا فلتعذريني في إحضار الخطاب السابق وتعديله. لقد كتبت الخطاب السابق في الصباح، وفي منتصف اليوم، تسلم وود خطابا من القبطان فيتزروي، والذي علي أن أقر بأنه كان «مباشرا» للغاية كما أنه كان يعكس «نبل أخلاقه»، غير أنه كان يعارض ذهابي بدرجة كبيرة؛ حتى إنني تخليت عن الأمر في الحال، وكذلك فعل هنزلو قائلا إنه يرى أن بيكوك قد «أخطأ بشدة»؛ إذ أخفق كثيرا في توضيح الأمور.
نادرا ما كنت أفكر من قبل في الذهاب إلى المدينة، لكنني ها هنا الآن. والآن سأقص عليك المزيد من التفاصيل، وهي تفاصيل مبشرة. القبطان فيتزروي موجود [في] المدينة، وقد رأيته. من العبث أن أحاول مديحه بالقدر الذي أشعر بأنني أرغب فيه؛ إذ إنك لن تصدقيني. والأمر الوحيد الذي أثق به، هو أنني لن أجد من هو أكثر منه صراحة معي ولطفا تجاهي. يبدو أنه قد وعد بأن يصطحب معه صديقا، لكنه لن يستطيع الذهاب بسبب العمل، وقد تلقى الخطاب الذي يفيد بذلك قبل أن أدخل عليه بخمس دقائق فقط، مما يجعل الأمور أفضل كثيرا لي؛ إذ إن الحاجة إلى غرفة كانت من أكبر اعتراضات فيتزروي. إنه يعرض علي أن نتشارك كل شيء في مقصورته إن أردت الذهاب، وكذلك جميع سبل الراحة التي يمكنني أن أحظى بها، لكنها لن تكون كثيرة. وهو يقول إن أكثر ما سيغمه على الإطلاق هو أن أقيم معه في غرفته إن لم أكن أشعر بالارتياح، ولأننا سوف نكون معا في سفينة صغيرة، فقد رأى أن من واجبه أن يوضح الحال الأسوأ في كل شيء. أعتقد أنني سأذهب يوم الأحد إلى بليموث لرؤية السفينة.
إنه يتمتع بقدر كبير من الجاذبية في سلوكه وطريقته في معالجة صلب الموضوع. وهو يقول إنه سيكون علي أن أعيش كفافا إن عشت معه؛ دون نبيذ مع الاكتفاء بأبسط الوجبات. إن الأمور ليست كما يصفها بيكوك بالطبع، والقبطان فيتزروي ينصحني بألا أتخذ قراري الآن، لكنه يعتقد جديا بأن الرحلة ستحمل لي من الاستمتاع أكثر مما ستحمله من متاعب. لن تبحر السفينة حتى العاشر من أكتوبر، وهي تحمل ستين رجلا، منهم خمسة ضباط أو ستة وغيرهم، لكنها سفينة صغيرة. ستظل السفينة في مهمتها لمدة ثلاثة أعوام على الأرجح. وسيكون علي أن أدفع مقابل طعامي كما يدفع القبطان نفسه؛ ثلاثين جنيها في العام، ويقول فيتزروي إنني إن أنفقت خمسمائة جنيه بما في ذلك نفقات تجهيزاتي، فسوف يكون ذلك في منتهى الإفراط. وأما الأخبار الأسوأ، فهي أن الدوران حول العالم ليس «أكيدا»، لكن الفرصة لذلك ممتازة للغاية. وأنا لن أحسم أمري إلى أن يتم تحديد هذا الأمر، ولعلك ترين أنه بعد جميع هذه التغيرات العديدة التي مرت بي؛ فلن يقودني في عملية اتخاذ القرار سوى عقلي.
يقول فيتزروي إن عواصف البحر هي أمر مبالغ فيه، وإنني يمكنني العودة إلى إنجلترا في أي وقت إن اخترت ذلك على البقاء معهم؛ إذ إن العديد من السفن تبحر في هذا الاتجاه، وخلال أوقات الطقس السيئة (شهران على الأرجح)، يمكنني أن أبقى في أي بلدة صحية وآمنة ولطيفة، إن رغبت في ذلك. وهو يقول أيضا إنني سأحصل دائما على المساعدة وإنه لديه الكثير من الكتب، وسوف تكون تحت تصرفي، هي وجميع الأدوات والبنادق، وإنه كلما قل عدد الملابس التي آخذها معي وكذلك ثمنها، كان ذلك أفضل. ستناسبني الطريقة التي يتبعونها؛ فهم يرسون السفينة، ويظلون لمدة أسبوعين في مكان محدد. لقد شرحت للقبطان بوفورت وجهة نظري تماما، وهو يقول إنني إن بدأت ولم أطف حول العالم، فإن لدي مبررا قويا لأن أرى أنني قد تعرضت للخداع. يجب أن أتصل بهم بعد غد وأحصل على المزيد من الإرشادات المحددة إن أمكن. إن طلبي للحصول على غرفة هو الاعتراض الأكثر جدية، لكن القبطان فيتزروي (بسبب خطاب وود على الأرجح) عازم على أن يوفر لي أقصى ما يمكنه من وسائل الراحة. تعجبني طريقته في معالجة الأمور. لقد سألني على الفور: «هل ستتحمل أن أخبرك بأنني أريد المقصورة لنفسي حين أرغب في أن أكون بمفردي؟ إذا عامل كل منا الآخر بهذه الطريقة، فأتمنى أن نتوافق فيما بيننا، وإلا فسوف يتمنى كل منا الجحيم للآخر.»
سنتوقف لمدة أسبوع في جزر ماديرا، وسوف نرى معظم المدن الكبيرة في أمريكا الجنوبية. وسوف يرسم القبطان بوفورت المسار عن طريق بحر الجنوب. إنني أكتب باستعجال كبير، وأنا لا أعرف ما إن كان الأمر يثير اهتمامك بالدرجة الكافية التي تجعلك تعذرين هذا الخطاب الذي يطول إلى ثلاثة أضعاف الحجم المعتاد للخطابات، أم لا. أتمنى أن يكون رأيي سليما في القبطان فيتزروي، وألا يكون بدافع التحيز؛ وإن كان كذلك، فأنا واثق أننا سنتفق. سوف أتناول معه العشاء اليوم. يمكنني أن أكتب الكثير إن كنت أعرف أنك ستحبين هذا، وكذلك لو كان لدي وقت. لا شك بأن المرء ليصادف الفرص في حياته، ولقد خبرت ذلك، وقد تخليت عنها «تماما» إلا فرصة اليوم.
خالص مودتي إلى أبي، وإلى اللقاء يا عزيزتي سوزان.
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
لندن، الاثنين [5 سبتمبر، 1831]
سيدي العزيز «المجد للرب»، ذلك هو أبسط ما يمكنني أن أفكر في البدء به. إن الظروف مواتية بأكثر مما كنت أظن أنها يمكن أن تكون عليه. القبطان فيتزروي رجل رائع في كل شيء؛ فإن حاولت الثناء عليه ولو بنصف مقدار ما أكنه له، لظننت بأنني أتكلم عبثا؛ إذ إنني لم أره سوى مرة واحدة. أعتقد أنه يود حقا في أن يصطحبني معه؛ فهو يعرض علي أن أتناول الطعام معه، وأنه سيحرص على أن أحظى بأكبر مساحة ممكنة، لكنه يقول إن علي تقليل حجم الأمتعة؛ فهو يفكر في الحجم من وجهة نظر البحارة. ويقول القبطان بوفورت بأنني سأقيم على السفينة، وأن ذلك لن يكلفني إلا كتكلفة باقي الضباط. ستبحر السفينة في العاشر من أكتوبر، وستبقى أسبوعا في جزر ماديرا، ثم ترحل إلى ريو دي جانيرو. يرى الجميع أنه من المرجح جدا أن نعود إلى الوطن عن طريق الأرخبيل الهندي، لكنني لن أتيقن من ذلك حتى يصدر القرار.
إن ما حث القبطان فيتزروي على النظر للأمر بطريقة أفضل هو أن السيد تشستر الذي كان سيذهب معه بصفته صديقا، لا يستطيع الذهاب؛ ولهذا، فإنني سوف أحظى بمكانه في جميع الجوانب.
يمتلك القبطان فيتزروي، مجموعة جيدة من الكتب، وقد كان العديد منها ضمن قائمتي، وهو يمتلك كذلك بعض البنادق وغير ذلك؛ ولهذا فسوف تكون تكلفة التجهيزات أقل مما كنت أحسبه.
ستظل السفينة في تجوالها لمدة ثلاثة أعوام، وأنا لا أمانع في ذلك، لما كان أبي لا يعارضه. لدي مقابلة أخرى مع القبطان بوفورت في يوم الأربعاء، وسأذهب مع القبطان فيتزروي إلى بليموث في يوم الأحد على الأرجح؛ لذا، أتمنى أن تواصل التفكير في الأمر وأن تسجل ما قد يتبادر إلى ذهنك بشأنه. سوف أزور السيد بورتشل على الأرجح وأعرفه بنفسي. إنني أقيم بنزل في 17 سبرينج جاردنز. لا يمكنك أن تتخيل كيف كان القبطان فيتزروي لطيفا وعطوفا وصريحا في تعامله معي. إنني متأكد أنه سيكون خطئي إن لم نتوافق فيما بيننا.
لكم مر بي من تغيرات! فحتى الساعة الواحدة اليوم، كنت أتطلع لصيد الثعالب في شروبشاير، والآن لصيد اللاما في أمريكا الجنوبية.
لا شك في أن المرء يصادف الفرص في حياته التي عليه أن يغتنمها قبل فوات الأوان. إذا رأيت السيد وود، فأبلغه أرق تحياتي.
إلى اللقاء يا عزيزي هنزلو
صديقك الأشد إخلاصا
تشاز داروين
فلتعذرني في كتابة هذا الخطاب بمثل هذه العجلة.
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
17 سبرينج جاردنز، لندن
6 سبتمبر، 1831 ...
لقد سرني خطابك سرورا عظيما. لا يمكنك أن تتخيل كيف أزعجني خطابك السابق وآذاني. [كان قد أساء فهم أحد خطابات فوكس على أنه يشير إلى اتهامه بالكذب.] لكن شكرا للرب، إنني متيقن من أنه كان خطئي «بالكامل» أن أسأت تأويل خطابك. لقد فقدت صديقا مؤخرا، وأنا أشك فيما إن كان الموت المعنوي لصداقتنا (كما أسأت الافتراض) لم يحزني بقدر ما أحزنتني تلك الفاجعة الحقيقية بموت المسكين رامزي على حين غرة. إننا نعرف بعضنا منذ فترة طويلة للغاية، مما يجعلني أثق أننا لا نحتاج إلى المزيد من التبريرات. لكنني سأذكر أمرا واحدا فقط: حين أكون على فراش الموت، أعتقد أنه يمكنني القول إنني لم أتفوه قط بأي عبارة غير صادقة عن قدرك عندي. وسأضيف أمرا آخر: أقسم بشرفي أن موضوع إرسال الحشرات «في الحال» كان تصادفا غير موفق. لقد نسيت كيف أنك ستأخذها بطبيعة الحال. أتمنى ألا يتبادر إلى ذهنك أي مشاعر قاسية حين تنظر إليها الآن، وأتمنى أن تصدق أنني كنت لك دوما صديقا مخلصا وممتنا أيضا. إن ما قضيناه معا في كامبريدج من الكثير من الأوقات السعيدة، قد ظهرت أمامي كأنها أرواح الراحلين تحاكمني. ليتنا نحظى بالمزيد من مثل هذه الأوقات، وستكون هذه هي آخر أمنياتي عند مغادرة إنجلترا. ليباركك الرب يا عزيزي الغالي فوكس، ولعلك تنعم دائما بالسعادة.
صديقك المخلص
تشاز داروين
لقد خلفت خطابك؛ لذا، فإنني لا أعرف ما إن كنت أرسله إلى الوجهة الصحيحة أم لا.
من تشارلز داروين إلى الآنسة سوزان داروين
17 سبرينج جاردنز، الثلاثاء [6 سبتمبر 1831]
عزيزتي سوزان
سوف أزعجك مرة أخرى. أعتقد أنني إن واصلت بهذا المعدل، فإنك ستتمنين بصدق أن أرحل إلى تييرا ديل فويجو أو أي مكان آخر سوى إنجلترا. في البداية، سأذكر طلباتي. أخبري نانسي أن تصنع لي اثني عشر قميصا بدلا من ثمانية. وأخبري إدوارد أن يرسل لي في حقيبة سفري (يمكنه أن يضع المفتاح في الحقيبة مربوطا بحبل) خفي المنزلي، وحذاء خفيفا للسير، وكتبي الإسبانية ومجهري الجديد (الذي يبلغ طوله ست بوصات وعمقه ثلاث بوصات أو أربعا) الذي يجب حشوه بالقطن من الداخل، وبوصلتي الجيولوجية؛ والدي يعرف هذا، وكتابا صغيرا، إن كان موجودا في غرفتي ، عنوانه «تحنيط الحيوانات ». اسألي أبي إن كان ثمة مانع إن تناولت الزرنيخ لفترة وجيزة؛ فيداي ليستا بخير، ولطالما لاحظت أنهما إذا تحسنتا وغيرت أسلوب حياتي في الوقت نفسه، فسوف تظلان بخير بصفة عامة. ما هي الجرعة؟ أخبري إدوارد أن بندقيتي متسخة. أين يوجد إيرازموس؟ أخبريني إن كنت تعتقدين أنه يوجد وقت للرد وتسلمه قبل أن أبدأ؛ إذ إنني أرغب في معرفة رأيه في الأمر تحديدا. أظن أنك لا تعرفين مكان السير جيه ماكينتوش؟
إنني أكتب كل هذا وكأن الأمر قد تقرر بالفعل، لكن الحال لم يتغير عما كان عليه، فيما عدا أن القبطان فيتزروي يتمنى بشدة أن أذهب، ومما يبديه من عطف فإنني أشعر بأنه سيكون من نصيبي أن أذهب. لقد قضيت معه أمسية لطيفة للغاية أمس. لا بد أن عمره يزيد على ثلاثة وعشرين عاما، وهو ضئيل الحجم، ويشبه السيد كينستون في وسامته، لكنه أكثر اسمرارا. وأما أخلاقه، فأنا أرى أنه يتمتع بمكارم الأخلاق دون نزاع. إنه يحب الاقتصاد في كل شيء، فيما عدا أمرا واحدا، وهو الأسلحة النارية، وهو يوصيني بشدة بأن أبتاع حقيبة من المسدسات مثل تلك التي يمتلكها، والتي يبلغ ثمنها ستين جنيها! وهو يوصيني أيضا بألا أذهب إلى أي شاطئ دون أن يكون معي مسدسات محشوة، لكنه غير متأكد بشأن أهمية حصولي على بندقية؛ فهو يقول إنه لا يمكنني أن أدرك قيمة رفاهية حصولي على اللحم الطازج هنا. لن أبتاع شيئا بالطبع حتى يتحدد كل شيء، لكنني أعمل طوال النهار على قوائمي، فأضع فيها بنودا وأحذف منها أخرى. إن هذا هو أول يوم مبهج بالفعل أقضيه منذ أن تسلمت الخطاب، وكل ذلك بسبب الثقة التي اخترت أن أضعها في تصوري المثالي للقبطان.
سنتوقف في تينيريف، وهدفه هو أن نتوقف في أكبر عدد ممكن من الأماكن. سيأخذ معه عشرين من أجهزة الكرونومتر، وسيكون «إثما» ألا نحدد خط الطول. وهو يطلب مني أن أحصل من ديوان البحرية على إذن كتابي يفيد بأن لي حرية الاختيار في المغادرة متى رغبت في ذلك على الفور. يمكنني القول بأنك تتوقعين عودتي من جزر ماديرا، لكنني لن أتخلى عن هذه الفرصة، ما دامت صحتي تسمح بذلك. فلتعذري إزعاجي إياك وكتابتي الكثيرة إليك؛ فالأمر الأول مفيد لي، وأما الثاني، فهو ممتع للغاية. أغلب الظن أنني سأكتب لك غدا، فلتجيبي مع عودة البريد. خالص مودتي إلى أبي، أيتها الغالية سوزان.
سي داروين
نظرا لأن أدواتي تحتاج إلى التغيير، فلترسلي أغراضي عبر عربة بريد «ذي أوكسونين» في الليلة نفسها.
من تشارلز داروين إلى الآنسة سوزان داروين
لندن، صباح الجمعة، 9 سبتمبر، 1831
عزيزتي سوزان
لقد تسلمت الطرد لتوي. أعتقد أنه لم يصل أمس بسبب مراسم التتويج [تتويج ويليام الرابع]. إنني في غاية الامتنان لوالدي، وكذلك الجميع. لقد تم كل شيء بالطريقة الصحيحة. أظن أنه بحلول هذا الوقت تكونين قد تسلمت خطابي في اليوم التالي، وأتمنى أن ترسلي الأغراض. لا تزال أموري على ما هي عليه. يقول القبطان بوفورت إنني مدرج ضمن سجلات الطعام، وهو يعتقد أنني لن أواجه صعوبة بشأن مجموعاتي من العينات حين أعود إلى المنزل. لكنه شخص عميق للغاية ولا يمكنني سبر أغواره. إن الشيء الوحيد الذي يمنعني الآن من حسم أمري بصفة نهائية، هو أنني أحتاج إلى التأكد بشأن جزر بحر الجنوب، بالرغم من أنني أثق في شعوري بأننا سوف نذهب إلى هناك، سواء أكان ذلك ضمن التعليمات أم لا. ويقول القبطان فيتزروي إنني أفعل خيرا بالإلحاح على القبطان بوفورت؛ إذ إن ذلك يذكره ويحفزه. ويقول كذلك إنه واثق بأنه مهتم بالدرجة الكافية لأن يأمر بعودة السفينة من أي طريق يرغب فيه، حتى وهو بالخارج، (لا سيما إن كانت هذه الإدارة غير دائمة. إنني سوف أصبح مؤيدا لحزب المحافظين حين أعود!) ووفقا لما يقوله وود، فإنني أعتقد أن الدوق جرافتون والدوق ريتشموند، يهتمان لأمره. وبالمناسبة، لقد أسدى لي جمائل كثيرة، وأنا متأكد من أن تقديمه لي للقبطان فيتزروي قد جعله يميل إلى اصطحابي معه.
ولكي أشرح الأمور من البداية: كان القبطان فيتزروي يرغب في اصطحاب مختص بالتاريخ الطبيعي، ثم يبدو أنه قد انتابه الذعر فجأة من احتمالية أن يصطحب شخصا لا يعجبه على متن السفينة. وهو يعترف بأن خطابه إلى كامبريدج قد كان بغرض إحباط الخطة. لا أظن أننا سنتشاجر بشأن السياسة، بالرغم من أن وود (وذلك كما هو متوقع منه بصفته واحدا من أهل لندنديري) قد حذر فيتزروي كثيرا من أنني مؤيد لحزب الأحرار. كان القبطان فيتزروي في حضور عمي جوز، وقد قال: «والآن سيخبرك أصدقاؤك بأن القبطان هو أكثر المخلوقات قسوة على وجه الأرض. وأنا لا أعرف كيف يمكن لي أن أساعدك في هذه الحالة، إلا بأن أتمنى أن تجربني.» لكم تتغير الأمور! إنني أتمنى الآن بالفعل أن تطول الرحلة قبل أن تطأ أقدامنا اليابسة. إنني أشعر بدمي يجري باردا من الرهبة إزاء كل ما سيكون علي القيام به. الجميع يبدون على استعداد لمساعدتي، وترغب جمعية علم الحيوان في انضمامي لها بصفتي عضوا بالمراسلة. كل ذلك يمكنني تحقيقه وأنا لم أعبر خط الاستواء بعد. والأهم أنني تعرفت على صديق مهم للغاية، وهو السيد ياريل، وهو بائع كتب ومختص تاريخ طبيعي ممتاز. وهو يذهب معي إلى المتاجر ويساوم في الأسعار (لا يعني هذا أنني قد ابتعت شيئا بعد)؛ حاسبيني إن أنفقت ستين جنيها على المسدسات.
أمس كانت جميع المتاجر مغلقة؛ لذلك لم أستطع أن أفعل أي شيء، وقد تصرفت بقدر كبير من الطفولة حتى إنني دفعت جنيها وشلنا لكي أحصل على مقعد ممتاز لرؤية موكب التتويج، وقد كان جديرا بالرؤية دون شك. لقد كنت مندهشا من أن أي كمية من الذهب قد تجعل صفا من الناس يلتمعون. لقد كان الأمر أشبه بما يراه المرء في الكتب المصورة للمواكب الشرقية. بدا الملك بحال جيدة للغاية، ومحبوبا كذلك، غير أن الحماس كان طفيفا للغاية، حتى إنه لا يسعني سوى أن أفكر أنه لن يكون لدينا تتويج ملكي بعد خمسين عاما.
لقد استمتعت برؤية الحرس الملكي كثيرا؛ فهم رائعون للغاية، ومن الرائع أن تريهم وهم يفرقون الحشود. يعتقد المرء أنهم لا بد سيقتلون عشرين شخصا على الأقل، لكنهم لا يؤذون أي أحد فيما يبدو، وجل ما يفعلونه هو إخافة الناس ليس إلا؛ فمتى تكثف حشد في مكان واحد وكان من الصعب إزاحته عن الطريق، تقدم إلى هذا المكان أحد هؤلاء الرجال الذين يبلغ طول الواحد منهم ستة أقدام، على فرس أسود يأخذ في الصهيل عاليا جدا، ثم يهبط بقائميه في البقعة التي يتجمع بها أكبر عدد من الناس. وإنك ستتخيلين حينئذ أن المادة المصنوع منها البشر هي الإسفنج؛ إذ ترينهم يتضاءلون مبتعدين.
في المساء، كانت ثمة إضاءة أضخم كثيرا من تلك التي كانت موجودة عند الاحتفال المتعلق بقانون إصلاح نظام الانتخاب. وكانت الشوارع الرئيسية كلها مكتظة وكأنها فناء للسباق. وعامة كانت العربات تسير، ست في كل صف، بعضها بجوار بعض، وأكاد أجزم بأنها لا تسير بسرعة ميل في الساعة. لقد تعلم دوق نورثمبرلاند درسا في المرة الماضية؛ لقد كان منزله كبيرا للغاية، وهو أكبر منزل في منازل النبلاء، وكذلك أفضلها ذوقا؛ فقد كانت جميع النوافذ في هذا المنزل تمتلئ بخطوط مستقيمة من الأضواء اللامعة، وقد كان لها تأثير جميل نظرا لعددها وانتظامها الشديد. لقد كانت ندرة الابتكار أمرا لافتا للأنظار؛ فقد تكررت التيجان والمراسي وكذلك الحرفان
W. R.
إلى ما لا نهاية. وأما أجمل شيء، فقد تمثل في أنابيب الغاز التي كانت تحتوي على ثقوب صغيرة؛ فقد كانت تلمع لمعانا شديدا حتى إنه يكاد يصبح مؤلما. لقد كتبت الكثير عن التتويج، لدرجة أنني أظن أنه لن يتسنى لك أن تقرئي جريدة «ذا مورنينج هيرالد».
للمرة الأولى في حياتي تقريبا أجد أن لندن تعجبني بشدة؛ فالعجلة والنشاط والضوضاء، جميعها في تناغم مع مشاعري. ولدي الكثير لأفعله في أوقات فراغي القصيرة؛ إنني أدرس علم الفلك؛ إذ إنني أعتقد أن عدم القدرة على تحديد دوائر العرض وخطوط الطول، سيكون أمرا مفاجئا لأي بحار. سأذهب الآن إلى القبطان فيتزروي، وسأترك [هذا] الخطاب مفتوحا حتى المساء؛ فلربما حدث شيء. سأقدم لك دليلا على كون فيتزروي ضابطا جيدا؛ إن كل ضباطه لم يتغيروا؛ فثلثا طاقمه وثمانية من ضباط البحرية الذين ذهبوا معه قبل ذلك، قد عرضوا عليه الذهاب مجددا؛ لذا لا يمكن أن يكون العمل معه سيئا للغاية. وقد أصدر ديوان البحرية لتوه أوامره بجلب كميات كبيرة من اللحوم المعلبة وعصير الليمون وغير ذلك. لقد عدت لتوي بعد قضاء يوم طويل مع القبطان فيتزروي، إذ قضيناه في التجول بعربته الخفيفة ذات العجلتين والتسوق. إن هذا الخطاب قد أصبح متأخرا للغاية؛ فلا يمكن إرساله في بريد اليوم. يمكنك أن تعتبري أن الأمر قد استقر على ذهابي، إلا أن يتغير أي شيء أو يحدث ظرف خارجي، وهو ما لا أستطيع أن أرى أي سبب لتوقعه. إنني أشعر بالاقتناع بأنه لا شيء سيغير من رغبتي في الذهاب. لقد بدأت في ترتيب الأمور؛ فابتعت مجموعة جيدة من المسدسات المتينة وبندقية ممتازة مقابل خمسين جنيها؛ لقد وفرت في هذه الصفقة، وابتعت تلسكوبا جيدا مع بوصلة مقابل خمسة جنيهات، وذلك هو كل ما سأحتاج إليه تقريبا من الآلات الباهظة الثمن؛ فالقبطان فيتزروي يملك كل شيء. إنني لم أر قط (ما يمكنني أن أدعوه) رجلا مسرفا جدا فيما يخصه، ومقتصدا فيما يخصني، غير أنه ينكر ذلك. لقد رتب الأمور بطريقة مدهشة. إن أسلحته النارية سيبلغ ثمنها أربعمائة جنيه على الأقل. لقد وجدت حقيبة السفر حين وصلت، وقد كانت سليمة وبحال جيدة، وأنا ممتن لذلك كثيرا. أعتقد أنه لا ينبغي أن أتناول الزرنيخ على الإطلاق. سأرسل طيور الحجل إلى السيد ياريل، شكرا جزيلا. اطلبي من إدوارد أن «يتفق» مع كليمسون على أن يصنع لبندقيتي زنادين إضافيين، ونابضين أساسيين، ونابضي حرق، وأربع فونيات أو سدادات؛ أعني واحدا لكل ماسورة، فيما عدا الفونيات؛ اثنتين لكل ماسورة، ويجب أن تكون جودة كل هذه ممتازة، وأخبريه أن يرسلها في الحال، واطلبي من إدوارد أن يسأل عن الأسعار. سأذهب يوم الأحد إلى بليموث في قارب البريد والبضائع، وسأمكث هناك يوما أو يومين، وسأعود بعد ذلك، وآمل أن أجد منك خطابا حينئذ. سأقضي بضعة أيام في لندن، ثم أذهب إلى كامبريدج، ومنها إلى شروزبيري، ثم إلى لندن، ثم بليموث، ثم ماديرا، وذلك هو طريقي. أعرف أن إسهابي في الكتابة عن التتويج أمر ممل للغاية، وقد كان بإمكاني أن أملأ ورقة أخرى. لقد كنت للتو مع القبطان كينج، وهو الضابط الذي كان يرأس فيتزروي في البعثة الماضية، وهو يعتقد أن البعثة ستناسبني. ودون أن أسأله، قال إن مزاج فيتزروي ممتاز، وهو سيرسل معه ابنه بصفته ضابطا بحريا متدربا. لقد نسي مفتاح مجهري، لكن هذا ليس بالأمر الهام. خالص مودتي للجميع.
تشاز داروين
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
17 سبرينج جاردنز (وسوف أبقى هنا إلى أن أنطلق) [19 سبتمبر 1831]
عزيزي فوكس
لقد عدت من رحلتي لرؤية «البيجل» في بليموث، في يوم السبت، ووجدت خطابك الكريم على طاولتي. إنه لأمر غريب للغاية أن يبدو لي العشرون يوما الماضية فترة طويلة للغاية؛ لقد بدت بالفعل أطول كثيرا من أسابيع عديدة في الأحوال المعتادة، وهو ما يفسر نسياني للقدر الذي أخبرتك به من خططي. ...
لكن بوجه عام هذه فرصة عظيمة وطيبة؛ فسوف يكون هناك الكثير من الأشياء التي تثير اهتمامي؛ مثل المناظر الطبيعية الجميلة، والكثير جدا من العمل في مختلف فروع التاريخ الطبيعي والاستمتاع به، وكذلك فإن السفر والجوانب المتعلقة بالأرصاد الجوية، من الأمور التي سأستمتع بها في الرحلة؛ ومع الوضع في الاعتبار الأمر الأساسي المتمثل في أن طاقم الضباط فيها دمث الطباع، يمكنني القول بأن ذلك أمر مؤكد. وعلى الجانب الآخر، ثمة قدر كبير جدا من المخاطرة بحياتي وصحتي، وكذلك الغياب لفترة طويلة جدا عن الأشخاص الذين أحبهم بشدة، يصبح مؤلما للغاية في أغلب الأحيان، حتى إنه يستلزم كل عزمي لأتغلب عليه. بالرغم من ذلك، فقد استقرت الأمور الآن، وقبل حلول العشرين من أكتوبر، أثق في أنني سأكون في عرض البحر. إن اعتراضي على السفينة هو صغر حجمها، وهو ما يقيد المساحة التي سأحصل عليها لشخصي وكل أمتعتي وما إلى ذلك . وأما بالنسبة إلى أمانها، فأعتقد أن ديوان البحرية هو الأكثر دراية وخبرة به؛ فهي تبدو صغيرة للغاية لرجل قليل الخبرة بالبحر. إنها سفينة مسلحة بعشرة مدافع، ولها ثلاثة صوار ذات أشرعة مربعة، لكنني أعتقد أنها سفينة ممتازة. لقد حكيت الكثير عن خططي المستقبلية، والآن سأحكي عن خططي للوقت الحالي. سأذهب هذه الليلة إلى كامبريدج في عربة البريد، وبعد أن أرتب أموري، سأذهب من هناك إلى شروزبيري (سيكون ذلك على الأرجح في الثالث والعشرين الموافق يوم الجمعة أو ربما قبل ذلك) وسأبقى هناك لبضعة أيام، ثم أذهب إلى لندن بحلول الأول من أكتوبر، ثم أنطلق إلى بليموث في التاسع من الشهر نفسه.
أما الآن، فسوف أبدأ في الجزء الأهم من خطابي. إنني لا أدري كيف أعبر لك عما رأيت أنه لطف شديد من جانبك فيما يتعلق بما عرضته علي من المجيء لرؤيتي قبل أن أغادر لندن. سوف أحب ذلك كثيرا بالطبع، لكن علي أن أخبرك بأنه لن يكون لدي سوى قدر ضئيل جدا من وقت الفراغ، وحتى هذا الوقت الضئيل الذي يمكن أن أقضيه معك سيفسده علي غالبا أنه سيكون لدي الكثير جدا من الأمور التي ينبغي أن أفكر فيها، ثم إنني لا أظن أن الأمر يستحق أن تترك أبرشيتك لمثل هذا السبب، لكنني لن أنسى أبدا لطفك وكرمك هذا. والآن، فإنني أعرف أنك سوف تفعل ما ترى أنه الصواب، لكن لا تأتي من أجلي فقط. الوقت كله سواء عندي، وأعتقد أنه بداية من هذا الخطاب، ستعرف خططي بقدر ما أعرفه منها، وسوف تحدد المكان الذي يمكن أن تكتب لي فيه وكذلك الموعد المناسب لذلك. تنتابني بين الحين والآخر لحظات رائعة من الحماس حين أفكر في أشجار البلح والكاكاو والنخيل ونباتات السرخس، وهي جميلة وباسقة للغاية، وكل شيء جديد وينطق بالجلال. ولو أنني عشت لأتأمل بعض السنوات بعد عودتي، فلكم ستكون عظيمة هذه الذكريات! هل تعرف هومبولت؟ (إن لم تكن تعرفه، فتعرف إليه مباشرة.) لكم يبدو عليه السرور الشديد دوما حين يتذكر الأيام التي قضاها في البلاد الاستوائية! في المرة التالية التي تكتب فيها إلى أوزموستون، أتمنى أن تخبرهم بخطتي، وأن تبلغهم خالص تحياتي وأمنياتي بلقائهم على خير.
إلى اللقاء يا عزيزي فوكس
المخلص لك دوما
تشاز داروين
من تشارلز داروين إلى آر فيتزروي
17 سبرينج جاردنز [17 (؟) أكتوبر 1831]
عزيزي فيتزروي
أشكرك شكرا جزيلا على خطابك. لقد بعث في راحة كبيرة؛ إذ كان سيصبح أمرا مؤلما للغاية إن ننس شيئا، وما كان ينبغي لي قط أن أفكر في إرسال الأغراض في سفينة أخرى. أثق في أن هذا الخطاب سيصل مع بعض من مسحوق التلك. لقد قرأت خطابك دون الانتباه إلى الاسم، لكنني الآن قد حصلت على بعضه من جونز، وهو يبدو جيدا للغاية، وسوف أرسله مساء في البريد. سوف تفاجأ من عدم رؤية شخصي ورؤية خط يدي بدلا منه، لكنني قد اكتشفت للتو أن القارب البخاري الكبير لن يبحر يوم الأحد، وقد كنت أتخيل نفسي في مقصورة صغيرة متسخة، مع ما يقرب من تسعة وثلاثين من الركاب أو أربعين منهم، يعانون من مرض شديد، وذلك حين أتى السيد إيرل وأخبرني أن «البيجل» لن تبحر حتى بداية نوفمبر؛ وبالتالي، فعلي أن أقضي أسبوعا آخر في لندن. سوف أرسل الأغراض الثقيلة بالمركبة البخارية، وأنطلق أنا بالعربة مساء يوم الأحد.
ألديك مجموعة جيدة من أجهزة قياس الضغط الجوي للجبال؟ لقد أخبرني العديد من الخبراء الكبار في الأوساط العلمية ببعض النقاط في الجيولوجيا التي علي أن أتأكد منها والتي تتوقف كليا على ارتفاعها النسبي. إذا لم يكن لديك عدد كاف منها، فسوف أضيف واحدا إلى القائمة. يجب أن أخجل من نفسي إذ أحملك هذا العناء، لكن هل لك أن «ترسل خطابا قصيرا» لترد علي في هذا الشأن؟ إنني أزداد تلهفا إلى الانطلاق في كل يوم، وإن كان ذلك هو حالي، فلا بد أنك أكثر مني تلهفا وشوقا. كم سيكون الرابع من نوفمبر يوما رائعا بالنسبة لي! ستبدأ حياتي الثانية حينئذ، وسوف يكون ذلك عيد ميلاد لي بقية حياتي.
خالص الود يا عزيزي فيتزروي
المخلص لك
تشارلز داروين
الاثنين: أتمنى أنني لم أتسبب لك في الكثير من الإزعاج إذ طلبت أن تكون الغرفة جاهزة.
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
ديفنبورت، 15 نوفمبر، 1831
عزيزي هنزلو
لقد صدرت الأوامر من ديوان البحرية بشأن الرحلة، واستقرت الأمور جميعها أخيرا. ومن المؤكد أننا سنبحر في اليوم الأخير من هذا الشهر، وأعتقد أن السفينة ستكون جاهزة قبل حلول هذا الوقت. إنها تبدو جميلة للغاية، ولا يسع المرء، حتى إن كان عديم الخبرة بالبحر، إلا أن يعجب بها. «إننا» جميعا نعتقد أنها أفضل السفن التي أنتجتها الترسانة البحرية. والأمر المؤكد أنها قد صنعت بأثمن الخامات وجهزت بعناية شديدة؛ فكل ما يمكن أن يصنع من خشب الماهوجني، قد صنع به، ولا شيء يمكن أن يفوق أناقة جميع المرافق الخاصة بها وجمالها. إن التعليمات الخاصة بالسفر عامة للغاية، وهي تترك قدرا كبيرا لتقدير القبطان وحكمه على الأمور، وهي تتضمن ثناء جوهريا عليه، وثناء لفظيا أيضا. ...
إنها أول سفينة تغادر إنجلترا، وهي تحمل هذا القدر من أجهزة الكرونومتر، التي يبلغ عددها أربعة وعشرين، والتي جميعها يتميز بجودته العالية. باختصار، إن كل شيء على ما يرام، ولا يتبقى لي سوى أن أدعو بأن تخف حدة المرض قليلا، وسوف أكون بخير حال. بالرغم من ذلك، فلن أقول إنها أفضل فرصة قد حدثت في مجال التاريخ الطبيعي على الإطلاق؛ فضيق المساحة شر لا يمكن أن يعلو عليه شيء. أعتقد أن إل جينينز قد تصرف بحكمة كبيرة بعدم المجيء، وذلك رأيي وفقا لما أشعر به؛ فأنا متيقن من أنني لم أكن لأستطيع تحمل ذلك «أبدا»، لو أنني كنت قد تخرجت من الكلية قبل عدة سنوات أو كنت أكبر من ذلك بسنوات. إن الضباط (فيما عدا القبطان) يبدون كالمبتدئين حديثي العهد في سلوكهم، لكنهم يختلفون عن ذلك كثيرا في أي شيء آخر. أبلغه أرق تحياتي، وأخبره بأنه إن كان يحلم في الليل أحيانا بأشجار النخيل، فيمكنه أن يعزي نفسه في الصباح بأن يؤكد لنفسه أن الرحلة لم تكن لتناسبه.
إنني ممتن جدا لجهدك معي بشأن الرياضيات. أظن أنني حين أواجه صعوبة مع أحد المثلثات، فإنني سأتمنى لو كنت في غرفتك، وأما بالنسبة إلى هذه الجذور الصماء اللعينة الكئيبة، فلست أدري ما كنت سأفعله دون أن تأتي أنت بحل لها. إنني أستمتع كثيرا بقضاء وقتي، وقد تعرفت على عدد من الأشخاص اللطفاء، وألطفهم على الإطلاق هو السيد ثاندر آند لايتنينج هاريس [ويليام سنو هاريس، أخصائي الكهرباء]، الذي يمكنني أن أزعم أنك قد سمعت عنه. إن شاغلي الأهم، هو أن أركب على ظهر «البيجل»، وأن أحاول أن أبدو كبحار قدر الإمكان. وليس لدي دليل عن اصطحاب أي نساء أو أطفال.
سوف أطلب منك مهمة أخرى، وأنا أثق بأنها ستكون الأخيرة. حينما كنت في كامبريدج، أرسلت إلى السيد آش، أطلب منه أن يرسل حساب الكلية الخاص بي إلى أبي بعد خصم ثلاثين جنيها مقابل أثاثي. وقد نسي هو ذلك، ودفع أبي الفاتورة بأكملها وأنا أريد أن ترسل نقود الأثاث إلى أبي. فهل يمكنك أن تتكرم بالتحدث إلى السيد آش؟ لقد كلفت والدي الكثير من النقود، وإنني لأخجل من نفسي.
سوف أكتب إليك مرة أخرى قبل الإبحار، وربما تمكنت أنت أيضا من الكتابة لي قبل ذلك.
أبلغ تحياتي للبروفيسور سيجويك والسيد بيكوك.
خالص مودتي إليك
المخلص المحب
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
ديفنبورت، 3 ديسمبر 1831
عزيزي هنزلو
أكتب إليك في وقت متأخر من المساء، وأنا، الليلة، سأبيت على متن السفينة. سنبحر يوم الاثنين بكل تأكيد؛ لذا يمكنك أن تدرك ما نحن فيه جميعا من ارتباك شديد. لو أنك سمعت ما يتحدث به الضباط من تعجب، لظننت أننا لم نعرف بالأمر إلا منذ أسبوع على أكثر تقدير. إنني «متفاجئ» أيضا مثلهم ولا أدري ما الذي يجب أن أفعله في مثل هذه الجلبة؛ فالأشياء التي يجب فعلها لا تنتهي. إنني أتطلع إلى أي شيء ولو حتى دوار البحر بشيء من الرضا؛ فأي شيء سيكون أفضل من هذه الحالة من القلق. إنني ممتن للغاية لخطابك الأخير وما تبديه فيه من عطف ومودة. إنني أحب أن أطلب منك النصيحة دوما، وإنني لا أجد فيمن حسن حظي بمعرفتهم، من هو أقدر منك على بذلها. تذكر حين تكتب لي أنني تلميذك وأنه من واجبك أن ترشدني.
والآن، سوف أخبرك باتجاهي؛ سوف نتجه أولا إلى ريو، لكن إن كنت سترسل إلي خطابا في أول يوم ثلاثاء (حين تبحر الباخرة) في فبراير موجها إلى مونتي فيديو، فسوف يسرني ذلك كثيرا؛ فسوف أستمتع كثيرا بمعرفة القليل من أخبار كامبريدج. ما أروعك يا جامعتي القديمة العزيزة المسكينة! إنني جدير بأن أكون ابنا لك، حين يتعلق الأمر بالعاطفة. لا يزال لدي القليل لأكتبه ... لا يمكنني أن أنهي هذا الخطاب دون أن أخبرك بمدى امتناني لما أبديته تجاهي من لطف خلال حياتي في كامبريدج؛ إذ يعود الفضل إليك في القدر الأكبر الذي حظيت به منها من السرور والمنفعة. إنني أشتاق للقائنا مجددا، وإلى ذلك الحين، لك مني خالص مودتي يا عزيزي هنزلو.
صديقك المحب والمخلص
تشارلز داروين
أبلغ تحياتي إلى جميع من يهتم لأمري.
الفصل السادس
الرحلة
«ثمة حيوية تتسم بالتلقائية والانطلاق في خطاباته، كما هو الحال فيما يتعلق به تماما.» من خطاب من الدكتور آر دابليو داروين إلى البروفيسور هنزلو. [يصف أبي الهدف من رحلة «البيجل» باختصار في عمله «يوميات الأبحاث»، الصفحة 1، فيقول: «استكمال مسح باتاجونيا وتييرا ديل فويجو، الذي بدأه القبطان كينج منذ عام 1826 حتى عام 1830، وكذلك مسح سواحل تشيلي وبيرو وبعض جزر المحيط الهادئ، وإجراء سلسلة من القياسات حول العالم، باستخدام أجهزة الكرونومتر.»
وتوصف «البيجل» بأنها سفينة صغيرة متينة البنيان تزن 235 طنا، وهي سفينة ثلاثية الصواري بأشرعة مربعة، وتحمل ستة مدافع. لقد كانت تنتمي إلى الفئة القديمة من السفن الثلاثية الصواري التي تحمل عشرة مدافع، والتي كانت تلقب باسم «التوابيت»؛ نظرا لزيادة احتمالية تعرضها للغرق في الظروف الجوية القاسية. وقد كانت «عميقة الخصر»؛ أي إن كثف السفينة العلوي كان مرتفعا بالنسبة إلى حجمها؛ لذا فإن اقتحام البحر للسفينة قد يمثل خطورة كبيرة. بالرغم من ذلك، فقد صمدت على مدى البعثة التي استمرت لخمس سنوات، في أكثر المناطق العاصفة في العالم تحت إشراف القائدين ستوكس وفيتزروي، وذلك دون التعرض لحادثة خطيرة. وحين أعيد تكليفها برحلتها الثانية عام 1831، وجدوا أنها في حالة سيئة للغاية (وذلك كما علمت من الأميرال السير جيمس سوليفان)، وكان لا بد من إعادة بنائها فعليا، وذلك هو سبب التأخير الطويل في إعادة التجهيز. لقد زادوا من ارتفاع السطح العلوي، مما جعلها أكثر أمانا في الأحوال الجوية القاسية، وكذلك جعلوا المرافق والإقامة بالأسفل مريحة بدرجة أكبر. ومن خلال هذه التغييرات، وكذلك مع التصفيح المتين لقاعها، بلغ وزنها نحو 242 طنا. إنه دليل على براعة القبطان فيتزروي وضباطه في الملاحة البحرية، أن عادت السفينة دون أن تفقد أحد صواريها، وكذلك أنها لم تتعرض لخطر عظيم إلا في إحدى العواصف العاتية التي واجهتها.
لقد جهزت للبعثة بكل العناية الممكنة، من تزويدها بالصواري والأحبال المنتقاة بعناية، وستة قوارب، و«زورق»، ومانعات صواعق «وهي التي ابتكرها السيد هاريس وجرى تثبيتها على جميع الصواري والصواري المائلة في مقدمة السفينة، وحتى على الوصلات الملحقة بأذرع صواري المقدمة.» ويمكننا أن نستشهد بوصف أبي لها الذي كتبه في ديفنبورت في 17 نوفمبر عام 1831: «إن الجميع من أهل الرأي يقولون إنها أحد أعظم البعثات التي أرسلت على الإطلاق. كل شيء مجهز على مستوى عظيم؛ أربعة وعشرون من أجهزة الكرونومتر، والسفينة نفسها قد زودت بأجزاء عديدة من خشب الماهوجني، وهي محل إعجاب الجميع بالمكان. باختصار، فإن كل شيء موات بالقدر الذي يمكن أن تسمح به إمكانيات البشر.»
ونظرا لصغر حجم السفينة، فقد كان على جميع من هم على متنها أن يعيشوا في أماكن ضيقة، ويبدو أن المساحة المخصصة لأبي كانت ضيقة بدرجة كبيرة؛ فهو يكتب إلى هنزلو: «إن المساحة المخصصة لي لا تكفي إلا لأن أستدير فحسب.» ويكتب لي الأميرال السير جيمس سوليفان: «إن المكان الضيق الموجود على طرف طاولة الخريطة، كان هو المكان الوحيد بالنسبة له للعمل وارتداء الملابس والنوم، وقد كانت شبكة النوم تترك متدلية بالقرب من رأسه بالنهار، حينما يكون البحر متلاطما؛ فيتسنى له الاستلقاء عليها بكتاب في يده حين لا يعود قادرا على الجلوس عند الطاولة. وقد كان مكانه الوحيد لتخزين الملابس هو بضعة أدراج صغيرة في الركن، كانت تمتد من الأرضية إلى السقف، فقد أزيل الدرج العلوي حين علقت شبكة النوم، التي لم يكن الارتفاع ليكفي لوضعها دون إزالته؛ فحلت الحبال السفلية للشبكة مكان الدرج العلوي. وأما العينات، فقد كان يمتلك لها خزانة صغيرة للغاية أسفل العنبر الأمامي للبحارة.»
بالرغم من ذلك، فقد كتب عن هذه المساحة الضيقة بحماس في 17 سبتمبر 1831 يقول: «حين كتبت آخر مرة، كنت قلقا للغاية بشأن مقصورتي؛ فلم تكن المقصورات قد خصصت لأصحابها حينئذ، لكنها كانت قد خصصت حين غادرت، وقد كانت مقصورتي من أفضلها؛ فهي بالتأكيد ثاني أفضل مقصورة بعد مقصورة القبطان، وهي مضاءة بدرجة كبيرة. وأعتقد أن رفيقي فيها سيكون، لحسن حظي، هو الضابط الذي أعتقد أنني سأحبه كثيرا. يقول القبطان فيتزروي إنه سيحرص على تجهيز ركن فيها بأفضل صورة ممكنة لأشعر فيه بالراحة، ويمكنني أن أعتبر أنه بيتي، غير أنه سيكون مرحبا بي في الجزء الخاص به أيضا. مقصورتي هي مقصورة الرسم، ويوجد في وسطها طاولة كبيرة، ينام كلانا عليها، كل في شبكة نوم. لكن خلال الشهرين الأولين، لن يكون ثمة رسم من المطلوب إنجازه؛ لذا، فإنها ستكون غرفة فاخرة إلى حد ما، وأكبر كثيرا من مقصورة القبطان.»
لقد كان أبي يقول إن الضرورة الحتمية إلى النظام في هذا المكان المكتظ على ظهر «البيجل» هي ما ساعدته على «اكتساب عاداته المنهجية في العمل.» وقد كان يقول أيضا، إنه تعلم على ظهر «البيجل» ما يرى أنه القاعدة الذهبية لتوفير الوقت، وهي: الحرص على الدقائق.
ويخبرني السير جيمس سوليفان أن الخطأ الأكبر في إعداد البعثة، كان هو الحاجة إلى سفينة أخرى أصغر لتكون بمنزلة سفينة تموين. لقد كان القبطان فيتزروي يرى أن هذا الأمر ضروري للغاية، حتى إنه استأجر اثنين من القوارب المغطاة لمسح ساحل باتاجونيا، وذلك بتكلفة 1100 جنيه، وقد اضطر إلى توفير هذا المبلغ من ماله، بالرغم من أن القاربين قد وفرا على البلد عدة آلاف من الجنيهات. وقد اشترى بعد ذلك مركبا شراعيا بصاريين ليكون بمنزلة سفينة تموين؛ ومن ثم فقد وفر على البلد مبلغا أكبر من المال. وفي نهاية الأمر، صدرت إليه الأوامر ببيع هذا المركب، واضطر إلى تحمل الخسارة من ماله، ولم يحدث إلا بعد وفاته أن قدم له تعويض غير مناسب عما تحمله من خسائر في سبيل حماسه.
ونظرا للحاجة إلى سفينة تموين مناسبة، فقد كان لا بد من إنجاز معظم العمل في قوارب صيد صغيرة ومفتوحة، وهي التي كانت ترسل من السفينة لمدة أسابيع متواصلة، وقد كان ذلك في ظروف جوية يتعرض الطاقم فيها إلى صعوبات قاسية من المطر شبه المستمر، وهو الذي كان يستمر أحيانا على مدى أسابيع متواصلة. وقد كان استكمال المعدات، من نواح أخرى، يعود بدرجة كبيرة إلى اهتمام القبطان فيتزروي بالمصلحة العامة. لقد وفر على نفقته الخاصة، حرفيا وصانع معدات ماهرا للاعتناء بأجهزة الكرونومتر. وقد كان القبطان فيتزروي يرغب في دعوة «أحد رجال العلم المثقفين» ليكون في استضافته الخاصة، لكن أحدا لم يلب هذه الدعوة الكريمة سوى والدي بشرط أن يسمح له بدفع مبلغ معقول من تكلفة مائدة القبطان، وقد كان مسجلا أيضا في سجلات الطعام الخاصة بالسفينة.
وفي خطاب إلى أخته (يوليو 1832)، يكتب ليعبر عن رضاه بأسلوب حياته في البحر: «إنني لا أعتقد بأنني قد حكيت لك من قبل عن يومي وكيف أقضيه. إننا نتناول الإفطار في الساعة الثامنة. والقاعدة التي لا تتغير هي أن ننسى جميع سلوكيات التهذيب واللياقة؛ أي ألا ننتظر بعضنا وأن نغادر على الفور حالما ننتهي من تناول الطعام، وما إلى ذلك. وحينما يكون الطقس هادئا في البحر، أعمل على الحيوانات البحرية، التي يمتلئ بها المحيط. وحين يكون البحر هائجا، فإنني أكون مصابا بالدوار أو أحاول أن أقرأ عن بعض السفريات أو الرحلات. وفي الواحدة، نتناول الغداء. من المؤسف أنكم - يا من تذهبون إلى الشواطئ - مخطئون بشأن أسلوب الحياة في السفن. إننا لم نتناول قط (ولن نتناول) لحوما مملحة على الغداء، بل نتناول الأرز والبازلاء والقرع الهندي الغربي، التي هي من الخضروات الممتازة، وذلك مع الخبز الجيد؛ من ذا الذي قد يرغب فيما هو أكثر من ذلك؟ لم يكن للقاضي ألدرسون أن يكون أكثر اعتدالا؛ إذ لا يوضع على الطاولة أي مشروب سوى الماء. في الخامسة، نتناول الشاي. يتناول الضباط المتدربون جميع وجباتهم قبلنا بساعة، ويتناول صغار الضباط وجباتهم بعدنا بساعة.»
كان طاقم سفينة «البيجل» يتألف من القبطان فيتزروي، «القائد والمسئول عن المسح»، واثنين من النقباء؛ النقيب الأول هو الراحل القبطان ويكهام حاكم كوينزلاند، وأما النقيب الثاني فهو الأميرال السير جيمس سوليفان، الحاصل على رتبة القائد الفارس. وإضافة إلى القائد وزميليه، فقد كان هناك أيضا مساعد للمسح، وهو الأميرال لورت ستوكس. وكان هناك أيضا جراح، ومساعد جراح، وضابطان بحريان متدربان، وضابط بحري كبير، ومتطوع (درجة أولى)، ومحاسب، ونجار، وكاتب موظف، ورئيس للبحارة، وثمانية من جنود البحرية، وأربعة وثلاثون بحارا، وستة صبيان.
لا يوجد الآن (عام 1882) الكثير من زملاء أبي القدامى في السفينة ممن لا يزالون على قيد الحياة. ومن الذين ما زالوا أحياء الأميرال مليرش والسيد هاموند والسيد فيليب كينج من المجلس التشريعي لسيدني والسيد أوزبورن. وقد مات الأميرال جونسون في الوقت نفسه الذي مات فيه أبي تقريبا.
لقد ظل يحتفظ حتى النهاية بأجمل الذكريات عن رحلة «البيجل»، وعن الأصدقاء الذين تعرف إليهم على متنها. لقد ألف أبناؤه أسماءهم من كثرة ما سمعوا منه من قصص الرحلة، وقد شعرنا بصداقته للعديد منهم، الذين لم يكونوا لنا سوى أسماء ليس إلا.
ومن بواعث السرور أن نعرف كيف أن أصدقاءه القدامى يتذكرونه بكل ود.
لقد ظل السير جيمس سوليفان أحد الأصدقاء المقربين لوالدي وأكثرهم إخلاصا على مدى حياته، وهو يكتب: «يمكنني أن أقول بكل ثقة بأنه على مدى السنوات الخمس في «البيجل » لم يعرف عنه قط أنه قد خرج عن شعوره، أو قال أي كلمة قاسية أو متعجلة إلى أي شخص أو عنه؛ ولهذا، يمكنك أن تفهم على الفور كيف أن مثل هذا السلوك، إضافة إلى إعجابنا بطاقته وقدراته، قد أدى بنا إلى أن نطلق عليه اسم «الفيلسوف الكبير العزيز».» ويكتب لي الأميرال مليرش قائلا: «ما زلت أرى صورة والدك في عقلي بكل وضوح، كما لو أنني كنت معه في «البيجل» قبل أسبوع فحسب؛ فلا يمكن لأي أحد قد رأى ابتسامته وسمع كلامه الودود أن ينساهما. لقد بعثت مرتين أو ثلاث مرات على قارب معه في بعض جولاته العلمية، وكنت أتطلع دائما إلى هذه الرحلات بسرور كبير، وهي أمنية كانت تتحقق دائما، بخلاف الكثير مما عداها. أعتقد أنه الرجل الوحيد الذي عرفته ولم أسمع كلمة واحدة ضده، وإن قولي ذلك ليس بالهين على الإطلاق؛ إذ يصبح الناس أكثر عرضة للشجار حين يبقون منعزلين في سفينة على مدى خمسة أعوام. لا شك بأننا كنا دائما نجتهد في العمل؛ فما كان لدينا وقت للشجار، لكن حتى وإن كنا قد فعلنا ذلك، فإنني أثق بأن والدك كان سيحاول أن يهدئ الأمور فيما بيننا (وأنه كان سينجح في ذلك).»
ويتحدث الأميرال ستوكس والسيد كينج والسيد أوزبورن والسيد هاموند جميعهم عن صداقتهم مع والدي بهذه الطريقة الودودة نفسها.
وتمنحنا خطاباته فكرة عن حياته على متن السفينة أو على الشواطئ التي كانوا يحلون بها. كان القبطان فيتزروي ضابطا صارما، وقد فرض على الجميع احترامه، سواء أكانوا من الضباط أم من الرجال المدنيين. وقد كانوا يتحملون ما يصدر منه أحيانا من حدة في التعامل؛ إذ كان الجميع يعرفون أن الأولوية لديه للواجب دائما، وأنه كان سيضحي بأي شيء في سبيل المصلحة الحقيقية للسفينة. ويكتب أبي في يوليو من عام 1834: «إننا جميعا نتوافق معا بنحو جيد للغاية؛ فما من شجار على متن السفينة، وهو أمر عظيم. والقبطان يحافظ على سلاسة الأمور؛ إذ لا يوبخ أيا منا إلا على انفراد.» إن أفضل برهان على أن فيتزروي كان قائدا جيدا يتضح في حقيقة أن عددا كبيرا
1
من الطاقم كان قد ذهب معه في رحلة «البيجل» السابقة، وكذلك كان يوجد عدد قليل من الضباط والبحارة وجنود البحرية، ممن قد عملوا على متن سفينة «أدفنتشر» أو «البيجل» خلال هذه البعثة بأكملها.
ويتحدث أبي عن الضباط بصفتهم مجموعة راقية من أولي العزم من الرجال، وهو يتحدث عن النقيب الأول ويكهام تحديدا، بصفته «رجلا جليلا». وإذ كان الأخير مسئولا عن ترتيب السفينة ومظهرها، فقد اعترض بشدة على إلقاء أبي للفضلات على ظهر السفينة، وكان يتحدث عن العينات بصفتها «أغراضا مؤذية ميتة بغيضة»، وكان يضيف: «لو أنني كنت القائد، لأخرجتك أنت وكل قمامتك الميتة من المكان في الحال.»
ثمة هالة من القداسة كانت تحيط بأبي لتناوله الطعام في مقصورة القبطان؛ لذا فقد كان الضباط المتدربون يتعاملون معه بطريقة رسمية في البداية ويخاطبونه ب «سيدي»، لكن هذا لم يحل دون تكوينه بسرعة لصداقات مع الضباط الأصغر سنا. لقد كتب تقريبا في عام 1861 أو عام 1862 إلى السيد بي جي كينج، عضو المجلس التشريعي لسيدني، والذي كان ضابط صف بحريا على متن «البيجل»، كما ذكرنا سابقا: «إن ذكرى الأيام الخوالي حينما كنا نجلس على عوارض صواري «البيجل» ونتحدث، ستجعلني دائما وحتى وفاتي، أشعر بالسعادة عندما أسمع بأخبار سعادتك وتقدمك في الحياة.» ويصف السيد كينج ما كان يبدو على أبي من استمتاع: «إذ يوضح لي، بصفتي شابا صغيرا، متعة الليالي الاستوائية ونسيمها المنعش الذي يحرك أشرعة السفينة من فوقنا، بينما يضيء البحر لمرور السفينة عبر ذلك التيار اللانهائي من الكائنات المجهرية ذات الوميض الفوسفوري.»
لقد كان يعتقد أن السبب في اعتلال صحته في السنوات الأخيرة يعود إلى ما عاناه كثيرا من دوار البحر، لكنه هو نفسه لم يكن يعتقد بصحة ذلك، وإنما كان يعزو السبب في اعتلال صحته إلى العيب الوراثي المتمثل في النقرس الذي ظهر في بعض الأجيال السابقة. ولست متأكدا تماما من مدى معاناته الفعلية من دوار البحر؛ فانطباعي الواضح أنه، وفقا لذاكرته، لم يعد يعاني من الدوار بعد الأسابيع الثلاثة الأولى، لكنه كان يشعر بعدم الارتياح باستمرار حين كانت السفينة ترتج بشدة. بالرغم من ذلك، يبدو لنا من خطاباته ومن شهادة بعض الضباط، أنه قد نسي في السنوات اللاحقة، مقدار ما كان يشعر به من تعب. إنه يكتب في 3 يونيو عام 1836 من رأس الرجاء الصالح ويقول: «إنه لمن حسن حظي أن الرحلة قد أوشكت أن تنتهي؛ إذ إنني قد أصبحت أعاني من دوار البحر الآن، بدرجة أكبر مما كنت أعاني منه قبل ثلاث سنوات.» وقد كتب الأميرال لورت ستوكس إلى جريدة «ذا تايمز» في 25 أبريل 1883:
هل لي أن أدلي بشهادتي المتواضعة عن التحمل والمثابرة المذهلين اللذين أبداهما في سبيل العلم عالم التاريخ الطبيعي العظيم هذا، صديقي القديم والفقيد السيد تشارلز داروين، الذي يجدر ببقاياه أن تكرم بدفنها في ويستمينستر آبي؟
ربما أكون أنا أفضل من يمكنه الإدلاء بشهادته عن تلك الجهود الأولى المضنية التي بذلها. لقد عملنا معا على مدى عدة أعوام على الطاولة نفسها في مقصورة الرسم في الجزء الخلفي لسفينة «البيجل» خلال رحلتها الشهيرة، فكان هو يفحص ما يوجد تحت مجهره، وأدرس أنا خرائطي. وغالبا ما كان هذا مكانا رائعا في تلك السفينة الصغيرة، لكنه كان مزعجا للغاية لصديقي القديم الذي كان يعاني بشدة من دوار البحر؛ فبعد ساعة من العمل تقريبا، كان يقول لي: «صديقي العزيز، لا بد لي أن أتخذ الوضع الأفقي.» فقد كان ذلك هو أفضل الأوضاع التي توفر الراحة للشخص من حركة السفينة. وحين كان يمدد جسمه على أحد جوانب الطاولة لبعض الوقت، كان يتمكن من مواصلة عمله لفترة من الوقت، ثم يكون عليه الاستلقاء مجددا.
لقد كان من المحزن أن أشهد هذه التضحية المبكرة بصحة السيد داروين، الذي ظل بعد ذلك يعاني من آثار المرض التي خلفتها رحلة «البيجل».
ويكتب السيد إيه بي أوزبورن: «لقد كان يعاني بشدة من دوار البحر، وفي بعض الأحيان عندما كان يحين دوري في المناوبة، كنت أخفض الأشرعة، مما يجعل حركة السفينة أكثر بطئا، ويخفف من حدة معاناته، كان يشهد لي بأنني «ضابط جيد»، ثم يتابع ملاحظاته المجهرية في مقصورة الرسم.» إن حجم العمل الذي أنجزه في رحلة «البيجل» يدل على أنه كان يتمتع في أغلب الأحيان بكامل نشاطه؛ غير أنه أصيب بمرض خطير في أمريكا الجنوبية، حين استضيف في منزل السيد كورفيلد، وهو رجل إنجليزي قد اعتنى به بكل رعاية وعطف. وقد سمعته يقول إن جميع إفرازات جسمه قد تأثرت في هذه النوبة المرضية، وحين وصف الأعراض إلى والده الدكتور داروين، لم يستطع أن يتوصل إلى طبيعة المرض. وقد كان أبي أحيانا يميل للاعتقاد بأن السبب في تدهور صحته يعود إلى هذه النوبة المرضية بدرجة ما.
إن خطابات رحلة «البيجل» تقدم دليلا كافيا على حب أبي القوي لبيته وجميع ما يتصل به، بداية من والده ووصولا إلى نانسي، مربيته القديمة التي كان يرسل لها تحياته أحيانا.
ويتضح سروره بكتابة خطابات إلى المنزل في بعض الفقرات مثل: «فقط لو أنكم تعرفون ما شعرت به من سرور شديد لا يمكن وصفه، حين عرفت بأن أبي وأنتم جميعا بخير، قبل أربعة شهور فقط، لما بخلتم بهذا الجهد المبذول في الحفاظ على التتابع المنتظم لسلسلة الخطابات فيما بيننا.»
ويتضح أيضا شوقه للعودة في كلمات مثل: «إنه لمن المبهج أيضا أن أفكر في أنني سأشهد سقوط أوراق الشجر وأستمع إلى غناء أبي الحناء في شروزبيري في الخريف القادم. إنني أشعر تماما وكأنني صبي بالمدرسة، وإنني لأشك فيما إن كان أي صبي قد اشتاق إلى عطلاته على الإطلاق بقدر شوقي إلى رؤيتكم جميعا مجددا. لقد بدأت الآن، بالرغم من أن نصف العالم يفصل بيني وبين بيتي، في التخطيط للأمور التي سأفعلها والأماكن التي سأزورها خلال الأسبوع الأول من عودتي.»
ومن السمات الأخرى التي تتضح في خطاباته، دهشته وابتهاجه حين يسمع بأن مجموعاته وملاحظاته قد أتت ببعض النفع. يبدو أنه لم يبدأ في الاعتقاد إلا تدريجيا بأنه سيكون أكبر كثيرا من مجرد جامع للعينات والحقائق التي سيستخدمها العظماء من رجال العلم. إضافة إلى ذلك، يبدو أنه كانت لديه الكثير من الشكوك بشأن قيمة مجموعاته؛ فهو يكتب إلى هنزلو عام 1834: «لقد بدأت أعتقد بالفعل أن مجموعاتي رديئة للغاية حتى إنك لم تدر ما تقوله بشأنها؛ لقد أصبحت الأمور الآن في الاتجاه المعاكس تماما؛ فأنت مذنب لإثارتك جميع مشاعر الخيلاء لدي إلى أقصى درجة؛ فإذا كان العمل الجاد سيكفر عن مثل هذه الأفكار، فإنني أتعهد بألا أبخل به.»
بعد عودته إلى لندن واستقراره بها، بدأ يدرك قيمة ما أنجزه، وكتب إلى القبطان فيتزروي: «مهما كانت الطريقة التي يتذكر بها الآخرون رحلة «البيجل»، فالآن بعد أن انقشعت الأجزاء الصغيرة المزعجة من الذاكرة تقريبا، أرى أن «الحادثة الأفضل في حياتي على الإطلاق» هي الفرصة التي وفرها لي عرضك باصطحابي كرفيق ومختص بالتاريخ الطبيعي. إنني كثيرا ما أرى صورا مبهجة وواضحة للغاية، لما رأيته على متن «البيجل»، تمر أمام عيني. وإنني لن أتنازل عن هذه الذكريات وما تعلمته في التاريخ الطبيعي، مقابل عشرين ألفا في العام.»
وفي اختياري للمجموعة التالية من الخطابات، كنت مدفوعا بالرغبة في تقديم أكبر قدر ممكن من التفاصيل الشخصية؛ فلم أورد سوى عدد قليل من الخطابات العلمية لتوضيح طريقته في العمل، وكذلك رأيه في النتائج التي حققها. وفي عمله «يوميات الأبحاث»، يقدم هو بنحو عارض نبذة عن طبيعته الشخصية، وسوف تساعد الخطابات الواردة في هذا الفصل على توضيح الانطباع الذي تولد عن شخصيته لدى الكثير من قراء هذا العمل.]
من تشارلز داروين إلى آر دابليو داروين
باهيا، أو سان سلفادور، البرازيل [8 فبراير 1832]
لقد اكتشفت بعد كتابة الصفحة الأولى أنني كنت أكتب إلى أخواتي
أبي العزيز
إنني أكتب لكن هذا الخطاب في الثامن من فبراير، بعد يوم من إبحارنا من سانت جاجو (الرأس الأخضر)، وأنا أنوي أن أستغل فرصة الالتقاء بأي باخرة متجهة إلى الوطن، وذلك بالقرب من خط الاستواء. أما تاريخ ذلك، فسوف يتحدد حين تأتي الفرصة. سأبدأ الآن في سرد مختصر لتقدمنا في الرحلة منذ يوم مغادرتنا لإنجلترا. لقد أبحرنا، كما تعرفن، في السابع والعشرين من ديسمبر، ومن حسن حظنا أننا ننعم منذ هذا الوقت وحتى الآن بنسيم لطيف ومعتدل. وقد ثبت بعد ذلك أننا قد أفلتنا من ريح عاصفة شديدة في القناة الإنجليزية، وأخرى في ماديرا، وثالثة عند ساحل أفريقيا. وبالرغم من أننا قد أفلتنا من تلك الريح العاصفة، فقد شعرنا بعواقبها والمتمثلة في بحر متلاطم الأمواج. في خليج بيسكاي، طغى البحر بالأمواج، وقد كان ما تحملته من ألم بسبب دوار البحر، يفوق كل ما تصورته على الإطلاق. أعتقد أنكن تتطلعن إلى معرفة ذلك؛ ولسوف أخبركن بتجربتي القاسية في هذا الشأن. ليس لأحد لم يقض في البحر سوى أربع وعشرين ساعة أن يزعم أن دوار البحر غير مريح؛ فالمعاناة الفعلية لا تبدأ إلا بعد أن تصبح مستنزف القوى جدا بحيث تشعر بالإغماء من أقل مجهود. ولم أجد شيئا يجديني نفعا سوى الاستلقاء على شبكة النوم. لا بد لي أن أستثني وصفتكن لتناول الزبيب على وجه التحديد؛ فهو الطعام الوحيد الذي تتحمله المعدة في تلك الظروف.
في الرابع من يناير، لم نكن نبعد عن ماديرا سوى عدد قليل من الأميال، لكن لما كان البحر متلاطم الأمواج، وكانت الجزيرة تقع باتجاه الريح، فقد رأينا أن الإسراع إليها ليس بالفكرة السديدة. وقد اتضح بعد ذلك أنه من حسن حظنا أننا جنبنا أنفسنا عناء المحاولة. وقد كنت أشعر بدوار شديد للغاية حتى إنني لم أستطع القيام لرؤية الأفق البعيد. وفي مساء السادس من يناير، أبحرنا إلى ميناء سانتا كروز، وحينها فقط، شعرت لأول مرة بتحسن طفيف، وظللت أصور لنفسي بهجة نمو الفواكه الطازجة في الوديان الجميلة، بينما أقرأ وصف هومبولت لمناظر الجزيرة الرائعة، حتى أخبرنا رجل شاحب ضئيل الحجم بأن علينا تنفيذ الحجر الصحي الصارم لمدة اثني عشر يوما، ويمكنكن أن تتخيلن إحساسنا بخيبة الأمل حينئذ. ساد السفينة صمت كالموت إلى أن صاح القبطان: «ارفعوا شراع السارية الأمامية.» وغادرنا هذا المكان الذي تمنينا زيارته لفترة طويلة.
لقد توقفنا لقلة الريح لمدة يوم بين تينيريف وجزيرة جراند كناري، وكانت تلك هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالاستمتاع. كان المنظر رائعا؛ فقد كانت أعلى قمة جبلية في تينيريف تبدو وسط السحب وكأنها من عالم آخر. لقد كان مصدر حزننا الوحيد هو رغبتنا الشديدة في زيارة هذه الجزيرة الرائعة. «أخبرن إيتون ألا ينسى زيارة جزر الكناري ولا أمريكا الجنوبية»؛ فأنا متأكد من أن ذلك سيعوضه عن أي مشقة قد تكون ضرورية، لكن عليه أن يحسم أمره بحيث يرى قدرا جيدا من الأخيرة. إنني متأكد بأنه سيندم إن لم يحاول. وقد كانت الرحلة من تينيريف إلى سانت جاجو لطيفة للغاية. وقد وضعت شبكة في مؤخرة السفينة؛ فأمسكت بها عددا كبيرا من الحيوانات الغريبة، وقد شغل ذلك جميع وقتي في مقصورتي. وعلى ظهر السفينة، كان الطقس مبهجا وصافيا، حتى إن السماء والماء كونا معا صورة رائعة. وفي السادس عشر من الشهر نفسه، وصلنا إلى بورت برايا، عاصمة الرأس الأخضر، ومكثنا هناك لمدة ثلاثة وعشرين يوما؛ أي حتى أمس السابع من فبراير. لقد مضى الوقت سريعا وكان رائعا للغاية، والواقع أنه لا يمكن لشيء أن يكون أروع من ذلك؛ أن يكون المرء منشغلا بالعمل للغاية، وأن يكون هذا العمل واجبا ومصدرا كبيرا للسرور في الوقت نفسه. إنني لا أعتقد أنني قد أمضيت نصف ساعة من الراحة منذ أن غادرنا تينيريف. لقد جادت لي سانت جاجو بحصاد وفير للغاية في العديد من فروع التاريخ الطبيعي. وإنني أجد أن الأوصاف تكاد لا تقترب على الإطلاق من تلك الخاصة بالعديد من الحيوانات الأكثر شيوعا في المناطق الاستوائية. أنا أشير بالطبع إلى الحيوانات التي تنتمي إلى الرتب الأدنى.
إن الاستكشاف الجيولوجي في منطقة بركانية لهو أمر رائع للغاية؛ فبجانب المتعة المتأصلة فيه، هو يقودك إلى أجمل البقاع وأكثرها انعزالا. لا يمكن لأحد غير مولع بالتاريخ الطبيعي أن يتخيل السرور في التجول تحت أشجار جوز الهند وبين أحراج الموز وشجيرات القهوة، وأعداد هائلة من الزهور البرية . وهذه الجزيرة التي منحتني هذا القدر الكبير من التثقيف والسرور، يفترض أنها المكان الأقل أهمية وإثارة من بين جميع الأماكن التي سنحل بها خلال هذه الرحلة. لا شك في أنها قاحلة للغاية في المجمل، لكن الوديان، على العكس من ذلك تماما، آية في الجمال. من العبث أن أحاول وصف المنظر؛ إذ إن محاولة توضيح الاختلاف التام في المناظر الطبيعية بين أوروبا والمناطق الاستوائية لشخص لم يخرج من أوروبا قط، لن تجدي بأكثر مما يجدي المرء أن يصف الألوان لرجل كفيف. وكلما استمتعت بشيء، هممت بتدوينه إما في دفتري (الذي يزداد حجما) أو في خطاب؛ لذا عليك أن تعذرني في تعبيري عن جذلي، وتعذرني أيضا عندما أعبر عنه على نحو سيئ. إن مجموعتي تزداد بدرجة مدهشة، وأعتقد أنني سأضطر إلى إرسال شحنة إلى المنزل من ريو.
لقد اتضح أن جميع التأخيرات اللانهائية التي مررنا بها في بليموث قد كانت في صالحنا؛ إذ إنني أوقن تماما أن أحدا لم يذهب لجمع الملاحظات والعينات في مختلف فروع التاريخ الطبيعي، بحال أفضل من الموارد أو التجهيزات. لقد جنيت نفعا ولا شك من وجود هذا العدد الكبير من المستشارين. وقد أدهشني كثيرا إذ وجدت أن السفينة ملائمة بدرجة استثنائية لجميع أنواع العمل؛ فكل شيء في المتناول، وضيق المكان يجعل المرء منظما للغاية؛ لذا، فأنا الرابح في نهاية الأمر. لقد أصبحت أنظر إلى العودة إلى البحر كأنني أعود إلى مكان هادئ مألوف؛ وكأنني أعود إلى البيت بعد الابتعاد عنه لفترة من الوقت؛ باختصار، إنني أجد السفينة منزلا مريحا جدا به جميع ما يحتاج إليه المرء، ولولا دوار البحر، لأصبح جميع من في العالم بحارين. ولست أرى خطرا في أن يبدأ إيرازموس هذا الطريق، لكن تحسبا للأمر، فليثق بأنه لا يعرف معشار حجم المعاناة بسبب دوار البحر.
لقد أصبحت أحب الضباط أكثر مما كنت أحبهم في البداية، لا سيما ويكهام، وكينج الصغير وستوكس، وجميع الضباط بالتأكيد. لم يزل القبطان ودودا للغاية، وهو يبذل كل ما في وسعه لمساعدتي. إننا لا نلتقي إلا قليلا جدا ونحن في الموانئ؛ إذ إن مساعينا تذهب بكل منا في اتجاه مختلف. إنني لم ألتق في حياتي رجلا يمكنه تحمل هذا القدر العظيم من الإجهاد؛ فهو يعمل بلا توقف، وحين يبدو أنه لا يعمل، فهو يفكر. إن نجا من هذه الرحلة، فسوف يكون قد أنجز قدرا هائلا من العمل فيها. أشعر بأنني بخير وأنني أستطيع تحمل الارتفاع الطفيف في درجات الحرارة، بمقدار ما يفعل الجميع حتى الآن. قريبا، سيبدأ الجد؛ فها نحن نبحر باتجاه فرناندو نورونيا، بالقرب من ساحل البرازيل، ولن نبقى طويلا هناك، ثم سنبدأ في دراسة المياه الضحلة بينها وبين ريو، التي ربما تمتد حتى باهيا. سوف أنهي هذا الخطاب حينما تسنح الفرصة بإرساله.
السادس والعشرون من فبراير:
نحن على بعد 280 ميلا من باهيا تقريبا. وفي العاشر من فبراير، تواصلنا مع الباخرة «لايرا» التي كانت في رحلتها إلى ريو. وقد أرسلت عن طريقها خطابا قصيرا لكي يرسل إلى إنجلترا في أول فرصة. لقد تعثر حظنا بنحو استثنائي في مقابلة أي سفينة تتجه إلى الوطن، لكنني أعتقد أننا سنتمكن من إرسال خطابات إلى إنجلترا حينما نصل إلى باهيا بالتأكيد. لم يحدث شيء منذ أن بدأت في كتابة الجزء الأول من [هذا] الخطاب فيما عدا أننا قد عبرنا خط الاستواء، وأنني قد حلقت ذقني. وتتألف هذه العملية الكريهة من مسح الوجه بالطلاء والقار الذي يكون رغوة ليكشطها منشار والذي هو بديل الشفرة، ثم الغمر حتى المنتصف في الماء المالح. وعلى بعد نحو خمسين ميلا شمال الخط، لامسنا صخور سان بول، ولم يحل أحد بهذه البقعة الصغيرة (التي يبلغ عرضها ربع ميل تقريبا) والتي تقع في المحيط الأطلنطي إلا نادرا. إنها قاحلة تماما، غير أنها تغطيها أسراب الطيور، ولم تكن هذه الطيور معتادة على البشر إطلاقا، حتى إننا وجدنا أنه بإمكاننا قتل الكثير منها بالعصي والحجارة فحسب. وبعد أن مكثنا في الجزيرة لبضع ساعات، عدنا إلى متن السفينة على القارب المحمل بفرائسنا. ومن هناك ، ذهبنا إلى فرناندو نورونيا، وهي جزيرة صغيرة يرسل [البرازيليون] المحكوم عليهم بالنفي إليها. رسونا هناك بصعوبة كبيرة، وذلك بسبب الأمواج العاتية، وهذا ما جعل القبطان يصر على الإبحار في اليوم التالي بعد الوصول. لقد كان اليوم الوحيد الذي قضيته على الشاطئ هناك مثيرا للغاية، والجزيرة كلها غابة واحدة تتشابك فيها النباتات المتسلقة بعضها ببعض، حتى إنه ليصعب الابتعاد عن الطريق الممهد. إنني أجد جوانب التاريخ الطبيعي في جميع هذه البقاع المهجورة غاية في الإثارة، لا سيما الطبيعة الجيولوجية. لقد كتبت كل هذا القدر من أجل توفير الوقت في باهيا.
إن أكثر ما يثير الانتباه بشأن المناطق الاستوائية بكل تأكيد، هو نضارة الأشكال النباتية فيها. يمكنك أن تتخيل أشجار جوز الهند جيدا من الرسومات، إن أضفت إليها ذلك الإشراق البهي والذي لا تجده في أي من الأشجار الأوروبية. أما أشجار الموز وأشجار موز الجنة، فهي تشبه تلك التي تنمو في الصوب الدافئة تماما، وأما أشجار السنط أو التمر الهندي، فهي تتميز بأوراقها الزرقاء، وأما أشجار البرتقال الرائعة، فلا يمكن لأي وصف أو رسم أن يعطي أي فكرة دقيقة عن شكلها؛ فبدلا من تلك الخضرة السقيمة التي نراها في أشجار البرتقال لدينا، فإن أشجار البرتقال هنا داكنة أكثر من أشجار الخوخ البرتغالي، وهي أكثر منها جمالا في الشكل بدرجة لا توصف. وأشجار جوز الهند والباباو وأشجار الموز الفاتحة الخضرة وأشجار البرتقال، المحملة بالفاكهة، تحيط بالقرى التي هي أكثر غنى ووفرة. وعند رؤية مثل هذه المناظر، يشعر المرء باستحالة أن يقترب أي وصف من توضيح المشهد، وليس المبالغة في وصفه بالطبع.
الأول من مارس:
باهيا أو سان سلفادور. لقد وصلت إلى هذا المكان في الثامن والعشرين من فبراير، والآن أكتب هذا الخطاب بعد أن رحت أتجول بعزم حقيقي في غابات العالم الجديد. لا يمكن لأحد أن يتخيل أي شيء في جمال مدينة باهيا القديمة؛ إذ تحيط بها غابة زاخرة بالأشجار الجميلة، وهي توجد على ضفة منحدرة وتطل على المياه الهادئة لخليج أول سينتس العظيم. المنازل بيضاء وعالية، وذات نوافذ طويلة وضيقة مما يمنحها مظهرا رقيقا وأنيقا. أما الأديرة والأروقة والمباني العامة، فهي تختلف عن ذلك الطراز الموحد للمنازل، وتتناثر السفن الكبيرة في الخليج. ماذا يمكن أن يقال أكثر من ذلك! إنها باختصار، أحد أجمل الأماكن في البرازيل. غير أن ذلك الشعور الاستثنائي الرائع بالسعادة والذي ينبع من السير بين هذه الزهور والأشجار، لا يمكن أن يستوعبه من لم يختبره. وبالرغم من أن درجة الحرارة في المناطق القريبة من خط الاستواء لا تكون مرتفعة بدرجة مزعجة، فالجو رطب للغاية في الوقت الحالي؛ إذ إنه موسم المطر. إنني أجد أن الطقس يلائمني بدرجة رائعة حتى الآن، وهو يجعلني أتوق إلى العيش بهدوء لبعض الوقت في بلد كهذا. إذا كنتن تردن حقا أن تكون فكرة عن البلدان
العلمية وابدأن بعد مغادرته تينيريف. إن إعجابي به يزداد كلما قرأت له. أخبرن إيتون (ها أنا أكتشف أنني أكتب إلى أخواتي!) أنني أستمتع بأمريكا للغاية، وبأنها ستكون خسارة عظيمة إن لم يقم بأي خطوة فيما يتعلق بزيارتها.
سأبعث بهذا الخطاب في اليوم الخامس من الشهر، وأعتقد أنه سيستغرق بعض الوقت إلى أن يصل إليكم، ولا بد من التذكير بأنه في بعض أنحاء العالم قد تطول المدة بدون وصول الخطابات؛ فقد يحدث أن يمر عام على هذه الحال. في الثاني عشر من الشهر تقريبا، سنبحر متجهين إلى ريو، لكننا سنبقى لبعض الوقت في الطريق لسبر أعماق المياه الضحلة في أبرولوس. أخبر إيتون بأنه وفقا لتجربتي، أعتقد أن عليه أن يدرس الإسبانية والفرنسية والرسم وكتاب هومبولت. إنني حقا أتمنى لو أسمع بأنه في أمريكا الجنوبية، وذلك إن لم أستطع أن أراه فيها. إنني أتطلع إلى تسلم الخطابات في ريو، وإلى أن يجرى تسلمها جميعا، فاذكر تاريخ كل منها في الخطاب الذي يليه.
لقد تفوقنا على جميع السفن في المناورة تفوقا عظيما، حتى إن القائد يقول بأنه ليس علينا أن نتبع مثاله؛ إذ إننا نقوم بكل شيء أفضل من سفينته العظيمة. لقد بدأت أهتم اهتماما كبيرا بالنقاط البحرية، وقد ازداد هذا الاهتمام الآن على وجه التحديد؛ إذ أجد أنهم جميعا يقولون إننا في النقطة الأولى بأمريكا الجنوبية. أعتقد أن القبطان هو أبرع الضباط على الإطلاق. لكم كان الأمر رائعا حين تغلبنا اليوم على «سامارانج» في لف الأشرعة! إنه لأمر جديد أن تتغلب «سفينة مسحية» على سفينة حربية معتادة الإبحار، غير أن «البيجل» ليست سفينة مميزة على الإطلاق. سيتخيل إيرازموس الصورة بوضوح حين يعرف بأنني قد جلست ليلا بالفعل على ذلك الحرم المقدس؛ مؤخرة سطح السفينة. فلتعذرني على هذه الخطابات الغريبة، ولتتذكر أنني قد كنت أكتبها عادة في المساء بعد يوم من العمل. إنني أبذل قصارى جهدي في الكتابة في دفتر اليوميات حتى يكون لديكم في نهاية المطاف وصف جيد لجميع الأماكن التي زرتها. إن الرحلة تلائمني «بنحو رائع» حتى الآن، لكنني قد أصبحت الآن متفهما أكثر لحكمتك في عدم تحمسك للأمر بأكمله؛ فكثيرة هي احتمالات انقلاب الأمور إلى النقيض تماما، وإلى الحد الذي يجعلني أشعر بأنه إن كان أحد يطلب نصيحتي بشأن أمر مشابه لهذا، فإنه يجدر بي أن أكون حذرا للغاية في تشجيعه. ليس لدي وقت كي أكتب إلى أي شخص آخر؛ فلترسل إلى مير وأخبرهم بأنني، في خضم هذه الطبيعة الاستوائية الرائعة، لا أنسى دورهم الكبير في مجيئي إلى هنا. لن أعبر عن جذلي ثانية، لكنني سأعطي نفسي قدرها؛ إذ لم يذهب عقلي بعد من البهجة الخالصة التي أجدها هنا.
أبلغ جميع من في البيت، وآل أوين كذلك، محبتي لهم.
أعتقد أن عواطف المرء، كجميع الأشياء الطيبة، تنمو وتزدهر في هذه المناطق الاستوائية.
إن الاعتقاد بأنني أتجول في «العالم الجديد» يزيد من روعة الأمر بالنسبة لي، ويمكنني أن أقول إن تسلم خطاب من ابنك وهو في هذه البقعة من العالم، لهو أقل روعة بدرجة طفيفة بالنسبة إليك.
خالص مودتي إليك يا أبي
ابنك المحب
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
خليج بوتوفوجو، بالقرب من ريو دي جانيرو
مايو 1832
عزيزي فوكس
لقد أجلت الكتابة إليك وإلى جميع أصدقائي الآخرين إلى أن أصل إلى هنا ويكون لدي القليل من وقت الفراغ. منذ أن غادرت إنجلترا، وقد هب بذهني «إعصار» مثالي من البهجة والدهشة، وإلى هذه الساعة، لم أقض دقيقة واحدة من الفراغ إلا نادرا ...
في سانت جاجو، بدأ عملي في التاريخ الطبيعي ومهامي الممتعة. وعلى مدى الأسابيع الثلاثة، جمعت الكثير من الحيوانات البحرية واستمتعت بالكثير من الجولات الجيولوجية الجيدة. أبحرنا إلى باهيا بعد مرورنا ببعض الجزر، ثم توجهنا منها إلى ريو، والتي أمكث فيها منذ بضعة أسابيع. العينات التي أجمعها تزداد بنحو رائع في جميع الفروع تقريبا. بالنسبة إلى الحشرات، أثق في أنني سأرسل مجموعة من الحشرات التي لم تصنف بعد إلى إنجلترا. إنني أوقن أنه لا يوجد لديهم حشرات صغيرة في مجموعاتهم، لكنني قد جمعت هذا الصباح خنافس صغيرة للغاية من أنواع هايدروبوري
Hydropori
ونوتيريس
Noterus
وكوليمبتيس
Colymbetes
وهيدروفيليس
Hydrophilus
وهيدروبيس
Hydrobius
وجروميس
Gromius
باعتبارها عينات من الخنافس التي تعيش في المياه العذبة. إنني منهمك تماما في العمل على حيوانات اليابسة؛ إذ إن الشاطئ رمل فحسب. أعتقد أن أكثر ما استمتعت به هو العناكب والأنواع القريبة منها، وربما كان ذلك بسبب حداثتها. وأعتقد أنني جمعت بالفعل العديد من الأجناس الجديدة.
لكن العمل الجيولوجي هو الذي يسود المشهد؛ إن الأمر يشبه متعة المقامرة. حين أبدأ في تخمين نوع الصخور في بداية وصولي، غالبا ما أقول في نفسي بأنها ثالثية إلى أولية بنسبة واحد إلى ثلاثة، لكن النوع الأخير هو الذي فاز بجميع الرهانات حتى الآن. يكفي حديثا عن النتائج العظيمة لرحلتي، لكن الأمور تسير بأفضل حال في نواح أخرى كذلك. حياتي في البحر هادئة للغاية، وما أجمل من ذلك بالنسبة لشخص يستطيع أن يشغل نفسه؛ فجمال السماء وتلألؤ المحيط يرسمان معا صورة بديعة. أما حين أكون على الشاطئ متجولا في الغابات الرائعة، وتحيط بي المناظر الطبيعية التي هي أكثر روعة مما كان يمكن للرسام كلود أن يتخيل على الإطلاق ، فإنني أشعر ببهجة لا يمكن أن يفهمها إلا من اختبرها. وإن كان لا بد من فهمها، فلن يكون ذلك إلا بدراسة كتاب هومبولت. في لقاءاتنا القديمة الدافئة على الإفطار في كامبريدج، ما كنت لأفكر بأن المحيط الأطلنطي الشاسع سيفصل بيننا، غير أنها ميزة نادرة ننعم بها وهي أن المشاعر والذكريات لا تنفصل بانفصال الأجساد؛ فعلى النقيض من ذلك، فإن أجمل المناظر التي رأيتها في حياتي، والتي كان العديد منها في كامبريدج، تطرأ على مخيلتي بوضوح كبير، وذلك لتناقضها مع الحاضر. أتظن أن أي خنفساء ماسية ستمنحني من البهجة ما منحتني إياه صديقتنا القديمة خنفساء الصليب الأرضية؟ ... إن أحد مصادر المتعة الدائمة بالنسبة لي هي أن أستدعي صورا من الماضي، وفي معظم الأحوال، أراك فيها أنت وفان الصغيرة المسكينة. يا إلهي، وداش العجوز أيضا، يا له من مسكين! أتذكر كيف أنكم جميعا كنتم تحسدونني بسبب ذيله الجميل؟ ... عندما تجمع الحشرات من أسيجة الزعرور في يوم صحو من شهر مايو (سيكون الطقس قارس البرودة بلا ريب)، فلتفكر بأنني أجمع الحشرات بين أشجار الأناناس والبرتقال، وحين تتلطخ يدك بتوت العليق الأسود القذر، فتخيل ثمار البرتقال الناضجة وأنا أقطفها واحسدني على ذلك. إن ذلك تبجح كبير مني؛ إذ إنني يمكن أن أسير أميالا كثيرة في المطر الثلجي أو الثلج أو المطر، فقط لأصافحك. فليباركك الرب يا عزيزي الغالي فوكس. خالص مودتي إليك.
صديقك المخلص
تشاز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
ريو دي جانيرو، 18 مايو 1832
عزيزي هنزلو ...
حتى وصولنا إلى تينيريف (إذ لم نرس في ماديرا)، لم أنهض عن شبكة النوم إلا قليلا، ولقد عانيت حقا أكثر مما يمكن لك أن تتخيل لمثل هذا السبب. في سانتا كروز، وبينما كنت أنظر فيما بين الغيوم بحثا عن قمة تينيريف، وأعيد على نفسي وصف هومبولت البديع، قد أعلن أنه يجب علينا إجراء حجر صحي صارم لمدة اثني عشر يوما؛ فتحركنا لمسافة قصيرة ثم صاح القبطان: «ارفعوا شراع السارية الأمامية»، واتجهنا إلى سانت جاجو. ستقول إن كل هذا يبدو سيئا للغاية، وقد كان كذلك بالفعل، غير أن الفترة فيما بين ذلك الوقت وحتى الآن قد كانت مشهدا واحدا من المتعة المتواصلة؛ فقد وضعت شبكة في مؤخرة السفينة وقد شغل ما حصلت عليه منها وقتي بأكمله إلى أن وصلنا إلى سانت جاجو. وهنا قضينا ثلاثة أسابيع غاية في الروعة. لقد كانت الطبيعة الجيولوجية مثيرة بدرجة فائقة، وأعتقد أنها جديدة أيضا؛ إذ توجد بعض الحقائق على نطاق واسع عن ارتفاع الساحل (وهي حقبة ممتازة يمكن تأريخ جميع الصخور البركانية بداية منها)، وسوف يثير ذلك اهتمام السيد لايل.
ومن الأمور التي تمثل مصدر ارتباك كبير بالنسبة لي، هو جهلي التام بما إن كنت ألاحظ الحقائق الصحيحة، أم لا، وكذلك بما إن كانت ذات أهمية كافية لتثير اهتمام الآخرين. إن جمع العينات هو الأمر الوحيد الذي لا يمكن أن أكون مخطئا بشأنه. سانت جاجو قاحلة للغاية، وليس بها إلا القليل جدا من النباتات والحشرات؛ لذا، فإن مطرقتي هي رفيقتي المعتادة، وأنا أقضي في رفقتها أفضل الساعات التي أستمتع بها. لقد جمعت من الساحل العديد من الحيوانات البحرية، ومعظمها من بطنيات القدم (أعتقد أن بعضها جديد). لقد فحصت أحد الشعاب المرجانية من نوع كاريوفيليا
Caryopyllia
بدقة كبيرة، وإن لم تكن عيناي بها مس من سحر، فالأوصاف السابقة لها لا تشبهها في شيء على الإطلاق. وقد جمعت عددا من العينات لأخطبوط لديه قدرة مدهشة على تغيير ألوانه، مثله في ذلك مثل الحرباء، ومن الواضح أنه يتكيف مع تغير لون الأرضية التي يمر بها. وقد كانت الألوان البارزة له هي الأخضر المائل إلى الصفرة والبني الداكن والأحمر، ويبدو أن هذه الحقيقة جديدة وفقا لما تمكنت من التوصل إليه. وسيكون الهدف الأساسي لأبحاثي في هذه الرحلة بأكملها هو الجيولوجيا واللافقاريات.
لقد أبحرنا بعد ذلك إلى باهيا، ونزلنا عند صخور سان بول. إن التركيب الجيولوجي هنا سربنتيني. أليست هي الجزيرة الوحيدة في المحيط الأطلنطي التي ليست بركانية؟ قضينا بضع ساعات كذلك في فرناندو نورونيا، وقد مرت بنا أمواج عاتية؛ فغرق أحد القوارب، مما جعل القبطان يبحر دون انتظار. إنني أشعر بأن حياتي على متن السفينة ونحن في المياه الزرقاء ممتعة وهادئة ومريحة للغاية؛ فأنا لا أبقى دون عمل أبدا، وذلك أمر عظيم عندي. لا يمكن لأحد أن يكون أكثر ملاءمة على جمع العينات مني، وذلك من جميع الجوانب؛ إن كثرة الطهاة لم يفسد المرق هذه المرة. إن النصائح الصغيرة التي قدمها السيد براون عن المجاهر وغيرها ثمينة للغاية. لدي عدد كبير من الكتب، وأنا أجد أن كتاب «المعجم الكلاسيكي» هو «أكثرها نفعا» لي. إن ورد ببالك أي شيء أو كتاب تعتقد بأنه سيفيدني، فاكتب إلى إي داروين، ويندهام، شارع سان جيمس، وسيحصل هو على ما توصي به ويرسله مع بعض الأغراض الأخرى إلى مونتي فيديو؛ حيث سيكون مقري على مدى العام التالي.
لقد رسونا عند أبرولوس ووصلنا إلى هنا في الرابع من أبريل، وحينها تلقيت، من بين آخرين، خطابا وكان هو خطابك الرقيق. أؤكد لك بأنني قضيت المساء وأنا أفكر في الأوقات الكثيرة السعيدة التي قضيتها معك في كامبريدج. إنني أعيش الآن في بوتوفوجو، وهي قرية تقع على مسافة فرسخ من المدينة، وسوف أبقى هناك على مدى شهر آخر. لقد عادت «البيجل» إلى باهيا، وسوف تأخذني في طريق عودتها. ثمة خطأ مهم للغاية في خط طول أمريكا الجنوبية، وقد نفذت هذه الرحلة الثانية، للتوصل إلى حل بشأنه. أجهزة الكرونومتر تعمل بنحو ممتاز؛ ستة عشر منها على الأقل؛ فلم يرد أن أي أجهزة سابقة قد أحرزت مثل هذا التقدم.
بعد بضعة أيام من الوصول، بدأت في رحلة استكشافية على نطاق 150 ميلا باتجاه ريو ماكاو، وقد استمرت ثمانية عشر يوما. وهنا، قد رأيت للمرة الأولى غابة استوائية بجلالها العظيم، ولا شيء سوى الواقع، يمكن أن يعطي أي فكرة عن مدى روعة المشهد وعظمته. وإن كان علي أن أذكر شيئا على وجه التحديد، فإنني سوف أعطي الأولوية لمجموعة النباتات الطفيلية. إن نقشك صحيح تماما، لكنه يقلل من وصف هذا الثراء؛ لا يبالغ في تصويره. إنني لم أشهد قط مثل هذا السرور الشديد. لقد كنت معجبا بهومبولت قبل ذلك، أما الآن، فأنا أعشقه؛ فهو الوحيد الذي يقدم فكرة عن المشاعر التي تثور في الذهن عند دخول المناطق الاستوائية لأول مرة. أعمل الآن على جمع عينات لحيوانات اليابسة والمياه العذبة، وإذا كان ما سمعته في لندن صحيحا، وأعني بذلك عدم وجود حشرات صغيرة في مجموعات المناطق الاستوائية؛ فها أنا أقول لعلماء الحشرات أن يترقبوا ويجهزوا أقلامهم ويستعدوا للوصف. لقد جمعت عينات من حشرات صغيرة للغاية في حجم حشرات إنجلترا (إن لم تكن أصغر) والتي من أنواع هايدروبوري
Hydropori
وهيجروتي
Hygroti
وهيدروبي
Hydrobii
وسيلافي
وستافيليني
Staphylini
وكركليو
Curculio
وغيرها الكثير. ومن المثير جدا ملاحظة الاختلافات في الأجناس والأنواع بين هذه الحشرات والحشرات التي أعرفها، لكنها على أي حال أقل كثيرا مما توقعت. في الوقت الحالي، يزداد حماسي للعناكب؛ فهي مثيرة جدا للاهتمام، وإن لم أكن مخطئا، فإنني قد جمعت بالفعل بعض الأجناس الجديدة منها. سوف أرسل صندوقا كبيرا إلى كامبريدج في وقت قريب للغاية، ومعه سوف أذكر المزيد من التفاصيل الخاصة بالتاريخ الطبيعي.
القبطان يبذل كل ما في وسعه لمساعدتي، ونحن نتوافق معا بنحو جيد، غير أنني شاكر لحسن حظي لأنه لم يجعل القبطان يدفعني إلى خيانة مبادئ حزب الأحرار؛ فلن أكون مؤيدا للمحافظين، ولو لم يكن ذلك إلا لما أبدوه من قسوة القلب بشأن تلك الفضيحة التي تشين البلاد المسيحية وهي العبودية. تجمعني علاقة صداقة جيدة بجميع الضباط.
لقد عدت للتو من إحدى جولات السير الخاصة بي. إن عينات الحشرات التي أجمعها لا يحيط بها إلا قدر ضئيل من المعرفة؛ ف «المعجم الكلاسيكي» يذكر أن نوع نوتيريس، لا يضم سوى ثلاثة أنواع فرعية أوروبية. لقد جمعت في سحبة واحدة لشبكتي خمسة أنواع مختلفة منها، أليس ذلك استثنائيا؟ ...
أخبر البروفيسور سيجويك بأنه لا يعرف كم أنا مدين له بالرحلة الاستكشافية في ويلز؛ فقد ولدت في الاهتمام بعلم الجيولوجيا، وهو ما لن أكف عنه لأي سبب من الأسباب. لا أعتقد بأنني قد قضيت ثلاثة أسابيع أروع من تلك التي قضيتها في العمل في جبال الشمال الغربي. إنني أتطلع إلى فحص الطبيعة الجيولوجية لمونتي فيديو؛ إذ إنني سمعت بوجود ألواح صخرية هناك؛ ومن ثم فإنني أعتقد بأنني سأكتشف في هذه المنطقة نقاط التقاء الصفائح في سهول البامبا، والتكوين الجرانيتي الضخم الموجود في البرازيل. في باهيا، كان البيجماتيت والنايس يوجدان في الاتجاه نفسه في الطبقات، وهو ما لاحظ هومبولت أنه يسود في كولومبيا التي تبعد مسافة 1300 ميل، أليس ذلك مدهشا؟ ستظل مونتي فيديو هي وجهتي لفترة طويلة. أتمنى أن تكتب إلي ثانية؛ فما من أحد أحب أن أتلقى منه النصح أكثر منك ... فلتعذرني على هذا الخطاب الذي يفتقر إلى الوضوح. خالص مودتي إليك يا عزيزي هنزلو، وأحر مشاعر الصداقة والاحترام.
المخلص إليك
تشاز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه إم هربرت
خليج بوتوفوجو، ريو دي جانيرو
يونيو 1832
عزيزي الغالي هربرت
لقد وصل خطابك حين كنت قد فقدت الأمل في تلقي خطاب آخر؛ لذا فقد منحني قدرا أكبر من السعادة. على مدى مثل هذه الفترة الزمنية، وهذا الحيز المكاني، يشعر المرء بالامتنان الحقيقي لمن لا ينسونه. وحين نستعيد في ذاكرتنا مشاهد قد مضت، فإن ذلك يمنحنا نحن «المنفيين» أحد أعظم مصادر السرور. كثيرا ما أفكر في بارماوث بينما أتجول بين هذه التلال، وكثيرا أيضا ما أتمنى مثل ذلك الرفيق الذي كان معي. يا له من تناقض شاسع بين ما تقدمه هذه الجولة وتلك! فهنا تجد القمم الحجرية الحادة تغطيها إلى الحافة الأشجار الزاخرة؛ فسطح البلد بأكمله هو غابة منيعة، إلا ما قطعه البشر منها. إنها تختلف كثيرا عن ويلز بتلالها المنحدرة التي يغطيها العشب، ووديانها الفسيحة. لم أكن أدرك من قبل مدى الصلة الوثيقة بين ما يمكن أن نسميه الجانب المعنوي والاستمتاع بالمناظر الطبيعية. وأنا أعني بذلك تلك الأفكار مثل تاريخ البلد وفائدة المحصول، والأهم من ذلك سعادة الأشخاص الذين تعيش معهم. تخيل أن العامل الإنجليزي قد أصبح عبدا فقيرا يعمل لصالح شخص آخر، ولن تستطيع أن ترى المنظر نفسه الذي كنت تراه من قبل. أعرف أنك ستسر حين تعرف أن كل شيء في الرحلة يسير على نحو جيد (فليحفظ ذلك الرب، باستثناء دوار البحر). لقد زرنا تينيريف بالفعل وكذلك جزر الكناري وسانت جاجو، حيث قضيت أروع ثلاثة أسابيع منتشيا ببهجة دراسة الطبيعة في جزيرة استوائية بركانية لأول مرة، وزرنا كذلك بعض الجزر الأخرى، إضافة إلى الميناءين الشهيرين في البرازيل، وهما: باهيا وريو.
لقد كنت أقضي الوقت على شبكة نومي إلى أن وصلنا إلى جزر الكناري، ولن أنسى أبدا ذلك الانطباع الرائع الذي انطبع في ذهني حين رأيت تينيريف لأول مرة. لقد كان وصولنا إلى الطقس الدافئ لأول مرة في غاية المتعة؛ فلم تكن السماء الزرقاء الصافية للغابات الاستوائية تغييرا عاديا بعد تلك العواصف الجنوبية الغربية اللعينة التي هبت علينا في بليموث. وبالقرب من خط الاستواء، أصبح الطقس شديد الحرارة. قضينا يوما واحدا في سان بول، وهي مجموعة صغيرة من الصخور تبرز في منتصف المحيط الأطلنطي ويبلغ محيطها ربع ميل تقريبا. وقد حدث فيها المشهد التالي. كنت أنا وويكهام (النقيب الأول) الوحيدين اللذين نزلنا على الجزيرة بالبنادق والمطارق الجيولوجية وغير ذلك. وقد كانت الطيور كثيرة جدا وقريبة جدا مما يسهل اصطيادها؛ ومن ثم، فقد حاولنا صيدها بالحجارة، وياللعار! في النهاية، كانت مطرقتي الجيولوجية هي أداة الصيد. سرعان ما حملنا القارب بالطيور والبيض، وبينما كنا منهمكين جدا في العمل، كان الرجال على القارب يتقاتلون مع أسماك القرش على هذا الصيد العظيم الذي لا يمكن أن ترى مثله في سوق لندن. كان قاربنا سيصبح موضوعا جيدا لسيندرس؛ إذ كان يضم مجموعة متنوعة من الطرائد. لقد وصلنا إلى هنا منذ عشرة أسابيع، وسوف ننطلق الآن إلى مونتي فيديو، بينما أتطلع إلى العدو على سهول البامبا. إنني خجل من إرسال مثل هذا الخطاب المفكك، لكنك ستتفهم السبب لو أنك رأيت كومة الخطابات المتراكمة على منضدتي ...
إنني سعيد لسماعي بازدهار الموسيقى في كامبريدج، غير أن التحدث إلي عن «الحفلات الموسيقية الكبيرة» هو ضرب من ضروب القسوة كما لو أنك تتحدث إلى شخص في شبه الجزيرة العربية عن المياه الباردة. في رحلة كهذه، إن يجن المرء قدرا كبيرا من المسرات الجديدة، فإن خسارته لا تكون طفيفة كذلك. كيف ستجد الأمر لو أنك قد حرمت فجأة من رؤية جميع الأماكن والأشخاص الذين عرفتهم وأحببتهم على مدى خمس سنوات؟ إنني أؤكد لك أنني «أصدم» أحيانا من التفكير في هذا الأمر، وليس من السهل على المرء ولا على السفينة أن يعودا إلى المسار السابق مجددا. أبلغ تحياتي الصادقة إلى من تبقى من خيرة الرفاق الذين أسعدني الحظ بمعرفتهم في كامبريدج، وأنا أعني بهؤلاء: ويتلي وواتكينز. وأخبر لو بأنني في حالة سيئة للغاية لا تستدعي حتى احتقاره. قل له إنني آكل اللحم البقري المملح والبسكويت الزنخ على العشاء؛ أفترى أي سوء قد يحل بالمرء؟!
ستكون وجهتي على مدى عام ونصف قادم هي مونتي فيديو.
فليباركك الرب يا هربرت، يا صديقي العزيز والغالي جدا. وأتمنى من كل قلبي أن تنعم دوما بالسعادة والرخاء.
صديقك المخلص
تشاز داروين
من تشارلز داروين إلى إف واتكينز
مونتي فيديو، ريفر بلاتا
18 أغسطس 1832
عزيزي واتكينز
لست متأكدا إن كنت سترى أن استقبال خطاب من شخص في مكان ناء للغاية هو أمر مهم أم لا؛ ومن ثم، فإنني أكتب لك انطلاقا من الرغبة الأنانية المتمثلة في تلقي الرد. إن ما أجده في البلاد المختلفة التي نزورها، من جدة واختلاف تامين عن إنجلترا، لا يزيدني إلا حرصا على تذكر مناظر الأخيرة وجمالها. ومن ثم، فإن سرور المرء بتذكر أصدقائه القدامى وسماع أخبارهم، يصبح عظيما بلا شك. فلتتذكر هذا، ولتتذكر إحدى جلساتنا في أمسيات الشتاء الطويلة، ولترسل لي خطابا تحكي لي فيه الكثير عن نفسك وأصدقائنا؛ فلتخبرني عما تفعلونه وعما تنوون فعله في المستقبل، وإلا فسوف تصبحون جميعا غرباء عني تماما حين أعود بعد ثلاث سنوات أو أربع. بالنظر إلى عدد الشهور التي قضيناها على متن «البيجل»، فإننا لم نقطع مسافة كبيرة حول العالم. وحتى الآن، فإن كل شيء قد آتى ثماره وعوضني جيدا عن أي تعب أو مشقة لم يكن منها بد. لقد مكثنا ثلاثة أسابيع في الرأس الأخضر، ولم يكن سروري بالسير على سهول الحمم البركانية وتحت الشمس الاستوائية، سرورا عاديا، لكنني حين دخلت ورأيت الطبيعة النباتية الزاخرة في البرازيل لأول مرة، كان الأمر أشبه بتحقق إحدى رؤى كتاب «ألف ليلة وليلة». إن روعة المنظر الطبيعي تلقي بالمرء في نوبة من البهجة، والتي ليس من المحتمل أن يفيق منها سريعا صائد الخنافس؛ إذ أينما استدار بوجهه وقعت عيناه على كنوز جديدة. في ريو دي جانيرو، مرت ثلاثة شهور وكأنها عدة أسابيع. وخلال هذه الفترة، قمت بجولة رائعة للغاية على امتداد 150 ميلا في البلد. أقمت في قطعة أرض هي آخر من جرى تمهيده من الأرض، ومن خلفي غابة شاسعة منيعة. إن تخيل هدوء هذه الحياة يكاد يكون مستحيلا. لا يوجد إنسان على بعد أميال ليقاطع هذه العزلة. إن الجلوس على جذع شجرة في طريقه إلى التحلل في خضم روعة هذه الغابة، والتفكير في الوطن، لهو سرور يستحق بذل بعض العناء في سبيله.
إننا الآن في بلد أقل إثارة بدرجة كبيرة؛ فجولة واحدة على السهول المتموجة المكسوة بالخضرة، تكشف لك عن كل ما يمكن رؤيته. إنها لا تختلف عن كامبريدجشير على الإطلاق، فيما عدا أنه لا بد من تسوية جميع الأسياج الشجرية والأشجار والتلال، وتحويل جميع الأراضي الصالحة للزراعة إلى مراع. إن أمريكا الجنوبية بأكملها في حالة من عدم الاستقرار؛ فلم ندخل ميناء واحدا دون شيء من القلاقل. في بوينس آيريس، سمعنا صوت طلقة تصفر فوق رءوسنا؛ لقد كان صوتا لم أسمعه من قبل، لكنني وجدت أن لدي معرفة غريزية بما يعنيه. قبل أيام، أنزلنا رجالنا هنا، واستحوذنا على القلعة المركزية، بناء على طلب السكان. إننا نحن الفلاسفة لا نتوقع هذا النوع من العمل، وأتمنى ألا يكون هناك المزيد. سنبحر في غضون يوم أو يومين لمسح ساحل باتاجونيا؛ إنه غير معروف على الإطلاق، وأنا أتوقع أنه سيكون مثيرا للاهتمام بدرجة كبيرة. بالرغم من ذلك، فأنا أدرك بالفعل ذلك الاختلاف الشاسع بين الإبحار في هذه البحار، وبين الإبحار في المحيط الأطلنطي الاستوائي. في «خليج ليديز» كما يسميه الإسبان الأصليون، يكون من الممتع جدا أن تجلس على ظهر السفينة مع الاستمتاع ببرودة الليل، والإعجاب بالتجمعات النجمية الجديدة الخاصة بالجنوب ... إنني أتساءل متى سنلتقي مجددا؛ ولكن، أيا كان الوقت الذي سيتحقق فيه ذلك، فإن القليل من الأمور فقط، هي التي ستمنحني سرورا أكبر من سروري برؤيتك مجددا والحديث عن ذلك الوقت الطويل الذي قضيناه معا.
لو أنك كنت لتراني الآن، لنظرت إلي كما لو أنني وحش بري لا شك؛ فاللحية الكبيرة الشيباء وسترة التنظيف تشوهان أي أحد ولو كان ملاكا. خالص مودتي إليك يا عزيزي واتكينز، مع خالص مشاعر الصداقة.
المخلص لك دوما
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
11 أبريل 1833
عزيزي هنزلو
ها نحن الآن نغادر جزر فوكلاند متجهين إلى ريو نجرو (أو كولورادو). ستتجه «البيجل» بعد ذلك إلى مونتي فيديو، لكنني أنوي البقاء في المكان السابق إن كان ذلك ممكنا. ها قد مضت عدة شهور منذ أن رسونا بميناء متمدن؛ فقد قضينا معظم هذا الوقت تقريبا في أقصى الجنوب من تييرا ديل فويجو. إنه مكان بغيض؛ إذ تتوالى العاصفة بعد العاصفة على فترات زمنية قصيرة، مما يصعب القيام بأي شيء. لقد كنا نبعد مسافة ثلاثة وعشرين يوما عن رأس هورن، ولم نتمكن من الوصول إلى الجانب الغربي على الإطلاق. كانت العاصفة الأخيرة قبل أن نتوقف عن المحاولة تماما عاتية بنحو استثنائي. لقد ثقب البحر أحد القوارب وتسربت على السطح الكثير من المياه؛ وغرق المكان بأكمله بالمياه، وفسد الجزء الأكبر من الأوراق المستخدمة في تجفيف النباتات، وكذلك نصف مجموعة النباتات الغريبة هذه.
وأخيرا وصلنا إلى مرفأ واتجهنا إلى الغرب في القوارب عن طريق القنوات الداخلية؛ ولأنني كنت أحد أفراد هذه المجموعة، فقد سررت بالأمر كثيرا. أخذنا قاربين وسرنا بهما مسافة 300 ميل تقريبا؛ ومن ثم فقد حظيت بفرصة رائعة لدراسة الطبيعة الجيولوجية ورؤية الهمج. إن أهل فويجو يعيشون في حالة من الهمجية هي أشد سوءا مما توقعت أن يكون عليها أي إنسان. إنهم يسيرون عراة تماما في هذه البلدة ذات الطبيعة القاسية، وأما منازلهم المؤقتة، فهي تشبه تلك المنازل التي يبنيها الأطفال في الصيف بغصون الأشجار. لا أظن أن هناك مشهدا يمكن أن يكون أكثر إثارة من رؤية رجل على همجيته البدائية للمرة الأولى، وهذا الشعور بالإثارة لا يمكن لأحد أن يتخيله حقا إلى أن يجربه. إنني لن أنسى أبدا عند دخول خليج جود ساكسيس لأول مرة تلك الصرخة التي استقبلنا بها الجمع. كانوا يجلسون على بقعة صخرية، وتحيط بهم غابة قاتمة من أشجار الزان، وإذ رفعوا أذرعهم حول رءوسهم بوحشية، وتدلى شعرهم الطويل؛ فقد بدوا وكأنهم أرواح معذبة من عالم آخر. والطقس في هذا البلد يجمع في بعض النواحي، بين القسوة والاعتدال، وبالنسبة إلى المملكة الحيوانية فالسمة الأولى هي السائدة؛ ولهذا، فإنني لم أتمكن من إضافة عدد كبير إلى مجموعتي.
لقد كانت الطبيعة الجيولوجية في هذا الجزء من تييرا ديل فويجو، مثيرة للاهتمام بشدة بالنسبة لي، وذلك كجميع الأماكن بالطبع. إن هذا البلد لا يحتوي على أحافير متحجرة، وهو يحتوي على نسبة متوسطة من الصخور والألواح الجرانيتية، وقد كانت محاولة الربط بين الصدوع والطبقات وغير ذلك هي أكبر مصادر استمتاعي. ومع ذلك، أعتقد أن دراسة الطبيعة المعدنية لبعض الصخور ستكون مثيرة للاهتمام نظرا لتماثلها مع تلك من ذوات الأصل البركاني. ...
بعد أن غادرنا تييرا ديل فويجو، أبحرنا إلى جزر فوكلاند. لقد نسيت أن أذكر مصير مواطني فويجو الذين أعدناهم مجددا إلى بلدهم. لقد أصبحوا أوروبيين تماما في عاداتهم ورغباتهم، حتى إن أصغرهم قد نسي لغته الأصلية، ولم يعرهم أبناء بلدهم سوى قدر ضئيل من الاهتمام. لقد بنينا لهم منازل وزرعنا من أجلهم حدائق، لكنني أتشكك كثيرا في مقدار ما سنجده على حاله ولم يسرق بعد من هذه الممتلكات حين نعود ثانية من طريقنا حول رأس هورن. ... حين أشعر بالتعب الشديد ودوار البحر، أتصور المستقبل حين نلتقي مجددا ونخطو معا في الطرق المحيطة بكامبريدج، وذلك من أكبر أسباب تعزيتي، غير أن ذلك اليوم بعيد والطريق إليه مرهق. سنقوم برحلة بحرية أخرى إلى تييرا ديل فويجو في الصيف القادم، وبعدها ستبدأ رحلتنا حول العالم بحق. لقد اشترى القبطان فيتزروي مركبا شراعيا كبيرا بصاريين يزن 170 طنا. ستكون للصحبة فائدة عظيمة من نواح عديدة؛ فربما تقصر مدة الرحلة بعض الشيء، وهو ما أرجوه من كل قلبي. بالرغم من ذلك، فإنني أثق أن الشعاب المرجانية وغيرها من حيوانات المحيط الهادئ، سوف تجعلني أحتفظ برباطة جأشي. أبلغ السيدة هنزلو وجميع الأصدقاء بخالص تحياتي؛ فأنا محب صادق لكليتي القديمة وجميع روادها.
خالص مودتي إليك يا عزيزي هنزلو
صديقك المحب والممتن إليك
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى الآنسة سي داروين
مالدونادو، ريو بلاتا، 22 مايو، 1833 ... إن الجزء التالي المتعلقة بالعمل موجه إلى والدي. إن الاستعانة بخادم خاص لي سيكون إضافة عظيمة بحق لراحتي. ويرجع هذا لهذين السببين: أولا، عين القبطان فيتزروي أحد الرجال ليكون معي دائما، لكنني لا أعتقد أنه من الصحيح أن أحرم السفينة من أحد بحاريها؛ وثانيا، عندما أكون على متن السفينة، أكون في حالة سيئة للغاية بحيث أحتاج لأحد أن يخدمني بنحو خاص. إن الرجل مستعد لأن يكون خادمي، وسوف تكون جميع النفقات أقل من ستين جنيها في العام. لقد علمته صيد الطيور وسلخها؛ لذا فسوف يكون مفيدا جدا في إنجاز مهمتي الأساسية. لقد غادرت إنجلترا منذ عام ونصف تقريبا، ونفقاتي لا تزيد عن 200 جنيه في العام؛ ولأنه يتعذر الكتابة إليك طلبا لموافقتك (بسبب الوقت)، فقد توصلت إلى أنك ستسمح لي بهذا المبلغ الإضافي. غير أنني لم أقرر بعد أن أطلب من القبطان هذا الأمر، وتتساوى الاحتمالات فيما يتعلق برأيه في وجود رجل إضافي على السفينة، وقد ذكرت ذلك لأنني أفكر فيه منذ فترة طويلة.
يونيو:
لقد تسلمت للتو حزمة جديدة من الخطابات، ولست أدري كيف يمكنني أن أشكركم جميعا بالدرجة الكافية. أحد الخطابات من كاثرين بتاريخ الثامن من فبراير، وآخر من سوزان بتاريخ الثالث من مارس، مع ملاحظات من كارولين وأبي؛ فلتبلغي أبي بخالص مودتي. لقد كدت أبكي فرحا حين تسلمتها؛ فتفكيركم في الكتابة لي لهو أمر غاية في اللطف. إن خطاباتي قليلة وقصيرة وسخيفة مقارنة بالخطابات التي ترسلونها جميعا، لكنني أهون على ضميري دائما بأن أعتبر دفتر اليوميات بمنزلة خطاب طويل. سوف أرسل الجزء المتبقي قبل الدوران حول هورن، إن استطعت ذلك. لقد سرني بشدة أن جلد البهضم قد أثار اهتمامكم جميعا بعملي بعض الشيء. بالرغم من ذلك، فهذه الشذرات ليست هي أثمن الآثار الجيولوجية على الإطلاق. إنني أومن وأثق أن الوقت الذي قضيناه في هذه الرحلة سيؤتي بثماره كاملة في مجال التاريخ الطبيعي، حتى إن كان وقتا مهدرا من جميع الجوانب الأخرى، وأنا أرى أن هذا القدر «الضئيل» الذي يمكننا القيام به لزيادة مخزون المعرفة، هو أشرف الأهداف التي يمكن أن يسعى المرء إلى تحقيقها في الحياة. إن نتيجة مثل هذه التأملات (كما ذكرت من قبل) هي التي تدفعني الآن إلى الاستمرار في هذه الرحلة، أكثر مما يدفعني ما أستمده منها من سرور عظيم، إضافة إلى ذلك الأمل الرائع في المستقبل، بأنه حينما نعبر مضيق ماجلان، سيكون العالم أمامنا بالفعل. تخيلي جبال الأنديز وغابة جواياكيل الزاخرة وجزر بحر الجنوب ونيو ساوث ويلز. كم من مناظر رائعة وبارزة سنراها وكم من قبائل غريبة سنلتقي بها! وكم من فرص رائعة لدراسة الأمور الجيولوجية وكذلك لدراسة عدد هائل من الكائنات الحية! أليس ذلك أملا يوقظ الروح الواهنة؟ لئن تخليت عن هذه الرحلة، فلا أظن بأنني سأستريح في قبري أبدا؛ فلا شك بأنني سأصبح شبحا وأسكن المتحف البريطاني.
يبدو أن الوزراء يتمتعون بشهرة كبيرة. إنني دائما ما أستمتع كثيرا بالنميمة السياسية وبما تعتقدون أنه سيحدث في الوطن. إنني أقرأ الجريدة الأسبوعية بانتظام، لكنها لا تكفي لإرشاد المرء في تكوين رأيه الخاص، وأنا أجد أنه من المؤلم جدا ألا أكون عنيدا في تمسكي بآرائي السياسة. لقد رأيت كيف أن مشاعر الناس أصبحت تناهض العبودية بثبات، كما اتضح في الانتخابات. كم سيكون فخرا عظيما لإنجلترا أن تكون هي أولى البلاد الأوروبية التي تلغيها نهائيا! لقد كانوا يخبرونني قبل مغادرة إنجلترا أن جميع آرائي ستتغير بعد أن أعيش في بلاد تعترف بالعبودية، والتغير الوحيد الذي أعيه، هو أنني أصبحت أكن تقديرا أكبر كثيرا للزنوج. من المستحيل أن ترى زنجيا وألا تشعر بالعطف نحوه؛ بما يبدو على وجهه من تعبيرات بشوشة صريحة وأمينة وبما يتمتع به من جسم قوي ورائع. إنني لم أر قط أيا من البرتغاليين الصغار الحجم بهيئتهم التي تلوح فيها القسوة، إلا وكدت أتمنى أن تتبع البرازيل مثال هايتي؛ ونظرا للعدد الكبير من السكان الزنوج، سوف يكون أمرا مدهشا ألا يحدث ذلك في يوم ما في المستقبل. يوجد رجل في ريو، (لا أعرف لقبه) يتقاضى راتبا كبيرا لمنع مجيء العبيد إلى هناك (حسبما أعتقد). إنه يعيش في بوتوفوجو، وبالرغم من ذلك، فخلال إقامتي، كان ذلك هو الخليج الذي هبط فيه أكبر عدد من العبيد الذين جرى تهريبهم. وقد كان على بعض الأفراد المناهضين للعبودية أن يتشككوا في صنيعه، وكان ذلك موضوعا للحديث بين الطبقات الأدنى من الإنجليز في ريو ...
من تشارلز داروين إلى جيه إم هربرت
مالدونادو، ريو بلاتا، 2 يونيو 1833
عزيزي هربرت
لقد كنت محتجزا على مدى الأيام الثلاثة السابقة في غرفة بائسة مظلمة ببيت إسباني قديم، محتميا من سيول الأمطار؛ ولهذا، فأنا لست في حالة جيدة جدا للكتابة، لكنني سأرسل لك بضعة سطور ردعا للكآبة، ولو لم يكن ذلك إلا لكي أشكرك بصدق على الكتابة لي. لقد تسلمت خطابك المؤرخ في الأول من ديسمبر بعدها بوقت قصير. إننا الآن نقضي جزءا من الشتاء في ريو بلاتا، وذلك بعد أن عملنا بجد في الصيف باتجاه الجنوب. تييرا ديل فويجو مكان بائس بلا شك؛ فغضب العواصف العاتية الذي لا يتوقف هائل بحق. في إحدى الأمسيات، كنا نرى كيب هورن القديمة، وبعدها بثلاثة أسابيع، لم نكن نبعد عنها سوى ثلاثين ميلا باتجاه الرياح. إنه لمشهد عظيم حين ترى غضب الطبيعة وثورانها، لكن الرب يعلم أن جميع من هم على ظهر «البيجل» قد رأوا خلال هذا الصيف ما يكفيهم على مدى حياتهم.
كان أول مكان رسونا عنده هو خليج جود ساكسيس، وهو المكان الذي لاقى فيه بانكس وسولاندر تلك المصائب عند صعودهم أحد الجبال. كان الطقس جيدا بدرجة معقولة، وقد استمتعت ببعض جولات السير في إحدى المناطق البرية، والتي تشبه تلك التي تقع خلف بارماوث. لا يمكن اختراق الوديان بسبب الغابات المتشابكة، لكن الأجزاء الأعلى منها، بالقرب من حدود ذلك الثلج الدائم، مقفرة. وعلى بعض هذه التلال، بدت المناظر الطبيعية في منتهى الجلال، وذلك لطبيعتها المتوحشة والمنعزلة. حيوانات الجوناق هي الساكن الوحيد لهذه المرتفعات، وكثيرا ما تكسر الصمت بصوتها الحاد. وقد زاد من سروري بهذه الجولات معرفتي أنه لم يسبق من قبل أن خطت قدم أوروبية على جزء كبير من هذه الأرض. كم من مرة كانت العديد من الأوقات التي قضيتها في بارماوث تتبادر إلى ذهني، وبوضوح شديد! إنني لا أتذكر ذلك الوقت بسرور عادي؛ ففي هذه اللحظة، أستطيع أن أراك جالسا على التل وراء النزل، وإنني لأراك بوضوح شديد كما لو أنك هناك بالفعل. يلزم على المرء أن يترك كل ما قد كان معتادا عليه، لكي يعرف قيمة اعتزازه بمثل هذه الذكريات، ويمكنني أن أضيف يا عزيزي الغالي هربرت، أنه على هذه المسافة البعيدة، يعرف المرء جيدا قيمة شخص مثلك. إنني أتساءل متى سنلتقي مجددا، وأتمنى أن يكون لقاؤنا، كما تقول أنت، بين أكوام الورق، غير أنه لا بد عاجلا أم آجلا، من وجود سيدة صغيرة عزيزة لكي تعتني بك وببيتك. إن هذه الصورة المبهجة تثير في نفسي بعض مشاعر الحسد؛ فتلك حياة غريبة لرجل مثلي يرتاد الشواطئ بانتظام، وأسوأ ما فيها هو طولها المفرط. إنها لا تخلو بالطبع من قدر كبير من الاستمتاع، لكن بها، من ناحية أخرى، قدرا محتملا من ضجر الروح. بالرغم من ذلك، فكل شيء يهون بالتأكيد في سبيل الفرحة لاستخراج عظام قديمة وصيد حيوانات جديدة. بالمناسبة، إنك تعلي كثيرا من قيمة جهودي في مجال التاريخ الطبيعي. لكنني لست سوى راع للأسود، وأنا لست واثقا على الإطلاق من أنها لن تكشر عن أنيابها في نهاية الأمر وتدمرني.
يسرني أن أعرف كيف تسير الأمور في إنجلترا. فليحي الأحرار الصادقون! إنني أثق في أنهم سرعان ما سيهاجمون تلك البقعة التي لطخت حريتنا التي نتفاخر بها، ألا وهي: العبودية الاستعمارية. لقد رأيت من العبودية وأحوال الزنوج ما يكفي لأن أشمئز تماما من العبث والأكاذيب التي يسمعها المرء في إنجلترا بشأن هذا الموضوع. فلنشكر الرب أن المحافظين القساة القلوب الذين لا يظهرون حماسا إلا ضد الحماس، كما يقول جيه ماكنتوش، قد خاضوا سباقهم في الوقت الحالي. يؤسفني أن أعرف من خطابك أنك لست على ما يرام، وأنك تعزو ذلك بصفة جزئية إلى الحاجة إلى ممارسة التمرينات الرياضية. أتمنى لو أنك كنت هنا بين السهول الخضراء؛ فلقمنا إذن بجولات سير تنافس جولاتنا في دولجيلي، ولحكيت لي قصصا والتي كنت سأصدقها بالطبع، حتى وإن بلغ «هراؤك قدرا كبيرا». بالرغم من ذلك، ينبغي علي أن أتجول وحيدا، بينما أتذكر أيام كامبريدج وألتقط الثعابين والخنافس والعلاجم. اعذرني على هذا الخطاب القصير (فأنت تعرف أنني لم أدرس قط «الدليل الشامل لكتابة الخطابات»)، وخالص مودتي إليك يا عزيزي هربرت.
صديقك المحب
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
جزيرة فوكلاند الشرقية، مارس 1834 ... إنني مفتون بشدة بالطبيعة الجيولوجية، لكنني كالحيوان الحكيم بين كومتين من الحشيش المجفف، لا أدري ما أحبه أكثر منهما؛ مجموعة الصخور القديمة المتبلورة، أم الطبقات الأرق التي تحتوي على أحافير. وحين أحتار بشأن ترتيب الطبقات وما إلى ذلك، أجد أنني أرغب في أن أصرخ: «تبا لمحارك الكبير، وحيوانات البهضم خاصتك الأكبر.» لكنني حين أستخرج بعض العظام الجيدة، أتعجب كيف أنه من الممكن لإنسان أن يرهق ذراعيه في الطرق على الجرانيت . بالمناسبة، ليست لدي أدنى فكرة عن التشقق وترتيب الطبقات وخطوط التقبب؛ إذ إنني لا أمتلك كتبا تخبرني بالكثير، وما أعرفه منها لا يمكنني تطبيقه على ما أراه. ونتيجة لذلك، فإنني أتوصل إلى استنتاجاتي بنفسي، وكم هي سخيفة للغاية تلك الاستنتاجات التي أتوصل إليها أحيانا. هل يمكنك أن تعطيني فكرة عن الموضوع بأن تخبرني بالعلاقة بين التشقق ومستويات الترسب؟
وأما عن «قسمي» الثاني؛ علم الحيوان، فقد انهمكت بصفة أساسية في إعداد نفسي لبحر الجنوب، من خلال دراسة سلائل الطحلبيات المرجانية الأصغر حجما في هذه المنطقة من دوائر العرض. إن الكثير منها في حد ذاته غريب للغاية وأعتقد أنه لا يمكن وصفها كليا؛ فمنها ذلك النوع الرهيب الذي يرتبط بنوع الفلاسترا، وأعتقد أنني قد ذكرت أنني وجدته باتجاه الشمال، حيث تحتوي الخلايا على عضو قابل للتحريك (مثل رأس نسر بمنقار قابل للتمدد) وهو مثبت على الطرف. بالرغم من ذلك، فإن ما يثير اهتمامي بدرجة أكبر، الوجود المؤكد (كما يبدو لي) لنوع آخر من النعام، بخلاف نوع ستروثيو ريا
Struthio rhea . إن جميع الجاوتشو والهنود يقولون بذلك، وأنا أثق بملاحظاتهم ثقة عظيمة. لدي الرأس والرقبة وجزء من الجلد والريش والسيقان لواحدة منها. والاختلافات بينهما تكمن بصفة أساسية في لون الريش وحراشيف السيقان، ووجود الريش أسفل الركبتين، وبناء الأعشاش، والتوزيع الجغرافي. يكفي حديثا عما فعلته مؤخرا؛ فالأفق أمامي مليء بالشمس المشرقة، والطقس الجميل والمناظر الطبيعية الرائعة، والطبيعة الجيولوجية للأنديز، والسهول التي تزخر بالبقايا العضوية (التي قد يسعدني الحظ بالعثور عليها بينما أتحرك)، وأخيرا، هذا المحيط بشواطئه التي تفيض بالحياة؛ ومن ثم، إن لم يحدث أي شيء غير متوقع، فسوف أواصل الرحلة، رغم أنها، وفقا لما أراه، قد تستمر إلى أن نصير شيوخا قد شابت رءوسنا. إنني أشكرك من كل قلبي على إرسال الكتب. وأنا أقرأ الآن «تقرير» أكسفورد [وهو ذلك الخاص بالاجتماع الثاني للجمعية البريطانية الذي عقد في أكسفورد عام 1832، وقد عقد الاجتماع في العام التالي في كامبريدج.] لقد كانت مشاركتك رائعة للغاية ، ولا يمكنك أن تتخيل كيف أن بقاءك في إنجلترا يجعل هذه التقارير مثيرة للغاية بالنسبة لي. إن شعوري الشديد بالإثارة يجعلني أثق فيما لهذه التقارير من أثر ممتاز على جميع من قرءوها من المقيمين في المستعمرات البعيدة، والذين لا يجدون فرصة كبيرة للاطلاع على الدوريات. لقد انكفأت على قراءة الفقرات المتعلقة بعملي بعزيمة مضاعفة، وبينما رحت أتأمل فصاحة رئيس اجتماع كامبريدج، ازداد تمعني فيها أكثر فأكثر، وأتمنى أن يمدني ذلك بعزيمة أكبر لفهم السلسلة الجبلية في هذه المنطقة. وأتمنى أن ترسل لي من خلال القبطان بوفورت نسخة من «تقرير» كامبريدج.
لقد نسيت أن أذكر أنني منذ فترة مضت، ولفترة قادمة في المستقبل كذلك، سوف أضع علامة صليب بالقلم الرصاص على علب أقراص الدواء التي أضع فيها الحشرات؛ فهذه العلب بالتحديد سوف تستلزم أن تظل جافة تماما، وربما يوفر عليك ذلك بعض المشقة. إنني لا أعرف متى سيبعث هذا الخطاب؛ فقد تصاعدت حدة الصراع في تلك الجزيرة البائسة مؤخرا بسبب حالات قتل مريعة، وقد أصبح حاليا عدد المسجونين أكثر من عدد السكان. وإذا ذهبت سفينة تجارية لأخذهم إلى ريو، فسوف أرسل بعض العينات (لا سيما العدد القليل الذي جمعته من النباتات والبذور). أبلغ تحياتي إلى جميع أصدقائي في كامبريدج. إنني أحب جميع ذكرياتي في كامبريدج العزيزة الغالية وأعتز بها. وأنا ممتن إليك كثيرا لأنك وضعت اسمي على النصب التذكاري لرامزي المسكين؛ فأنا لا أتذكره إلا بأصدق مشاعر الإعجاب. وداعا يا عزيزي هنزلو.
خالص المودة والامتنان من صديقك
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى الآنسة سي داروين
جزيرة فوكلاند الشرقية، 6 أبريل 1834
عزيزتي كاثرين
إنني لا أعرف متى سيصلك هذا الخطاب، لكن من المرجح أن تأتي سفينة حربية إلى هنا قبل، وفقا للمسار المعتاد للأحداث، أن تتسنى لي الفرصة في الكتابة مجددا. ...
بعد أن زرنا بعض الجزر الجنوبية، انطلقنا عبر المناظر الطبيعية البديعة في قناة بيجل إلى بلد جيمي بوتون. [إن جيمي بوتون ويورك مينستر وفويجيا باسكت من السكان الأصليين لتييرا ديل فويجو ، وقد أحضرهم القبطان فيتزروي إلى إنجلترا في رحلته السابقة، وأعادهم إلى بلدهم في عام 1832.] لم نتمكن من تمييز جيمي إلا بصعوبة كبيرة؛ فبدلا من الشاب القوي النظيف أنيق الثياب الذي تركناه، وجدنا همجيا متسخا ونحيفا وعاريا. أما يورك وفويجيا، فقد انتقلا إلى بلدتهما قبل بضعة أشهر، وذلك بعد أن سرق الأول جميع ثياب جيمي. والآن، فقد صار لا يملك سوى غطاء يلف به وسطه. إن جيمي المسكين كان سعيدا للغاية برؤيتنا، ولمشاعره الطيبة المعتادة، فقد أحضر لأصدقائه القدامى العديد من الهدايا (جلود القضاعة، وهي ثمينة للغاية بالنسبة لهم). وقد عرض عليه القبطان أن يأخذه إلى إنجلترا، لكننا دهشنا إذ رفض هذا العرض. في المساء، جاءت إلينا زوجته الصغيرة السن وأوضحت لنا السبب. لقد كان يشعر بالرضا على نحو كبير. لقد كان يقول وهو في قمة سخطه بالعام الماضي إن «أهل بلده لا «يفقهون شيئا»؛ فهم حمقى أغبياء»، والآن، قد أصبحوا أناسا جيدين للغاية ولديهم «الكثير» من الطعام، وجميع رفاهيات الحياة. جدف جيمي وزوجته مبتعدين بقاربهم المحمل بالهدايا التي أعطيناها لهما، وهما في غاية السعادة. وأغرب ما في الأمر، هو أن جيمي لم يستعد لغته الأصلية، وإنما علم جميع أصدقائه بعض الإنجليزية. فقد سمعنا من العديد منهم بعض العبارات بالإنجليزية مثل: «قارب جيه بوتون» و«زوجة جيمي تأتي»، و«أعطني سكينا»، وغيرها.
بعد ذلك، أبحرنا إلى الجزيرة الصغيرة البائسة الممتلئة بالصراع. لقد وجدنا أن الجاوتشو قد قتلوا جميع من استطاعوا الإمساك بهم من الإنجليز ونهبوهم، إضافة إلى بعض أبناء بلدهم، وذلك بدعوى الثورة. إن الحالة الاقتصادية في الوطن، تجعل التحركات الخارجية لإنجلترا، جديرة بالازدراء. أي اختلاف نمثله عن إسبانيا القديمة؟! ها نحن نحتفظ بأشياء لا نريدها لكي نمنع غيرنا من أخذها؛ إذ نستولي على أي جزيرة ونترك علم الاتحاد ليحميها. لقد قتل القائم عليها بالطبع، والآن، سنرسل نقيبا وأربعة بحارة دون سلطة أو تعليمات. بالرغم من ذلك، فقد غامرت سفينة حربية بترك جماعة من ضباط البحرية، ومن خلال مساعدتهم وخيانة بعض أفراد الجانب الآخر ، تمكنا من القبض على جميع القتلة، وقد صار الآن عدد السجناء يساوي عدد السكان. لا بد أن هذه الجزيرة ستصبح ذات يوم محطة توقف مهمة للغاية في أكثر بحار العالم اضطرابا. إنها تقع في منتصف الطريق بين أستراليا وبحر الجنوب بالنسبة إلى إنجلترا، وهي كذلك بين تشيلي وبيرو وغيرهما، وكذلك بين ريو بلاتا وريو دي جانيرو. إضافة إلى ذلك، يوجد بها مرافئ جيدة والكثير من المياه العذبة ولحم بقري جيد. ولا شك في أنها ستنتج أنواع الخضروات الصلبة، غير أنها مكان بائس من نواح أخرى. منذ فترة قصيرة، انطلقت في جولة عبر الجزيرة وعدت بعد أربعة أيام، وقد كنت أخطط لجولتي أن تطول أكثر من ذلك، غير أن عاصفة من الرياح قد هبت، ومعها الثلج والبرد. لا يوجد حطب لإشعال النار أكبر من نباتات الخلنج، والبلد كله أشبه بمستنقع مطاطي. وقد كان النوم بالخارج ليلا أمرا يصعب تحمله للغاية، حتى ولو كان ذلك في سبيل جميع صخور أمريكا الجنوبية.
سنرحل عن مشهد الخطيئة هذا في غضون يومين أو ثلاثة أيام، وسوف نذهب إلى ريو دي لا سانتا كروز. ومن أهدافنا في ذلك فحص قاع السفينة؛ فقد اصطدمنا بشدة بصخرة مجهولة بينما بالقرب من بورت ديزايار، وقد تلفت بعض الأجزاء النحاسية بالسفينة. وبعد إصلاحها، فإن القبطان لديه خطة رائعة: وهي الذهاب إلى منبع هذا النهر، وسيكون هذا باتجاه الأنديز على الأرجح. المكان غير معروف على وجه التحديد، ويخبرنا الهنود بأن اتساعه يبلغ مائتي ياردة أو ثلاثمائة، ولا يمكن للخيول أن تخوضه على الإطلاق. لا يمكنني أن أتخيل شيئا أكثر إثارة من هذا. خطتنا إذن هي أن نذهب إلى فورت فامين، وهناك سنلتقي بسفينة «أدفنتشر» المكلفة بإعداد خريطة جزر فوكلاند. سيكون ذلك في منتصف الشتاء؛ لذا فإنني سأتمكن من رؤية تييرا ديل فويجو في ردائها الأبيض. سنترك المضيق لكي ندخل المحيط الهادئ عبر قناة باربرا، وهي قناة لا يعرفها الكثيرون، وتمر بالقرب من سفح جبل سارمينتو (وهو أعلى جبل في الجنوب، فيما عدا جبل داروين). بعد ذلك، سننطلق بسرعة إلى كونسيبسيون في تشيلي. أعتقد أن السفينة سوف تتجه إلى الجنوب مرة أخرى، لكن إن أمسك بي أي أحد هناك، فسوف أسمح له بأن يعلقني كفزاعة لجميع علماء التاريخ الطبيعي في المستقبل. إنني أتوق إلى العمل في السلسلة الجبلية العظيمة هنا؛ فالطبيعة الجيولوجية في هذا الجانب، والتي أفهمها جيدا، وثيقة الصلة بفترات العنف البركاني. إنني أرى المستقبل بالنسبة لي مشرقا بالطبع، وأنت تقولين إن هذا الإشراق بالذات هو ما يثير مخاوفك، لكنني حريص للغاية بالفعل، ويمكنني أن أبرهن على ذلك بأنني لم أتعرض لحادثة واحدة أو حتى خدش واحد في جميع الجولات التي قمت بها ... واصلي عادتك الجميلة بكتابة الكثير من النميمة؛ فإنني أحب أن أعرف كل شيء عن جميع الأمور. أبلغي أطيب تحياتي إلى عمي جوز، وإلى جميع آل ويدجوود كذلك. وأخبري تشارلوت (أسماؤهن بعد الزواج تبدو غريبة بالطبع) بأنني كنت أود الكتابة لها، وأن أخبرها كيف أن كل شيء يسير على ما يرام، لكن ذلك لن يكون إلا نسخا لهذا الخطاب، وأنا لدي مجموعة من الحيوانات تحيط بي الآن وعلي أن أحنطها كلها وأن أرقمها. إنني لم أنس تلك الراحة التي شعرت بها ذلك اليوم في مير، حين كان عقلي يشبه بندولا متأرجحا. أبلغي أبي بخالص مودتي، وأتمنى أن يغفر لي بذخي، لكن ليس كمسيحي؛ فحينها، أعتقد أنه لن يرسل لي المزيد من النقود.
وداعا يا عزيزتي، وسلامي إلى جميع أخواتك الطيبات.
أخوك المحب
تشاز داروين
خالص مودتي إلى نانسي [مربيته القديمة]، وأخبريها أنها إن رأتني الآن بلحيتي الكبيرة، فسوف تظن أنني أشبه رجلا مهيبا مثل الملك سليمان الذي قد جاء لبيع بعض الحلي الرخيصة.
من تشارلز داروين إلى سي ويتلي
بالبارايسو، 23 يوليو، 1834
عزيزي ويتلي
لقد كنت أنوي الكتابة إليك منذ فترة طويلة، وذلك لأذكرك بأن صائد الخنافس وطارق الصخور لا يزال موجودا. لا أعرف لم لم أكتب إليك قبل ذلك، وإن نسيتني تماما، فإنني أستحق ذلك. لم تصلني أخبار عن كامبريدج منذ فترة طويلة، وكذلك لا أعرف أين تعيش أو ماذا تفعل. لقد رأيت اسمك مذكورا كأحد الحماة الذين لا يكلون للفلاسفة الألف وثمانمائة. وقد سررت حين رأيت ذلك؛ فحين غادرنا كامبريدج في المرة الأخيرة، كنت في خصومة حزينة مع العلوم المسكينة؛ وقد بدا أنك ترى أنها عاهرة تسعى إلى الشهرة. وإذا كانت آراؤك لم تتغير عما كانت عليه في السابق، فسوف تتفق مع القبطان فيتزروي بنحو رائع، والسبب في بغضه الخالص للعلم، هو أحد مؤيدي حزب الأحرار من المشتغلين بالعلم. ولأن قادة السفن الحربية هم أعظم الرجال، وهم أعظم بكثير من الملوك ومديري المدارس، فعلي إخباره بكل شيء يكون في صالحي. لقد أخبرته كثيرا أنه كان لدي صديق رائع للغاية يؤيد حزب المحافظين تأييدا تاما، وقد تمكننا من التفاهم جيدا فيما بيننا، لكنه يميل إلى الشك فيما إن كنت أتمتع بالشرف على الإطلاق. لم نعد نعرف من أخبار السياسة إلا قليلا في هذه الأيام، مما يجنبنا قدرا كبيرا من المتاعب؛ إذ إننا نتمسك جميعنا بآرائنا السابقة بعناد أكثر من ذي قبل، ولا يمكننا أن نقدم سوى عدد أقل من الأسباب التي تفسر قيامنا بذلك.
إنني أتمنى أن تكتب إلي (ستجدني في «إتش إم إس «البيجل»، محطة أمريكا الجنوبية»). سأحب كثيرا أن أسمع عن أحوالك الجسدية والذهنية. من يدري (الله هو من يعرف إن كان ذلك صحيحا؛ فالناس لا يعرفون إلا القليل بالفعل) إذا لم تكن متزوجا، وربما ترعى، كما تقول الآنسة أوستن، القليل من أغصان الزيتون، وبعض الوعود بتبادل العاطفة. ويحي! ويحي! إن ذلك يذكرني بتصوراتي السابقة عن المستقبل، والتي كنت أتخيل فيها أنني أرى التقاعد والأكواخ الخضراء والبنات الغيد. إنني لا أعرف ماذا سيحل بي بعد ذلك؛ إنني أشعر بأنني رجل محطم لا يعرف كيف ينتشل نفسه ولا يهتم بذلك. إن المنطق يخبرني بأنه لا بد لهذه الرحلة من نهاية، لكنني لا أستطيع أن أرى نهايتها. ومن المحال ألا يأسف المرء بمرارة على الأصدقاء وغير ذلك من مصادر البهجة التي تركها في إنجلترا، وبدلا منها يوجد الكثير من المتعة الشديدة، بعضها في الوقت الحاضر، لكن الأكثر منها في المستقبل، وذلك حين يمكن النظر إلى بعض الأفكار التي توصلت إليها في الرحلة على أنها أفكار جديدة. إن اهتمامي بالجيولوجيا لا ينضب؛ فهي كما قيل عنها من قبل، تشكل أفكارا عامة عن هذا العالم، وذلك كما يفعل علم الفلك مع الكون. لقد رأينا الكثير من المناظر الطبيعية الجميلة، مثل تلك الخاصة بالغابات الاستوائية والتي تفوق في تألقها وثرائها لغة هومبولت في الوصف. ربما لن يتمكن من وصفها إلا كاتب فارسي، وإن نجح في ذلك، فسوف يطلق عليه في لندن لقب «الأب الروحي لجميع الكاذبين».
إنني لم أر شيئا قد أدهشني تماما أكثر من رؤيتي لهمجي لأول مرة. لقد كان همجيا عاريا من أهل فويجو، وكان شعره الطويل يطير في الهواء، وقد لطخ وجهه بالطلاء. إنني أعتقد أن في سيمائهم تعبيرا يبدو جامحا بنحو لا يصدق لمن لم يروه من قبل. كان يقف على صخرة بينما يردد بعض النغمات ويقوم ببعض الإيماءات، والتي أجد أن صرخات الحيوانات الأليفة مفهومة أكثر منها بدرجة كبيرة.
حين أعود إلى إنجلترا، لا بد أن ترشدني فيما يتعلق بالفنون. ما زلت أتذكر أنه كان هناك رجل يدعى رافايل سانكتس. كم سيكون ممتعا أن نرى لوحة فينوس لتيتيان مرة أخرى في متحف فيتسويليام. وكم سيكون رائعا للغاية أن نذهب إلى حفلة موسيقية جيدة أو أوبرا راقية. إن هذه الذكريات لن تجديني نفعا؛ فلن أتمكن غدا من إخراج أحشاء حيوان صغير وليس لدي سوى نصف مقدار إقبالي المعتاد. أرجو أن تخبرني ببعض الأخبار عن كاميرون وواتكينز وماريندين وتومسوني ترينيتي ولو وهيفيسايد وماثيو. لقد سمعت من هربرت. وكيف هي أحوال هنزلو؟ وجميع الأصدقاء الآخرين في كامبريدج العزيزة؟ إنني أفكر كثيرا وكثيرا في هذه الأوقات الماضية، والتي قد قضيت العديد منها معك. إن مثل هذه الأوقات لا يمكن أن تعود، لكن ذكرياتها لا يمكن أن تموت أيضا .
فليباركك الرب يا عزيزي ويتلي.
خالص المودة إليك من صديقك المخلص
تشاز داروين
من تشارلز داروين إلى الآنسة سي داروين
بالبارايسو، 8 نوفمبر، 1834
عزيزتي كاثرين
لقد كان خطابي الأخير كئيبا بعض الشيء؛ إذ إنني لم أكن بخير حال حين كتبته. أما الآن، فكل شيء مشرق كالشمس. لقد أصبحت بخير ثانية الآن بعد أن مرضت للمرة الثانية خلال أسبوعين. لقد كان القبطان فيتزروي كريما معي للغاية؛ إذ أخر السفينة عشرة أيام من أجلي، ولم يخبرني بالسبب حينها.
لقد قمنا ببعض الإجراءات الغريبة على متن «البيجل»، لكنها انتهت بنحو رائع لجميع الأطراف. إن القبطان فيتزروي كان يعمل بكد «شديد» على مدى الشهرين الماضيين، وفي الوقت نفسه، كان يتعرض باستمرار لمقاطعات مزعجة من ضباط السفن الأخرى. لقد كان بيع المركب الشراعي ذي الصاريين وعواقبه أمرا مزعجا للغاية؛ فقد كانت الطريقة الباردة التي عامله بها ديوان البحرية (وأعتقد أن ذلك لكونه مؤيدا لحزب المحافظين فحسب) وألفا آخرين، قد جعلته نحيفا ومريضا للغاية. وقد صاحب ذلك اكتئاب مريع للروح وفقدان القدرة على الحسم واتخاذ القرار ... وكل ما قاله باينو [الجراح] - من أن هذا من تأثير ضعف الصحة والإرهاق فحسب بعد مثل هذا المجهود - لم يكن كافيا؛ فقد قرر التخلي عن القيادة وتولاها ويكهام. ووفقا للإرشادات، يمكن فقط لويكهام أن يكمل مسح الجزء الجنوبي، وبعد ذلك، سيكون عليه أن يعود مباشرة إلى إنجلترا. كان الأسى الذي حل على «البيجل» بشأن قرار القبطان، شاملا وعميقا، ومن أحد الأسباب الكبيرة في انزعاج القبطان، هو شعوره باستحالة تنفيذ جميع التعليمات؛ ونظرا لحالته الذهنية، لم يخطر بباله قط أن هذه التعليمات نفسها قد أمرته بمسح أكبر جزء ممكن من الساحل الغربي «يسمح به وقته»، ثم المتابعة عبر المحيط الهادئ.
أما ويكهام (متخليا عن ترقيته بعدم اكتراث شديد) فقد حث على ذلك بكل قوة، وذكر أنه إذا تولى القيادة، فلن يدفعه شيء إلى العودة إلى تييرا ديل فويجو مجددا، ثم سأل القبطان: أي خير سنجنيه من استقالته؟ ولماذا لا نقوم بالأمر الأكثر نفعا ونعود عبر المحيط الهادئ كما أمرنا؟ وفي النهاية، وافق القبطان، وسحبت الاستقالة، وهو ما أسعد الجميع.
مرحى! مرحى! لقد استقر الأمر على أن «البيجل» لن تبحر ميلا واحدا جنوب كيب تريس مونتيس (200 ميل تقريبا جنوب تشيلوي) وسوف تستغرق الرحلة من هذه النقطة إلى بالبارايسو نحو خمسة أشهر. سوف ندرس أرخبيل تشونوس، المجهول تماما، والبحر الداخلي العجيب الذي يقع خلف تشيلوي. وهذا أمر رائع بالنسبة لي. إن كيب تريس مونتيس هي أبعد نقطة في الجنوب لذا فهي تستدعي قدرا كبيرا من الاهتمام بطبيعتها الجيولوجية؛ فهناك تنتهي الطبقات الحديثة. ويتحدث القبطان بعد ذلك عن عبور المحيط الهادئ، لكنني أعتقد أننا سنقنعه بإكمال ساحل بيرو، حيث الطقس رائع، وبالرغم من أن البلد مجدب بدرجة مخيفة، فإنه يزخر بالعديد مما يثير اهتمام الجيولوجيين. إن هذه أول مرة، منذ أن غادرت إنجلترا، أرى فيها أملا واضحا وغير بعيد للغاية في العودة إليكم جميعا: سوف نعبر المحيط الهادئ، ولن تستغرق الرحلة من سيدني إلى الوطن وقتا طويلا.
حينما تنحى القبطان، قررت على الفور أن أغادر «البيجل»، لكن تلك الثورة التي اندلعت بجميع مشاعري في خمس دقائق لم تكن منطقية على الإطلاق. إنني أشعر منذ وقت طويل بالحزن والأسف لطول مدة الرحلة (بالرغم من أنني لم أكن لأتخلى عنها)، لكن حين تقرر إنهاؤها، لم أستطع أن أتخذ قراري بالعودة. لم أستطع أن أتخلى عن تلك القلاع الجيولوجيا التي ظللت أبنيها في الهواء على مدى العامين الماضيين. لقد قضيت ليلة بأكملها وأنا أحاول أن أفكر في السرور الذي سأشعر به عند رؤية شروزبيري مجددا، لكن سهول بيرو القاحلة قد فازت. لقد صممت هذه الخطة (وأعرف أنكم ستعنفونني عليها، وربما لو بدأت في تنفيذها، لأرسل أبي في طلبي بنحو رسمي)، وهي المتمثلة في دراسة السلسلة الجبلية في تشيلي خلال هذا الصيف، ثم الانتقال من ميناء إلى آخر في الشتاء، على امتداد ساحل بيرو إلى ليما، ثم العودة في مثل هذا الوقت من العام القادم إلى بالبارايسو، وعبور السلسلة الجبلية إلى بوينس آيريس، فركوب السفينة إلى إنجلترا. أما كانت تلك لتصبح رحلة جيدة، ولأصبحت معكم جميعا في خلال ستة عشر شهرا؟ إن العودة لتييرا ديل فويجو دون رؤية المحيط الهادئ كانت ستصبح أمرا بائسا ...
سأصعد على متن السفينة في الغد؛ فقد كنت في منزل كورفيلد منذ ستة أسابيع. لا يمكنكم أن تتخيلوا كم وجدته صديقا طيبا. إن الجميع يحبونه، ويحترمونه، سواء السكان الأصليون أو الأجانب. والعديد من الآنسات التشيليات يتلهفن بشدة على أن يصبحن ربات هذا البيت. أخبري والدي بأنني صنت وعدي بشأن عدم الإسراف في تشيلي. لقد كتبت قسيمة بمقدار 100 جنيه (لو أنه كان من الأفضل إرسالها إلى بنك السيدين روبارتس وكيرتيس)؛ خمسون جنيها منها سيذهب إلى القبطان للسنة المقبلة، وسآخذ ثلاثين جنيها منها معي في البحر للموانئ الصغيرة؛ ومن ثم، فإنني لم أنفق بالفعل 180 جنيها على مدى الشهور الأربعة الأخيرة. أتمنى ألا أكتب قسيمة أخرى في الشهور الستة المقبلة. إن جميع هذه التفاصيل السابقة لم تحدد إلا أمس، وقد عادت علي بالنفع أكثر مما قد يعود به تناول بعض الدواء، وكذلك لم أشعر بهذا القدر من السعادة على مدى العام الماضي. لولا مرضي، لكانت هذه الشهور الأربعة التي قضيتها في تشيلي ممتعة جدا. لكن كان حظي سيئا فقط بحيث شهدت حدوث زلزال واحد طفيف. لقد كنت مستلقيا في الفراش، بينما كانت بالمنزل حفلة عشاء، وفجأة سمعت جلبة في غرفة المائدة، ودون أن يتفوه أحد بأي كلمة، حاول كل منهم الخروج أولا لينقذ حياته، وفي اللحظة نفسها، شعرت باهتزاز «طفيف» في سريري في أحد الجوانب. كان الحضور في الحفل من المسنين وقد سمعت تلك الضجة التي تسبق الصدمة دائما؛ فلا أحد من المسنين يرى الزلزال من وجهة نظر فلسفية ...
أودعكم جميعا؛ فلن تتلقوا خطابا مني إلا بعد حين.
عزيزتي كاثرين
أخوك المحب
تشاز داروين
خالص مودتي إلى أبي وإليكم جميعا. أبلغي مودتي إلى نانسي.
من تشارلز داروين إلى الآنسة إس داروين
بالبارايسو، 23 أبريل، 1835
عزيزتي سوزان
لقد تلقيت منذ بضعة أيام خطابك الذي أرسلته في نوفمبر؛ والخطابات الثلاثة التي أشرت إليها من قبل ما تزال مفقودة، لكنني لا أشك في أنها ستظهر. لقد عدت منذ أسبوع من رحلتي عبر الأنديز وصولا إلى مندوزا. إنني لم أقم برحلة بهذا النجاح منذ أن غادرت إنجلترا، لكنها كانت باهظة الثمن جدا. إنني على يقين بأن أبي لن يكون نادما على قيامي بها، لو أنه أدرك كم استمتعت بها؛ بل كان ذلك شيئا يفوق الاستمتاع، فلا يمكنني التعبير عما شعرت به من سرور بهذه الخاتمة الرائعة لعملي الجيولوجي بأكمله في أمريكا الجنوبية. إنني لم أكن أستطيع النوم في الليل بالفعل بسبب التفكير فيما أقوم به من عمل بالنهار. لقد كانت المناظر جديدة للغاية وجليلة للغاية؛ فكل شيء يبدو بمنظور مختلف من على ارتفاع 12 ألف قدم عما قد يبدو عليه من بلد منخفض. لقد رأيت العديد من المناظر الطبيعية التي هي أجمل منها، لكنها لم تكن قط بهذا الطابع المميز. وبالنسبة إلى الجيولوجي، توجد أدلة واضحة على وجود عنف شديد؛ إذ إن طبقات الأبراج الصخرية الأعلى تتحرك من جانب إلى جانب كقاعدة فطيرة متشققة.
لقد مررت ببورتيلو باس، والذي قد يكون به بعض الخطر في هذا الوقت من العام؛ ولهذا لم أستطع أن أتأخر هناك. وبعد أن قضيت يوما في مدينة مندوزا الغبية، بدأت في العودة من خلال أوسباليت، وقد تمهلت في ذلك كثيرا. لقد استغرقت الرحلة كلها اثنين وعشرين يوما فقط. لقد كان السفر مريحا في هذه الرحلة، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لي؛ إذ إنني كنت أحمل «سريري» معي! وقد كانت مجموعتي تتألف من عدد من العمال بالأجر اليومي وعشرة بغال، كان اثنان منها يحملان المتاع، أو الطعام بالأحرى، في حالة هطول الثلوج. بالرغم من ذلك، كانت الأمور كلها مواتية لي؛ فلم تسقط على الطريق ذرة ثلج واحدة. لا أعتقد أن أيا منكم سيكون مهتما كثيرا بالتفاصيل الجيولوجية، لكنني سوف أذكر ما توصلت إليه من نتائج أساسية فحسب: إضافة إلى اكتساب مقدار محدد من الفهم لوصف القوة التي أدت إلى رفع هذا الخط الكبير من الجبال وطريقتها في ذلك، يمكنني أن أبرهن بوضوح على أن أحد جزأي الخط المزدوج يعود إلى زمن متأخر عن الزمن الذي يعود له الجزء الآخر بفترة طويلة. وفي الخط الأقدم، وهو الذي يمثل سلسلة جبال الأنديز الحقيقية، يمكنني أن أصف نوع الصخور الذي يتكون منها وترتيبها. وأهم ما يميزها من الصفات، هي أنها تضم طبقة من الجص يبلغ سمكها 2000 قدم تقريبا، وأنا أعتقد أن وجود هذه المادة بهذه الكمية هو شيء لا مثيل له في العالم. وأما الأمر ذو النتيجة الأهم، فهو أنني قد وجدت حفريات لأصداف (من على ارتفاع 12 ألف قدم). وأعتقد أن فحص هذه الحفريات سوف يمدنا بالعمر التقريبي لهذه الجبال، مقارنة بطبقات أوروبا. وفي الخط الآخر من السلسلة الجبلية، ثمة افتراض (يقين، في رأيي) قوي أن هذه الكتلة الضخمة من الجبال، والتي تصل قممها إلى ارتفاع 13 أو 14 ألف قدم، حديثة جدا؛ بحيث يمكن أن تكون معاصرة مثل سهول باتاجونيا (أو الطبقات «العليا» من جزيرة وايت). وإذا نظرنا إلى هذه النتيجة باعتبارها نتيجة محققة [لقد حازت أهمية هذه النتائج على اهتمام علماء الجيولوجيا وتقديرهم]، فسوف تكون تلك حقيقة مهمة في نظرية تكون العالم؛ ذلك أنه إذا كانت هذه التغيرات المدهشة قد حدثت في وقت قريب للغاية في قشرة الكرة الأرضية، فلا يوجد سبب يدعونا إلى افتراض حدوث فترات سابقة من العنف المفرط. وتتسم هذه الطبقات الحديثة بصفة مميزة للغاية وهي أنها تحتوي على خطوط من العروق المعدنية من الفضة والذهب والنحاس وغير ذلك، وهي التي ما زلنا ننظر إليها حتى الآن على أنها تعود إلى تكوينات سابقة. وفي هذه الطبقات نفسها، وبالقرب من أحد مناجم الذهب، وجدت مجموعة من الأشجار المتحجرة تقف منتصبة، وقد ترسبت حولها طبقات من الحجر الرملي الناعم؛ فتعطي انطباعا بأنها لحاؤها. وتغطي هذه الأشجار أيضا طبقات أخرى من الحجر الرملي وتيارات من الحمم البركانية، والتي يصل سمكها إلى عدة آلاف من الأقدام. لقد ترسبت هذه الصخور تحت الماء، غير أنه من الجلي أن البقعة التي نمت فيها الأشجار، قد كانت قبل ذلك فوق مستوى سطح البحر بالطبع؛ ومن ثم، فمن المؤكد أن الأرض قد انخفضت بمقدار عدة آلاف من الأقدام على الأقل وذلك نظرا لسمك الترسبات الفوقية تحت المائية. غير أنه يؤسفني أنكم ستخبرونني بأنني أضجركم بأوصافي ونظرياتي الجيولوجية ...
لقد جعلني سردك لزيارة إيرازموس إلى كامبريدج أتوق إلى العودة إلى هناك. ولا يمكنني أن أتخيل شيئا أكثر بهجة من جولته التي يقوم بها يوم الأحد إلى كينجز وترينيتي، وإلى هذين المتحدثين العملاقين؛ هيوويل وسيجويك. أتمنى أن تظل مواهبك الموسيقية على الدرجة نفسها من القوة؛ فسوف أكون نهما للغاية للاستماع إلى عزفك على البيانو ...
إنني لم أحدد بعد ما إن كنت سأبيت في نزل «لايون» في أول ليلة أصل فيها عن طريق «واندر»، أم أزعجكم جميعا في سكون الليل، أما فيما عدا ذلك، فكل شيء مخطط تماما. إن كل شيء في شروزبيري يبدو في عقلي أكبر وأجمل، وأنا على يقين أن أشجار السنط والزان النحاسي قد أصبحت كبيرة، وسوف أعرف كل أجمة، وأزعجكن أيتها الفتيات وأطلب منكن الاحتفاظ ببعض الأشجار حين تبدأ كل منكن في قطعها. وأما بالنسبة إلى المنظر من خلف المنزل، فإنني لم أر شيئا مثله. وينطبق الأمر نفسه على شمال ويلز؛ سنودن يبدو في عقلي أعلى وأجمل بكثير من أي قمة في السلسلة الجبلية الموجودة هنا. أعرف أنك ستقولين إنه قد حان وقت الرجوع نظرا لما أصابني من وهن شديد، والواقع أن ذلك صحيح وأنا أتوق لأن أكون معكم. وبغض النظر عن الأشجار، فأنا أعرف الحال التي سأجدكم جميعا عليها. لقد صرت أهذي بالكلام؛ فإلى اللقاء. خالص مودتي إليكم جميعا، وأنا أرجو المعذرة من أبي.
أخوك المحب دائما
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
ليما، يوليو، 1835
عزيزي فوكس
لقد تلقيت اثنين من خطاباتك مؤخرا، أحدهما مرسل في شهر يونيو والآخر في نوفمبر، من عام 1834 (بالرغم من ذلك، فقد وصلا إلي بترتيب عكسي). لقد سررت للغاية بالاطلاع على أحداث هذه السنة الأهم في حياتك. قبل ذلك، لم أعرف سوى أنك قد تزوجت. إنك مسيحي صادق وترد الإساءة بالإحسان؛ إذ أرسلت مثل هذين الخطابين لشخص سيئ في التواصل مثلي. فليباركك الرب على الكتابة إلي بمثل هذا العطف والود؛ لئن كنت أشعر بالسعادة لوجود أصدقاء لي في إنجلترا، فإن هذه السعادة لتصبح مضاعفة إذ أدرك أن هؤلاء الأصدقاء لم ينسوني بسبب الغياب. إن هذه الرحلة طويلة للغاية، وأنا أرغب في العودة بشدة، غير أنني أهاب المستقبل؛ إذ إنني لا أعرف ما الذي سيصبح عليه حالي. إن وضعك الآن يفوق الحسد: إنني لا أجرؤ حتى على أن أتصور مثل هذه الرؤى السعيدة. إن حياة رجل الدين - بالنسبة للشخص الملائم - ستوفر له الاحترام والسعادة. إنك لتغريني بالحديث عن مدفأتك، بالرغم من أنه منظر لا ينبغي لي أن أفكر فيه أبدا. لقد رأيت سفينة تبحر إلى إنجلترا قبل بضعة أيام، وقد كان خطرا أن أعرف مدى سهولة أنني قد أصبح هاربا. وبالنسبة إلى السيدات الإنجليزيات، فقد كدت أن أنسى سماتهن الملائكية الطيبة. أما نساء هذه البلاد، فهن يرتدين القبعات والتنورات الداخلية، وليس بينهن إلا قلة يتمتعن بجمال الوجه، وهذا كل شيء. بالرغم من ذلك، إن لم تتحطم سفينتنا على حيد بحري تعس، فسوف أجلس بجوار المدفأة نفسها في فيل كوتيدج، وأحكي بعض القصص الرائعة، والتي يبدو أنك تنتظرها، والتي أعتقد أنك لست مستعدا للغاية لتصديقها. الشكر لله أن انتظار مثل هذه الأوقات صار أقرب من ذي قبل.
في غضون أسبوعين، سنبحر من «مدينة الملوك» الأكثر بؤسا هذه، ثم نتجه إلى جواياكيل، وجالاباجوس وماركيساس وجزر سوسايتي وغيرها. وأنا أتطلع إلى زيارة جالاباجوس باهتمام أكبر من اهتمامي بأي جزء آخر في الرحلة؛ فهي تزخر بالبراكين النشطة، ويفترض أنها تحتوي على طبقات ثالثية، وهو ما أرجوه. إنني سعيد بسماعي أنك تفكر في البدء في العمل بالجيولوجيا. أتمنى أن تفعل ذلك حقا؛ فمجال التأمل بها أكبر كثيرا من أي فرع من فروع التاريخ الطبيعي الأخرى. لقد أصبحت نصيرا متحمسا لآراء السيد لايل الواردة في كتابه الجدير بالإعجاب. ودراسة الطبيعة الجيولوجية في أمريكا الجنوبية تغريني بأن أذهب بالأمور إلى أبعد مما ذهب هو. إن اختيار البدء بالجيولوجيا هو اختيار ممتاز؛ فهو لا يتطلب شيئا سوى بعض القراءة والتفكير والطرق على الصخور. لقد جمعت مجموعة كبيرة من الملاحظات، غير أنني أشعر بالحيرة دائما بشأن ما إن كانت قيمتها تستحق الوقت الذي بذلته لجمعها، أم أن جمع الحيوانات كان ليعود بقيمة أكيدة أكبر.
سوف أكون سعيدا بالطبع لأن أراك مرة أخرى وأخبرك بمدى امتناني لصداقتنا المستمرة. ليباركك الرب يا عزيزي الغالي فوكس.
خالص مودتي إليك
صديقك المحب
تشاز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
سيدني، يناير، 1836
عزيزي هنزلو
هذه هي الفرصة الأخيرة للتواصل معك قبل ذلك اليوم السعيد الذي أصل فيه إلى كامبريدج. ليس لدي سوى القليل جدا من الكلام، غير أنه لا بد لي من الكتابة، ولو لم يكن ذلك لشيء إلا للتعبير عن فرحتي بانتهاء السنة الماضية، وأن الحالية، وهي التي ستعود فيها «البيجل»، تمضي إلى الأمام. جميعنا هنا يشعر بخيبة الأمل؛ إذ إننا لم يصل إلينا خطاب واحد؛ وقد وصلنا قبل موعدنا المنتظر بالفعل، وإلا فيمكنني أن أقول بأنني كنت سأقرأ خطابا لك. لا بد لي أن أتصبر بالمستقبل، وإنه لأمر غاية في السرور أن أشعر باليقين بأنني سأكون مقيما مرة أخرى في هدوء في كامبريدج بعد ثمانية شهور. إن حياة السفر بالتأكيد لا تناسبني؛ فأفكاري تجول دوما إما في مشاهد الماضي أو المستقبل، ولا يمكنني أن أستمتع بسعادة اللحظة الحالية لانتظار المستقبل، وهو أمر في منتهى الغباء، كفعل الكلب الذي ترك عظمة حقيقية من أجل ظلها. ...
في مسيرنا عبر المحيط الهادئ، لم نرس إلا عند تاهيتي ونيوزيلاندا، ولم أحظ بفرصة كبيرة للعمل لا في هذين المكانين، ولا في البحر كذلك. تاهيتي مكان ساحر للغاية، وكل ما كتبه الملاحون السابقون عنها، حقيقي؛ «سايثيريا جديدة قد خرجت من المحيط». إن مناظرها الطبيعية الجميلة وطقسها وطباع أهلها، كل ذلك يتناغم معا. إضافة إلى ذلك، فإنه لمن الرائع حقا أن ترى الأثر الذي خلفته البعثات التبشيرية هناك وفي نيوزيلاندا كذلك. إنني أومن حقا بأنهم رجال صالحون يعملون لأجل قضية خيرة. وأنا أكاد أجزم بأن من أساءوا إلى البعثات التبشيرية أو سخروا منهم، هم على الأرجح من هؤلاء الأشخاص الذين لا يهمهم أن يجدوا السكان الأصليين يتمتعون بالأخلاق والذكاء. في الفترة المتبقية من الرحلة، لن نزور من الأماكن إلا ما يعرف منها بوجه عام بالتمدن، وسيكون معظمها تابعا للعلم البريطاني. سوف تكون هذه الأماكن حقلا فقيرا للتاريخ الطبيعي، وقد اكتشفت مؤخرا أنه بدون وجود فرصة جيدة في مجال التاريخ الطبيعي، فإن الاستمتاع برؤية الأماكن الجديدة لا يساوي شيئا. يجب أن أعود إلى منهلي القديم وأفكر في المستقبل، ولكيلا أسهب أكثر من ذلك، فسوف أقول وداعا إلى أن يأتي اليوم الذي أرى فيه أستاذي في التاريخ الطبيعي وأستطيع أن أخبره بمدى امتناني لعطفه وصداقته.
خالص مودتي إليك يا عزيزي هنزلو
المخلص لك دائما وأبدا
تشاز داروين
من تشارلز داروين إلى الآنسة إس داروين
باهيا، البرازيل، 4 أغسطس [1836]
عزيزتي سوزان
سأكتب بضعة سطور فقط لأشرح السبب في تأريخ هذا الخطاب على ساحل أمريكا الجنوبية. إن الاختلافات البسيطة في خطوط الطول قد جعلت القبطان فيتزروي متلهفا لإكمال الدائرة في نصف الكرة الأرضية الجنوبي، ثم تتبع خطواتنا ثانية على طريقنا الأول إلى إنجلترا. ومتابعة السير بهذا الأسلوب المتعرج أمر خطير، وقد كان له أثر سيئ على نفسيتي. إنني أمقت البحر وأبغضه هو وجميع السفن التي تبحر فيه، لكنني ما زلت أعتقد أننا سنصل إلى إنجلترا في النصف الثاني من أكتوبر. عندما كنت في أسينشان، تلقيت خطاب كاثرين المؤرخ في أكتوبر وخطابك المؤرخ في نوفمبر، أما الخطاب الذي تلقيته في كيب، فقد كان بتاريخ لاحق، لكن الخطابات بجميع أنواعها هي كنز لا يقدر بثمن، وأنا أشكركما عليها. إن صحراء أسينشان وصخورها البركانية وبحرها الهائج ، اكتست فجأة بهيئة جميلة فور أن عرفت بوصول أخبار من الأهل، وأصبحت مستعدا لاستكمال عملي السابق في الجيولوجيا بكل رضا. ستندهشين كثيرا إذا عرفت كيف أن الاستمتاع بمكان جديد يتوقف كليا على الخطابات. لم نمكث في أسينشان سوى أربعة أيام، ثم توجهنا إلى باهيا في رحلة رائعة جدا.
لم أكن أظن بأنني سأخطو على ساحل أمريكا الجنوبية مجددا. وقد كان اكتشافي لمقدار الحماس الذي تبخر في هذه السنوات الأربع أمرا لا يخلو من الألم. يمكنني الآن أن أسير بهدوء في الغابات البرازيلية، وذلك ليس لأنها غير جميلة للغاية، وإنما أصبحت الآن، بدلا من أن أسعى وراء عقد مقارنات مدهشة، أقارن بين أشجار المانجو المهيبة وأشجار كستناء الحصان في إنجلترا. وبالرغم من أن الأسلوب المتعرج هذا قد أضاع علينا أسبوعين على الأقل، فإنني سعيد به من بعض الجوانب. أعتقد أنه سيمكنني من أن أحمل معي صورة حيوية للمناظر الطبيعية داخل الغابات الاستوائية. سنذهب من هنا إلى الرأس الأخضر، هذا إن سمحت لنا الرياح أو مناطق الركود الاستوائي. ليس لدي سوى أمل ضعيف في وجود تيار مستمر من الرياح القوية، مما قد يشجع القبطان على المتابعة مباشرة إلى منطقة الأزور، وأنا أدعو بإخلاص لوقوع هذا الحدث غير الملائم.
لقد كان خطاباكما يحملان الكثير من الأخبار الجيدة، ولا سيما العبارات التي تقولان إن البروفيسور سيجويك قد استخدمها في الحديث عن العينات التي جمعتها. إنني أقر بأنها مرضية للغاية - وأنا أثق أن جزءا واحدا على الأقل سيكون صحيحا وأنني سأتصرف وفقا للطريقة التي أفكر بها الآن - وهي أن أي شخص يجرؤ على إهدار ساعة من وقته، هو شخص لم يعرف قيمة الحياة. إن مجرد ذكر البروفيسور سيجويك لاسمي يمنحني الأمل في أن يساعدني بتقديم النصيحة لي، والتي أنا في أشد الحاجة إليها في مسائلي الجيولوجية. لا حاجة لي بأن أخبركم أنني أكتب وأنا في سباق مع الزمن؛ إذ يتضح ذلك من هذه الكتابة السريعة المخزية؛ ذلك أنني كنت بالخارج طوال فترة الصباح، والآن، ثمة غرباء على متن السفينة، وعلي أن أذهب وأتحدث إليهم بأدب وكياسة. وثمة أمر آخر كذلك، وهو أن هذا الخطاب سيذهب في سفينة أجنبية؛ لذا، فليس من المؤكد إن كان سيصل أم لا. وداعا يا عزيزتي الغالية سوزان، والوداع إليكم جميعا. إلى اللقاء.
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
سانت هيلينا، 9 يوليو، 1836
عزيزي هنزلو
سوف أطلب منك أن تسدي لي صنيعا. إنني متلهف للغاية على الانضمام إلى الجمعية الجيولوجية، ولست أدري بشأن هذا الأمر لكنني أعتقد أنه يلزم التقدم بطلب الانضمام قبل أن يجري الاقتراع عليه؛ فإن كانت تلك هي الحال، فهلا تكرمت بإجراء الخطوات التحضيرية المناسبة؟ لقد تكرم البروفيسور سيجويك ووعدني بأنه سيقدم الطلب قبل أن يغادر إنجلترا، إن كان في لندن. ويمكنني أن أقول إن الاحتمال لا يزال قائما بأنه قد يفعل ذلك.
ليس لدي سوى القليل جدا لأكتبه؛ إذ إننا لم نر أو نفعل أو نسمع شيئا مميزا منذ فترة طويلة مضت، أما في الوقت الحاضر، فأعتقد أننا، إن رأينا أمامنا عجائب كوكب آخر، سوف نصرخ جميعا في دهشة: يا له من وباء تام! لم يحدث قط من قبل أن غنى أحد من الطلاب أغنية «البيت الجميل» («دولاس دومام») التي تجمع بين الشجن والمرح، بعاطفة أكثر توهجا مما نشعر جميعا بأننا نرغب في غنائها بها. غير أن موضوع «البيت الجميل» برمته، وسرور المرء برؤية أصدقائه، لهو أمر خطير للغاية؛ إذ إنه ولا ريب يجعل المرء كثير الإسهاب أو كثير الصخب. أوه، كم أتوق إلى الحياة الهادئة مرة أخرى، دون وجود شيء واحد جديد بالقرب مني! لا يمكن لأحد أن يشعر بهذا إلى أن يدور حول العالم مثلي على مدى خمسة أعوام بأكملها على متن سفينة ثلاثية الصواري تحمل عشرة مدافع. إنني أعيش الآن في منزل صغير (بين السحب) يقع في قلب الجزيرة، على مقربة شديدة من مقبرة نابليون. تهب الآن عاصفة من الرياح والمطر الغزير مع الصقيع. ولئن كان شبح نابليون يسكن محبسه الكئيب، فإن هذه الليلة ستكون رائعة لمثل هذه الأشباح الهائمة. أتمنى أن أتمكن من التعرف بعض الشيء على الطبيعة الجيولوجية للجزيرة (والتي لم توصف في الغالب إلا بنحو جزئي)، إذا سمح لي الطقس بذلك. وأنا أعتقد أن تركيبها أكثر تعقيدا على العكس من معظم الجزر البركانية. ويبدو غريبا أن تلك الرقعة الصغيرة التي تمثل مركز هذا التكوين المميز من المفترض أن تحمل علامات الارتفاع الحديثة، كما تؤكد النظرية.
ستتابع «البيجل» رحلتها من هذا المكان إلى أسينشان، ثم إلى الرأس الأخضر (يا لها من مناطق بائسة!) ثم بعد ذلك، ستتجه إلى الأزور، ثم إلى بليموث، ثم إلى الوطن. غير أن اليوم الأكثر روعة في حياتي على الإطلاق لن يحل حتى منتصف أكتوبر. وفي يوم من ذلك الشهر، سوف تراني في كامبريدج، حيث سآتي إليك مباشرة أبلغك بحضوري، بصفتك قائد البحرية بالنسبة لي. في رأس الرجاء الصالح، كنا نشعر جميعا بخيبة أمل مريرة لافتقادنا خطابات تسعة أشهر والتي كانت تلاحقنا بين أنحاء العالم. أعتقد أنه كان من بينها خطاب منك؛ إنني لم أر خط يدك منذ وقت بعيد، لكنني سأراك بشخصك قريبا، وذلك أفضل بكثير. ولأنني تلميذك، فواجبك أن تتولى مهمة انتقادي وتوبيخي على جميع الأمور التي أسأت في فعلها، والأمور التي لم أفعلها على الإطلاق، وهو ما سأحتاج إليه كثيرا بكل أسف، لكنني آمل خيرا، وأنا على يقين من أن لدي مشرفا جيدا، وإن لم يكن متساهلا بدرجة كبيرة.
في رأس الرجاء الصالح، حالفني أنا وفيتزروي وافر الحظ في أن ننول تلك الفرصة الرائعة المتمثلة في لقاء السير جيه هيرشيل. لقد تناولنا العشاء في منزله ورأيناه بضع مرات أخرى. وقد كان كريم الطباع للغاية، غير أن سلوكه قد بدا لي مروعا بعض الشيء في بداية الأمر. إنه يعيش في منزل ريفي مريح للغاية، وتحيط به أشجار التنوب والبلوط، وهي كفيلة وحدها بأن تمنحني أجمل أجواء العزلة والراحة في مثل هذا الريف الفسيح. يبدو على الرجل أنه يجد وقتا لكل شيء؛ فقد أرانا حديقة جميلة تزخر بالنباتات البصلية التي تنمو في هذا الإقليم، والتي قد جمعها هو بنفسه، وقد فهمت بعد ذلك أن كل شيء من عمل يديه. إنني بليد للغاية وليس لدي المزيد لأقوله؛ فالرياح تصفر بعوائها الحزين على التلال الكئيبة، ولهذا فسوف أخلد إلى النوم وأحلم بإنجلترا.
طابت ليلتك يا عزيزي هنزلو.
وإليك خالص الحب والامتنان
تشاز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
شروزبيري، الخميس، 6 أكتوبر، [1836]
عزيزي هنزلو
إنني واثق في أنك ستهنئني على سعادتي بعودتي إلى البيت مجددا. لقد وصلت «البيجل» إلى فالموث في مساء الأحد، ووصلت أنا إلى شروزبيري صباح الأمس. إنني متلهف لرؤيتك للغاية؛ ونظرا لأنه يتحتم علي أن أعود إلى لندن في خلال أربعة أيام أو خمسة لكي أحصل على أغراضي الشخصية من «البيجل»، فإنني أعتقد أن الخطة الأنسب هي أن أمر بكامبريدج. إنني أريد مشورتك في العديد من النقاط؛ فأنا حائر للغاية بالفعل ولا أدري ماذا أفعل ولا في أي اتجاه أسير. وأكثر ما يثير حيرتي هي العينات الجيولوجية: من سيتطوع لمساعدتي في وصف طبيعة تركيبها المعدني؟ هلا تكرمت بإرسال خطاب قصير لي «فور أن تتسلم الخطاب» تخبرني فيه بما إذا كنت في كامبريدج أم لا. ما زلت غير متأكد مما إذا كان يجب علي البدء في الرحلة قبل أن تصلني أخبار من القبطان فيتزروي أم لا، لكنني أتمنى أن تسنح الفرصة لتنفيذ خطتي. إنني أشتاق إلى رؤيتك جدا يا عزيزي هنزلو؛ لقد كنت لي أفضل صديق يمكن للمرء أن يفوز به. لا يمكنني أن أكتب أكثر من ذلك؛ فرأسي يميد بالفرحة والحيرة.
إلى لقاء قريب
خالص امتناني إليك
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى آر فيتزروي
شروزبيري، صباح الخميس، 6 أكتوبر، [1836]
عزيزي فيتزروي
لقد وصلت إلى هنا صباح الأمس في وقت الإفطار، والشكر للرب أنني قد وجدت أبي وجميع أخواتي العزيزات بخير. يبدو أبي أكثر ابتهاجا وأكبر سنا قليلا عما تركته عليه. وأخواتي يؤكدن لي أنه ما من اختلاف على الإطلاق قد طرأ على هيئتي ، ويمكنني أن أرد لهن المجاملة نفسها. لا شك في أن إنجلترا بأكملها تبدو مختلفة، إلا مدينة شروزبيري العزيزة الغالية وساكنيها، اللذين، رغم كل ما أستطيع رؤيته، قد يظلان على حالهما الحالي إلى يوم الدينونة. إنني أتمنى من كل قلبي لو أنني كنت أكتب إليك وأنت بين أصدقائك، بدلا من بليموث البغيضة تلك، لكن قريبا سيأتي اليوم الذي تشعر فيه بالسعادة التي أشعر بها الآن. أؤكد لك أنني قد أصبحت رجلا رائعا في المنزل؛ فتلك السنوات الخمس التي قضيتها في الرحلة قد جعلتني بالتأكيد ناضجا تماما، ويؤسفني أن مثل هذا السلوك الرائع سيتأثر سلبا لا ريب.
إنني أشعر بالخجل الشديد من نفسي بسبب تلك الحالة التي انتابتني في الأيام القليلة الأخيرة على متن السفينة والتي كنت فيها بين الحياة والموت، وعذري الوحيد هو أنني لم أكن بخير. لقد كان اليوم الأول في عربة البريد مرهقا، لكن مع اقترابي من شروزبيري، بدا كل شيء أجمل وأكثر بهجة. وفي أثناء مروري بجلوسترشير ووسترشير، تمنيت كثيرا أن تستمع بالحقول والغابات والبساتين. إن هؤلاء الركاب الحمقى في العربة لم يبد عليهم أنهم يدركون أن الحقول أصبحت أكثر اخضرارا من المعتاد، لكنني أثق بأننا كنا سنتفق تماما على أنه ما من مشهد يبعث على السعادة في هذا العالم الفسيح بأكمله أكثر من الأرض الخصبة المزروعة في إنجلترا.
أتمنى ألا تنسى أن تبعث لي بخطاب تخبرني فيه بأحوالك. وأتمنى حقا أن تكون كل أسباب قلقك ومتاعبك المتعلقة برحلتنا، والتي نعلم الآن أنها «من المفترض» أن تنتهي قد انتهت بالفعل. إذا لم تكن تشعر بقدر كبير من الرضا عن كل هذه الطاقة الجسدية والذهنية التي بذلتها في خدمة جلالة الملك، فسوف يكون من الصعب جدا أن تتعافى. لقد أغضبت أخواتي المتطرفات بشأن بعض الإجراءات المتحفظة (كنت سأقول الرديئة، إن لم يكن صادقات التأييد لحزب الأحرار) التي تتخذها الحكومة. وبالمناسبة، ينبغي علي أن أخبرك، لأجل شرف عائلتنا وإبائها، أن أبي يمتلك صورة كبيرة للملك جورج الرابع يعلقها في غرفة الجلوس الخاصة به . غير أنني لن أرتد عن آرائي، وحين نلتقي، سوف تكون آرائي السياسية على القدر نفسه من الرسوخ والتأسيس العقلاني كما كانت دائما.
لقد ظننت حين بدأت هذا الخطاب بأنني سوف أقنعك بأنني في حالة ذهنية مستقرة ومتزنة، غير أنني أرى أنني لا أكتب سوى محض هراء. أمس بدأ على الفور اثنان أو ثلاثة من العاملين لدينا في الشراب وثملوا للغاية على شرف وصول السيد تشارلز؛ فمن سينفي عندئذ إن كان السيد تشارلز نفسه يختار أن يجعل من نفسه أضحوكة؟ ليباركك الرب! أتمنى أن تكون سعيدا مثل فيلسوفك المخلص، غير الجدير بهذا اللقب، لكن أكثر حكمة منه.
تشاز داروين
الفصل السابع
لندن وكامبريدج
1836-1842 [تتضمن الفترة التي تمثلها هذه الخطابات، السنوات فيما بين عودة والدي من رحلة «البيجل» واستقراره في داون. وهي تتسم ببدء ظهور علامات اعتلال الصحة عليه، والذي أجبره في النهاية على مغادرة لندن والإقامة في منزل ريفي هادئ حتى آخر أيام حياته. في يونيو من عام 1841، كتب إلى لايل: «يبدو أن أبي لا يتوقع أن أصبح قويا إلا بعد بضع سنوات، وقد كان هوانا مريرا لي أن أدرك حقيقة أن «السباق للأقوى»، وأنني من المحتمل أن أضيف قدرا ضئيلا إلى العلم في المستقبل، وسأكتفي بالإعجاب بما يقطعه غيري من أشواط في مجال العلوم.»
لا يوجد دليل على نيته بالالتحاق بأي مهنة بعد عودته من الرحلة، وفي بداية عام 1840، كتب إلى فيتزروي: «إنني لا أتمنى شيئا سوى أن تتحسن صحتي لكي أتابع العمل على الموضوعات التي قررت بسعادة أن أخصص حياتي لها.»
إن هذين الأمرين - اعتلال الصحة الدائم والشغف الخالص بالعمل في مجال العلوم - شكلا حياته المستقبلية بأكملها، في وقت مبكر من حياته العملية. لقد دفعتاه إلى أن يحيا حياة من الانعزال والعمل الدءوب، مع بذل أقصى قدر من طاقته الجسمانية، وهي حياة تنفي على نحو واضح ما كان يتنبأ به من الكآبة.
شهدت نهاية الفصل السابق وصول أبي سالما إلى شروزبيري في 4 أكتوبر 1836، «بعد غياب خمسة أعوام ويومين». وقد كتب إلى فوكس: «لا يمكنك أن تتخيل مدى الروعة والبهجة التي كانت عليها زيارتي الأولى إلى المنزل؛ إنها تستحق هذا الاغتراب.» غير أنها مسرة لم يستطع أن يستمتع بها لفترة طويلة؛ ففي آخر أيام شهر أكتوبر، ذهب إلى جرينتش لإحضار عيناته من «البيجل». وبالنسبة إلى وجهة مجموعات عيناته، نجد أنه يكتب إلى هنزلو بشيء من الإحباط قائلا:
لم أحرز تقدما كبيرا مع رجال العلم العظام؛ فقد وجدتهم، كما أخبرتني، منهمكين للغاية في أعمالهم الخاصة. لقد تطوع السيد لايل وتكرم «للغاية» بمساعدتي في جميع خططي، غير أنه يخبرني بالأمر نفسه، وهو أنه ينبغي علي القيام بجميع العمل بنفسي. ويبدو السيد أوين متحمسا لتشريح بعض الحيوانات؛ وبخلاف هذين الرجلين، لم ألتق أحدا يبدي الرغبة في العمل على أي من عيناتي. ولا بد لي أن أستثني هنا الدكتور جرانت؛ فهو يرغب في فحص بعض المرجانيات. إنني أرى أنه من غير المعقول أن آمل ولو للحظة في أن يتولى رجل واحد مهمة فحص رتبة بأكملها. ومن الواضح أن عدد الجامعين يفوق عدد علماء التاريخ الطبيعي بكثير؛ لذا، ليس لديهم من وقت فراغ يبذلونه في سبيل فحص عيناتي.
إنني أجد أن حتى أماكن عرض المجموعات لا ترغب في استقبال العينات غير المسماة. إن متحف جمعية علم الحيوان ممتلئ تقريبا، وما تزال هناك ألف عينة إضافية لم تعرض بعد. أعتقد أن المتحف البريطاني سيستقبلها، لكن، وفقا لما أسمعه، فإنني لا أكن احتراما كبيرا لتلك المؤسسة بوضعها الحالي. لن تكون خطتك هي الأفضل فحسب، بل أيضا هي الخطة الوحيدة: الذهاب إلى كامبريدج وترتيب العائلات المختلفة وتجمعيها معا، ثم انتظار بعض الأشخاص الذين يعملون بالفعل في فروع مختلفة أن يرغبوا في الحصول على بعض هذه العينات. غير أنه يبدو لي أن القيام بذلك سيتطلب الإقامة في لندن. وأفضل خطة أراها حتى الآن هي أن أقضي عدة أشهر في كامبريدج، وبعد أن تتضح لي الرؤية، بمساعدتك، أنتقل إلى لندن حيث أتمكن من الانتهاء من عملي في مجال الجيولوجيا، وإحراز تقدم أكبر في مجال علم الحيوان. إنني أؤكد لك أنه يؤسفني أن أرى أن أمورا كثيرة تجعلني أدرك ضرورة الإقامة في تلك المدينة القذرة الكريهة المسماة لندن. فحتى في الجيولوجيا، أعتقد أن الأمر سيتطلب قدرا كبيرا من المساعدة والتواصل في هذا المكان: الحفريات العظمية، على سبيل المثال، لم يفحص منها سوى أجزاء حفرية البهضم، وها أنا أرى بوضوح أن ذلك ما كان ليحدث لولا وجودي هناك ...
ليتني كنت أعرف أن علماء النبات يولون اهتماما كبيرا للعينات، بينما لا يوليها علماء الحيوان، سوى القدر الضئيل؛ فقد كان ينبغي أن تتخذ النسبة بين أعداد نوعي العينات، شكلا مختلفا. لقد نفد صبري مع علماء الحيوان، وليس ذلك بسبب أعباء عملهم الزائدة، وإنما بسبب طباعهم الخبيثة العدوانية. لقد ذهبت في مساء أحد الأيام إلى جمعية علم الحيوان، ووجدت المتحدثين فيها يتشاجرون بعضهم مع بعض بأسلوب هو بعيد كل البعد عن خصال الأفاضل من الرجال. الشكر للرب أنه ما من خطر بالخوض في مثل تلك المشاجرات الذميمة ما دمت في كامبريدج، أما في لندن، فلست أرى طريقا لتجنبها. بالنسبة إلى علماء التاريخ الطبيعي، فإن إف هوب خارج لندن، ولم ألتق بويستوود؛ لذا، فإنني لا أعرف شيئا عن مصير حشراتي. لقد التقيت بالسيد ياريل مرتين، لكن من الواضح جدا أنه محمل بالكثير من أعباء العمل؛ ولهذا فسوف تكون أنانية مني أن أبليه بمشاغلي. لقد طلب مني حضور العشاء مع أعضاء الجمعية اللينية يوم الثلاثاء، ومع أعضاء الجمعية الجيولوجية يوم الأربعاء؛ كي أتمكن من رؤية جميع رجال العلم العظماء. وقد سمعت أن السيد بيل منشغل للغاية؛ فما من فرصة في أن يرغب في الحصول على بعض عينات الزواحف. لقد نسيت أن أذكر السيد لانسدايل [الأمين المساعد للجمعية الجيولوجية]، وهو الذي استقبلني استقبالا وديا للغاية، وحظيت معه بمحادثة هي الأكثر إمتاعا. إن لم أكن أميل إلى الجيولوجيا بدرجة أكبر كثيرا من ميلي إلى بقية فروع التاريخ الطبيعي، فأنا أثق بأن عطف السيد لايل والسيد لانسدايل كانا سيصبحان كفيلين بإصلاح ذلك الأمر. لا يمكنك أن تتخيل أي شيء أكثر ودية من تلك الطريقة التي أخلص بها السيد لانسدايل نفسه تماما في أن يضع نفسه في مكاني للتفكير في أفضل خطوة يجب القيام بها. لقد كان يرى في البداية أن الإقامة في لندن أفضل من كامبريدج، لكنني قد جعلته يعتقد في النهاية أن الإقامة في كامبريدج ستكون هي الأنسب لي، وإن كان ذلك لبعض الوقت على الأقل. ما من شخص آخر يمكنني أن أطلب منه أن يتحمل مشقة قراءة بعض الأوراق التي تركتها معك ونقدها سواك. وقد كان رأي السيد لايل أن كامبريدج هي المكان الأفضل لعلماء التاريخ الطبيعي بعد لندن. أقسم لك إنني أشعر بالخجل من نفسي لكتابة الكثير من التفاصيل التافهة؛ إن الشابات الصغيرة حتى لا يصفن أولى الحفلات الراقصة التي حضرنها بمثل هذا التفصيل.
بعد ذلك ببضعة أيام قليلة، يكتب بنبرة أكثر ابتهاجا قائلا: «لقد تعرفت على السيد بيل [وهو تي بيل، زميل الجمعية الملكية، والأستاذ السابق لعلم الحيوان بكلية كينجز كوليدج في لندن، والذي شغل منصب أمين الجمعية الملكية لبعض الوقت، ووصف بعد ذلك الزواحف في «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»»]، وقد أدهشني أنه عبر عن اهتمامه الكبير بعينات القشريات والزواحف التي جمعتها، وهو يبدو راغبا في العمل عليها. وقد سمعت أيضا أن السيد برودريب سيسره فحص أصداف أمريكا الجنوبية؛ وبهذا، فإن أموري تسير على خير ما يرام.»
وأما بالنسبة إلى نباتاته، فهو يكتب عن جهله بها بصراحة بارزة: «لقد جعلتني معروفا بين علماء النبات، لكنني شعرت بأنني أحمق للغاية حين علق السيد دون على الشكل الجميل لنبات ذي اسم طويل للغاية، وسألني عن موطنه الأصلي. وقد بدا آخر مندهشا من أنني لا أعرف شيئا عن أحد أنواع السعادي الذي أجهل موطنه. وفي نهاية الأمر، اضطررت إلى أن أقر بجهلي الشديد وأنني لا أعلم عن النباتات التي جمعتها أكثر مما أعرف عن الإنسان الموجود على القمر.»
وبالنسبة إلى جزء من مجموعته الجيولوجية، فقد تمكن بعد ذلك بفترة قصيرة من أن يكتب: «لقد وزعت الجزء الأهم من مجموعتي الجيولوجية؛ إذ أعطيت جميع الحفريات العظمية لكلية الجراحين، وسوف توزع قوالبها وتنشر أوصافها. وهي حفريات غريبة وقيمة: إن بها رأسا لأحد الحيوانات القارضة في حجم فرس النهر! وهناك أخرى لأحد آكلي النمل في حجم الحصان!»
ويجدر بنا أن نذكر هنا أنه في ذلك الوقت لم يوصف من بقايا الثدييات المنقرضة التي جرى إحضارها من أمريكا الجنوبية سوى تلك الخاصة بحيوان الصناجة (ثلاثة أنواع) وحيوان البهضم. ولم تكن بقايا أحافير الدرداوات المنقرضة التي كانت ضمن مجموعة السير وودباين باريش قد وصفت. وتضمنت عينات والدي (إضافة إلى التوكسدون والسليدوثيريوم السابق ذكرهما) بقايا المايلودون والجلوسوثيريوم، وحيوانا آخر ضخما يشبه آكل النمل والماكروكينيا. ولا يزال اكتشافه لهذه البقايا أمرا مثيرا للاهتمام في حد ذاته، غير أن له أهمية خاصة في حياته؛ إذ إن ذلك الانطباع القوي الذي تولد عن استخراجها بيديه هو الذي شكل إحدى نقاط الانطلاق الأساسية لنظريته عن أصل الأنواع. [لقد سمعته أكثر من مرة يتحدث عن يأسه الذي دفعه إلى كسر الطرف البارز لعظمة كبيرة لم تستخرج بأكملها؛ إذ إن القارب الذي كان ينتظره لم يكن لينتظر أكثر من ذلك.] ويتضح ذلك في الفقرة التالية التي نجدها في مفكرة جيبه لذلك العام (1837): «في يوليو، بدأت الكتابة عن تحول الأنواع الحية لأول مرة. ومنذ شهر مارس الماضي تقريبا، وأنا أفكر كثيرا في طبيعة أحافير أمريكا الجنوبية والأنواع الحية في أرخبيل جالاباجوس. وهذه الحقائق (ولاسيما المتعلقة بالأخيرة) هي الأصل الذي تفرعت عنه جميع آرائي».] (1) 1836-1837
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
43 شارع جريت مالبوره
السادس من نوفمبر [1836]
عزيزي فوكس
لقد استغرق مني الرد على خطابك وقتا طويلا للغاية؛ مما يدعوني إلى الخجل من نفسي، لكن أكثر أوقاتي انشغالا في الرحلة يعد هو السكينة نفسها مقارنة بهذا الشهر الأخير. بعد أن زرت هنزلو زيارة سعيدة بالرغم من قصر مدتها، أتيت إلى المدينة انتظارا لوصول «البيجل». وأخيرا، أخذت جميع أغراضي من فوق متن السفينة، وأرسلت عينات التاريخ الطبيعي إلى كامبريدج، وبهذا، فقد أصبحت الآن حرا. لم يحدث في زيارتي إلى لندن الكثير فيما يتعلق بالتاريخ الطبيعي، لكنها كانت فترة ممتعة ومثيرة من التفاعل مع سادة العلم. إن جميع أحوالي على خير ما يرام بكل تأكيد؛ فقد وجدت العديد من الأشخاص الذين سيتولون مهمة وصف قبائل بأكملها من الحيوانات التي لا أعرف عنها شيئا. وبهذا، فإنني آمل أن أبدأ في هذا اليوم من هذا الشهر في العمل بأقصى جهدي في الجيولوجيا، والذي سوف أنشر نتائجه بمفردها.
إنه لأمر غريب للغاية أن أشعر أن المدة التي قضيتها منذ أن رسونا في فالموث طويلة للغاية. والحق أنني قد تحدثت وضحكت بما يكفيني لسنوات لا أسابيع؛ لذا فإن كل هذا الضجيج قد أربك ذاكرتي بعض الشيء. يسعدني أن أعرف أنك قد تحولت إلى دراسة الجيولوجيا: حين أزور جزيرة وايت، وأنا متأكد من المرور بها بطريقة ما، سوف تكون أنت دليلا مهما ترشدني بشأن خط الخلع الشهير. إنني أعتقد حقا أن بضعة أماكن في العالم تثير اهتمام علماء الجيولوجيا أكثر من جزيرتك. من بين جميع رجال العلم العظام، فإن لايل هو الأكثر طيبة وودا. لقد التقيت به مرات عديدة، وأشعر أنني أكن له كثير الإعجاب. لا يمكنك أن تتخيل كيف أنه قد ساعدني في جميع خططي بكل كرم. إنني أتحدث الآن عن اللندنيين فحسب؛ فقد كان هنزلو كسابق عهده تماما؛ ومن ثم، فقد كان أكثر الأصدقاء إخلاصا وودا. حين تزور لندن، فسوف أفتخر كثيرا باصطحابك إلى الجمعية الجيولوجية، ولتعرف أنني كنت مرشحا لنيل لقب زميل الجمعية الجيولوجية يوم الثلاثاء الماضي، غير أنه من المؤسف حقا أن مثل هذا اللقب وكذلك الألقاب الأخرى، لا سيما لقب زميل الجمعية الملكية، باهظة الثمن للغاية.
لن أتردد في أن أطلب منك أن تكتب لي خطابا في غضون أسبوع وترسله إلى شروزبيري؛ فأنت كاتب جيد للخطابات، وعلى الأشخاص الذين يتمتعون بشخصية جيدة أن يدفعوا الثمن.
إلى اللقاء يا عزيزي فوكس
المخلص لك
سي دي [ولما كانت أموره تسير هكذا على خير ما يرام حتى ذلك الوقت، فقد تمكن من تنفيذ خطته بالإقامة في كامبريدج، التي استقر بها في العاشر من ديسمبر عام 1836. في بداية إقامته، حل ضيفا في منزل آل هنزلو المريح، لكنه انتقل بعد ذلك للإقامة في غرفة بكليته، من أجل العمل دون مقاطعة. من ثم، في الثالث عشر من مارس عام 1837، يكتب إلى فوكس من لندن:
لقد كانت إقامتي في كامبريدج أطول مما توقعت، وذلك بسبب عمل كنت قد عزمت على إنهائه هناك: وهو فحص جميع عيناتي الجيولوجية. لا تزال كامبريدج مكانا لطيفا للغاية، لكنها لم تعد تتسم ولو بنصف البهجة التي كانت عليها من قبل؛ فالسير في ساحات كلية كرايست بينما لا أعرف أي شخص من ساكني الغرف هناك قد أشعرني بالكآبة إلى حد ما. والمثلبة الوحيدة التي وجدتها في كامبريدج هي أنها مبهجة للغاية؛ فثمة حفلة لطيفة أو غيرها كل ليلة، ولا يمكن للمرء هناك أن يفلت من حضور هذه الحفلات بقوله إنه منشغل في العمل مثلما يمكن له أن يفعل في هذه المدينة العظيمة.
يوجد ذكر طفيف لإقامة والدي في كامبريدج في السجلات التي تدون فيها الغرامات والرهانات، وهي توجد في غرفة الاستراحة بكلية كرايست، وتعطينا السجلات الأقدم انطباعا غريبا عن الحالة المزاجية للشباب في فترة ما بعد العشاء. لم يكن يسمح بأن تكون الرهانات على المال، وإنما كانت على زجاجات النبيذ، مثلها في ذلك مثل الغرامات. وأما الرهان الذي قدمه أبي وخسره، فهو مسجل على النحو التالي:
23 فبراير 1837، السيد داروين في مقابل السيد بينس: قياس غرفة الاستراحة من السقف إلى الأرضية يساوي أكثر من «س» قدم.
زجاجة واحدة تقدم في اليوم نفسه.
ملحوظة:
يمكن للسيد داروين أن يأخذ القياس من أي جزء يرغب فيه في الغرفة.
إضافة إلى ترتيب العينات المرتبطة بالجيولوجيا وعلم المعادن، كان يعمل على عمله «يوميات الأبحاث»، وهو ما كان يشغل أمسياته في كامبريدج. كما أنه قد قرأ ورقة بحثية قصيرة أمام جمعية علم الحيوان،
1
وورقة بحثية أخرى أمام الجمعية الجيولوجية
2
عن الارتفاع الحديث لساحل تشيلي.
في بداية ربيع عام 1837 (السادس من مارس)، انتقل من كامبريدج إلى لندن، وبعد أسبوع، استقر في منزل يقع في 36 شارع جريت مالبوره، وباستثناء «زيارة قصيرة قام بها إلى شروزبيري»، فقد استمر في العمل حتى شهر سبتمبر، وكان يقضي كل وقته تقريبا في العمل على عمله «يوميات الأبحاث». بالرغم من ذلك، فقد استطاع أن يجد وقتا لتقديم ورقتين بحثيتين أمام الجمعية الجيولوجية.
3
وهو يكتب عن عمله إلى فوكس (مارس 1837) قائلا:
في خطابك الأخير، كنت تحثني على إعداد «الكتاب». ها أنا الآن أجتهد في العمل فيه، وقد تخليت عن كل شيء آخر لأجله. وخطتنا هي كالتالي: سيكتب القبطان فيتزروي مجلدين عن المواد التي جمعت خلال الرحلة السابقة إلى تييرا ديل فويجو بقيادة كينج، وكذلك المواد التي جمعت خلال رحلتنا. أما أنا، فسوف أكتب المجلد الثالث، والذي أخطط لأن أجعله على هيئة مذكرات عالم في التاريخ الطبيعي، دون اتباع ترتيب زمني على الدوام، بل سأرتب الحديث حسب المكان. وسوف تشغل عادات الحيوانات جزءا كبيرا منه، وسيكتمل هذا المزيج بعرض سريع للطبيعة الجيولوجية للبلاد ووصف مظهرها مع تقديم بعض التفاصيل الشخصية. بعد ذلك، سأكتب عن الجانب الجيولوجي بالتفصيل، وأقوم بالإعداد لبعض الأوراق البحثية في علم الحيوان؛ ومن ثم، يصبح لدي قدر كبير من العمل أقوم به على مدى العام القادم أو العامين القادمين، ولن أمنح نفسي أي عطلة حتى أنتهي منه.
وفي خطاب آخر إلى فوكس (يوليو)، يذكر التقدم الذي أحرزه في عمله:
لقد منحت نفسي عطلة وذهبت في زيارة إلى شروزبيري [في يونيو] فقد انتهيت من كتابة عملي «يوميات الأبحاث» وسوف أكون منشغلا للغاية في سد الفجوات الموجودة به وإعداده ليكون جاهزا للطباعة بحلول الأول من أغسطس. سوف أكن احتراما على الدوام لكل من ألف كتابا، بصرف النظر عما يكون هذا الكتاب؛ إذ إنني لم يكن لدي أدنى فكرة عما يمكن أن يلقاه المرء من مشقة في الكتابة باللغة الإنجليزية الدارجة. ومن المؤسف أنني لم أنته من الجزء الأسوأ بعد، وهو تصحيح بروفات الطباعة. وفور أن أنتهي من ذلك تماما، يجب علي أن أشحذ كل طاقتي وعزمي وأبدأ في العمل في مجال الجيولوجيا. لقد قرأت بعض الأوراق البحثية القصيرة أمام الجمعية الجيولوجية، وقد نالت استحسانا كبيرا من جانب كبار المتخصصين، مما يمنحني قدرا كبيرا من الثقة، وأرجو ألا يتولد لدي قدر كبير من الخيلاء، رغم أنني أعترف بأنني كثيرا ما أشعر وكأنني طاوس مزهو بذيله. إنني لم أكن أتوقع قط أن إنتاجي في مجال الجيولوجيا سوف يحظى بتقدير رجل مثل لايل، والذي أصبح بالنسبة لي صديقا غاية في النشاط منذ عودتي. إن حياتي تمتلئ بالكثير من الأعمال في الوقت الراهن، وأتمنى أن تظل على هذه الحال دوما، رغم أن الله وحده يعلم ما لمثل هذه الحياة من مثالب خطيرة، تلك التي أبرزها أن المرء لا يستطيع رؤية أصدقائه الطيبين. لقد كنت أتوق بشدة على مدى السنوات الثلاث الماضية بأكملها إلى العيش في شروزبيري، والآن بعد كل هذا، فإنني لم أر أهلي الأعزاء في شروزبيري إلا لأسبوع واحد بعد غياب عدة شهور. غير أن سوزان وكاثرين كانتا تقيمان هنا مع أخي لبضعة أسابيع، لكنهما عادتا إلى المنزل قبل زيارتي.
إضافة إلى العمل الذي ذكرناه بالفعل، كان لديه الكثير مما يشغله فيما يتعلق بالترتيب لنشر كتاب «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»». وتوضح الخطابات التالية هذا الموضوع.]
من تشارلز داروين إلى إل جينينز
36 شارع جريت مالبوره
10 أبريل، 1837
عزيزي جينينز
في الأسبوع الماضي، راح العديد من علماء الحيوان في هذا المكان يحثونني على دراسة احتمالية نشر كتاب «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»» وفقا لخطة نظامية ما. وقد أثار الموضوع اهتمام السيد ماكلاي [ويليام شارب ماكلاي] بدرجة كبيرة، وهو يرى أن مثل هذه الكتب تحظى بالقبول؛ إذ إنها تجمع بين دفتيها مجموعة من الملاحظات بشأن الحيوانات التي تقطن في الجزء نفسه من العالم، وتتيح لأي مسافر في المستقبل أن يأخذها معه. إنني متشكك للغاية فيما إن كان لتسهيل المرجعية هذه أي أهمية على الإطلاق، لكن إن كان الأمر كذلك، فسوف أشعر بقدر أكبر من الرضا عند رؤية ما جمعته بيدي، قد جمع في عمل واحد، بعد أن تكون قد استوعبته عقول علماء التاريخ الطبيعي الآخرين. في الوقت الحالي، لا تزال الخطة بأكملها أمرا يبدو في الأفق فحسب، لكنني كنت مصرا على إخبارك لأنني أرغب كثيرا في معرفة رأيك فيها، وكذلك معرفة ما إن كنت ستوافق على كتابة أوصاف الأسماك في عمل كهذا، بدلا من كتابتها في «ترانزاكشنز»، أم لا. إنني أدرك أن تضمين المادة بأكملها لن يكون أمرا عمليا، دون مساعدة الحكومة في طباعة الصور، ويؤسفني أن ذلك مجرد احتمال، لكنني أعتقد أنه أمر يمكنني المطالبة به بقوة، ويمكنني كذلك أن أحصل على قدر كبير من الدعم من علماء التاريخ الطبيعي في هذا المكان، والذين يبدون جميعهم تقريبا اهتماما كبيرا بعيناتي. إنني أخطط للقاء السيد ياريل غدا، وإذا وافق، فسوف أبدأ باتخاذ المزيد من الخطوات الفعلية؛ إذ إنني أسمع أنه الأكثر حصافة وحكمة. قد لا يكون من المفيد على الإطلاق أن أطيل التفكير والنظر في خطتي، لكنني فكرت في الحصول على مساهمين ونشر العمل على أجزاء (ما دام التمويل مستمرا؛ إذ إنني لن أخسر فيه أي نقود). وفي هذه الحالة، يمكن لمن ينتهي من الجزء الخاص به فيما يتعلق بأي رتبة أن ينشره منفصلا، وذلك كيلا يتسبب أحد في تأخير شخص آخر. ستشبه الخطة «أطلس» روبل أو كتاب «علم الحيوان» لهومبولت، وهو الذي كتب فيه ليتري وكوفييه وآخرون، أجزاء مختلفة، غير أنها ستكون على نطاق أكثر تواضعا. بالنسبة لي، فلن أشارك إلا بكتابة جزء ضئيل، باستثناء - فيما يتعلق ببعض الرتب - إضافة بعض العادات وتوزيع الأنواع وغير ذلك، وتقديم وصف سريع للمواطن الجغرافية، وربما أضيف بعد ذلك بعض الأوصاف للافقاريات ...
إنني أعمل على كتابي «يوميات الأبحاث»، وهو يتقدم ببطء بالرغم من أنني لست متكاسلا. لقد ظننت أن كامبريدج ليست بالمكان الجيد نظرا لوجود حفلات العشاء الجيدة وغير ذلك من الإغراءات، لكنني لم أجد لندن أفضل منها، بل يؤسفني القول إنها قد تصبح أسوأ. لايل صديق رائع وأنا أراه كثيرا؛ وهي ميزة عظيمة لي لمناقشة الطبيعة الجيولوجية لأمريكا الجنوبية. إنني أفتقد للغاية الذهاب في جولة سير بالريف؛ فلندن مكان كريه مليء بالدخان، يخسر فيه المرء قدرا كبيرا من أفضل متع الحياة. غير أنني لا أرى أي فرصة للهروب من هذا السجن ولو لأسبوع واحد؛ وذلك على مدى فترة طويلة تالية. يؤسفني أننا لن نتمكن من اللقاء إلا بعد فترة؛ إذ إنني أعتقد أنك لن تأتي إلى هنا خلال الربيع، وأعتقد أنني لن أستطيع المجيء إليك في كامبريدج. كم سأحب أن أحظى بجولة سير جيدة على طريق نيوماركت غدا، لكن لا بد لي من الاكتفاء بالسير في شارع أكسفورد. هلا أخبرت هنزلو بأن يكون حذرا مع الفطريات «الصالحة للأكل» التي أحضرتها من تييرا ديل فويجو؛ إذ إنني أرغب في بعض العينات من أجل السيد براون الذي يبدو مهتما بها «على وجه الخصوص». أخبر هنزلو أنني أعتقد أن الخشب المتحجر بالسليكا الذي أحضرته، قد رقق من قلب السيد براون؛ إذ كان كريما معي للغاية، وتحدث معي عن نباتات جالاباجوس، أما في السابق، فلم يكن لينطق بكلمة واحدة. ها هي الساعة تدق الثانية عشرة؛ لذا فإنني أتمنى لك ليلة هنيئة للغاية.
عزيزي جينينز
صديقك المخلص
سي داروين [بعد بضعة أسابيع، يبدو أن الفكرة كانت قد نضجت، وأنهم تبنوا فكرة طلب المساعدة من الحكومة.]
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
36 شارع جريت مالبوره [18 مايو، 1837]
عزيزي هنزلو
لقد سررت للغاية بتلقي خطابك؛ فقد كنت أرغب بشدة في معرفة كيف تسير الأمور معك في أعمالك المتشعبة. وأنا لا أتعجب بالطبع أنك قد بدأت تشعر بألم في رأسك، بل إنني قد أتعجب من أنه ما زال لديك أي جزء من رأسك على الإطلاق. لقد كان سردك للجولة الاستكشافية في جاملينجاي مغريا بدرجة شديدة، لكنني لا أستطيع مغادرة لندن على أي حال. لقد كنت أرغب في قضاء بضعة أيام مع أهلي الأعزاء في شروزبيري، لكنني وجدت أنني لا أستطيع أن أتدبر ذلك. في الوقت الحالي، أنتظر توقيع دوق سومرست، بصفته رئيسا للجمعية اللينية، وتوقيع اللورد ديربي وهيوويل، على بيان بقيمة عيناتي، وفور أن أحصل على هذه التوقيعات، سوف أتقدم إلى الحكومة بطلب المساعدة في طباعة الصور؛ ومن ثم نشر كتاب «دراسة حيوانات رحلة البيجل» وفق خطة نظامية. إنه لأمر سخيف كل هذا الوقت الذي تتطلبه أي عملية يشترك فيها عدد كبير من الأشخاص ...
إنني أواظب على العمل بانتظام، غير أنني لم أنجز سوى ثلثي جزئي في كتاب «يوميات الأبحاث» فحسب. إنني أقضي عدد كبيرا من الساعات في العمل كل يوم، غير أن التقدم الذي أحرزه بطيء للغاية؛ إن ذلك من الأمور المريعة التي يقولها المرء لنفسه؛ إذ يمكن لجميع الحمقى وجميع الرجال البارعين في إنجلترا أن يلقوا بعدد كبير للغاية من التعليقات الخبيثة على هذه الجملة التعيسة، إن هم اختاروا ذلك. ... [في أغسطس، يكتب أبي إلى هنزلو لكي يخبره بنجاح خطة نشر عمل «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»»، وذلك من خلال وعد بالحصول على منحة قدرها ألف جنيه من وزارة الخزانة:
لقد أجلت الكتابة إليك لكي أشكرك بكل صدق على تدبيرك لأمري بفاعلية كبيرة. لقد انتظرت حتى ذهبت إلى لقائي بوزير الخزانة [تي سبرينج رايس]. لقد حدد موعدا للقائه في هذا الصباح، وقد خضت معه محادثة طويلة، في حضور السيد بيكوك. لقد كان غاية في اللطف والكرم؛ فلم يفرض أي قيود، واكتفى فقط بأن يخبرني أن أضع النقود في أفضل استخدام لها، وهو ما أنوي فعله بالطبع.
لقد كنت أتوقع لقاء مريعا للغاية، لكنني لم أختبر في حياتي ما هو أفضل من ذلك. سوف يكون الخطأ خطئي إن لم أقم بعمل جيد، غير أنه ينتابني ذعر شديد في بعض الأحيان من أنني لا أمتلك المواد الكافية. وسوف يكون من أسباب الرضا الغامر أن تكون جميع المواد قد وضعت في أفضل استخدام لها في نهاية العامين.
في وقت لاحق في الخريف ، كتب إلى هنزلو: «صحتي ليست على ما يرام في الآونة الأخيرة؛ فنبض القلب غير مريح، ويحثني أطبائي «بشدة» على التوقف عن العمل تماما، والانتقال إلى العيش في الريف لبضعة أسابيع.» وبناء على هذا، فقد أخذ عطلة لمدة شهر تقريبا، قضاها في شروزبيري ومير، وكذلك زار فوكس في جزيرة وايت. وأعتقد أنه خلال هذه الزيارة، وفي منزل السيد ويدجوود في مير، قد لاحظ لأول مرة الأثر الناتج عن ديدان الأرض، وفي نهاية الخريف، قرأ ورقة بحثية عن هذا الموضوع أمام الجمعية الجيولوجية.
4
وخلال هذين الشهرين أيضا، كان منشغلا أيضا بإعداد خطة عمله «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»»، وكذلك بالبدء في تجميع النتائج الجيولوجية المتعلقة بأسفاره.
يشير الخطاب التالي إلى العرض المتعلق بتوليه منصب أمين الجمعية الجيولوجية.]
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
الرابع عشر من أكتوبر، [1837]
عزيزي هنزلو ... إنني في غاية الامتنان لخطابك بشأن تولي منصب الأمين. وأنا متلهف للغاية على سماعك لرأيي في هذه المسألة، وأرجو أن تتكرم بإخباري برأيك المحايد بعد ذلك. لقد ظل الموضوع مستحوذا على تفكيري طوال الصيف. وأنا لا أرغب في تولي المنصب للأسباب التالية: أولا، جهلي التام بمجال الجيولوجيا في إنجلترا، وهو جانب ضروري من المعرفة لاختصار العديد من الأوراق البحثية قبل قراءتها أمام الجمعية، أو بالأحرى معرفة الأجزاء التي يجب إسقاطها. ثم يأتي بعد ذلك جهلي التام بجميع اللغات، وعدم معرفتي بكيفية قراءة كلمة «واحدة» بالفرنسية، وهي لغة يستشهد بمصادرها على الدوام، وسيكون عارا على الجمعية أن يكون أمينها لا يعرف كيف يقرأ الفرنسية. ثانيا، ضياع الوقت: أرجو أن تأخذ في الحسبان أنه سيكون علي متابعة الرسامين، وكذلك الإشراف على المواد وتوفيرها للعمل الحكومي، الذي سيأتي على هيئة أجزاء، ويجب أن يصدر بصفة دورية منتظمة. إن جميع ملاحظاتي الجيولوجية لا تزال مبدئية، ولم أعمل على أي من حفريات الأصداف التي جمعتها، وكذلك لا يزال أمامي الكثير مما يجب قراءته. لقد كنت آمل أنه، من خلال التخلي عن المناسبات الاجتماعية، وعدم إهدار ساعة من الوقت ، يمكنني أن أنتهي من عملي المتعلق بالجيولوجيا في عام ونصف، وبحلول هذا الوقت، سيكون الآخرون قد انتهوا من إعداد أوصاف الحيوانات الأعلى؛ وعندئذ، سيكون من الضروري أن أخصص وقتي بأكمله لكي أكمل بنفسي أوصاف الحيوانات اللافقارية. وإذا فشلت هذه الخطة، فسيتحتم تأخير نشر الجزء المتعلق بالجيولوجيا لمدة ثلاث سنوات على الأقل من هذا الوقت؛ إذ إن العمل الحكومي لا بد أن يستمر؛ ونظرا لحالة العلم في الوقت الراهن، فإن جزءا كبيرا من فائدة هذا القدر الضئيل الذي حققته سوف يضيع، وسيضيع مني كل الحيوية والسرور.
إنني أعرف من واقع التجربة مقدار الوقت الذي يتطلبه إعداد ملخصات للأوراق البحثية، حتى إن كانت لأوراقي، من أجل الاجتماعات. فإذا توليت منصب الأمين، وكان علي إعداد ملخصين لكل ورقة، مع دراسة هذه الأوراق البحثية قبل القراءة والحضور، فإن ذلك سيستغرق مني «على الأقل» ثلاثة أيام (أو أكثر في معظم الأحيان)، وذلك كل أسبوعين. وهناك أيضا غير ذلك من الأمور العرضية والطارئة التي تتسبب في ضياع الوقت؛ فأنا أعلم أن الدكتور رويل قد وجد أن هذا المنصب يستهلك الكثير من وقته. فقط إن تمكنت من توفير بعض الوقت عن طريق التخلي عن جميع أوقاتي المخصصة للترفيه، أو الاجتهاد في العمل بأكثر مما كنت أفعل، فسأقبل بمنصب أمين الجمعية. لكن بالنظر إلى أسلوبي البطيء في الكتابة، وعملي على كتابين في الوقت نفسه، وكذلك حقيقة أنني إذا لم أتمكن من الانتهاء من الجزء المتعلق بالجيولوجيا في فترة محددة، فسوف يتأخر نشره لفترة طويلة للغاية، فإنني أتوسل إليك للسؤال عما إذا كان يمكن لأي جمعية على الإطلاق أن تحظى من وقتي بثلاثة أيام كل أسبوعين أقضيها في القيام بعمل مزعج. إنني أعتقد أنه من واجبي، بصفتي أحد المشتغلين بالعلم، ألا أؤجل العمل الذي أكرس نفسي حاليا للانتهاء منه، لكي أتولى منصبا يمكن لشخص آخر لديه من وقت الفراغ قدر أكبر من الذي لدي في الوقت الراهن أن يتولاه. علاوة على ذلك، في هذه المرحلة المبكرة للغاية من حياتي العلمية؛ حيث ما زال أمامي الكثير جدا لأتعلمه، سوف يكون المنصب حملا جسيما للغاية، بالرغم من كونه بلا شك شرفا عظيما وما إلى ذلك. سيظن السيد هيوويل، قياسا على نفسه، (وأنا أدرك ذلك جيدا) أنني أبالغ في تقدير الوقت الذي سيتطلبه تولي منصب الأمين، لكنني أعرف تماما مقدار الوقت الذي تستهلكه مني أبسط مهام الكتابة. إنني لا أرغب على الإطلاق في أن أبدو أنانيا إذ أرفض طلب السيد هيوويل، لا سيما وأنه دائما ما كان يبدي اهتمامه بأموري، وبألطف طريقة ممكنة. غير أنني لا يمكنني أن أتطلع ولو بقدر مقبول من الراحة، إلى تولي منصب دون الانخراط فيه بكل كياني، وسيكون ذلك محالا مع العمل الحكومي وكذلك الجزء المتعلق بالجيولوجيا الذي أعمل عليه في الوقت الحالي.
وأما اعتراضي الأخير، فهو أنني لا أثق فيما إن كانت صحتي ستتحمل قيامي بما علي أن أفعله الآن، دون إضافة المزيد من العمل. إنني أكرر هنا - حتى لا تعتقد أنني أتحدث من منطلق التكاسل - أنني حين استشرت الدكتور كلارك في المدينة، كان يحثني في البداية على التوقف عن جميع أنشطة الكتابة وحتى تصويب بروفات الطباعة لبضعة أسابيع. لقد أصبح كل ما يثير انفعالي مؤخرا، يؤذيني بالكامل بعدها، ويتسبب لي في خفقان عنيف بالقلب. سيصبح منصب الأمين مصدرا مستمرا للمتاعب المزعجة، وستكون هذه المتاعب أكثر مما ألاقيه على مدى بقية الأسبوعين بأكملهما. في الواقع، حتى أعود إلى المدينة وأرى كيف ستسير أموري، إن كنت حقا أرغب في المنصب بشدة، فلا «يمكنني» أن أقول إنني سأتولاه بكل تأكيد. أرجوك أن تعذرني على هذا الإسهاب في الحديث عن نفسي، لكن الأمر مهم للغاية؛ إذ لا يمكنني أن أتحمل أن ينظر إلي على أنني أناني ونكد جدا، وكذلك لا أرى إمكانية أن أتولى منصب الأمين دون التضحية بجميع خططي وقدر كبير من راحتي.
هلا أخبرت هيوويل بفحوى هذا الخطاب إن التقيت به؟ أو يمكنه أن يقرأه، إن تكرم بذلك. عزيزي هنزلو، إنني ألجأ إليك لكونك «في مقام والدي ». أرجو منك أن تخبرني برأيك، وأرجو ألا تصدر حكمك بناء على مستوى النشاط الذهني الذي تتمتع به أنت وقلة غيرك؛ ففي هذه الحالة، كلما زاد عدد المهام الصعبة التي يجرى العمل عليها، زادت متعة العمل، لكن هذا ليس هو الوضع بالنسبة لي، رغم أنني أتمنى أن أظل أعمل دائما.
عزيزي هنزلو
صديقك المخلص إلى الأبد
سي داروين [في نهاية الأمر، قبل المنصب وظل فيه مدة ثلاثة أعوام؛ من 16 فبراير 1838 إلى 19 فبراير 1841.
وبعد أن تأكد من الحصول على المنحة الحكومية لنشر عمله «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»»، أصبح لديه الكثير من الترتيبات التي يجب أن يقوم بها فيما يتعلق بخطة النشر، وقد شغل ذلك وقته على مدى جزء من أكتوبر ونوفمبر.]
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو [4 نوفمبر، 1837]
عزيزي هنزلو ... أرجو منك أن تخبر ليونارد أن عملي مع الحكومة يتقدم بسلاسة، وأتمنى أن يكتمل بنجاح. سوف يرى اسمه في «النشرة التمهيدية» مرتبطا بالأسماك؛ فأنا أواظب على العمل باجتهاد، شاعرا بتفاؤل كبير. وقد صرت أفضل كثيرا مما كنت عليه في الشهر الماضي قبل زيارتي إلى شروزبيري. يؤسفني أن الجزء المتعلق بالجيولوجيا سيستغرق مني فترة طويلة من الوقت؛ فقد كنت أستعرض مجموعة واحدة من الملاحظات، ووجدت أنه يجب علي قراءة كمية مهولة من المواد المتعلقة بهذا المجال فقط. إن عشت حتى أبلغ الثمانين عاما، فلن أكف عن التعجب من أنني قد أصبحت مؤلفا؛ فلئن أخبرني أحدهم، في الصيف الذي سبق بدايتي في التأليف، بأنني سوف أصبح ملاكا بحلول هذا الوقت، لكنت قد رأيت أن ذلك مستحيل بنفس درجة قيامي بالتأليف. وقد حدث هذا التحول الرائع بفضلك.
يؤسفني أنني قد وجدت عددا كبيرا من الأخطاء الكتابية في المجلد الخاص بي بعد طباعته. في أثناء غيابي، وظف السيد كولبيرن شخصا مهملا للقيام بالمراجعة، وقد ضاعف من عدد هفواتي بدلا من تقليصها. بالرغم من كل ذلك، فمنظر ورق الطباعة الناعم والكتابة الواضحة رائع للغاية، وقد جلست في ليلة سابقة أحدق في صمت وإعجاب في الصفحة الأولى من المجلد الذي ألفته من الكتاب، وذلك حين استلمته من المطابع!
إلى اللقاء يا عزيزي هنزلو
سي داروين (2) 1838 [منذ بداية هذا العام وحتى نهاية شهر يونيو تقريبا، كان منشغلا بالعمل على نتائج رحلته المتعلقة بعلم الحيوان والجيولوجيا. ولم يقطع هذه الفترة المتواصلة من العمل سوى زيارة إلى كامبريدج في مايو، مدتها ثلاثة أيام، وحتى هذه العطلة القصيرة، لم يأخذها إلا بعد أن تدهورت صحته، كما يمكننا أن نلاحظ من الإدخال التالي من دفتر يومياته: «الأول من مايو، لست بخير»، وكذلك من خطاب إلى أخته (16 مايو 1838) والذي كتب فيه: «لقد كانت رحلتي إلى كامبريدج، والتي استمرت لثلاثة أيام رائعة وعادت علي بالخير الكثير؛ فقد ملأت أطرافي بمرونة كبيرة، وعلي أن أستفيد بجسمي في العمل قبل أن أحتاج للذهاب في عطلة أخرى.» يبدو أنه قد استمتع بهذه العطلة للغاية؛ فقد كتب إلى أخته:
والآن، سأحدثك عن كامبريدج: لقد أقمت في منزل هنزلو واستمتعت بزيارتي للغاية. لقد رحب بي أصدقائي ترحيبا غاية في الود، وفي واقع الأمر، كنت الضيف الأبرز هناك. لقد اضطرت السيدة هنزلو للأسف إلى الذهاب في زيارة إلى الريف يوم الجمعة. وفي هذا المساء، أقمنا حفلة رائعة في منزل هنزلو، حضرها جميع عباقرة كامبريدج، وهم مجموعة من أبرز الرجال ولا شك. وفي يوم السبت، ذهبت إلى منزل إل جينينز، وقضيت فترة الصباح معه. لقد وجدته مبتهجا للغاية، لكنه كان يشكو بمرارة من عزلته. وفي مساء السبت، تناولت العشاء في إحدى الكليات، ثم مارست لعبة البولينج العشبي في ساحة كوليدج جرين بعد العشاء، وقد صم غناء العنادل أذني. وفي يوم الأحد، تناولت العشاء في كلية ترينيتي، وقد كان عشاء رائعا، وقد سعدت جدا بجلوسي بجوار البروفيسور لي [وهو صامويل لي، البروفيسور بكلية كوينز، وأستاذ اللغة العربية من 1819 إلى 1831، الذي قد شغل أحد الكراسي الملكية للغة العبرية من 1831 إلى 1848] ... لقد وجدته شخصا ممتعا للغاية في الحديث، وقد كان فرحا كصبي صغير، لعودته مؤخرا من توليه لمنصب في رعاية كنيسة أو أبرشية في سومرستشير، على مدى سبع سنوات، إلى المجتمع المتمدن والمخطوطات الشرقية. لقد بدل بكنيسته كنيسة أخرى على بعد أربعة عشر ميلا من كامبريدج، وقد بدا سعيدا بذلك للغاية. في المساء، ذهبت إلى كنيسة ترينيتي، وسمعت ترنيمة «السموات تردد مجد الرب»، بأسلوب بديع للغاية؛ لقد بدا أن المقطع المتكرر يهز جدران الكلية. وبعد الكنيسة، أقمنا حفلة كبيرة في غرفة سيجويك. يكفي هذا فيما يتعلق بمغامراتي هناك.
قرب نهاية شهر يونيو، بدأ في رحلته الاستكشافية إلى منطقة جلين روي، وهي التي يكتب عنها لفوكس: «صحتي ليست جيدة في الآونة الأخيرة، مما جعلني أصمم فجأة على مغادرة لندن في وقت أبكر مما كنت أتوقع. سأذهب بالمركبة البخارية إلى إدنبرة، وأذهب في جولة سير بمفردي على جروف سولزبيري كريجز، وأستدعي ما كان لدي من ذكريات عن الماضي، ثم أذهب إلى جلاسكو ووادي إنفرنيس العظيم، الذي أنوي التوقف بالقرب منه لمدة أسبوع لدراسة الطبيعة الجيولوجية للطرق المتوازية في جلين روي، ومن هناك سأذهب إلى شروزبيري، ثم مير ليوم واحد فقط، ثم إلى لندن من أجل الدخان والمرض والعمل الشاق.»
لقد قضى «ثمانية أيام جيدة» في الطرق المتوازية. وقد كتب مقاله عن هذا الموضوع خلال فصل الصيف نفسه، ونشرته الجمعية الملكية.
5
لقد كتب في مفكرة الجيب الخاصة به: «6 سبتمبر [1838]. انتهيت من كتابة الورقة البحثية الخاصة ب «جلين روي»، وهي أحد أكثر المهام التي انخرطت فيها صعوبة وتثقيفا.» ومن الجدير بالذكر أنه يذكر هذه الورقة البحثية في عمله «ذكريات» على أنها ورقة بحثية فاشلة يخجل منها.
في الوقت الذي كتب فيه، كانت أحدث نظرية عن تكون الطرق المتوازية هي تلك الخاصة بالسير لودر ديك والدكتور ميكاليك، اللذين كانا يعتقدان أن البحيرات كانت توجد في جلين روي منذ زمن قديم، بسبب وجود سدود من الصخور أو الرواسب. وفي حجاجه ضد هذه النظرية، كان يرى أنه قد أثبت عدم إمكانية قبول أي نظرية تقول بوجود بحيرات، لكنه كان مخطئا في هذه النقطة. لقد كتب (في الورقة البحثية الخاصة بجلين روي ، صفحة 49) يقول: «إن النتيجة حتمية بعدم إمكانية قبول أي نظرية تقوم على أساس افتراض وجود طبقة من الماء يحدها عدد من «الحواجز»؛ أي بحيرة، باعتبارها حلا للمسألة الخلافية المتعلقة بنشأة الطرق المتوازية في لوخابر.»
لقد كان السيد آرتشيبولد جيكي كريما معي للغاية؛ إذ سمح لي بأن أستشهد بالفقرة التالية من خطاب كان قد أرسله إلي (19 نوفمبر 1884) ردا على سؤالي عن رأيه بشأن عمل والدي المتعلق بجلين روي:
إنني لا أحتاج إلى القول إن ورقة السيد داروين البحثية عن «جلين روي» تتسم بجميع بما يتميز به من دقة الملاحظة والتصميم على وضع جميع الاعتراضات الممكنة في الحسبان. بالرغم من ذلك، فهي مثال دقيق على خطورة التسويغ المنطقي في مجال العلوم الطبيعية باستخدام أسلوب الاستبعاد. حين وجد السيد داروين أن المياه التي كونت الشرفات في منطقة جلين روي لا يمكن أن تكون قد حصرت في مكانها بفعل حواجز أو فتات صخرية، لم ير بديلا سوى أن يقول بأنها تكونت بفعل البحر. ولو كانت فكرة الحواجز العابرة التي تتكون من ثلج الأنهار الجليدية قد خطرت له، لاستطاع أن يرى أن المشكلات التي كان يجدها في نظرية البحيرة التي كان يعارضها تختفي، ولما انساق بنحو غير واع إلى التقليل من شأن الاعتراضات الهائلة التي يمكن أن تقدم على الافتراض القائل بأن الشرفات قد تكونت بفعل البحر.
ويمكننا أن نضيف أن فكرة تكون الحواجز بفعل الأنهار الجليدية كان من الصعب أن تخطر له؛ نظرا لحالة المعرفة في ذلك الوقت، وكذلك يجب ألا ننسى حاجته إلى أن يحظى بفرص لملاحظة التأثير الجليدي على نطاق واسع.
لقد قضى النصف الثاني من يوليو في شروزبيري ومير. والجزء الوحيد المثير للاهتمام من يومياته في هذه الفترة، هو الجزء الذي يذكر فيه أنه «متكاسل للغاية في شروزبيري»، وأنه قد فتح «دفترا متعلقا بالمسائل الميتافيزيقية». وفي أغسطس، يسجل أنه قد قرأ «قدرا كبيرا من الكتب المختلفة الممتعة، وأعار بعض الاهتمام إلى الموضوعات الميتافيزيقية».
ويتمثل العمل الذي أنجزه على مدى الجزء المتبقي من العام في كتابه عن الشعاب المرجانية (الذي بدأه في أكتوبر)، وبعض الأعمال عن ظاهرة الارتفاع في أمريكا الجنوبية.]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
36 شارع جريت مالبوره
9 أغسطس [1838]
عزيزي لايل
لم أكتب إليك وأنا في نوريتش؛ إذ إنني كنت أظن أنه سيكون لدي المزيد مما أقوله إذا انتظرت لبضعة أيام أخر. شكرا جزيلا على هديتك لي المتمثلة في كتابك «عناصر الجيولوجيا» والذي تسلمته مع خطابك، (والذي أعتقد أنه «أول نسخة» توزع منه.) لقد قرأته كلمة بكلمة، وأنا معجب به كل الإعجاب، ولأنني لم أعد أرى أيا من علماء الجيولوجيا، فلا بد أن أتحدث عنه معك. فما من متعة يجدها المرء في قراءة كتاب إن لم يخض حديثا جيدا بشأنه، وأنا أكرر أنني معجب به كل الإعجاب، وهذا واضح وضح النهار، والواقع أنني شعرت ببعض الخزي عند قراءة العديد من الأجزاء؛ إذ رحت أفكر فيما خاضه علماء الجيولوجيا من شقاء ومعاناة لإثبات ما يبدو بوضوح أنه مرجح. لقد قرأت وصفك السريع للترسبات الثانوية باهتمام كبير؛ فقد خططت لأن تجعله «مشوقا»، كما كنا نقول عن القصص الجيدة، ونحن أطفال صغار. وقد كان به أيضا قدر كبير من المعلومات الجديدة علي، وسيكون علي أن أنسخ منه ما يقرب من خمسين ملاحظة ومرجعا. لا بد أن هذا الكتاب سيكون مفيدا، ويجب أن يستسلم من يعارضون الحس السليم ... بالمناسبة، هل تتذكر إخباري لك بعدم حبي للطريقة التي أشار بها ... إلى أعماله الأخرى، وكأن لسان حاله يقول: «ينبغي عليكم أن تبتاعوا كل ما كتبته». بالنسبة لي، فقد تفاديت أنت فعل هذا بطريقة أو بأخرى؛ فإشاراتك إلى أعمالك السابقة لا يبدو أنك تقول بها سوى: «لا يمكنني أن أذكر كل شيء في هذا العمل، ولولا ذلك لفعلت؛ لذا، يجب عليكم الرجوع إلى كتاب «مبادئ»»، وأنا أثق بأنك ستجعل العديد من القراء يرجعون إليه، وستجعلهم مثلي عشاقا لعلم تكسير الصخور المبارك. سوف تلاحظ أنني في فورة من الحماس، ولدي سبب وجيه يجعلني كذلك بالطبع ؛ إذ أجد أنك قد استفدت من يومياتي أكثر مما كنت أتوقعه بكثير. لن أتحدث عن الكتاب أكثر من ذلك؛ فليس لدي سوى الثناء عليه. بالرغم من ذلك، لا بد أن أعبر عن إعجابي بتلك الأمانة الجلية التي تتضح في استشهادك بكلمات جميع علماء الجيولوجيا، الأموات منهم والأحياء.
إن رحلتي الاستكشافية في اسكتلندا كانت رائعة للغاية؛ فقد كانت رحلتي في المركبة البخارية لطيفة للغاية، وقد استمتعت - لوضاعتي - برؤية سيدتين وبعض الأطفال الصغار وهم يعانون من دوار البحر؛ إذ كنت أنا بخير. وعلاوة على ذلك، في طريق عودتي من جلاسجو إلى ليفربول، حدث نفس الشيء ولكن مع مجموعة من الرجال البالغين. قضيت يوما بأكمله في إدنبرة، أو في سولزبيري كريجز لأكون أكثر دقة، وأنا أريد أن أسمع رأيك ذات يوم بشأن تلك الأرض القديمة؛ لقد بدا تركيبها جديدا علي، وغريبا بعض الشيء - هذا إن كنت أفهم الأمر على وجهه الصحيح. لقد انتقلت من إدنبرة إلى بحيرة لوخ ليفين في عربات ذات عجلتين، وعربات ذات دولابين (والتي لم تكن على نوابض، وهو ما لن أنساه أبدا). خاب أملي في المناظر الطبيعية، ووصلت إلى جلين روي مساء السبت، أي، بعد أسبوع من مغادرة شارع مالبوره. وقد استمتعت هناك بخمسة [؟] أيام كان طقسها غاية في الجمال، وغروب شمسها في غاية الروعة، وقد كانت الطبيعة كلها تبدو سعيدة بقدر السعادة التي أشعر بها. تجولت فوق الجبال في كل الاتجاهات، وفحصت أكثر منطقة استثنائية على الإطلاق. أعتقد أنني - وبدون أي استثناءات - لم أشعر بهذا القدر الذي شعرت به من الإثارة في هذا الأسبوع، ولا حتى عند زيارة أول جزيرة بركانية، أو أول شاطئ مرتفع، أو حتى عند عبور السلسلة الجبلية في أمريكا الجنوبية. إنها أكثر المناطق التي فحصتها تميزا على الإطلاق. لقد اقتنعت تماما (بعد بعض الشك في البداية) أن الرفوف الصخرية، هي شواطئ بحرية، بالرغم من أنني لم أتمكن من العثور على صدفة واحدة، وأعتقد أنه يمكنني تنفيذ معظم الاعتراضات على ذلك، إن لم يكن كلها . لقد وجدت جزءا من طريق في واد آخر، لم تكن قد سجلت عنه أي ملاحظات حتى الآن، وهو أمر مهم للغاية، وكذلك لدي بعض الحقائق الدقيقة عن الكتل الصخرية المنجرفة بالأنهار الجليدية، والتي جثمت إحداها على ارتفاع 2200 قدم فوق سطح البحر. أعمل الآن على كتابة ورقة بحثية عن الموضوع، وأجده عملا ممتعا للغاية، فيما عدا أنني لا أعرف كيف يمكنني تكثيفه ضمن الحدود المطلوبة. أرجو أن أتحدث إليك في المستقبل بشأن بعض الاستنتاجات التي قادني إليها فحصي لمنطقة جلين روي. ها أنا الآن قد أفصحت عما بداخلي، وقد أصبحت أكثر راحة الآن؛ إذ يمكنني أن أؤكد لك أن جلين روي قد أدهشتني.
إنني أعيش حياة هادئة للغاية؛ ولهذا فهي حياة سارة، وأنا أحرز تقدما بطيئا في العمل، لكنه ثابت. وقد توصلت إلى نتيجة واحدة، وهي التي أعتقد أنك سترى أنها تثبت أنني رجل رشيد جدا؛ وهي أن كل ما تقوله يثبت أنه صحيح، ولكي أبرهن على ذلك، فقد أصبحت أتبع طريقتك في العمل لنحو ساعتين فقط في فترة العمل الواحدة، ثم أخرج وأقضي شئوني، ثم أعود إلى العمل مرة أخرى؛ ومن ثم، يصبح لدي يومان منفصلان في اليوم الواحد. وتلك الخطة الجديدة تلبي احتياجاتي بنحو رائع؛ فبعد انتهاء النصف الثاني من اليوم، أذهب وأتناول العشاء في نادي الأثنيام كأحد النبلاء، بل كأحد اللوردات؛ إذ إنني على يقين بأنني قد شعرت وكأنني أحد الدوقات في المرة الأولى التي جلست فيها على الأريكة بمفردي في غرفة الاستقبال العظيمة هناك. إنني أمتلئ بالإعجاب تجاه هذا النادي؛ إذ ألتقي هناك العديد من الرجال الذين أحب أن أراهم. في المرة الأولى التي تناولت فيها العشاء هناك (أي الأسبوع الماضي)، التقيت الدكتور فيتون على الباب. [الدكتور فيتون هو دابليو إتش فيتون (1780-1861)، الذي كان طبيبا وعالم جيولوجيا، والذي قد تولى رئاسة الجمعية الجيولوجية لبعض الوقت. وقد أسس نظام نشر «محاضر اجتماعات الجمعية» وهو الذي تبنته جمعيات أخرى بعد ذلك.] وقد كان معه حشد مميز؛ روبرت براون الذي ذهب إلى باريس وأوفيرن، وماكلاي [؟] والدكتور بوت [وهو فرانسيس بوت (1792-1863) الذي اكتسب شهرته في علم النبات من خلال عمله على جنس السعادي.] إن مساعدتك لي في انضمامي إلى هذا النادي، لم تذهب سدى، وأنا أستمتع به للغاية لأنني كنت أتوقع تماما أن أمقته.
إنني أكتب إليك خطابا طويلا للغاية، لكنني سوف أعطيه إلى أوين لكي يأخذه إلى نيوكاسل. وإذا أردت أن تكون كريما للغاية، فاكتب لي من كينوردي [منزل والد لايل] وأخبرني بأخبار نيوكاسل، وكذلك أخبرني بشأن كريج، وأخبرني عن نفسك وعن السيدة لايل، وعن جميع ما هنالك من أمور في العالم. سوف أرسل لك مع هول نسخة من مجلة «إنتومولوجيكال ترانزاكشنز» التي استعرتها لك، وسيخيب ظنك بشأن الأوراق البحثية الخاصة ب... هذا إن كنت تعتقد أن صديقي العزيز لديه فكرة واحدة واضحة عن أي موضوع. لقد أورد الحشرات الحديثة وحفريات الحشرات في جدول واحد؛ لذا أعتقد أنك لن تستفيد منه كثيرا للأسف، غير أنني أعتقد أن هذا الموضوع كان ينبغي أن يرد في كتاب «مبادئ». سوف تندهش من بعض الفقرات البارزة التافهة التي ستجدها في هذه الأوراق، ولا شك بأنك ستشعر فيها بأنه يسخر منك بشدة. لقد سمعت من أكثر من جهة أن العراك من الأمور المتوقعة في نيوكاسل [في اجتماع الجمعية البريطانية]، ويؤسفني سماع ذلك. لقد قابلت ... العزيز هذا المساء في نادي الأثنيام، وقد تمتم بشيء عن الكتابة إليك أو إلى شخص آخر عن الموضوع، غير أنني لا أعرف عن ذلك شيئا على الإطلاق. بالرغم من ذلك، أعتقد أن الأمور ستتضح لي؛ إذ إنني سأتناول العشاء معه خلال بضعة أيام؛ فقد فشلت قدراتي في الابتكار على الإتيان بأي عذر. صديق لي قد تناول العشاء معه في يوم سابق، وقد كانوا جمعا من أربعة أشخاص، وقد تناولوا عشر زجاجات من النبيذ؛ وهذه بادرة لطيفة لي، غير أنني عازم على ألا أتذوق نبيذه على الإطلاق، ويعود السبب في ذلك جزئيا إلى رغبتي في الاستمتاع برؤية تقززه الشديد ودهشته ...
إنني أشعر بالشفقة عليك لابتلائك بمثل هذا الخطاب الطويل للغاية. أرجو منك أن تبلغ تحياتي الحارة إلى السيدة لايل حين تصل إلى كينوردي. لقد رأيت اسمها في سجل مالك فندق إنفرورم. أخبر السيدة لايل أن تقرأ السلسلة الثانية من «أقوال السيد سليك من سليكفيل» ... إنه يكاد أن يتفوق على أمير الأبطال «ساميفل». طابت ليلتك يا عزيزي لايل، سوف تعتقد أنني قد شربت شرابا قويا، وهو الذي جعلني أكتب لك هذا القدر الكبير من الهراء، لكنني لم أتذوق حتى زجاجة صغيرة من جعة المينرفا اليوم.
المخلص إليك دوما
تشاز داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
ليلة الجمعة، الثالث عشر من سبتمبر [1838]
عزيزي لايل
لقد كنت مندهشا ومسرورا للغاية من خطابك الطويل الرائع، وأنا أكن عظيم الامتنان إلى السيدة لايل؛ إذ تكبدت عناء كتابة هذا القدر الكبير. [إذ كان لايل يملي أغلب خطاباته.] وأنا أنوي أن أقضي ساعة أستمتع فيها بالكتابة إليك؛ إذ إنك تتشارك معي في الاهتمام بالجيولوجيا حتى إنني لا أهتم بمدى أنانيتي في الكتابة إليك ...
لدي الكثير مما أقوله عن جميع أصناف الأمور التافهة، حتى إنني لا أعرف بأي أمر أبدأ الحديث ... إنني لا أحتاج إلى أن أخبرك بمدى سعادتي إذ عرفت أن [والدك] السيد لايل قد أعجبه عملي «يوميات الأبحاث». إن سماعي لمثل هذا الخبر الرائع لهو بمنزلة نوع من البعث؛ إذ إنني أشعر وكأن طفلي الأول قد مات منذ فترة بعيدة، ودفن وصار منسيا، لكن الماضي لا يهم بالنسبة لنا - نحن علماء الجيولوجيا - والمستقبل هو كل ما يهم، وذلك كما توضح أنت في شعارك الرائع في كتاب «عناصر الجيولجيا». بالمناسبة، هل قرأت المقالة الواردة في مجلة «ذي إدنبرة ريفيو»، التي عنوانها «مسار الفلسفة» (أو شيء كهذا) لإم كونت؟ إنها مقالة رائعة؛ إذ ترد بها بعض الجمل الجيدة عن أن جوهر العلم هو القدرة على التنبؤ، وهو ما يذكرني بالعبارة القائلة بأن «قانونه هو إحراز التقدم.»
والآن، سأبدأ بالحديث عن خطابك متناولا كل نقطة فيه بالترتيب. يمكنني القول إن خطتك بوضع الفصل الذي يتحدث عن إيلي دو بومون، منفصلا وفي البداية، لهي خطة جيدة للغاية؛ فسوف يمثل هذا، على أي حال، معارضة جريئة لما جاء في الطبعة الأولى، وهي التي سوف تترجم إلى الفرنسية. وسوف يكون ذلك مثالا مدهشا لعلماء الجيولوجيا في المستقبل على طول المدة التي يمكن لعالم بارز مثلك أن يدعم فيها نظرية هشة تماما، كنظرية دو بومون؛ أنت تقول إنك «بدأت تأمل في أن تصمد المبادئ العظيمة التي أكدتها في عملك عبر الزمن». «بدأت تأمل»: عحبا! إن «إمكانية» الشك فيها لم تخطر بذهني على الإطلاق لفترة طويلة. ربما لا يكون ذلك من الحكمة على الإطلاق، غير أن خلاصي الجيولوجي مرهون به؛ فبعد أن عدت من جلين روي، ورأيت كيف أن مبادئك تذلل الصعوبات تماما، فإن حديثك عن «الأمل» يغضبني كثيرا. وبالنسبة إلى سؤالك عن مدى التأثير الذي يمكن أن تحدثه نظريتي عن الشعاب المرجانية على نظرية دو بومون، فأعتقد أنه سيكون من الحكمة أن تستشهد بي بقدر كبير من التحوط، إلى أن ينشر تفسيري بأكمله، وعندها يتسنى لك (ولآخرين) أن تدلوا برأيكم في مدى إمكانية وجود أساس لمثل هذا التعميم. ولتعلم أنني لا أشك في صحتها، غير أنه يجب التحوط كثيرا عند قبول أي رأي يمتد ليشمل مثل هذه المساحات الكبيرة، وذلك في ضوء قدر قليل نسبيا من الحقائق. وأنا عن نفسي لا أشك على الإطلاق أنه في غضون الفترة الحديثة (والتي تسميها أنت «العصر البليوسيني الجديد» وهو ما يزعجني كثيرا)، قد ارتفعت الأشرطة المتعرجة، وليس كل الأشرطة الموازية لبعضها، وهبطت الأشرطة المقابلة لها؛ بالرغم من ذلك، فقد ظلت بعض الأجزاء على الأرجح، كما هي لفترة من الوقت، أو حتى هبطت. وأنا أعتقد أنه لم يكن من الممكن أن يأتي أحدهم بنظرية أشد خطأ من تلك التي تزعم وجود خطوط مستقيمة عظيمة قد ظهرت فجأة.
وأما عن موعد نشر كتابي عن «البراكين والشعاب المرجانية»، فهذا ما لا أعرفه، لكنه، مع الأسف، لن يكون قبل أربعة شهور أو خمسة على الأقل، لكن لتعلم أنني قد انتهيت من كتابة الجزء الأكبر منه. إنني أجد أنني أهدر الكثير من الوقت في تصويب التفاصيل والتحقق من دقتها. إن العمل الحكومي المتعلق بمجال علم الحيوان عبء يثقل كاهلي، وقد أضاعت علي ورقتي البحثية عن «جلين روي» ستة أسابيع. بالرغم من ذلك، فلن أقول إنه وقت مهدر؛ فإذا استطعت أن أثبت للآخرين ما أرى أنه هو الواقع فعلا، فأعتقد أن ذلك سيكون أمرا هاما. لا يمكن أن أشك في أن المادة المنصهرة الموجودة تحت القشرة الأرضية تتمتع بدرجة عالية من الميوعة؛ فهي أشبه بالبحر تحت الجليد القطبي. وبالمناسبة، أتمنى أن تمدني ببعض الأمثلة من السويد، لكي أستشهد بها والمتعلقة ببقاء الأصداف على السطح، وعدم وجودها في الطبقات المعاصرة من الحصى ...
إنني أتذكر ما سمعتك تقوله كثيرا وهو أن للريف تأثيرا سيئا جدا على المفكرين؛ فالضباب الكثيف مع الرذاذ الخفيف سيطفئ بعض التخمينات المهمة. لعلك ترى أنني قد بدأت أشبه اللندنيين في حديثي، وأمقت أهل الريف المساكين الذين يتنفسون الهواء النقي بدلا من الدخان، ويرون الحقول الواسعة بدلا من المنازل المصنوعة من الطوب في شارع مالبوره، وهو المنظر الذي أعترف بأنني أبغضه. إنني سعيد لسماع تقريرك الإيجابي عن اجتماع الجمعية البريطانية، ومما يزيد سعادتي أنني كنت أخوض معاركه مع باسيل هول وستوكس وغيرهما الكثير، وكنت قد توصلت إلى أنه كان اجتماعا ممتازا بلا شك، وذلك من خلال قراءتي للتقرير في نادي الأنثيام. وقد استمتعت كثيرا بما سمعته عن الخلاف بين دون رودريك [موركيسون] وبابيدج. يا له من أمر مثير للشفقة أن الأخير كان عنيدا للغاية ... إن هذا الخطاب مفكك ومليء بالهراء، حتى إنني أتوقف للتنفس بعد كل جملة، وستحتاج أنت أيضا إلى أن تفعل الأمر مثله حين تقرؤه ...
إنني أتمنى من كل قلبي لو كان كتابي الجيولوجي قد نشر. لدي كل الأسباب التي تحفزني على الاجتهاد في العمل، واتباعا لخطاك سوف أواصل العمل بهذا القدر نفسه من الاجتهاد لكي أحافظ على تحقيق تقدم جيد. سأحب أن ينشر كتابي قبل صدور الطبعة الجديدة من كتابك «مبادئ». وبالإضافة إلى تقديم نظرية الشعاب المرجانية، أعتقد أن الفصول المتعلقة بالبراكين سوف تتضمن حقائق جديدة. يؤسفني أنني قد أصبحت أميل إلى التكاسل - عن العمل الجيولوجي الخالص في الفترة الأخيرة؛ إذ يغريني هذا العدد الرائع من الآراء الجديدة التي تصدر بغزارة وثبات عن تصنيف الحيوانات والحشرات، وعن العلاقات بينها وكذلك عن غرائزها، والتي تتعلق جميعها بمسألة الأنواع. لقد ملأت الدفتر تلو الدفتر بالكثير من الحقائق عن هذه المسألة، والتي قد بدأ تجتمع معا «بوضوح» تحت قوانين فرعية.
طابت ليلتك يا عزيزي لايل. لقد أطلت في خطابي، واستمتعت بالحديث إليك بأقصى درجة ممكنة دون أن ألتقي بك شخصيا. فلتضع في الحسبان ما للريف من تأثير سيئ؛ لذا، طابت ليلتك مرة أخرى.
المخلص دوما
تشاز داروين
أرجو منك أن تخبر السيدة لايل بخالص شكري. [إن ما دونه عما كتبه من أعمال خلال هذا العام لا يشير على نحو واضح لأهم عمل كان لا يزال طور الإعداد، ألا وهو: وضع حجر الأساس لما سيكون فيما بعد الإنجاز الأهم في حياته. ويتضح ذلك في خطابه السابق إلى لايل، الذي يتحدث فيه عن كونه «متكاسلا»، وكذلك تؤيد الفقرة التالية من أحد خطاباته إلى فوكس، وجهة النظر تلك:
إنني سعيد لإدراك أنك شخص رائع للغاية؛ إذ إنك لم تنس أسئلتي عن تلقيح الحيوانات. إنها هوايتي الأساسية، وأنا أعتقد فعلا أنني سأتمكن ذات يوم من إضافة شيء في المجال المعقد للغاية المتعلق بالأنواع الحية والضروب.] (3) من 1839 إلى 1841 [في شتاء عام 1839 (29 يناير)، تزوج أبي بابنة عمه، إيما ويدجوود [ابنة جوزايا ويدجوود من مير، وحفيدة مؤسس مصنع إتروريا بوتري ووركس، الذي كان يعمل في مجال الفخار.] كان المنزل الذي شهد السنوات القليلة الأولى من حياتهما الزوجية، وهو المنزل رقم 12 في شارع أبر جاور في لندن، منزلا عاديا، وكان يضم غرفة استقبال في الأمام، وغرفة صغيرة في الخلف، وهي التي كانا يعيشان فيها طلبا للهدوء. في السنوات اللاحقة، اعتاد أبي أن يسخر من القبح الشديد للأثاث والسجاد وغير ذلك في هذا المنزل. أما السمة الوحيدة التي كانت بمنزلة تعويض لهما، فهي أن حديقة المنزل كانت أفضل من معظم المنازل في لندن؛ فقد كانت رقعة بعرض المنزل نفسه، وكان يبلغ طولها ثلاثين ياردة. إن هذه الرقعة الصغيرة من العشب الرث قد جعلت منزل لندن مقبولا أكثر لقاطنيه اللذين نشآ في الريف.
وعن حياته في لندن، يكتب إلى فوكس (أكتوبر 1839): «إننا نحيا حياة غاية في الهدوء؛ إن ديلامير نفسها، والتي تصفها أنت بأنها مكان منعزل للغاية، تعد مكانا صاخبا مقارنة بشارع جاور، وأنا أتحمل مسئولية قولي هذا. لقد توقفنا عن حضور جميع الحفلات؛ إذ إنها لا تتوافق مع كلينا، وإذا كان المرء يتمتع بالهدوء في لندن، فما من شيء يعادل هذا الهدوء؛ فثمة جلال في ضبابها المختلط بالدخان، والأصوات البعيدة الخافتة لمركباتها وعربات الأجرة. وربما تدرك أنني في طريقي إلى أن أصبح لندنيا تماما، وأنا أبتهج جدا حين أفكر أنني سأظل هنا على مدى الشهور الستة القادمة.»
يزداد عدد الإدخالات التي يذكر فيها المرض في مفكرته اليومية، في هذه الفترة؛ ونتيجة لذلك، فقد زاد تواتر العطلات وطالت مدتها؛ فقد قضى الفترة من 26 أبريل إلى 13 مايو من عام 1839 في مير وشروزبيري، ومرة أخرى، في الفترة ما بين 23 أغسطس إلى 2 أكتوبر، سافر من لندن إلى مير، وشروزبيري، وبيرمينجهام والتي حضر فيها اجتماع الجمعية البريطانية.
على سبيل المثال، نجد هذا الإدخال المؤرخ في أغسطس 1839: «في أثناء زيارتي إلى مير، قرأت قليلا، وكنت مريضا للغاية، وخاملا بدرجة فاضحة. لقد توصلت بكل تأكيد إلى أنه لا يوجد شيء لا يطاق مثل الخمول.»
في نهاية عام 1839، ولد طفله الأول، وحينها بدأ ملاحظاته التي نشرت في النهاية في كتاب «التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان». ويوضح هذا الكتاب، وكذلك الورقة البحثية القصيرة التي نشرت في دورية «مايند» [يوليو 1877] كيف أنه كان يراقب ابنه عن قرب شديد. ويبدو أنه كان متفاجئا من مشاعره تجاه الرضيع الصغير؛ فقد كتب إلى فوكس (يوليو 1840): «إنه [أي، الرضيع] ساحر للغاية، حتى إنني لا أستطيع ادعاء التواضع. لا يمكن لأي أحد أن يجاملنا بشأن مدح رضيعنا؛ إذ لا يمكن لأحد أن يقول أي شيء في مديحه لسنا على وعي تام به ... إنني لم أكن أتخيل على الإطلاق أنني قد أكن هذا القدر الكبير من المشاعر لرضيع عمره خمسة شهور. سوف تدرك من هذا أنني أتمتع بدرجة عالية من مشاعر الأبوة المتوهجة.»
خلال هذه السنوات، كان يعمل بنحو متقطع على كتابه عن «الشعاب المرجانية»؛ إذ كان يمنعه المرض باستمرار عن مواصلة العمل. ولهذا، فهو يتحدث عن «إعادة البدء» في الكتابة فيه في فبراير 1839، ثم في أكتوبر من العام نفسه، ومرة ثالثة في يوليو 1841، «بعد فترة انقطاع تزيد على ثلاثة عشر شهرا». وأما عن أعماله العلمية الأخرى، فقد تمثلت في مساهمة له في الجمعية الجيولوجية
6
عن الجلاميد الصخرية و«الحريث الجليدي» في أمريكا الجنوبية، إضافة إلى عدد قليل من الأوراق البحثية الصغيرة عن موضوعات جيولوجية. وقد انشغل أيضا في العمل على الجزء الخاص بالطيور من كتاب «دراسة حيوانات «البيجل»»، الذي كان يتمثل في الكتابة عن عادات الطيور التي وصفها جولد، وتوزيع أنواعها.]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
صباح الأربعاء [فبراير 1840]
عزيزي لايل
أشكرك شكرا جزيلا على خطابك الطيب. سوف أرسل للحصول على نسخة من جريدة «ذا سكوتسمان». يعتقد الدكتور هولاند أنه قد عرف ما بي من علة، وهو يأمل الآن أن يتمكن من مساعدتي على استرداد عافيتي. أليس من المخزي حقا أنه قد مرت الآن تسعة أسابيع منذ أن تمكنت من إنجاز عمل يوم بأكمله، وأنه لم تتجاوز فترة عملي أربعة أيام ونصف؟ لكنني سأكف عن التذمر، رغم أنه من الصعب تجنب ذلك. منذ أن قرأت خطابك، رحت أراجع الفصل الذي كتبته عن الشعاب المرجانية، وقد وجدت أنني مستعد للدفاع عن كل ما جاء فيه تقريبا؛ فهو مكتوب بحذر ودقة أكثر مما توقعت. لقد عزمت على أن أنتهي من كتابي حول هذا الموضوع، قبل نشر الطبعة الجديدة من عملك، وصدقني في أن ذلك ليس لكي تلاحظ فيه أي شيء جديد (إذ ليس به من جديد سوى القليل جدا بجانب التفاصيل)؛ فأنت الرجل الوحيد في أوروبا الذي أتلهف دوما على أن أسمع منه الحقيقة بشأن أي مسألة تتسم بالتعقيد. إن مخطوطتي تعم فيها الفوضى، ولولا ذلك، فأنا أثق في أنك كنت لتلقي نظرة على أي جزء تختاره منها، إذا كنت ترى أن ذلك يستحق وقتك ... ... [في خطاب إلى فوكس (يناير 1841) يوضح أن «عمله عن الأنواع» لا يزال يشغل ذهنه:
إذا كان لا يزال لديك أي اهتمام بالتاريخ الطبيعي، فإنني أرسل لك هذا التذييل تذكيرا لك بأنني أواصل جمع كل أنواع الحقائق المتعلقة بموضوع «الضروب والأنواع» وذلك لأستخدمها في عملي الذي سيظهر ذات يوم بهذا الاسم. وأنا أقبل حتى أصغر الإسهامات وسأكون شاكرا عليها؛ أوصاف السلالات الناتجة عن جميع أنواع التلقيح المتبادل بين جميع الطيور الداجنة والحيوانات مثل الكلاب والقطط، وما إلى ذلك، ذات قيمة وفائدة كبيرة للغاية. ولا تنس أنه حين تموت قطتك الأفريقية الهجينة، فإنني سأكون ممتنا للغاية إذا أرسلت لي جثتها في سلة صغيرة لأفحص هيكلها العظمي، وستكون هي أو غيرها من أي طيور هجينة مثل الحمام أو الدواجن أو البط أو ما شابه، أفضل من أجود فخاذ الغزلان أو السلاحف.
وفي فترة لاحقة من العام (سبتمبر)، يكتب إلى فوكس عن صحته، ويشير أيضا إلى خطته بشأن الانتقال إلى الريف:
إنني أحقق تقدما ثابتا، وأعتقد حقا أنني سأسترد صحتي بعض الشيء ذات يوم. إنني أكتب يوميا لبضع ساعات في كتابي عن الشعاب المرجانية، وأقوم بجولة سير أو جولة ركوب قصيرة كل يوم. إنني أصير مرهقا جدا في المساء، ولا أكون قادرا على الخروج في ذلك الوقت، ولا حتى على استقبال أقرب أقاربي، غير أن حياتي لم تعد عبئا مضنيا بعد أن صرت الآن قادرا على العمل. إننا نخطط لمغادرة لندن، والعيش على بعد قرابة العشرين ميلا منها على أحد خطوط السكة الحديدية.] (4) 1842 [يتضمن ما دونه عما كتبه من أعمال كتابه عن «الشعاب المرجانية»
7
الذي قد أرسلت مخطوطته إلى المطابع أخيرا في يناير من هذا العام، وصححت آخر بروفات الطباعة الخاصة به في مايو. وهو يكتب عن هذا العمل في مفكرته اليومية ما يلي:
لقد بدأت هذا العمل قبل ثلاث سنوات وسبعة أشهر. وقد قضيت من هذه المدة عشرين شهرا في العمل عليه (إضافة إلى الوقت الذي استغرقته في العمل عليه خلال رحلة «البيجل»). وإلى جانب هذا، جمعت في هذه المدة أيضا الجزء الخاص بالطيور في كتاب «دراسة حيوانات رحلة «البيجل»»، وكتبت ملحقا ل «يوميات الأبحاث»، وورقة بحثية عن الجلاميد الصخرية، وصوبت أوراقا بحثية حول جلين روي والزلازل، بالإضافة إلى القراءة عن الأنواع. أما بقية هذه المدة، فقد أضاعها علي المرض.
قضى مايو ويونيو في شروزبيري ومير، ومن هناك، ذهب في جولة صغيرة في ويلز، والتي تحدث عنها في عمله «ذكريات» ونشرت نتائجها في ورقته البحثية «ملاحظات عن آثار الأنهار الجليدية القديمة في كارنارفنشير وعن الجلاميد الصخرية التي نقلها الجليد المنجرف».
8
ويقول السيد آرتشيبولد جيكي عن هذه الورقة إنها تأتي «في مقدمة القائمة الطويلة للإسهامات الإنجليزية فيما يتعلق بالعصر الجليدي».
9
أما الجزء اللاحق من هذه السنة، فهو يعود إلى الفترة التي تتضمن استقراره في داون؛ ولهذا، فإننا سنتناولها في فصل آخر.]
الفصل الثامن
الدين
[إن سردنا لتاريخ هذا الجزء من حياة أبي يستحق أن يتضمن ذكرا لبعض آرائه الدينية. وبالرغم من أنه يوضح أنه لم يكن يفكر في المسائل الدينية بنحو منهجي ومستمر، فإننا نعرف من كلماته أن الأمر كان يشغل ذهنه كثيرا في هذه الفترة (1836-1839).
في أعماله المنشورة، كان متحفظا في الحديث عن مسألة الدين، وما تركه عن هذا الموضوع لم يكن مكتوبا بنية النشر. (والاستثناء الذي يمكن أن نذكره هو كلمات قليلة جاءت بالتزامن مع مقال الدكتور أبوت «حقائق للعصور» والتي قد سمح أبي بنشرها في صحيفة «ذي إندكس».)
وأعتقد أن تحفظه في الحديث عن الأمر كان نابعا من أسباب عدة، ومنها أنه كان يرى أن معتقدات الفرد الدينية هي أمر خاص في الأساس، ولا تخص أحدا غيره. ويتضح ذلك في الفقرة التالية المأخوذة من أحد خطاباته في عام 1879:
1
إن ماهية آرائي هي مسألة لا تعني أحدا فيما سواي. أما وإنك قد سألت، فيمكنني أن أقول إن حكمي كثيرا ما يتذبذب ... وفي أكثر حالات التذبذب تطرفا، لم أكن قط ملحدا بمعنى إنكار وجود الإله. وبصفة عامة، (ولا سيما مع تقدمي في السن أكثر وأكثر) لكن ليس دائما؛ فإنني أعتقد أن وصف «اللاأدري» هو الأصوب لوصف موقفي العقلي فيما يتعلق بالدين.
لقد كان يحجم تلقائيا عن جرح مشاعر الآخرين فيما يتعلق بالأمور الدينية، وكان متأثرا أيضا باعتقاده بأنه ينبغي على المرء ألا ينشر رأيه في موضوع لم يمنحه قدرا كبيرا من التفكير المتأني والمستمر. ويتضح تطبيقه لهذا الحذر على نفسه فيما يتعلق بمسألة الدين في خطاب إلى الدكتور إف إي أبوت، من كامبريدج، الولايات المتحدة (6 سبتمبر 1871). فبعد أن يشرح أن ضعفه الناتج عن المرض قد جعله يشعر بأنه ليس «أهلا للتفكير العميق في أعمق الموضوعات التي يمكن أن تملأ ذهن المرء»، يضيف: «بخصوص خطاباتي السابقة إليك، فقد نسيت محتواها تماما؛ إذ يتحتم علي كتابة الكثير من الخطابات، ولا أستطيع التفكير فيما أكتبه إلا قليلا. بالرغم من ذلك، فإنني أعتقد تماما أنني لم أكتب كلمة واحدة لم أفكر فيها في ذلك الوقت، وآمل أيضا ألا أكون قد فعلت ذلك، لكنني أعتقد أنك ستتفق معي في أن أي شيء يقدم إلى الجمهور يجب التفكير فيه بترو وعرضه بعناية. ولم يخطر بذهني على الإطلاق أنك قد ترغب في نشر أي مقتطف من خطاباتي، وإلا لكنت قد احتفظت بنسخة منها. إنني أعلن صراحة عن «خصوصية المحتوى» في بعض الخطابات، وهذا نسق لم أكتسبه حتى الآن إلا بنحو جزئي؛ وذلك بسبب بعض الخطابات التي كتبتها على عجل وطبعت، ولم تكن تستحق أن تطبع على الإطلاق، غير أنها مقبولة بخلاف ذلك. إنه لأمر سخيف جدا أن أعتقد أن خطابي السابق إليك يستحق أن ترسله إلي مع تحديد أي جزء منه ترغب في نشره، لكن إن كنت ترغب في القيام بذلك، فسوف أخبرك على الفور بما إن كان لدي أي اعتراض أم لا. إنني أشعر إلى حد ما بعدم الرغبة في الإفصاح للجمهور عن آرائي في المسائل الدينية؛ إذ إنني أشعر بأنني لم أفكر في الأمر بعمق كاف يبرر الإفصاح عن آرائي للجمهور.»
ويمكنني أيضا أن أستشهد بخطاب آخر إلى الدكتور أبوت (16 نوفمبر 1871) وفيه يوضح أبي بنحو أكثر تفصيلا أسبابه في شعوره بأنه ليس مؤهلا للكتابة في الموضوعات الدينية والأخلاقية:
يمكنني أن أقول بكل صدق إن طلبك لي بأن أكون أحد المساهمين في صحيفة «ذي إندكس» يشرفني كثيرا، وأنا ممتن للغاية على المسودة. وأنا أيضا أكن كامل التأييد للرأي القائل بأنه يجب على كل فرد أن ينشر ما يعتقد أنه الحقيقة، وأنا أحترمك كثيرا لقيامك بذلك بقدر كبير من الإخلاص والحماس. بالرغم من ذلك، لا يمكنني الامتثال لطلبك للأسباب التي سيلي ذكرها، واعذرني إذ أذكرها ببعض التفصيل؛ إذ إنه سيحزنني لو بدوت لك فظا. إن صحتي ضعيفة للغاية: لا يحدث «أبدا» أن أقضي 24 ساعة دون أن أعاني فيها من التعب لساعات طويلة لا أكون قادرا فيها على القيام بأي شيء على الإطلاق. ونتيجة لذلك، ضاع علي شهران كاملان متتاليان في هذا الفصل. وبسبب هذا الضعف، وكذلك دوار رأسي، لا أستطيع إتقان الموضوعات الجديدة التي تستلزم قدرا كبيرا من التفكير، ولا أتناول إلا الموضوعات القديمة. إنني لم أكن قط مفكرا أو كاتبا سريعا، وكل ما حققته من إنجازات في مجال العلوم يعزى إلى التفكير الطويل والصبر والمثابرة.
حسنا، لم يسبق لي من قبل أن فكرت بنحو منهجي في الدين وعلاقته بالعلم أو في الأخلاق وعلاقتها بالمجتمع، وبدون أن أركز تفكيري على مثل هذه الموضوعات لفترة «طويلة،» لن أكون قادرا حقا على كتابة أي شيء يستحق النشر في صحيفتك.
لقد سئل عن آرائه بشأن الدين أكثر من مرة، ولم يكن يعترض عادة على فعل ذلك في خطاب خاص؛ ومن ثم، فقد كتب الرد التالي إلى طالب هولندي (2 أبريل 1873):
إنني أثق في أنك سوف تعذرني في الكتابة بعد فترة طويلة حين أخبرك بأنني كنت مريضا منذ وقت طويل، وأنا الآن بعيد عن بيتي للحصول على بعض الراحة.
ليس من الممكن أن أجيب عن سؤالك باختصار، ولست متأكدا إن كنت أستطيع القيام بذلك أم لا، حتى إذا كتبت ببعض الإسهاب. بالرغم من ذلك، يمكنني أن أقول إن عدم إمكانية تصور أن هذا الكون العظيم المليء بالعجائب، وكذلك ذواتنا الواعية، قد نشأ عن طريق الصدفة هو ما يبدو لي أنه الحجة الأساسية لوجود إله؛ أما عما إذا كان لهذه الحجة قيمة حقيقة أم لا، فهذا ما لم أتمكن قط من تحديده. إنني أدرك أننا إذا سلمنا بوجود سبب أول، فإن العقل سيظل يطالب بأن يعرف من أين أتى وكيف. وكذلك لا يمكنني أن أغفل الصعوبة المرتبطة بوجود كل هذا القدر من المعاناة في العالم. وأنا أميل أيضا إلى الانصياع بعض الشيء إلى حكم العديد من الرجال البارعين الذين كانوا يؤمنون تماما بالإله، غير أنني أيضا أدرك مدى ضعف هذه الحجة. ويبدو لي أن النتيجة الأسلم هي أن هذا الموضوع بأكمله يتجاوز نطاق العقل البشري، لكن يمكن للمرء أن يقوم بواجبه.
ومرة أخرى في عام 1879، بعث إليه طالب ألماني، يسأله بطريقة مشابهة. وقد أجاب عن الخطاب أحد أفراد عائلة أبي، وقد كتب ما يلي:
يرجوني السيد داروين أن أقول إنه يتلقى عددا كبيرا جدا من الخطابات، فلا يمكنه الإجابة عنها كلها.
وهو يرى أن نظرية التطور تتوافق تماما مع الإيمان بوجود إله، لكنك يجب أن تتذكر أن الأشخاص يختلفون في تعريفهم لما يقصدونه بكلمة إله.
غير أن ذلك لم يرض الشاب الألماني الذي كتب مرة أخرى إلى أبي، وتلقى منه الرد التالي:
إنني منشغل للغاية، وأنا رجل عجوز ومريض ولا يمكنني أن أبذل وقتي في الإجابة عن أسئلتك بنحو كامل، وهي أسئلة في واقع الأمر لا يمكن الإجابة عنها. ليس للعلم أي علاقة بالمسيح، باستثناء أن طابع البحث العلمي يجعل المرء حذرا في الإقرار بصحة الأدلة. أما عن نفسي، فأنا لا أعتقد أنه كان هناك أي وحي على الإطلاق. وأما عن وجود حياة تالية، فيجب على كل امرئ أن يختار لنفسه من بين الاحتمالات الغامضة المتعارضة.
والفقرات التالية هي مقتطفات، مختصرة بعض الشيء، من جزء من السيرة الذاتية التي كتبها أبي عام 1876، وهو يوضح فيها تاريخ آرائه الدينية:
على مدى هذين العامين [من أكتوبر 1836 إلى يناير 1839] اتجهت إلى التفكير كثيرا بشأن الدين. على متن «البيجل»، كنت متدينا إلى حد ما، وأتذكر أن العديد من الضباط كانوا يسخرون مني بشدة، (بالرغم من أنهم أنفسهم كانوا متدينين)؛ ذلك أنني كنت أستشهد بالإنجيل بصفته حجة دامغة في القضايا التي تتعلق بالأخلاق. أعتقد أن حداثة النقاش هي ما كان يمتعهم. لكن بحلول هذا الوقت؛ أي الفترة بين 1836 و1839، بدأت أرى تدريجيا أنه لا يمكن تصديق العهد القديم أكثر مما يمكن تصديق الكتب الهندوسية المقدسة. وقد ظلت هذه المسألة تشغل ذهني ولا تبرحه: أيعقل أنه إذا كان الإله قد أنزل وحيا للهندوس، أن يسمح له بأن يكون له علاقة بالإيمان بفينشو وسيفا وغيرهما، مثلما أن المسيحية لها علاقة بالعهد القديم؟ وقد بدا لي أن هذا الأمر لا يعقل على الإطلاق.
وبالمزيد من التفكير في أن البراهين الواضحة ستكون ضرورية لأي شخص عاقل لكي يؤمن بالمعجزات التي تؤيد المسيحية، وأنه كلما زادت معرفتنا بقوانين الطبيعة الثابتة، بدت المعجزات أمرا لا يصدق بدرجة أكبر، وأن الرجال في ذلك العصر كانوا جاهلين وسريعي التصديق بدرجة نكاد ألا ندركها على الإطلاق، وأنه لا يمكن إثبات أن الأناجيل لم تكتب بالتزامن مع الأحداث، وأنها تختلف فيما بينها في العديد من التفاصيل المهمة، التي قد بدت لي أنها مهمة للغاية بحيث لا يمكن أن نعزوها إلى الدرجة المعتادة من عدم دقة شهود العيان؛ من خلال مثل هذه الأفكار، والتي لا أذكرها على أساس أنها مبتكرة أو قيمة وإنما لأنها قد أثرت في ، بدأت تدريجيا في عدم الإيمان بالمسيحية بصفتها وحيا إلهيا. وقد كان لحقيقة أن العديد من الأديان المزيفة قد انتشرت في أجزاء كبيرة من الأرض كالنار في الهشيم، تأثير كبير علي.
غير أنني كنت عازفا تماما عن التخلي عن إيماني، وأنا واثق من هذا؛ إذ يمكنني أن أتذكر جيدا أنني كثيرا ما كنت أتخيل أحلام يقظة عن خطابات قديمة بين الشخصيات الرومانية البارزة، وعن مخطوطات تكتشف في بومبي أو غيرها، وتؤكد بوضوح قاطع كل ما ورد في الأناجيل. بالرغم من ذلك، فقد كنت أجد صعوبة أكبر، مع تحرير نطاق عقلي، في أن أجد أدلة تكفي لإقناعي؛ ومن ثم، فقد تسلل إلي عدم التصديق بالدين ببطء شديد، لكنه اكتمل في النهاية. وقد كان تسلله بطيئا للغاية حتى إنني لم أشعر بأي جزع.
وبالرغم من أنني لم أفكر كثيرا في وجود إله شخصي حتى فترة متأخرة بدرجة كبيرة نسبيا من حياتي، فإنني سوف أذكر هنا النتائج المبهمة التي توصلت إليها. إن الحجة القديمة المتمثلة في مسألة التصميم الذكي، والتي قال بها بيلي، وكنت أجد أنها حجة حاسمة فيما سبق، قد سقطت الآن بعد اكتشاف قانون الانتقاء الطبيعي؛ فعلى سبيل المثال، لا يمكننا أن نجادل الآن بأنه لا بد أن كائنا ذكيا هو الذي صنع المفصلة الجميلة في ذوات الصدفتين، مثلما أن الإنسان هو الذي يصنع مفصلة الباب. يبدو أن قابلية الكائنات العضوية للتباين وفعل الانتقاء الطبيعي، لا ينطويان على تصميم بأكثر مما تنطوي عليه الرياح في هبوبها. غير أنني قد تناولت هذا الموضوع في نهاية كتابي «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، وأعتقد أن الحجة الواردة هناك ليس لها تفنيد حتى الآن.
لكن مع غض الطرف عن أساليب التكيف الرائعة اللانهائية التي نجدها في كل مكان، يمكن أن يطرح السؤال التالي: كيف يمكن تفسير الترتيب الخير بوجه عام للعالم؟ إن بعض الكتاب متأثرون بالفعل بشدة بحجم المعاناة في العالم، حتى إنهم يشكون فيما إذا كنا سنجد سعادة أم شقاء أكبر إذا نظرنا إلى جميع الكائنات الواعية في العالم، ومما إذا كان العالم في مجمله جيدا أم سيئا. أما عن رأيي، فأنا أعتقد أن السعادة هي التي تسود قطعا، غير أنه من الصعب جدا إثبات ذلك. وإذا سلمنا بصحة هذه النتيجة، فإنها سوف تتناغم تماما مع ما يمكن أن نتوقعه من آثار الانتقاء الطبيعي. فإذا كان جميع أفراد أي نوع معين يعانون عادة بأقصى درجة؛ فإنهم سوف يحجمون عن الإكثار من نوعهم، وما من سبب لدينا يجعلنا نعتقد أن ذلك حدث على الإطلاق، أو حتى كان يحدث غالبا على الأقل. وإضافة إلى ذلك، فإن بعض الاعتبارات الأخرى تقودنا إلى الاعتقاد أن جميع الكائنات الواعية، قد تشكلت لكي تستمتع، بصفة عامة، بالسعادة.
إن جميع من يعتقدون مثلما أعتقد أن جميع الملكات الجسدية والذهنية (باستثناء تلك التي لا تمثل ميزة ولا عيبا لمالكها) في جميع الكائنات قد تطورت من خلال الانتقاء الطبيعي أو من خلال البقاء للأصلح، سواء من خلال الاستخدام أو العادة، سيتقبلون أن هذه الملكات قد تشكلت حتى يتمكن مالكوها من النجاح في المنافسة مع الكائنات الأخرى؛ ومن ثم، يزدادون عددا. والآن، قد يتجه أحد الحيوانات إلى اتباع المسار الذي يكون الأكثر نفعا للنوع؛ إما من خلال المعاناة، مثل الجوع والعطش والخوف، أو من خلال المتعة، مثل الطعام والشراب وتكاثر النوع وما إلى ذلك، أو من خلال الجمع بين الوسيلتين معا، كما في البحث عن الغذاء. لكن إذا استمر الألم أو المعاناة من أي نوع لفترة طويلة، فإن ذلك يتسبب في اكتئاب الكائن ويقلل من قوة حركته، لكنه يجعل الكائن قادرا على حماية نفسه ضد أي أخطار كبيرة أو مفاجئة. أما المشاعر الممتعة، على الجانب الآخر، فيمكن أن تستمر لفترة طويلة دون أن تولد أي مشاعر اكتئاب؛ فهي على العكس من ذلك، تحفز النظام بأكمله لزيادة الحركة؛ ومن ثم، يتضح من هذا أن تطورت معظم الكائنات الواعية أو كلها بهذه الطريقة من خلال الانتقاء الطبيعي، والتي تكون مشاعر المتعة فيها بمثابة أدلة التوجيه المعتادة لهذه الكائنات. ونحن نرى هذا في المتعة التي نستمدها من الإجهاد، وحتى أحيانا من الإجهاد الكبير للجسد أو الذهن، وكذلك في المتعة التي نستمدها من وجباتنا اليومية، وعلى وجه الخصوص في المتعة التي نستمدها من التواصل الاجتماعي وكذلك من حب عائلاتنا. ومحصلة مثل هذه المشاعر الممتعة، والتي تحدث عادة أو تتكرر باستمرار، توفر لمعظم الكائنات الواعية، وأنا لا أشك في ذلك، سعادة يفوق قدرها ما يجدونه من شقاء، بالرغم من أن بعضها يعاني كثيرا في بعض الأحيان. وتتوافق هذه المعاناة مع الإيمان بالانتقاء الطبيعي، والذي لا يكون مثاليا في فعله، غير أنه يفيد في أن يجعل كل نوع من الأنواع ناجحا بأكبر قدر ممكن في معركة الحياة مع الأنواع الأخرى، في ظل مجموعة من الظروف المتغيرة والمعقدة بنحو مدهش.
إن أحدا لا ينكر وجود قدر كبير من المعاناة في العالم. وقد حاول البعض أن يفسروا ذلك فيما يتعلق بالإنسان بتصور أنها تساعد في تحسين وضعه الأخلاقي، لكن عدد البشر لا يقارن على الإطلاق بعدد الكائنات الواعية الأخرى، وهي التي كثيرا ما تعاني دون أي تحسين أخلاقي. ويبدو لي أن هذه الحجة القديمة المتمثلة في وجود المعاناة في مقابل وجود سبب أول ذكي هي حجة قوية، غير أن وجود هذا القدر الكبير من المعاناة، يتفق، كما أوضحنا، مع الرؤية القائلة بأن جميع الكائنات العضوية قد تطورت من خلال التباين والانتقاء الطبيعي.
في الوقت الحاضر، تستمد الحجة الأكثر شيوعا لوجود إله ذكي من القناعات والمشاعر الداخلية العميقة التي يختبرها معظم الأشخاص.
في وقت سابق، قادتني مثل هذه المشاعر التي أشرت إليها للتو (بالرغم من أنني لا أعتقد أن الشعور الديني قد نما بقوة لدي في أي يوم من الأيام) إلى الاعتقاد الراسخ بوجود إله، وبخلود الروح. وفي يومياتي كتبت ما يلي بينما أقف في قلب عظمة إحدى الغابات البرازيلية: «ليس من الممكن أن أعطي فكرة مناسبة عن هذه المشاعر السامية بالدهشة والإعجاب والتفاني، وهي التي تملأ العقل وتسمو به.» وأنا أتذكر جيدا أنني كنت مقتنعا أن الإنسان ينطوي على ما هو أكثر من النفس الذي يدخل إلى جسده ويخرج منه. أما الآن، فأكثر المناظر عظمة لن تبث في عقلي مثل هذه المشاعر والأفكار. وربما يصح القول بأنني قد أصبحت مثل رجل أصيب بعمى الألوان؛ لذا، فإن الاعتقاد السائد لدى البشر بوجود اللون الأحمر، ينفي أي قيمة لاستخدام عدم قدرتي على تمييز اللون الأحمر كدليل. وستكون هذه الحجة سليمة إذا كان كل البشر من جميع الأعراق لديهم هذا الاعتناق الداخلي بوجود إله واحد، لكننا نعرف أن ذلك بعيد كل البعد عن الواقع؛ ولهذا، لا يمكنني أن أرى أي قيمة لاستخدام مثل هذه الاعتقادات والمشاعر الداخلية كدليل على ما يوجد فعلا. إن تلك الحالة الذهنية التي أثارتها في المناظر العظيمة قبل ذلك، وهي التي ارتبطت بصورة وثيقة بالإيمان بالإله، لم تكن تختلف بصورة جوهرية عما ندعوه عادة بالشعور بالتسامي، وبالرغم مما قد يوجد من صعوبة في تفسير نشأة هذا الشعور، فلا يمكن تقديمه على أنه حجة بوجود الإله، مثلما أنه لا يمكننا تقديم ما يشبهه من المشاعر القوية الغامضة التي تثيرها فينا الموسيقى على أنه حجة على ذلك.
وأما عن الفناء، فما من شيء يوضح لي [بوضوح شديد] أنه اعتقاد قوي وشبه فطري، كالتفكير في وجهة النظر التي يقول بها الآن معظم علماء الفيزياء، وهي أن الشمس وجميع الكواكب، ستغدو باردة جدا بمرور الوقت؛ فلا تصبح مناسبة لاستمرار الحياة، إلا أن يصطدم جسم كبير للغاية بالشمس؛ فيمنحها حياة جديدة. ولما كنت أعتقد أن الإنسان سيصير في المستقبل البعيد أكثر كمالا بدرجة كبيرة مما هو عليه الآن، فإنني أجد أن التفكير بأن مصيره وهو وجميع الكائنات الواعية الأخرى إلى الاندثار التام، بعد مثل هذا التقدم البطيء المستمر على مدى فترة طويلة، فكرة ليست معقولة. أما بالنسبة إلى الذين يتقبلون تماما خلود الروح الإنسانية، فإن الهلاك التام لعالمنا لن يبدو مروعا جدا.
وثمة سبب آخر، مرتبط بالعقل لا بالعاطفة، للاقتناع بوجود إله ، وأنا أرى أن له ثقلا أكبر كثيرا من غيره. وهو ينبع من الصعوبة الشديدة، بل استحالة تصور أن هذا الكون الضخم والرائع، بما في ذلك الإنسان وقدرته على النظر في الماضي وكذلك المستقبل، هو نتيجة صدفة أو ضرورة. وحين أفكر في هذا، أجد أنني مرغم على أن أتطلع إلى سبب أول يتمتع بعقل ذكي يشبه عقل الإنسان بدرجة ما، وأنني أستحق أن أدعى مؤمنا. لقد كانت هذه النتيجة حاضرة في ذهني بقوة قرابة الوقت الذي كنت أكتب فيه «أصل الأنواع»، ومنذ ذلك الوقت، أصبحت تضعف تدريجيا، مع تعرضي للعديد من التقلبات. غير أن الشك يظهر مرة أخرى هنا؛ هل من الممكن أن نثق في عقل كعقل الإنسان، الذي أعتقد أنه تطور من عقل بسيط للغاية كعقول أدنى الحيوانات مرتبة، في التوصل إلى مثل هذه الاستنتاجات الخطيرة؟
لا يمكنني الزعم أنني قد ألقيت الضوء على هذه المعضلات ولو بقدر ضئيل للغاية. إن لغز بداية الأشياء جميعها من المشكلات التي لا يمكننا حلها، وأما بالنسبة لي، فإنني راض بأن أظل لا أدريا.
إن الخطابات التالية تكرر إلى حد ما ما ورد في السيرة الذاتية التي كتبها عن نفسه. ويشير الخطاب الأول إلى مقال «حدود العلم: حوار» الذي نشر في مجلة «ماكملان ماجازين»، في عدد يوليو 1861.]
من تشارلز داروين إلى الآنسة جوليا ويدجوود
11 يوليو [1861]
لقد أرسل إلينا أحدهم مجلة «ماكملان ماجازين»، ولا بد لي أن أخبرك بإعجابي الشديد بمقالك. بالرغم من ذلك، فعلي أن أعترف بأنني لم أستطع أن أفهم مقصدك بوضوح في بعض الأجزاء، والسبب الأساسي في ذلك على الأرجح هو أنني لم آلف تسلسلات الأفكار الميتافيزيقية على الإطلاق. أعتقد أنك تفهمين كتابي [أصل الأنواع] تمام الفهم، وهو أمر يندر حدوثه مع نقادي. إن الأفكار الواردة في الصفحة الأخيرة من المقال قد وردت على ذهني بنحو مبهم لمرات عديدة. وبفضل العديد من مراسلي، اتجهت مؤخرا إلى التفكير، أو بالأحرى إلى محاولة التفكير، في بعض النقاط الأساسية التي تناولتها، غير أن النتيجة هي أنني دخلت في متاهة ؛ الأمر يشبه التفكير في أصل الشر، وهو الأمر الذي تشيرين إليه. إن العقل يأبى أن ينظر إلى هذا الكون، بالحالة التي هو عليها، دون أن يفكر في أنه قد جرى تصميمه. بالرغم من ذلك، ففي الجوانب التي يتوقع فيها المرء تجلي التصميم بأكبر درجة، وأعني بذلك، في تركيب الكائنات الواعية، كلما زاد تفكيري في الموضوع، قل ما أستطيع أن أجده من دليل على التصميم. إن آسا جراي وآخرين غيره يعتقدون أن كل تباين، أو على الأقل كل تباين مفيد، (وهو ما يشبهه جراي بقطرات المطر التي لا تسقط في البحر وإنما تسقط على الأرض لتخصبها) قد صمم لحكمة. بالرغم من ذلك، حين أسأله عما إذا كان يعتقد أن كل تباين في الحمام الجبلي، والتي توصل منها الإنسان من خلال التراكم إلى الحمام النفاخ أو الهزاز، قد صمم لحكمة إمتاع الإنسان أم لا، فإنه لا يعرف بم يجيب. وإذا تقبل هو أو أي أحد غيره أن هذه التباينات عرضية، فيما يتعلق بغرضها (لكن ليس بالطبع فيما يتعلق بالسبب فيها أو أصلها)، فلا أرى أي سبب يجعله لا يصنف التباينات المتراكمة، والتي شكلت نقار الخشب المتكيف بصورة رائعة، على أنها قد صممت لحكمة؛ إذ سوف يكون من السهل تخيل أن الحوصلة المتمددة للحمام النفاخ أو ذيل الحمام الهزاز ذات فائدة لهذه الطيور في الطبيعة، لما لها من عادات حياتية غريبة. تلك هي الأفكار التي تثير حيرتي بشأن التصميم، غير أنني لا أدري إن كنت ستهتمين لمعرفتها أم لا ... ... [عن موضوع التصميم، كتب (في يوليو 1860) إلى الدكتور جراي:
كلمة أخرى عن «القوانين المصممة» و«النتائج غير المصممة». إنني أرى طائرا أريده طعاما لي؛ فآخذ بندقيتي وأقتله، وأنا أفعل ذلك «عن سابق تصميم مني». وثمة رجل بريء وصالح يقف تحت شجرة وتقتله صاعقة من البرق. هل تعتقد (وأنا أود حقا أن أعرف رأيك في ذلك) أن الإله قد قتل هذا الرجل «عن سابق تصميم منه»؟ إن الكثير من الأشخاص أو معظمهم يعتقدون ذلك، لكنني لا أعتقد ذلك ولا أستطيع أن أفعل هذا. إن كنت تعتقد ذلك، فهل تعتقد حين يلتهم طائر السنونو ناموسة أن الإله قد خطط مسبقا أن يلتهم ذلك السنونو تلك الناموسة في تلك اللحظة المحددة؟ إنني أعتقد أن الإنسان والناموسة في المأزق نفسه. إذا لم يكن موت الإنسان ولا موت الناموسة عن سابق تصميم، فأنا لا أجد أي سبب جيد للاعتقاد بأن «أول» مولد أو إنتاج تم عن سابق تصميم بالضرورة.]
من تشارلز داروين إلى دابليو جراهام
داون، 3 يوليو، 1881
سيدي العزيز
أتمنى ألا يزعجك مني شكري الصادق لك على ما وجدته من متعة في قراءة كتابك الرائع «عقيدة العلم»، بالرغم من أنني لم أنته من قراءته بعد؛ إذ إنني أصبحت أقرأ ببطء شديد نظرا لكبر سني. لقد مر وقت طويل منذ أن أثار اهتمامي أي كتاب آخر. لا بد أن العمل عليه قد استغرق منك سنوات عديدة وقدرا كبيرا من العمل الشاق مع تخصيص وقت فراغك بأكمله له. إنك لا تتوقع على الأرجح من أي شخص أن يتفق معك تماما بشأن العديد من الموضوعات الإشكالية، وثمة العديد من النقاط التي لا أستطيع أن أستسيغها في كتابك. والنقطة الأساسية التي لا يمكنني أن أستسيغها هي قولك بأن وجود ما يسمى بالقوانين الطبيعية يدل على وجود الغاية، وأنا لا أستطيع أن أرى صحة ذلك. بالإضافة إلى ذلك، إن العديد من الأشخاص يتوقعون أننا سنكتشف ذات يوم أن القوانين العظيمة المتعددة تنبع بصورة حتمية من قانون واحد. لكن حين أنظر إلى القوانين بالطريقة التي نعرفها عليها الآن، وأنظر مثلا إلى القمر، الذي ما تزال قوانين الجاذبية - وحفظ الطاقة بالطبع - وكذلك قوانين النظرية الذرية، سارية عليه، لا أستطيع أن أرى وجود أي غاية بالضرورة. أستوجد غاية إن عاشت الكائنات الأدنى مرتبة وحدها على القمر مجردة من الوعي؟ غير أنه ما من خبرة لدي في التفكير المجرد، وربما أكون مخطئا تماما. على أي حال، لقد عبرت عن اقتناعي الداخلي، وإن كان بحيوية ووضوح أكبر كثيرا مما كان يمكنني فعله، وهو أن «الكون» لم ينشأ نتيجة للصدفة. غير أن الشك المروع ينتابني دائما عما إذا كانت المعتقدات التي يتوصل إليها عقل الإنسان، والذي تطور من عقل حيوانات أدنى منه مرتبة، ذات أي قيمة أو يمكن الوثوق بها على الإطلاق. هل يمكن لأحد أن يثق في معتقدات عقل قرد، إن كان لمثل هذا العقل أي معتقدات؟ ثانيا، أعتقد أنه يمكنني تقديم بعض الأدلة التي تدحض هذا القدر الضخم من الأهمية وهو الذي تعزوه إلى أعظم رجالنا؛ فقد اعتدت على أن أنظر إلى الرجال من المرتبة الثانية والثالثة والرابعة على أن لهم أهمية عظيمة، وذلك على الأقل في حالة العلم. وأخيرا، يمكنني أن أقدم الكثير من الأدلة على أن الانتقاء الطبيعي قد ساهم، ولا يزال يساهم، في تقدم الحضارة بقدر أكبر كثيرا مما يبدو أنك مستعد للإقرار به. تذكر قدر الخطر الذي تعرضت له البلاد الأوروبية قبل قرون قليلة فيما يتعلق بإخضاعها من قبل الأتراك، ومدى سخافة مثل هذه الفكرة في الوقت الحاضر! لقد تغلبت الأعراق الأكثر تحضرا التي تسمى بالأعراق القوقازية على الأتراك وهزمتهم هزيمة نكراء في معركة الكفاح من أجل البقاء. وإذا نظرنا إلى العالم في عهد ليس بالبعيد، فسنجد عددا مهولا من الأعراق الأقل تحضرا قد أبادتها الأعراق الأكثر تحضرا في جميع أنحاء العالم. غير أنني لن أكتب أكثر من هذا، ولن أذكر النقاط الكثيرة التي أثارت اهتمامي في كتابك. لقد استلزم الأمر بالفعل أن أعتذر عن إزعاجك بانطباعاتي، وعذري الوحيد هو تلك الإثارة العقلية التي كان كتابك هو السبب فيها.
أستأذنك يا سيدي العزيز أن أظل
صديقك المخلص والممتن
تشارلز داروين [لم يتحدث والدي كثيرا في هذه الموضوعات، وما من شيء يمكنني أن أساهم به من ذكرياتي عن محادثاته يمكن أن يضيف شيئا إلى الانطباعات التي ذكرناها هنا بشأن موقفه تجاه الدين. غير أنه يمكننا أن نعرف المزيد عن أفكاره من التعليقات العابرة التي نجدها في خطاباته. (في هذا الإطار، نشر الدكتور أفلينج سردا لحوار له مع أبي. وأعتقد أن قراء هذه النشرة («آراء تشارلز داروين الدينية»، فري ثوت بابليشينج كامباني، 1883) قد يتوهمون أن التشابه بين آراء أبي وآراء الدكتور أفلينج، أكثر مما كان عليه بالفعل، وأنا أقول ذلك بالرغم من اقتناعي بأن الدكتور أفلينج عرض انطباعاته عن آراء أبي بدقة كبيرة. لقد حاول أفلينج أن يوضح أن مصطلح «لا أدري» ومصطلح «ملحد» مترادفان تقريبا، وأن الملحد هو من لا يؤمن بإله، دون أن ينكر وجوده؛ ذلك أنه لا يقتنع بوجود إله. وقد كانت ردود أبي تدل على تفضيله للموقف غير العدائي للأدرية. ويبدو أن الدكتور أفلينج يرى (الصفحة 5) أن غياب العدائية في آراء والدي لا يجعلها تختلف عن آرائه بنحو جوهري. بالرغم من ذلك، فإنني أرى أن الاختلافات من هذا النوع تحديدا هي التي تميز والدي تماما عن فئة المفكرين التي ينتمي إليها الدكتور أفلينج).]
الفصل التاسع
الحياة في داون
1842-1854
تسير حياتي كالساعة، وإنني مستقر في المكان الذي سوف تنتهي فيه.
من خطاب إلى القبطان فيتزروي، أكتوبر، 1846 [مع نيتي في رواية قصة نشأة كتاب «أصل الأنواع» رواية متصلة في الفصول التالية، فقد أخرجت أهم الخطابات المتعلقة بذلك الموضوع من ترتيبها الزمني الصحيح هنا ووضعتها مع بقية المراسلات المتصلة بنفس الموضوع؛ وهكذا لن نحصل في المجموعة الحالية من الخطابات إلا على إشارات من حين لآخر عن نشأة رؤى أبي فيما يتعلق بهذا الموضوع، ولنا أن نعتبر أننا نرى حياته هنا كما ربما رآها أولئك الذين لم يكن لديهم علم بالنشوء الهادئ لنظريته عن التطور أثناء هذه الفترة.
في 14 سبتمبر عام 1842، غادر أبي لندن مع أسرته واستقر في داون. وقد ذكرت دوافعه لاتخاذ هذه الخطوة بالانتقال للريف في فصل السيرة الذاتية باختصار. إنه يتحدث عن حضور اجتماعات الجمعيات العلمية والواجبات الاجتماعية العادية قائلا إنها لا تناسب صحته «بالمرة حتى إننا اعتزمنا العيش في الريف، وهو ما فضلناه ولم نندم عليه قط.» وقد عبر عن نواياه لمواكبة الحياة العلمية في لندن في خطاب إلى فوكس (ديسمبر، 1842)، قائلا :
أتمنى أن أحافظ على اتصالي برجال العلم وعلى حماسي العلمي بالذهاب إلى لندن لليلة كل أسبوعين أو ثلاثة، وذلك حتى لا أتحول تماما إلى كائن خامل.
وقد ظل محافظا على هذه الزيارات إلى لندن لسنوات عدة على حساب بذل مجهود كبير من جانبه. وطالما سمعته يتحدث عن الرحلات المضنية التي كان يقطع فيها عشرة أميال من كرويدن أو سيدنام أو إليها - اللذين هما أقرب محطتين - مع بستاني عجوز يعمل كحوذي، الذي كان يقود به بحذر وبطء بالغين في صعوده التلال العديدة وهبوطه منها. لكن في السنوات اللاحقة، صار أي تواصل علمي منتظم مع لندن ضربا من المستحيل، كما ذكر سلفا.
وكان اختيار داون ناتجا بالأحرى عن يأس لا عن تفضيل حقيقي؛ فقد أعيا أبي وأمي البحث عن منزل، وهكذا، بدا لهم في النقاط الجاذبة في المكان تعويضا إلى حد ما عن عيوبه الجلية بعض الشيء؛ فقد كان على الأقل يلبي مبتغى ضروريا، ألا وهو الهدوء. لا شك أن العثور على مكان أكثر عزلة وقريبا هكذا إلى لندن كان سيكون أمرا عسيرا. في عام 1842 كان استقلال عربة لمسافة عشرين ميلا تقريبا هو السبيل الوحيد للوصول إلى داون؛ وحتى الآن بعد أن صارت السكك الحديدية أقرب لها، فإنها بمعزل عن العالم على نحو فريد، وليس لديها ما يوحي بمجاورتها للندن إلا غيمة الدخان الغبشاء التي تغشى السماء أحيانا. وتقع القرية في زاوية بين اثنين من أكبر الطرق الرئيسية في الريف، اللذين يؤدي أحدهما إلى تونبريدج والآخر إلى ويسترام وإدينبريدج. ويفصلها عن منطقة ويلد سلسلة من التلال الطباشيرية المنحدرة في الجنوب، وتل شديد الانحدار، وهو الذي صار الآن ممهدا عن طريق عمل نفق وجسر، لكن لا بد أنه شكل في السابق عائقا أمام أي تقدم من ناحية لندن. في ظل هذا الوضع، أمكن للقرية، التي لا تتصل بخطوط النقل الرئيسية إلا عن طريق طرق حجرية ملتوية، أن تحافظ على شخصيتها المنعزلة. ولم يكن من الصعب تصديق وجود مهربين وقوافل خيولهم المحملة وهم يشقون طريقهم من قرى ويلد القديمة غير الخاضعة للقانون، وهي التي كانت ذكراها ما زالت باقية حين استقر أبي في داون. وتقوم القرية على أرض مرتفعة منزوية، على ارتفاع 500 إلى 600 قدم فوق سطح البحر، وهي منطقة شحيحة من حيث جمال الطبيعة، لكنها تمتلك سحرا خاصا مكمنه في الآجام، أو المساحات المتناثرة من الغابات، التي تغطي الضفاف الطباشيرية وتطل على أراضي الوديان الهادئة المحروثة. وتلك القرية، التي يأهلها 300 أو 400 من السكان، تتألف من ثلاثة شوارع صغيرة من الأكواخ التي تلتقي لدى الكنيسة الضئيلة المبنية من حجر الصوان. وهي مكان يندر فيه رؤية وافدين جدد، والأسماء الواردة في الصفحات الأولى من السجلات القديمة للكنيسة ما زالت معروفة في القرية. أما عن العباءات الريفية، فهي لم تندثر تماما بعد، وإن كان يستخدمها في المقام الأول «حملة التوابيت» في الجنازات كرداء رسمي، لكنني أتذكر تلك العباءات، سواء الأرجواني منها أو الأخضر، وهي التي كان يرتديها الرجال في الكنيسة حين كنت صبيا.
ويقع المنزل على بعد ربع ميل من القرية، وقد بني، شأن الكثير من منازل القرن الماضي، قريبا قدر الإمكان من الطريق - الذي هو عبارة عن مسار ضيق متعرج يؤدي إلى طريق ويسترام الرئيسي. وكان المنزل في عام 1842 على قدر كبير من الكآبة وانعدام عناصر الجاذبية؛ فقد كان مبنى مربعا من الطوب مكونا من ثلاثة طوابق، مغطى بطلاء جيري أبيض وبلاط ناتئ من نوع رديء. أما الحديقة فلم يكن بها أي من الشجيرات أو الأسوار التي تحيط بها الآن، وكان يطل عليها من الطريق، وكانت مفتوحة ومقفرة وموحشة. وكان من أولى المهام التي أقدم أبي عليها تخفيض الطريق بقدر قدمين تقريبا، وبناء سور من حجر الصوان بامتداد ذلك الجزء الذي يحد الحديقة منه. وقد استخدمت التربة التي استخرجت في إنشاء هضاب ورواب حول المرج، والتي قد زرعت بنباتات دائمة الخضرة، والتي تعطي الآن الحديقة طابعها المنعزل والمصون.
وقد جرى تعديل المنزل ليبدو أكثر أناقة وذلك بطلائه بالجص، لكن التعديل الرئيسي الذي أدخل عليه كان بناء شرفة كبيرة ناتئة ممتدة عبر الثلاثة طوابق. وقد صارت هذه الشرفة مغطاة بشبكة من النباتات المتسلقة، وقد غيرت الجانب الجنوبي من المنزل تغييرا مبهجا. أما غرفة الاستقبال بشرفتها المؤدية إلى الحديقة، وكذلك حجرة المكتب التي كان أبي يعمل فيها خلال السنوات اللاحقة من حياته، فقد أضيفتا في أوقات تالية.
بيع مع المنزل 18 فدانا من الأراضي، شكل 12 فدانا منها في الناحية الجنوبية للمنزل حقلا جميلا، تفرقت فيه أشجار بلوط ودردار كبيرة الحجم إلى حد ما. وقد اقتطعت مساحة من هذا الحقل وحولت إلى حديقة للمطبخ، والتي أقيمت فيها قطعة الأرض المخصصة للتجارب، وحيث أنشئت الصوبة الزراعية في نهاية الأمر.
الخطاب التالي الموجه إلى السيد فوكس (28 مارس، 1843) يوضح، من بين أشياء أخرى، انطباعات أبي الأولى عن داون:
سأخبرك بكل ما يمكن أن يخطر على بالي من تفاصيل تافهة تخصني. نحن الآن مشغولون بشدة باللبنة الأولى التي وضعت أمس في الجزء الذي جرى إلحاقه بمنزلنا؛ وهكذا تجد أيامي مشحونة بسبب هذا وبإقامة حديقة جديدة للمطبخ ومشاريع أخرى متنوعة مزمعة. وأجد في كل هذا إضرارا كبيرا بعملي الجيولوجي، لكنني أتقدم على مهل شديد في كتابة عمل، أو بالأحرى كتيب، حول الجزر البركانية التي زرناها: فلا أتدبر سوى ساعتين يوميا وذلك دون انتظام حقيقي. إنها لمهمة عسيرة أن تكتب كتبا تتكلف مالا لنشرها ولا يقرؤها حتى الجيولوجيون. لقد نسيت ما إن كنت قد وصفت هذا المكان على الإطلاق: إنه منزل جيد، لكن قبيح جدا، معه 18 فدانا، ويقع على أرض طباشيرية مسطحة، على ارتفاع 560 قدما فوق سطح البحر. وتلوح مشاهد من الريف البعيد والمنظر جميل إلى حد ما. إن ميزته الرئيسية هي طابعه الريفي الشديد. أعتقد أنني لم أعهد من قبل ريفا يفوقه في هدوئه الشديد. على بعد ثلاثة أميال جنوبا يفصلنا جرف طباشيري كبير عن الأرض المنخفضة في كنت، ولا تجد بيننا وبين الجرف قرية أو منزلا لأحد السادة، وإنما فقط غابات شاسعة وحقول قابلة للزراعة (الأخيرة بأعداد كبيرة لدرجة تثير الحزن)؛ ومن ثم، فنحن قطعا نقف في أقصى حدود العالم. وتتقاطع أنحاء البلد من خلال ممرات المشاة؛ لكن السطح الطباشيري طيني ودبق، وهذه أسوأ سمات المنزل. كثيرا ما تذكرني الوديان الحرجية والضفاف بكامبريدجشير وجولات السير معك إلى منطقة تشيري هينتون، وغيرها من الأماكن، وإن كان المظهر العام للمكان مختلفا للغاية. كنت أتفحص خزانتي المرتبة (التي تضم البقايا الوحيدة التي حفظتها من كل حشراتي الإنجليزية)، فأخذت أطالع بإعجاب خنفساء الصليب الأرضية؛ من الغريب كيف تستدعي هذه الحشرة صورتك حية في ذهني، حين قدمت إليك أول مرة، بينما كانت فان الصغيرة تهرول وراءك. إن أيام العمل في مجال علم الحشرات تلك كانت سعيدة جدا. إنني أقوى كثيرا بدنيا، لكنني لست أفضل حالا بكثير في قدرتي على تحمل الإنهاك الذهني، أو بالأحرى الإثارة، حتى إنني لا أقوى على تناول العشاء بالخارج أو استقبال الزائرين، عدا الأقارب الذين أستطيع قضاء بعض الوقت معهم بعد العشاء في صمت.
كنت أتمنى لو أستطيع هنا إعطاء فكرة عن المكانة التي شغلها أبي، خلال هذه الفترة من حياته، بين رجال العلم وجمهور القراء عامة. لكن المقالات النقدية المعاصرة لهذه الفترة قليلة ولا تفيد غرضي بوجه خاص - الذي سيظل بالتالي غير متحقق - للأسف الشديد.
إن كتابه «يوميات الأبحاث» كان الوحيد بين كتبه الذي أتيح له فرصة أن يعرف بعض الشيء. لكن نشره مع سرد القبطانين كينج وفيتزروي لرحلتيهما ربما حال دون اكتسابه لشهرة واسعة؛ ومن ثم، فقد كتب له لايل عام 1838 («حياة لايل»، المجلد الثاني، صفحة 43)، قائلا: «أؤكد لك أن أبي متحمس تماما بشأن يومياتك ... وهو يوافقني الرأي أنها كانت ستباع بأعداد كبيرة لو كانت نشرت بمفردها. وقد شعر بخيبة أمل حين سمع أن المجلدين الآخرين سيعوقان شهرتها؛ فرغم أنه ما زال سيشتريها، فإنه خشي أن كثيرا جدا من العامة سيحجمون عن ذلك.» ولم يرد في المقال النقدي الذي جاء عن العمل في مجلة «ذي إدنبرة ريفيو» (يوليو، 1839) شيئا يجعل القارئ يعتقد أنه سيجد اليوميات أكثر جذبا من المجلدين اللذين صاحباها. وهي، في الواقع، لم تصبح معروفة على نطاق واسع حتى نشرت وحدها في 1845. لكن يمكن الإشارة هنا إلى أن دورية «ذا كورترلي ريفيو» (ديسمبر، 1839) في مقال نقدي لها عن العمل وجهت انتباه قرائها إلى مزايا اليوميات بوصفها كتاب أسفار؛ حيث يتحدث كاتب المقال عن «السحر الناشئ عن حيوية الروح المنطلقة في هذه الصفحات البكر لمفكر رائع وملاحظ بصير وثاقب.»
تحدث مقال نقدي ظهر في العدد 12 من صحيفة «هايديلبيرج ياربوشير دير ليتاتور»، عام 1847 - على نحو إيجابي عن الترجمة الألمانية (1844) لليوميات - حيث يتحدث كاتبه عما يرسمه المؤلف «من لوحة متنوعة الجوانب، يرسم عليها بألوان نابضة بالحياة العادات الغريبة لتلك المناطق النائية بتفاصيلها الحيوانية والنباتية والجيولوجية المميزة.» وقد كتب أبي في إشارة إلى الترجمة قائلا: «الدكتور ديفينباخ ... ترجم كتابي إلى الألمانية، ولا بد أن أتباهى في خيلاء شديدة بأن ذلك كان بتحفيز من ليبيخ وهومبولت.»
أما العمل الجيولوجي الذي يتحدث عنه في الخطاب الوارد أعلاه إلى السيد فوكس، فقد انشغل به طوال عام 1843، ونشر في ربيع العام التالي. وكان يحمل عنوان «ملاحظات جيولوجية حول الجزر البركانية التي جرى زيارتها في رحلة سفينة جلالتها «البيجل» مع بعض الملاحظات المختصرة حول الطبيعة الجيولوجية لأستراليا ورأس الرجاء الصالح»، وقد شكل الجزء الثاني من سلسلة كتب ألفت حول «جيولوجيا رحلة «البيجل»»، التي نشرت «بموافقة اللوردات المفوضين عن وزارة الخزانة». إن الكتاب الذي يتناول «الشعاب المرجانية» يشكل الجزء الأول من السلسلة، ونشر، كما رأينا، في عام 1842. ومن أجل القارئ غير المتخصص في الجيولوجيا أقتبس كلمات البروفيسور جيكي
1
حول هذين الكتابين، اللذين كانا حتى هذا الوقت أهم أعمال أبي الجيولوجية؛ حيث يتحدث عن عمل «الشعاب المرجانية» في صفحة 17، قائلا: «هذه الأطروحة المشهورة، الأكثر أصالة بين كل أبحاث كاتبها في علم الجيولوجيا، صارت إحدى كلاسيكيات الأدبيات الجيولوجية. لقد أدى وجود تلك الحلقات البارزة من الصخور المرجانية في وسط المحيط إلى تخمينات كثيرة، لكن لم يتوصل لحل مرض للمسألة. وبعد زيارة المؤلف للعديد منها، وكذلك معاينة الشعاب المرجانية الممتدة على أطراف بعض الجزر والقارات، تقدم بنظرية تثير في كل قارئ الاندهاش من بساطتها وعظمتها. وإنه مما يبعث على السرور، بعد انقضاء العديد من السنوات، أن يتذكر المرء البهجة التي قرأ بها عمل «الشعاب المرجانية» أول مرة؛ وكيف شاهد الحقائق وهي تنظم في أماكنها، دون تجاهل أي شيء أو التغاضي عنه باستخفاف؛ وكيف انقاد، خطوة بخطوة، إلى الاستنتاج العظيم بشأن وقوع هبوط محيطي واسع. لم يقدم للعالم من قبل نموذج لتطبيق المنهج العلمي أجدر بالإعجاب من هذا، وحتى إن لم يكن داروين قد كتب شيئا آخر، فالأطروحة وحدها كانت ستضعه في طليعة باحثي الطبيعة.»
من المثير للاهتمام أن نرى في المقتطف التالي من أحد خطابات لايل
2
تقبله لنظرية والدي بحماس وطيب خاطر. كذلك يتصادف أن يعطي المقتطف أيضا فكرة عن النظرية نفسها. «إنني مهتم جدا بنظرية داروين الجديدة عن الجزر المرجانية، وقد ألححت على هيوويل حتى أجعله يقرؤها في اجتماعنا التالي. لا بد أن أتخلى عن نظريتي عن الفوهات البركانية إلى الأبد، رغم ما سيسببه لي ذلك من ألم في البداية؛ إذ إنها تفسر الكثير من الأشياء؛ الشكل الحلقي، والبحيرة الشاطئية الوسطى، والارتفاع المفاجئ لجبل معزول في بحر عميق؛ كل هذا كان مجاريا لفكرة البراكين المغمورة والفوهية الشكل والمخروطية ... والحقيقة التي مؤداها أننا في المحيط الهادئ الجنوبي بالكاد لدينا أي صخور في مناطق الجزر المرجانية، عدا نوعين، البركانية والجيرية المرجانية! إلا أن النظرية بأكملها قد أجهضت رغم كل ذلك، والشكل الحلقي والبحيرة الشاطئية الوسطى لا علاقة لهما بالبراكين، ولا حتى القاع فوهي الشكل. ربما أخبرك داروين حين كان في جزر الرأس الأخضر بما يعتبره السبب الحقيقي. إذا ما غمرت المياه أي جبل تدريجيا، ونما المرجان في البحر الذي غرق فيه، فستكون هناك حلقة من المرجان، وأخيرا لن يكون هناك سوى بحيرة شاطئية في الوسط. لماذا؟ لنفس سبب نمو حاجز مرجاني من الشعاب بامتداد سواحل معينة: أستراليا وغيرها. الجزر المرجانية هي آخر الجهود التي بذلتها القارات الغارقة لترفع قممها فوق الماء . يمكن تتبع أثر مناطق الارتفاع والهبوط في المحيط من خلال حالة الشعاب المرجانية.» ليس هناك الكثير ليقال من ناحية النقد المعاصر المنشور؛ فالكتاب لم يستعرض في دورية «ذا كورترلي ريفيو» حتى عام 1847، حين استقبل على نحو إيجابي؛ إذ تحدث الكاتب عن شخصية العمل «الجسورة والمبهرة»، لكن يبدو أنه كان يدرك حقيقة أن الآراء الواردة فيها تلاقي قبولا بين الجيولوجيين عامة. في ذلك الوقت كانت عقول الرجال أكثر استعدادا لتقبل هذا النوع من الأفكار الجيولوجية، بل حتى قبل ذلك بعشرة أعوام، في عام 1837، يقول لايل:
3 «الناس الآن أكثر استعدادا بكثير لتصديق داروين حين يقدم أدلة على ارتفاع جبال الأنديز ببطء، عما كانوا في عام 1830، حين صدمتهم بهذه الفكرة.» وتشير هذه الجملة للنظرية التي جاءت بالتفصيل في ملاحظات أبي الجيولوجية عن أمريكا الجنوبية (1846)، لكن لا بد أن التغير التدريجي في قدرة العقل الجيولوجي على التقبل كان مؤاتيا لكل أعماله في مجال الجيولوجيا. غير أنه يبدو أن لايل لم يتوقع في البداية على الإطلاق قبولا سريعا لنظرية الشعاب المرجانية؛ وهكذا كتب إلى أبي خطابا عام 1837 قال فيه: «ظللت لعدة أيام غير قادر على التفكير في أي شيء بخلاف قمم القارات المغمورة، بعد كلمتك حول الشعاب المرجانية. إن كل ما قلته صحيح، لكن لا تدع الزهو بنفسك يدفعك لتظن أنك ستلقى تصديقا قبل أن يغزو الصلع رأسك مثلي، بالعمل الشاق والامتعاض إزاء ارتياب العالم.»
الجزء الثاني من سلسلة الكتب التي تتناول «جيولوجيا رحلة «البيجل»»؛ أي كتاب «الجزر البركانية»، الذي يعنينا بوجه خاص الآن، لا يمكن وصفه بشيء أفضل من الاقتباس من كلام البروفيسور جيكي مرة أخرى (صفحة 18): «هذا العمل المليء بالملاحظات المفصلة لا يزال أفضل مرجع فيما يتعلق بالتركيب الجيولوجي العام لأغلب المناطق التي يصفها. في الزمن الذي كتب فيه كانت «نظرية فوهة الارتفاع» مقبولة بوجه عام، في أوروبا على الأقل، رغم معارضة كونستا بريفو وسكروب ولايل لها. فإن داروين لم يستطع تقبلها باعتبارها تفسيرا سليما للواقع؛ ورغم أنه لم يشارك معارضيها الرئيسيين في وجهة نظرهم، وأقدم على تقديم نظرية خاصة به، فالملاحظات التي قام بها ووصفها بحيادية في هذا الكتاب يجب النظر لها باعتبارها قد ساهمت في الوصول لحل نهائي للمسألة.» ويكمل البروفيسور جيكي كلامه قائلا (صفحة 21): «إنه أحد أوائل الكتاب الذين أدركوا حجم التعرية التي تعرضت لها حتى التراكمات الجيولوجية الحديثة. وأحد أروع الدروس المستخلصة من بيانه عن الجزر البركانية هو الدرجة الهائلة التي تعرت بها ... وقد مال إلى أن ينسب هذا إلى البحر أكثر مما قد يرى أغلب الجيولوجيين الآن؛ لكنه عاش حتى عدل آراءه الأصلية، وإن أقواله الأخيرة في هذا الموضوع مواكبة للعصر تماما.»
ويعبر أبي عن تقديره لعمله في هذا الاقتباس من أحد خطاباته إلى لايل؛ إذ يقول: «لقد أسعدتني كثيرا بقولك إنك تنوي الاطلاع على كتابي «الجزر البركانية». لقد استغرق ثمانية عشر شهرا! وسمعت أن قليلا جدا من قرءوه. وأنا الآن أشعر أنه مهما كان التأييد قليلا (وهو قليل فعلا) للعمل القديم، أو الجديد، فسيترك جهدي أثرا ولن يضيع.»
ويمكن هنا ذكر كتابه الثالث في الجيولوجيا، «ملاحظات جيولوجية عن أمريكا الجنوبية»، رغم أنه لم ينشر حتى عام 1846. «في هذا العمل، ضمن المؤلف كل المواد التي جمعها لشرح الطبيعة الجيولوجية لأمريكا الجنوبية، ما عدا بعضا منها الذي نشر في موضع آخر. إحدى أهم سمات الكتاب كان الدليل الذي تقدم به لإثبات الارتفاع البطيء المتقطع لقارة أمريكا الجنوبية خلال فترة جيولوجية حديثة.»
4
وقد كتب أبي إلى لايل متحدثا عن هذا الكتاب، فقال: «سيقع كتابي في نحو 240 صفحة، وسيكون مملا لدرجة رهيبة، لكن مكثفا للغاية. وأعتقد أنك، متى تسنى لك الوقت لتصفحه، فستجد أن مجموعة الحقائق المتعلقة بارتفاع الأرض وتكون الشرفات جيدة إلى حد ما.»
وقد علق البروفيسور جيكي على أعماله المتميزة في مجال الجيولوجيا ككل، مع الإشارة إلى أنها لم تكن «مبشرة بعهد جديد كأبحاثه البيولوجية»؛ فيقول إنه «أعطى دفعة قوية» للترحيب العام بأفكار لايل «من خلال الطريقة التي جمع بها حقائق من شتى أجزاء العالم لدعمها.» (1) عمله في الفترة من 1842 إلى 1854
يمكن تقسيم العمل الذي أنجز خلال هذه السنوات بوجه عام إلى فترة خاصة بالجيولوجيا من 1842 حتى 1846، وأخرى خاصة بعلم الحيوان من 1846 لما بعده.
أقتبس هنا من مذكراته ملاحظاته عن الوقت الذي قضاه في كتبه في الجيولوجيا وكتابه «يوميات الأبحاث». «الجزر البركانية». من صيف عام 1842 حتى يناير 1844. «ملاحظات جيولوجية عن أمريكا الجنوبية». من يوليو 1844 حتى أبريل 1845.
الطبعة الثانية من كتاب «يوميات الأبحاث». من أكتوبر 1845 حتى أكتوبر 1846.
إن الوقت بين أكتوبر 1846 وأكتوبر، 1854، كرس تقريبا للعمل على هدابيات الأرجل (البرنقيلات)؛ ونشرت جمعية راي النتائج في مجلدين في عامي 1851 و1854. ونشرت جمعية علم الحفريات التصويري مجلديه عن حفريات هدابيات الأرجل في عامي 1851 و1854.
سترد بعض المعلومات عن هذه المجلدات لاحقا.
يمكن وضع الأعمال الصغيرة معا، بصرف النظر عن الموضوع. «ملاحظات حول تركيب، إلخ، جنس الدودة السهمية»، مجلة «أنالز أوف ناتشورال هيستوري»، المجلد 13، عام 1844، الصفحات 1-6. «وصف مختصر لعدة ديدان مسطحة أرضية، إلخ»، مجلة «أنالز أوف ناتشورال هيستوري»، المجلد 14، عام 1844، الصفحات 241-251. «بيان عن الغبار الذي يسقط عادة على السفن في المحيط الأطلنطي»، دورية «جيولوجيكال سوسيتي جورنال»، المجلد الثاني، عام 1846، الصفحات 26-30. (جدير بالذكر أن ثمة جملة مثيرة للاهتمام في هذه الورقة البحثية تدل على إدراك المؤلف لأهمية كل وسائل التوزيع: «الحقيقة التي مؤداها أن جسيمات بهذا الحجم جلبت لمسافة 330 ميلا على الأقل من البر لهي أمر مثير للاهتمام وذلك فيما يخص توزيع النباتات اللازهرية.») «عن الطبيعة الجيولوجية لجزر فوكلاند»، دورية «جيولوجيكال سوسيتي جورنال»، المجلد الثاني، عام 1846، الصفحات 267-274. «حول نقل الجلاميد التي جرفتها الأنهار الجليدية، إلخ»، دورية «جيولوجيكال سوسيتي جورنال»، المجلد الرابع، عام 1848، الصفحات 315-323.
مقال «الجيولوجيا» في كتاب «دليل ديوان البحرية للاستقصاء العلمي» (1849)، الصفحات 156-195. كتب هذا المقال في ربيع 1848. «حول حفريات الليباديديات
Lepadidae
البريطانية»، دورية «جيولوجيكال سوسيتي جورنال»، المجلد السادس، 1850، الصفحتان 439-440. «مقارنة تركيب بعض الصخور البركانية مع تركيب الأنهار الجليدية»، دورية «إدنبرة رويال سوسيتي بروسيدينجز»، المجلد الثاني، عام 1851، الصفحات 17-18.
وقد تكرم البروفيسور جيكي بإعطائي انطباعاته (في خطاب بتاريخ نوفمبر 1885) عن مقال أبي في «دليل ديوان البحرية للاستقصاء العلمي»، حيث يذكر النقاط التالية باعتبارها السمات المميزة للعمل: (1)
سعة كبيرة في الرؤية. لا يمكن لشخص لم يدرس المسائل التي نوقشت دراسة عملية أو يفكر فيها تفكيرا عميقا أن يكتبه. (2)
نفاذ البصيرة الواضح للغاية فيما يتعلق بكل ما قدمه السيد داروين. الطريقة التي يعرض بها خطوط الاستقصاء التي ستحل المشكلات الجيولوجية من السمات المميزة له بدرجة كبيرة. بعض هذه الخطوط لم يجر اتباعها على نحو ملائم قط؛ لذا فقد كان سابقا لعصره بشأنها. (3)
معالجة ممتعة ومثيرة للاهتمام؛ فالمؤلف يجعل القراء في حالة من الانسجام معه في الحال؛ حيث إنه يعطيهم معلومات كافية حتى يروا مدى بهجة المجال الذي يدعوهم للانخراط فيه، وحجم ما قد يحققونه في إطاره. ويوجد مخطط واسع للموضوع يستطيع أي شخص اتباعه، وهناك تفاصيل كافية لتوجيه أي مبتدئ وإرشاده ووضعه على المسار الصحيح.
لقد تقدمت الجيولوجيا بالتأكيد بخطوات واسعة منذ عام 1849، وكان المقال، إن كتب الآن، فسيحتاج لإيلاء الاهتمام لفروع أخرى من الاستقصاء، وتعديل الجمل التي لا تعد دقيقة تماما الآن؛ إلا أن أغلب النصائح التي يقدمها السيد داروين لا تزال ضرورية وقيمة الآن كما كانت حين قدمها. ومن الغريب ملاحظة ما لديه من بديهة سديدة في تبني المبادئ التي صمدت أمام تحدي الزمان.
قال أبي في خطاب إلى لايل (1853): «لقد كان هناك بحث قدمه دكتور ساذرلاند، المتخصص في منطقة القطب الشمالي، حول فعل الجليد، والذي قد قرأت ملخصه فقط، لكنني أعتقد أنه ذو محتوى جيد جدا. وكان من دواعي سروري الشديد أن أعرف أنه كتب بسبب كتاب «دليل ديوان البحرية للاستقصاء العلمي».»
لإعطاء فكرة عن الحياة المنعزلة التي بدأها أبي في داون في ذلك الحين، سأعرض من مذكراته الفترات القصيرة التي غاب خلالها عن البيت بين خريف 1842، حين جاء إلى داون، ونهاية 1854.
1843، يوليو: أسبوع في مير وشروزبيري.
1843، أكتوبر: اثنا عشر يوما في شروزبيري.
1844، أبريل: أسبوع في مير وشروزبيري.
1844، يوليو: اثنا عشر يوما في شروزبيري.
1845، 15 سبتمبر: ستة أسابيع، «شروزبيري، ولينكنشير، ويورك، ورئيس كاتدرائية مانشستر، والسيد ووترتون، وضيعة تشاتسوورث».
1846، فبراير: أحد عشر يوما في شروزبيري.
1846، يوليو: عشرة أيام في شروزبيري.
1846، سبتمبر: عشرة أيام في ساوثامبتون، إلخ، من أجل الجمعية البريطانية.
1847، فبراير: اثنا عشر يوما في شروزبيري.
1847، يونيو: عشرة أيام في أكسفورد، إلخ، من أجل الجمعية البريطانية.
1847، أكتوبر: أسبوعان في شروزبيري.
1848، مايو: أسبوعان في شروزبيري.
1848، يوليو: أسبوع في سوونيدج.
1848، أكتوبر: أسبوعان في شروزبيري.
1848، نوفمبر: أحد عشر يوما في شروزبيري.
1849، من مارس إلى يونيو: ستة عشر أسبوعا في مولفرن.
1849، سبتمبر: أحد عشر يوما في برمينجهام من أجل الجمعية البريطانية.
1850، يونيو: أسبوع في مولفرن.
1850، أغسطس: أسبوع في ليث هيل، في منزل أحد الأقارب.
1850، أكتوبر: أسبوع في منزل قريب آخر.
1851، مارس: أسبوع في مولفرن.
1851، أبريل: تسعة أيام في مولفرن.
1851، يوليو: اثنا عشر يوما في لندن.
1852، مارس: أسبوع في راجبي وشروزبيري.
1852، سبتمبر: ستة أيام في منزل أحد الأقارب.
1853، يوليو: ثلاثة أسابيع في إستبورن.
1853، أغسطس: خمسة أيام في معسكر الجيش في تشوبهام.
1854، مارس: خمسة أيام في منزل أحد الأقارب.
1854، يوليو: ثلاثة أيام في منزل أحد الأقارب.
1854، أكتوبر: ستة أيام في منزل أحد الأقارب.
سنلاحظ أنه غاب عن المنزل ستين أسبوعا خلال اثني عشر عاما. لكن لا بد أن نتذكر أن كثيرا من الوقت المتبقي الذي قضاه في داون ضاع بسبب اعتلال صحته.] (2) الخطابات
من تشارلز داروين إلى آر فيتزروي
داون [31 مارس، 1843]
عزيزي فيتزروي
أمس قرأت، في دهشة وحماس شديد، خبر تعيينك حاكما لنيوزيلاندا. لا أعلم إن كان علي أن أهنئك على ذلك، لكن أعلم يقينا أنني لا بد أن أهنئ المستعمرة، على فوزها بهمتك ونشاطك. إنني في غاية التلهف لمعرفة ما إذا كان الخبر صحيحا؛ فلا يسعني احتمال خواطر مغادرتك البلاد دون أن أراك ثانيا؛ فكثيرا ما يراود الماضي ذاكرتي، وأشعر أنني أدين لك بكثير من بهجتي الماضية، والمصير الذي آلت إليه حياتي بالكامل، الذي كنت سأجد فيه غاية الرضا (لو كانت حالتي الصحية أشد بأسا). وما من مرة ذهبت فيها إلى لندن خلال الثلاثة الشهور الماضية إلا ولدي نية الزيارة على أمل رؤية السيدة فيتزروي ورؤيتك؛ لكنني أجد، لسوء حظي الشديد، أن الانفعال البسيط الناتج عن الخروج من نظام حياتي بالغ الهدوء يصيبني بالإرهاق الشديد عامة، حتى إنني بالكاد أستطيع فعل أي شيء حين أكون في لندن، بل حتى إنني لم أستطع حضور أحد الاجتماعات المسائية للجمعية الجيولوجية. بخلاف ذلك، أنا على خير ما يرام، وكذلك، حمدا لله، زوجتي والطفلان. إن العزلة الشديدة التي تلف هذا المكان تناسبنا تماما، وإننا مستمتعون بحياتنا الريفية للغاية. لكنني أكتب أمورا تافهة عني، بينما لا بد أن ذهنك ووقتك مشغولان تماما. ما أرمي إليه في كتابتي إليك هو أن أرجوك أنت أو السيدة فيتزروي أن تتفضلا بإرسال خطاب قصير تقول لي فيه ما إن كان الأمر صحيحا أم لا، وما إن كنت ستسافر قريبا. سوف آتي الأسبوع القادم ليوم أو اثنين، فهل يمكنك مقابلتي ولو حتى لخمس دقائق، إذا جئت مبكرا صباح يوم الخميس؛ أي في التاسعة أو العاشرة، أو في أي ساعة تكون قد أنهيت فيها فطورك (إن كنت تبكر في الاستيقاظ كما كنت تفعل في أثناء قيادتك للسفن)؟ أرجوك أن توصل أطيب تحياتي إلى السيدة فيتزروي، التي أثق أنها تستطيع التطلع لرحلتها الطويلة بشجاعة.
لك مني خالص الود يا عزيزي فيتزروي
الممتن لك بصدق دائما
تشارلز داروين [قد يستحق اقتباس من خطاب آخر (1846) إلى فيتزروي أن أعرضه، حيث يبرهن على حبه الشديد لقبطانه العجوز. «وداعا يا عزيزي فيتزروي، كثيرا ما أفكر في الأفعال الكثيرة التي تنم عن الكرم والطيبة التي أسديتها إلي، وبخاصة تلك المرة، التي لا شك أنك نسيتها تماما، قبل الوصول إلى ماديرا، حين جئت وأعددت أرجوحتي الشبكية بيديك، وهو ما سمعت فيما بعد أنه أجرى الدموع في مقلتي أبي».]
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس [داون، 5 سبتمبر، 1843]
صباح الاثنين
عزيزي فوكس
حين أرسلت بحث الأنهار الجليدية، كنت في طريقي للخارج، لذلك لم يكن لدي وقت للكتابة. أرجو أن يستمتع صديقك بجولته بقدر ما استمتعت (وأتمنى لو كنت ذاهبا معه إلى هناك )؛ فقد كانت بمنزلة رواية جيولوجية. لكن لا بد أن يتحلى صديقك بالصبر؛ فهو لن يحظى بالقدرة على ملاحظة الأنهار الجليدية قبل بضعة أيام؛ فقد خاض موركيسون والكونت كايزرلينج شمال ويلز مسرعين في الخريف نفسه ولم يستطيعا رؤية أي شيء سوى آثار الأمطار المنسابة فوق الصخور! وقد ناقشت موركيسون قليلا، فبدا لي واضحا أنه لم يمعن النظر في أي شيء. لدي «يقين» إزاء تأثير الأنهار الجليدية في شمال ويلز. إن استمر هذا الطقس، فلتشحذ طاقتك، واذهب في جولة في ويلز؛ فإن مناظرها البديعة كفيلة أن تفيد قلب المرء وجسده. ليتني كانت لدي الطاقة لآتي إلى ديلامير وأذهب معك؛ لكن هذا في عداد المستحيل، كما ترى. أعتقد أنني إذا ذهبت في رحلة فستكون إلى اسكتلندا، بحثا عن المزيد من الطرق المتوازية؛ فقد قضت أبحاث أجاسي عن فعل الجليد على نظريتي البحرية عن هذه الطرق لبعض الوقت، لكنها عادت الآن للحياة مرة أخرى ...
الوداع - لقد شارف العمل على الانتهاء - حيث رحل جميع العمال تقريبا، والحصى مرصوص في الممرات. السلام عليك يا مريم! يا للطريقة التي تتبدد بها النقود! فإغراءات الترف التي في الريف تعادل ضعف تلك الموجودة في لندن. إلى اللقاء.
المخلص
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [1844؟] ... لقد قرأت أيضا كتاب «بقايا» [أي، كتاب «بقايا التاريخ الطبيعي للخلق» والذي نشر بدون ذكر اسم مؤلفه في عام 1844، وثمة اعتقاد جازم بأن مؤلفه كان الراحل روبرت تشيمبيرز.] لكنني وجدت فيه متعة أقل مما وجدت كما يبدو لي؛ فالكتابة والتنظيم جديران بالإعجاب بالتأكيد، لكن أرى الجانب الجيولوجي سيئا، والجانب الخاص بعلم الحيوان أسوأ كثيرا. سأكون في غاية الامتنان، إذا استطعت في أي وقت فيما بعد أو متى أتيح لك وقت فراغ أن تخبرني بما تستند إليه في اعتقادك المريب بأن خيال الأم يؤثر على الابن. [هذه إشارة إلى حالة إحدى قريبات السير جيه هوكر، التي أصرت على أن الشامة التي ظهرت لدى أحد أطفالها، كانت نتيجة الذعر الذي اعتراها، قبل ولادة الطفل، إثر تلطيخها بحبر الحبار نسخة من كتاب تيرنر «كتاب الدراسات»، التي أعيرت لها مع تشديدات على توخي الحذر.] لقد أحطت بالأقوال المتعددة المتناثرة حول هذا الموضوع، لكنني لا أعتقد أن الأمر يعدو مجرد مصادفات عابرة. دبليو هانتر أخبر أبي، حين كان في أحد مستشفيات الولادة، أنه قد سأل الأمهات في حالات كثيرة، «قبل مخاضهن»، إن كان أي شيء قد أثر على خيالهن، ودون الإجابات؛ ولم تصدق ولو حالة واحدة، رغم أنه حين كان يظهر على الطفل أي شيء مميز، كن فيما بعد يلوين عنق الحقيقة. يبدو أن التوالد تسيطر عليه قوانين متشابهة في المملكة الحيوانية بأسرها، حتى إنني آبى بشدة [أن أصدق] ...
من تشارلز داروين إلى جيه إم هربرت
داون [1844 أو 1845]
عزيزي هربرت
سرني للغاية أن أرى خطك وأسمع بعض الأخبار عنك. ورغم أنك لا تستطيع أن تأتي إلى هنا هذا الخريف، فإنني أرجو حقا أن تأتي أنت والسيدة هربرت في الشتاء، وسوف نتبادل الكثير من الأحاديث عن الأيام الخوالي، ونستمع إلى الكثير من موسيقى بيتهوفن.
لدي القليل أو بالأحرى لا شيء لأقوله عن نفسي؛ فالحياة تسير بنا كالساعة، وبالطريقة التي قد يعتبرها أغلب الناس في غاية الملل. مؤخرا كنت أكدح كدحا شديدا في تأليف كتابي عن الملاحظات الجيولوجية الخاصة بأمريكا الجنوبية، مسببا الاضطراب لجهازي الهضمي البائس، والشكر للرب؛ فقد أنجزت ثلاثة أرباعه. ما زالت الكتابة بلغة إنجليزية بسيطة تزداد عسرا علي، ولا يمكنني التمكن منها قط. أما زعمك أنك ستقرأ أوصافي الجيولوجية على ما فيها من ملل شديد، فدع عن روحي هذا البلسم الخداع؛ فهو غير معقول. لقد اكتشفت منذ زمن بعيد أن الجيولوجيين لا يقرءون أعمال بعضهم البعض، وأن الهدف الوحيد من تأليف أي كتاب هو إعطاء دليل على الجدية، وأنك لا تكون أفكارك بدون تكبد مشقة من نوع ما. صارت الجيولوجيا شفهية للغاية في الوقت الحاضر، وما أقوله صحيح تماما إلى حد كبير. لكنني أدخلك في مناقشة طويلة كطول أحد فصول هذا الكتاب الممل.
لقد زرت شروزبيري مؤخرا، ووجدت أبي في حالة من الصحة والبشاشة لدرجة مدهشة.
لك مني كل الصدق يا صديقي العزيز الغالي
المخلص لك دائما
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الاثنين [10 فبراير، 1845]
عزيزي هوكر
إنني في غاية الامتنان على خطابك اللطيف جدا؛ كان تصرفا في غاية الكرم أن تفكر في كتابة خطاب طويل إلي، في خضم انشغالك العلمي والطبي. إنني مندهش مما سمعته من أخبارك، ولا بد أن أحزن على رأيك «الحالي» في منصب الأستاذية المعروض عليك [إذ كان مرشحا لمنصب أستاذ علم النبات في جامعة إدنبرة]، وإنني أستهجن الأمر بإخلاص شديد من جانبي. ثمة شيء مخيف جدا في أن يفصل بيننا عدة مئات من الأميال، رغم أننا لم نلتق كثيرا حين كنا أكثر قربا أحدنا من الآخر. لن تصدق كم يعتريني من أسف بالغ على الفرصة الحالية المعروضة عليك؛ فقد كنت أتطلع إلى أن نتقابل كثيرا خلال حياتنا. يا لها من خيبة أمل كبيرة! ومن وجهة نظر أنانية محضة؛ إذ إنك تساعدني في عملي، أجد خسارتك لا تعوض حقا. لكن من ناحية أخرى، لا يساورني شك أنك ترى هذه الفرصة بعين يائسة، بدلا من أن تراها بنظرة مشرقة. بالطبع ثمة مزايا عظيمة، مثلما هناك مساوئ؛ فالمنصب ذو مكانة رفيعة، ويبدو لي حقا أن هناك الكثير جدا من الأساتذة غير المبالين، والقليل جدا من الأساتذة المساعدين، حتى إنها لميزة كبرى، من منظور علمي بحت، أن يشغل شخص جيد منصبا يؤدي بالآخرين إلى الانتباه إلى عمله. لقد نسيت ما إن كنت درست في جامعة إدنبرة طالبا، لكن حين كنت هناك كان يوجد مجموعة من الرجال أبعد ما يكونون عن المستمعين اللامبالين والبلداء الذين تتوقعهم في جمهورك. تأمل أي سعادة وشرف أن تكون عالم نبات بارزا؛ فبما لديك من استعداد ستكون للجميع مثلما كان هنزلو لي ولآخرين في كامبريدج، أطيب صديق وموجه. كذلك ستستمتع هناك بحديقة غناء، ومكتبة عامة ثرية. حقا، إن فوربس دائم التحسر على المزايا المتوفرة في العمل في إدنبرة، فلتفكر في الميزة التي لا تقدر بثمن في أن تكون على بعد مسافة قصيرة تقطع سيرا على الأقدام من تلك الصخور والتلال والشطآن الرملية الرائعة القريبة من إدنبرة! بالتأكيد، لا أستطيع أن أعبر عن حزني لسفرك أكثر من ذلك، وإن كنت أرثي نفسي بشدة على فقدانك. بالطبع، سيصير التدريس، خلال عام أو اثنين، بقدرتك «الجبارة» على العمل (مهما داخلتك رغبة في أن تقول العكس) أمرا سهلا، وسيتاح لك وقت معقول من أجل دراسة نباتات القطب الجنوبي ونظرياتك العامة عن التوزيع. لو كنت أعتقد أن اشتغالك أستاذا سيوقف عملك، لتمنيت أن يذهب هو وكل عواقبه الدنيوية الطيبة إلى الجحيم. أعلم أنني سأعيش حتى أراك المرجعية الأولى في أوروبا في هذا المجال العظيم، الذي يكاد يكون حجر الأساس لقوانين الخلق، ألا وهو التوزيع الجغرافي. حسنا، سيكون ثمة عزاء واحد، وهو أنك ستكون في كيو، بلا شك، كل عام، وهكذا سأنهي خطابي بالإعراب عن تهانئي القلبية رغما عن رأيك. أشكرك على كل الأخبار التي نقلتها إلي. يؤسفني ما سمعته عن تدهور حال هومبولت؛ لا يسعني مغالبة الشعور، وإن كان بلا حق، بأن تلك النهاية مهينة، حتى حين رأيته تكلم كلاما بعيدا كل البعد عن المنطق. إن رأيته مرة أخرى، أرجوك أن تبلغه أسمى وأرق تحياتي، وأخبره أنني لا أنسى مطلقا أن المسار الذي أخذته حياتي كلها يرجع لقراءتي كتابه «سرد شخصي» مرارا حين كنت شابا. كم هي صحيحة وسارة كل ملحوظاتك حول لطفه؛ فلتتأمل كم فرصة ستسنح لك، في مكانك الجديد، لتكون شخصا مثل هومبولت للآخرين. فلتسأله حول النهر الذي في شمال شرق أوروبا، الذي تختلف الحياة النباتية جدا على ضفتيه المتقابلتين. لقد حصلت على نسخة كتاب ويلكس التي أرسلتها إلي وقرأتها؛ يا له من كتاب ضعيف في المحتوى والأسلوب، وكم قدم تقديما مبهرا! فلتكتب لي خطابا من برلين. أشكرك أيضا على بروفات الطباعة، إلا أنني لم أقصد ألواح بروفات الطباعة؛ فإنني أقدر قيمتها لأنها توفر علي نسخ المقتطفات. الوداع يا عزيزي هوكر، بقلب مثقل أتمنى لك السعادة في حياتك المستقبلية.
صديقك المخلص
سي داروين [اكتملت الطبعة الثانية من كتاب «يوميات الأبحاث» التي يشير إليها الخطاب التالي، فيما بين 25 أبريل و25 أغسطس. ونشرها السيد موراي في سلسلة «كولونيال أند هوم ليبراري»، وسرعان ما بيعت بأعداد كبيرة في هذا الشكل الأكثر يسرا.
حتى وقت مفاوضاته الأولى مع السيد موراي لنشرها بهذا الشكل، كان الأجر الوحيد الذي يتلقاه هو عدد كبير من نسخ أعماله، ويبدو أنه كان سعيدا ببيع حق نشر الطبعة الثانية إلى السيد مواري مقابل 150 جنيها.
إن نقاط الاختلاف بين هذه الطبعة والطبعة الأولى مثيرة للاهتمام خاصة فيما يتعلق بنمو وجهات نظر المؤلف عن التطور، وسوف تنظر فيما بعد.]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون [يوليو، 1845]
عزيزي لايل
أرسل لك الجزء الأول من الطبعة الجديدة [من كتاب «يوميات الأبحاث»]، التي أدين لك بها كاملة. سترى أنني أقدمت على إهدائها إليك، وأعتقد أن هذا لا يمكن أن يكون شيئا مزعجا. طالما تمنيت أن أعترف، على نحو أكثر جلاء وليس بمجرد الإشارة، كم أدين لك في مجال الجيولوجيا، ليس من أجلك بقدر ما هو لأجل الأمانة العلمية. إلا أن من هم مثلك من المؤلفين، الذين يثقفون عقول الناس وكذلك يعلمونهم حقائق خاصة، لا يمكن أبدا، حسبما أعتقد، أن ينصفوا تماما إلا بعد أجيال؛ فالعقل حين يرتقي هكذا بلا اكتراث بالكاد يستطيع أن يدرك مدى ارتقائه لمستويات عليا. كنت أنوي وضع هذا التقدير الراهن في الكتاب الثالث من سلسلة كتبي عن الجيولوجيا في رحلة البيجل، لكن مبيعاته قليلة للغاية حتى إنه ما كان سيمنحني رضا الاعتقاد بأنني قد اعترفت بجميلك علي في حدود المتاح لي، حتى إن كان ذلك بصورة ناقصة. أرجو ألا يأخذك الظن بأني من الحماقة بحيث أفترض أن إهدائي قد يكافئك بأي طريقة، إلا في حدود ما يداخلني من ثقة بأنك ستتلقاه بصفته أصدق آيات العرفان والصداقة. أعتقد أنني حسنت هذه الطبعة، خاصة الجزء الثاني، الذي انتهيت منه للتو. لقد أضفت إضافة كبيرة عن أهل فويجو، وقللت النقاش الممتد طويلا بلا هوادة حول المناخ والأنهار الجليدية ... إلخ، إلى النصف. لا أتذكر أنني أضفت للجزء الأول أي شيء طويل طولا يستحق أن ألفت انتباهك إليه؛ ثمة صفحة بها وصف لسلالة غريبة جدا من الثيران في منطقة باندا أورينتال. أرجو أن تقرأ الصفحات القليلة الأخيرة؛ حيث ثمة نقاش صغير حول الانقراض، الذي قد لا تجده جديدا، رغم أنني وجدته كذلك، وقد وضعت في ذهني كل الصعوبات المتعلقة بمسببات الانقراض، في نفس الفئة مع الصعوبات الأخرى التي يغفل عنها علماء التاريخ الطبيعي ويستخفون بها تماما في العموم؛ إلا أنني كان لا بد أن أسترسل في نقاشي وأن أبرهن بالحقائق، بأيسر طريقة ممكنة، كيف لا بد أن أعداد كل الأنواع قد قلت باطراد.
لقد تلقيت أمس نسخة من كتابك «أسفار» [«أسفار في أمريكا الشمالية» الذي يقع في مجلدين، وظهر في 1845.] ويروق لي بشدة مظهره الخارجي ومحتواه؛ لم أقرأ سوى نحو اثنتي عشرة صفحة ليلة أمس (حيث انتابني التعب من إعداد الدريس)، لكنني رأيت ما يكفي لأدرك كم سيثير اهتمامي «بدرجة كبيرة»، وعدد الفقرات التي سأخط خطوطا تحتها. ويسعدني أنني وجدت لمحة جيدة عن التاريخ الطبيعي؛ وسوف أدهش إن لم يبع بأعداد كبيرة جدا ...
كم أشعر بالأسف حين يخطر لي أننا لن نراك هنا ثانية لمدة طويلة؛ أرجو أن تسترخي قليلا قبل السفر، وتلتمس يوما تنعم فيه بالنسيم العليل قبل أن تهب عليك نسمات المحيط ...
صديقك للأبد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، السبت [1 أغسطس، 1845]
عزيزي لايل
ظلت أمنية الكتابة إليك تراودني طوال الأسبوع الماضي، لكنني استنفدت كل ما أوتيت من قوة في الإعداد لنشر الجزء الثاني [من الطبعة الثانية من «يوميات الأبحاث».] أسعدني خطابك كثيرا، بل أكثر مما أسعدك إهدائي على ما أعتقد، وأشكرك شكرا جزيلا عليه. لقد أثار عملك اهتمامي بشدة، وسأطلعك على انطباعاتي، رغم أنني لم أكتب ملحوظات، ولا تجشمت عناء تذكر أي انطباع معين عن ثلثي المجلد الأول ؛ إذ لم يخطر لي قط أنك قد تأبه لسماع ما يدور بخلدي بشأن الأجزاء غير العلمية. أعتقد أن الانطباع الأول هو الأسف الذي سيشاركني فيه الأغلبية (رغم أنني لم أر فعليا مخلوقا منذ قراءته) لعدم عرض المزيد من [الأجزاء] غير العلمية. أنا لست حكما جيدا؛ فأنا لم أقرأ شيئا؛ أي شيئا غير علمي، عن أمريكا الشمالية، لكن العمل ككل وجدته جديدا ومبتكرا وشائقا. لقد بدا لذهني أن مناقشاتك تحمل الدليل الواضح على الفكر الناضج، والاستنتاجات المستمدة من الحقائق التي عاينتها بنفسك، وليس من آراء الأشخاص الذين قابلتهم؛ وأعتقد أن هذا أمر نادر نسبيا.
أثار انزعاجي بشدة مناقشتك لمسألة العبيد؛ لكن حيث إن اهتمامك برأيي في هذه النقطة يكاد يكون معدوما، فلن أقول سوى أنها سببت لي ساعات من الأرق والضيق. إن وصفك للحالة الدينية للولايات المتحدة على وجه الخصوص أثار اهتمامي؛ فإنني في غاية الدهشة من جرأتك الشديدة في مواجهة رجال الكهنوت. في فصل الجامعة، تناولت رجال الكهنوت، بدلا من القائمين على التعليم، بأقصى درجات القسوة والعدل، وأرى أن في هذا جرأة شديدة؛ فأنا أحسب أنك ستكون في أمان أكثر إن سحقت رأس أستاذ جامعي عجوز جامد الفكر عن أن تمس إصبع أحد أفراد قطيع رجال الكهنوت. يا للنقيض الذي تبدو عليه إنجلترا في مجال التعليم! وجدت دفاعك (مستخدما المصطلح مثل المتدينين المتعصبين القدامى الذين كانوا يقصدون أي شيء إلا الدفاع) عن المحاضرات غاية في البراعة؛ لكن لو كانت لديك كل الحجج التي في العالم إلى جانبك، فهي لن تساوي سلسلة واحدة من محاضرات جيميسون في الجانب الآخر، التي حضرتها سابقا بكل أسف. ورغم أنني قرأت عن «حقول الفحم في أمريكا الشمالية»، فإنني حقا لم ألم قط ولو بالقليل عن مساحتها، وسمكها وموقعها الملائم؛ لم يفاجئني في كتابك شيء أكثر من هذا.
ثمة أجزاء قليلة وجدتها غير متجانسة، لكن لا أعلم ما إذا كان ذلك ذا بال لدرجة ما أم لا. إلا أنني افتقدت، لدرجة كبيرة، وجود بعض العناوين العامة للفصول، كالمكانين أو الثلاثة الأماكن الرئيسية التي قصدت على سبيل المثال. لا يحق لأحد أن يتوقع من المؤلف أن يتبسط في كتاباته لمواكبة الجهل الجغرافي المطبق لدى القارئ؛ لكنني لعدم معرفتي بأي من هذه الأماكن، فقد عانيت من حين لآخر في تتبع مسارك. أحيانا، في بداية أحد الفصول، وفي إحدى الفقرات، تسلك مسارا عابرا كثيرا من الأماكن؛ أي شخص، جاهل مثلي - إن كان هذا ممكنا - سيفضل أن يتجنب مثل هذا الفصل المزعج. لقد نزعت خريطتك، ووجدت راحة كبرى في ذلك؛ فإنني لم أستطع متابعة مسارك المنقوش. أعتقد أن إضافة فراغات من سطر واحد هنا وهناك في الطبعة الثانية، سيكون من قبيل التحسين. بالمناسبة، أنسب لنفسي الفضل في التقليل من الطابع العلمي لكتابي «يوميات الأبحاث» بكتابة كل أسماء الأنواع والأجناس بالحروف الرومانية، كما أن الطباعة تبدو أفضل. تبدو لي كل الصور رائعة، أما الخريطة فهي عمل جدير بالتقدير في حد ذاته. إن كان كتابك «مبادئ» لم يحظ بما حظي به من تقدير عام، كنت سأخشى أن المحتوى الجيولوجي في هذا الكتاب سيكون كبيرا جدا بالنسبة للقارئ العادي؛ وبالطبع تكفل الأسلوب الشديد الوضوح والسهولة بكل ما كان يمكن فعله. من ناحيتي أرى أن الجانب الجيولوجي كان ملخصا ممتازا ومختصرا على أكمل وجه ومبسطا على نحو جيد لكل ما جرى في أمريكا الشمالية، وعلى كل جيولوجي أن يدين لك بالامتنان. وقد بدا لي ملخص الفصل الخاص بشلالات نياجرا الجزء الأروع، كذلك أثار استعراضك لأصل تكوينات العصر السيلوري بالغ شغفي. لقد ميزت عددا كبيرا جدا من الفقرات التي من شأنها أن تفيدني فيما بعد.
بدت لي نظرية الفحم بأكملها جيدة جدا، لكن لا جدوى من الاسترسال في التعديد على هذا المنوال. كنت أتمنى لو كان هناك المزيد عن التاريخ الطبيعي؛ لكن راقت لي «كل» الشذرات المتفرقة. ها قد أعطيتك الآن وصفا دقيقا بخواطري، لكنها بالكاد ترقى لأن تقرأها ...
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 25 أغسطس [1845]
عزيزي لايل
هذا فعليا أول يوم يتاح لي فيه أي فراغ من الوقت؛ وسوف أرفه عن نفسي بكتابة خطاب إليك ...
سررت بخطابك الذي تطرقت فيه إلى موضوع العبودية؛ أتمنى لو كانت نفس المشاعر واضحة في نقاشك المنشور. لكنني لن أكتب عن هذا الموضوع؛ فربما أتسبب في تكديرك، وتكدير نفسي بكل تأكيد. لقد نفست عن غضبي بفقرة أو اثنتين في كتابي «يوميات الأبحاث» حول خطيئة العبودية في البرازيل. قد تعتقد أن هذا رد عليك، لكن الأمر ليس كذلك. فلم أشر إلا لما سمعته في ساحل أمريكا الجنوبية. إلا أن ما ذكرته من جمل قليلة ما هو إلا فورة مشاعر؛ إذ كيف استطعت أن تروي بهدوء شديد ذلك الشعور البغيض حيال فصل الأطفال عن ذويهم [في الفقرة المقصودة، لم يكن لايل يعبر عن وجهة نظره، وإنما وجهة نظر أحد المزارعين]، وفي الصفحة التالية تتحدث عن شعورك بالأسى لعدم ازدهار البيض؛ أؤكد لك أن التناقض حملني على الصراخ. لكنني خالفت ما نويته، لذا سأكف عن هذا الموضوع البغيض الممل.
ثمة مقال نقدي إيجابي عنك في دورية «ذا جاردينرز كرونيكل»، لكنه ليس قويا بما يكفي. يؤسفني أن أرى أن ليندلي يؤيد نظرية غاز حمض الكربونيك. بالمناسبة، أسعدني للغاية اقتباس ليندلي لفقراتي المتعلقة بالانقراض ووضعها دون اختصار. أعتقد أن وضع الندرة النسبية لأنواع موجودة في نفس التصنيف مع الانقراض قد أزاح عبئا كبيرا؛ ورغم أن هذا لا يفسر أي شيء بالطبع، فهو يوضح أننا يجب ألا تعترينا أي دهشة لعدم تفسير الانقراض إلى أن نستطيع تفسير الندرة النسبية ...
سرني أيما سرور أن طلب منك عمل طبعة جديدة من كتاب «مبادئ»؛ كم هي عظيمة الفائدة التي قدمها ذلك العمل! أخشى أنك لن تكون بين الصخور القديمة هذه المرة؛ كم يبهجني أن أعيش حتى أراك تنشر عن مرحلة أخرى قبل مرحلة العصر السليوري وتكتشفها؛ ستكون أعظم خطوة ممكنة، فيما أعتقد. إنني سعيد للغاية أيضا لسماعي بالتقدم الذي أحرزه بانبري في علم الحفريات النباتية؛ ثمة فجوة واضحة عليه أن يملأها في هذا البلد. لا شك أنني سأزوره هذا الشتاء ... يمكنني أن أصدق تماما كل ما تقوله عن مواهبه، من القليل الذي رأيته منه.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
شروزبيري [1845؟]
عزيزي هوكر
تلقيت للتو خطابك الذي جعلني في دهشة شديدة، وأثار بالغ حزني بحق. لم يساورني الشك للحظة واحدة قط في نجاحك، وتصورت خاطئا أشد الخطأ أن تلك الكفاءة كان مؤكدا أن يكتب لها النجاح. يخامرني يقين راسخ أنه قريبا سيأتي اليوم حيث سيشعر بالخزي أولئك الذين صوتوا ضدك [فيما يتعلق بكرسي أستاذية علم النبات في جامعة إدنبرة]، إن كان بهم أي ذرة من حياء أو ضمير، على السماح للسياسة بأن تعمي بصيرتهم عن مؤهلاتك، تلك المؤهلات التي شهد بها هومبولت وبراون! حسنا، لا بد أن يكون في تلك التزكيات عزاء لك. يا للعار! تتناوبني مشاعر متعاقبة من الحنق والنقمة. ولا أستطيع حتى أن أجد العزاء حين أفكر أنني سوف أراك أكثر، وأنهل المزيد من المعرفة من مخزونك المعرفي المنظم. أشعر بالسعادة حين يخطر لي أنني، بعد قراءة القليل من خطاباتك، لم أشك مرة واحدة في المكانة التي ستشغلها في النهاية بين علماء النبات الأوروبيين. لا يمكنني التفكير في شيء آخر، وإلا كنت سأريد أن أناقش معك كتاب «الكون». أرجو أن تزورني أنا وزوجتي هذا الخريف في داون. سوف أكون في داون في الرابع والعشرين من هذا الشهر، وحتى ذلك الحين سأظل متنقلا من مكان لآخر.
عزيزي هوكر، فلتسمح لي أن أدعو نفسي
صديقك المخلص جدا
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
8 أكتوبر [1845]، شروزبيري ... كنت مؤخرا في جولة قصيرة لرؤية مزرعة اشتريتها في لينكنشير، ثم ذهبت إلى يورك؛ حيث زرت رئيس كاتدرائية مانشستر [المبجل دبليو هربرت]، صانع الهجائن العظيم، الذي أعطاني معلومات مثيرة للاهتمام للغاية. كذلك زرت ووترتون في ضيعة وولتن هول، واستمتعت للغاية بزيارتي. إنه شخص مسل وغريب؛ ففي عشائنا المبكر، تكونت صحبتنا من كاهنين كاثوليكيين وسيدتين خلاسيتين! إنه يجاوز الستين من العمر، ورغم ذلك ركض أمس حتى اصطاد أرنبا صغيرا في حقل لفت. أما الضيعة، فهي عبارة عن منزل قديم وفخم، وتعج البحيرة بالطيور المائية. بعد ذلك رأيت تشاتسوورث، حيث فرحت بالصوبة الدافئة الكبيرة؛ إنها تبدو تماما وكأنها جزء من غابة مدارية، حتى إن رؤيتها جعلتني أفكر مسرورا في ذكريات قديمة. أعطتني جولتي الصغيرة التي استغرقت عشرة أيام شعورا رائعا بالقوة في حينها، لكن الآثار الطيبة لم تستمر. ويؤسفني أن أقول إن زوجتي لا تستعد عافيتها، أما الأطفال، فهم أمل الأسرة؛ فهم كلهم سعداء وتملؤهم الحيوية وحب الحياة. لقد أثار اهتمامي بشدة مقال سيجويك النقدي [المتعلق بكتاب «بقايا التاريخ الطبيعي للخلق» الذي نشره في مجلة «ذي إدنبرة ريفيو»، يوليو، 1845]؛ رغم أنني لم أجد له رواجا بين قرائنا العلميين. أعتقد أن بعض فقراته يشي بالدوجماتية المتصلة بالوعظ، بدلا من التناول الفلسفي اللازم لمقعد الأستاذ الجامعي؛ ويبدو لي أن بعض سخريته جديرة ب... في «ذا كورترلي ريفيو». رغم ذلك فهو عمل رائع من المحاجة ضد قابلية الأنواع للتحول، وقد قرأته خائفا مرتعدا، لكن أسعدني جدا أن أجد أنني لم أغفل عن أي من الحجج الواردة فيه، رغم أنني شرحتها لنفسي شرحا ركيكا. هل قرأت كتاب «الكون»؟ إن الترجمة الإنجليزية رديئة، والأوصاف شبه الميتافيزيقية السياسية في الجزء الأول بالكاد مفهومة؛ لكن أعتقد أن النقاش الخاص بالبراكين جدير جدا باهتمامك؛ فقد أدهشني بحيويته ومعلوماته. يؤسفني ما وجدت من أن هومبولت عاشق لفون بوخ، بتصنيفه للبراكين، وفوهات الارتفاع، إلخ؛ إلخ، والغلاف الجوي المتكون من غاز حمض الكربونيك. إنه رجل غريب حقا.
أرجو أن أعود للديار خلال أسبوعين وأن أعكف على كتابي الشاق عن جيولوجيا أمريكا الجنوبية حتى أنتهي منه. سأكون في غاية اللهفة لسماع أخبارك من آل هورنر، لكن لا تفكر في إضاعة وقتك بالكتابة إلي. لا شك أننا سنفتقد زياراتك إلى داون، وسوف أشعر كأنني شخص ضائع في لندن بدون «لقاءاتنا» الصباحية في شارع هارت ...
لك مني صادق ودائم الإخلاص يا عزيزي لايل
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، فانبرا، كنت
الخميس، سبتمبر، 1846
عزيزي هوكر
أرجو أن يلحق بك هذا الخطاب في كليفتون؛ فلم يحل بيني وبين الكتابة إليك إلا أنني لم أكن على ما يرام، وكذلك زيارة آل هورنر لي، وهو ما شغل وقتي بالكامل بجانب بروفات الطباعة الكريهة. لا شك أنه قد مضى وقت طويل منذ أن تبادلنا الخطابات، لكن اسمح لي أن أخبرك أنني آخر من كتب، إلا أنني لا أستطيع أن أتذكر عن ماذا، وإن كنت أعتقد أنه كان بعد قراءة عملك الأخير [«نباتات القطب الجنوبي»]؛ حيث أرسلت إليك خطاب مديح فريد من نوعه، مع الوضع في الاعتبار أنه من رجل بالكاد يستطيع التفريق بين زهرة الأقحوان وزهرة الهندباء البرية إلى عالم نباتات متمرس ...
لا أتذكر الأبحاث التي أعطتني هذا الانطباع، لكن يرد على ذهني بثبات هذا البحث، الذي تقر بصحة ما أقوله بشأنه، والذي يتعلق بالأهمية الصغيرة التي يشكلها تركيب التربة الكيميائي بالنسبة للحياة النباتية عليها. يا لها من حقيقة جازمة! تلك التي لفت نظري إليها آر براون ذات مرة، عن كلسية نباتات معينة هنا، وهي التي لا تكون كذلك في ظروف مناخية ملائمة أكثر في القارة الأوروبية، أو العكس؛ فقد نسيت أيهما صحيح، لكن لا شك أنك ستدرك ما الذي أشير إليه. بالمناسبة، ثمة بعض الحالات المشابهة في بحث هربرت في دورية «جورنال أوف ذا هورتيكالتشرال سوسايتي» [1846]. هل قرأته؟ أراه في غاية الأصالة، ويرتبط ارتباطا «مباشرا» بأبحاثك الحالية [المتعلقة بتعدد الأشكال والتباين وغير ذلك.] بالنسبة لشخص «غير متخصص في علم النبات»، تمثل الطبيعة الكلسية أكثر السمات تميزا في أي حياة نباتية في إنجلترا. لماذا لا تأتي هنا لتقوم بملاحظاتك؟ سوف «نذهب» إلى ساوثامبتون، من أجل الجمعية البريطانية، إن لم تخذلني شجاعتي ومعدتي. (ألا تعتبره من واجباتك أن تكون هناك؟) ولم لا تأتي هنا بعد ذلك و«تعمل»؟ ... (3) أفرودة هدابيات الأرجل، من أكتوبر 1846 إلى أكتوبر 1854 [كتب أبي خطابا إلى السير جيه دي هوكر عام 1845، قائلا: «أرجو أن أنهي في الصيف القادم كتابي «جيولوجيا أمريكا الجنوبية»، ثم أنشر عملي الصغير المتعلق بعلم الحيوان ثم أعمل في عمل عن الأنواع ...» توضح هذه الفقرة أنه لم يكن ينوي في ذلك الوقت أن يضع دراسة مستفيضة عن هدابيات الأرجل. في الواقع، يبدو أن نيته الأصلية كانت حل مشكلة معينة فحسب؛ وذلك كما عرفت من السير جيه دي هوكر. وهذا يتفق تماما مع الفقرة التالية من السيرة الذاتية التي كتبها: «حين زرت ساحل تشيلي، وجدت نوعا غريبا للغاية يحفر في أصداف حلزونيات أذن البحر التشيلي، وقد كان يختلف اختلافا كبيرا عن جميع ما رأيته من هدابيات الأرجل، فاضطررت إلى أن أضعه في رتبة فرعية جديدة له وحده ... وحتى أفهم تركيب هذا النوع الجديد من هدابيات الأرجل، كان علي فحص كثير من الأشكال الشائعة وتشريحها؛ وهذا أدى بي تدريجيا إلى دراسة المجموعة كلها.» لكن يبدو أنه في السنوات اللاحقة قد انتابه بعض الشك بشأن قيمة هذه السنوات الثماني من العمل؛ على سبيل المثال حين قال في سيرته الذاتية: «كان العمل ذا فائدة كبيرة بالنسبة لي، حين كان يتحتم علي مناقشة مبادئ التصنيف الطبيعي في كتاب «أصل الأنواع». رغم ذلك يساورني شك فيما إن كان العمل يستحق استغراق كل ذلك الوقت.» إلا أنني عرفت من السير جيه دي هوكر أنه أدرك بحق في ذلك الوقت قيمته باعتباره تدريبا تصنيفيا؛ فقد كتب السير جوزيف إلي قائلا: «أدرك أبوك ثلاث مراحل في حياته المهنية بصفته عالم أحياء: مجرد جامع للأشياء في كامبريدج؛ ثم جامع للأشياء وملاحظ لها في رحلة سفينة «البيجل»، ولعدة سنوات بعد ذلك؛ ثم عالم التاريخ الطبيعي المدرب فقط بعد دراسته عن هدابيات الأرجل. أما عن إن كان مفكرا طيلة ذلك الوقت، فهو أمر صحيح جدا، وجزء كبير من كتاباته السابقة لدراسة هدابيات الأرجل لا يملك أي عالم مدرب في التاريخ الطبيعي إلا الاقتداء بها ... وكثيرا ما كان يشير إلى هذا المجال باعتباره فرعا هاما من المعرفة، وكان يضيف أنه حتى العمل «البغيض» المتعلق بالوصف والبحث عن المترادفات، لم يحسن طرقه فحسب، وإنما أيضا فتح عينيه على عيوب أعمال أقل علماء التصنيف براعة ومزاياها. وكان من نتائج ذلك أنه لم يكن ليسمح قط بمرور أي ملحوظة انتقاص عن أقل العاملين براعة في مجال العلم دون الاعتراض عليها، على أن تكون أعمالهم أمينة وجيدة في فئتها. وطالما اعتبرت هذه إحدى أفضل الخصال في شخصيته؛ هذا التقدير الكريم لبناة العلم، ومجهوداتهم ... وكانت كتابة أفرودة هدابيات الأرجل هي التي أدت إلى ذلك.»
سمح البروفيسور هكسلي لي باقتباس رأيه عن قيمة السنوات الثماني التي خصصت لدراسة هدابيات الأرجل:
في رأيي، لم يفعل أبوك الفطن شيئا أكثر حكمة من تكريس نفسه للعمل على كتابه عن هدابيات الأرجل الذي كلفه سنوات من الكدح والصبر.
إنه، مثل بقيتنا، لم يتلق تدريبا لائقا في علم الأحياء، وطالما اعتقدت أن رؤيته لضرورة إعطاء نفسه ذلك التدريب مثال واضح على بصيرته العلمية وكذلك على شجاعته؛ لأنه لم يتهرب من الجهد اللازم للحصول عليه.
الخطر العظيم الذي يحدق بكل الرجال من ذوي الملكة الجبارة على التخمين هو الإغراء المتمثل في التعامل مع الحقائق المعترف بها في مجال العلوم الطبيعية، كما لو كانت ليست صحيحة فحسب، وإنما جامعة أيضا؛ كما لو كان يمكن التعامل معها بالاستنباط، بنفس طريقة التعامل مع فرضيات إقليدس. في الواقع، كل من هذه الحقائق، مهما كانت صحيحة، لا تعد صحيحة إلا في ضوء وسائل ملاحظة أولئك الذين أعلنوا عنها ووجهات نظرهم. وهي يمكن الاعتماد عليها حتى هذا الحد فقط. أما ما إن كانت ستدعم كل الاستنتاجات التخمينية التي قد تستخلص منها منطقيا، فهذه مسألة مختلفة تماما.
كان أبوك يقيم بنية فوقية عريضة على الأسس التي وضعتها حقائق العلوم الجيولوجية والبيولوجية المعترف بها. لقد اكتسب تدريبا عمليا كبيرا في الجغرافيا الطبيعية والجيولوجيا البحتة، والتوزيع الجغرافي وعلم الحفريات أثناء رحلة «البيجل». وهكذا توصل من المعرفة التي لديه لطريقة الحصول على مواد خام هذه الفروع من العلم؛ ومن ثم، كان يستطيع الحكم بكفاءة شديدة على ما يمكنه التخمين بشأنها. وما كان يحتاجه بعد عودته إلى إنجلترا هو الحصول على معرفة موازية بالتشريح والنمو، وعلاقتهما بعلم التصنيف، وقد اكتسب هذا من خلال دراسته لهدابيات الأرجل.
من ثم، لا تكمن قيمة أفرودة هدابيات الأرجل، من وجهة نظري، في أنها وحسب عمل جدير جدا بالتقدير، شكلت إضافة كبيرة للمعرفة الوضعية، ولكن أيضا يكمن الجزء الأكبر من قيمتها في أنها كانت عملا ناتجا عن انضباط نقدي، تجلت آثاره في كل ما كتبه أبوك فيما بعد، ووفر عليه أخطاء لا نهاية لها في التفاصيل.
لذا بعيدا عن أن هذا العمل كان مضيعة للوقت، أعتقد أنه كان سيصبح جديرا بما أنفقه فيه لو كان بالإمكان أن يكمله بدراسة خاصة في علم الأجنة وعلم وظائف الأعضاء. بذلك كان سيصبح أشد تمرسا حين أتى لكتابة فصول متنوعة من كتاب «أصل الأنواع». لكن بالطبع كان عثوره على فرص للقيام بهذا شبه مستحيل في تلك الأيام.
لا يمكن لأحد أن ينظر للمجلدين اللذين كتبهما والدي عن هدابيات الأرجل الحديثة، اللذين بلغ عدد صفحاتهما 399 و684 على التوالي (ناهيك عن المجلدين اللذين كتبهما عن الأنواع المتحفرة منها) دون أن ينبهر بالكم الهائل من التفاصيل المتضمنة. الأربعون لوحة، التي تحتوي بعضها على ثلاثين شكلا، وصفحات الفهرس الأربع عشرة في المجلدين معا، تعطي فكرة بسيطة عن المجهود الذي بذل في العمل.
5
كانت حالة المعرفة فيما يخص هدابيات الأرجل، غير مرضية تماما في الوقت الذي بدأ أبي فيه دراستها. من الجدير بالذكر، كمثال على هذه الحقيقة، أنه اضطر لإعادة ترتيب مسميات المجموعة، أو على حد قوله «وجد أنه من الضروري إعطاء أسماء لعدة صمامات، ولبعض الأجزاء الأكثر دقة في هدابيات الأرجل.»
6
وإنه من المثير أن نعرف من مذكراته حجم الوقت الذي أعطاه للأجناس المختلفة؛ فقد انشغل بجنس الخملوس
Chthamalus ، الذي يشغل وصفه ستا وثلاثين صفحة، لمدة ستة وثلاثين يوما، بينما استغرق جنس الكورونولا
Coronula
منه تسعة عشر يوما، ووصف في سبع وعشرين صفحة. وقد تحدث في خطاب إلى فيتزروي عن «العمل كادحا يوميا طوال نصف الشهر الأخير في تشريح حيوان صغير في حجم قريب من رأس الدبوس، من أرخبيل تشونوس، ويمكنني أن أقضي شهرا آخر، وأرى كل يوم المزيد من التركيب الجميل.»
رغم أنه صار منهكا لدرجة مفرطة من العمل قبل نهاية السنوات الثماني، فقد استمتع أيما استمتاع على مداها؛ لذا فقد كتب إلى السير جيه دي هوكر (1847 (؟)) قائلا: «كما تقول، ثمة سعادة غير عادية في الملاحظة المحضة؛ إلا أنني أشك أن السعادة في هذه الحالة مستمدة من المقارنات التي تتكون في الذهن بين تراكيب الأنواع القريبة. وبعد الانشغال طويلا جدا في كتابة ملاحظاتي الجيولوجية، أجد سعادة في استخدام عيني وأصابعي مرة أخرى.» كان ذلك، في الواقع، رجوعا للعمل الذي شغل الكثير جدا من وقته حين كان في البحر أثناء الرحلة. إن ملاحظاته الخاصة بعلم الحيوان في تلك الفترة تعكس عملا دءوبا، يعرقله الجهل والحاجة لأدوات؛ ولا بد أن عمله بلا كلل في تشريح الحيوانات البحرية، خاصة القشريات، قد أفاده كتدريب من أجل عمله عن هدابيات الأرجل. كان أغلب عمله يؤدى باستخدام مجهر التشريح البسيط - لكن الحاجة لقدرات أكبر هي التي حثته على شراء مجهر مركب في عام 1846. لقد كتب إلى هوكر قائلا: «بينما كنت أرسم مع إل، غمرتني سعادة عارمة بسبب شكل الأشياء، لا سيما بمنظرها كما يبدو من خلال العدسة الدقيقة لمجهر مركب جيد، حتى إنني سأطلب واحدا؛ بالتأكيد، فكثيرا ما تكون لدي تراكيب لا يكون معها التكبير بقدر 1 / 30 كافيا.»
خلال جزء من الوقت الذي يغطيه هذا الفصل، عانى أبي من اعتلال صحته ربما أكثر من أي وقت آخر في حياته. وقد كابد بشدة الآثار المكدرة التي خلفتها تلك السنوات الطوال من المرض؛ حتى إنه مبكرا في عام 1840 كتب خطابا إلى فوكس قال فيه: «لقد تغيرت عن حالي السابق وصرت مثل كلب عجوز ممل خامل. أعتقد أن المرء يزداد غباء مع تقدمه في العمر.» إن كتابته لهذا الكلام لا تدعو للدهشة، وإنما ما يثير الدهشة هو أن روحه تحملت ذلك الجهد الهائل والمستمر. وفي عام 1845 كتب إلى السير جيه دي هوكر يقول له: «كم أنت شديد الفضل في سؤالك المستمر عن صحتي! ليس لدي شيء لأقوله عنها؛ فأنا دائما على الحال نفسه إلى حد كبير؛ في بعض الأيام أفضل حالا، وفي أيام أخرى أسوأ. أعتقد أنني لم أحظ بيوم كامل، أو بالأحرى ليلة كاملة، دون أن تضطرب معدتي اضطرابا شديدا، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وفي أغلب الأيام تخور قواي بشدة: شكرا على لطفك؛ فالعديد من أصدقائي، على ما أظن، يعتقدون أنني مصاب بوسواس المرض.»
وفي عام 1849، قال مرة أخرى في يومياته: «من 1 يناير حتى 10 مارس - حالتي الصحية سيئة للغاية؛ إذ يزيد المرض علي بشدة وكثيرا ما تخور قواي. لكنني أعمل في كل الأيام التي أكون فيها على ما يرام.» وقد كتب هذا مباشرة قبل زيارته الأولى لمصحة العلاج المائي الخاصة بالدكتور جالي في مولفرن. وفي أبريل من نفس العام، كتب قائلا: «أعتقد أنني على خير ما يرام، لكنني برم بشدة من حياتي الراكدة الحالية؛ فللعلاج المائي آثار استثنائية للغاية ينتج عنها الخمول وكسل الذهن؛ لم أكن لأصدق أن هذا ممكن قبل أن أمر به. الآن وزني يزداد، وأفلت من قبضة المرض طوال ثلاثين يوما.» وقد عاد في يونيو، بعد غياب لمدة ستة عشر أسبوعا، وقد تحسنت صحته كثيرا، واستأنف العلاج المائي في المنزل لبعض الوقت، كما ذكر من قبل (في الفصل الثالث).]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [أكتوبر، 1846]
عزيزي هوكر
لم تصلني خطابات من سوليفان مؤخرا. حين كتب آخر خطاب لي، حدد الفترة الزمنية من الثامن وحتى العاشر كالوقت الأرجح لزيارته لي؛ لذا، بمجرد أن يصلني منه خطاب، سأعرفك بالأمر في خطاب قصير، وذلك لترى إن كان يمكنك الحضور أم لا. نسيت إن كنت تعرفه أم لا، لكنني أفترض أنك تعرفه؛ إنه شخص طيب بحق. على أي حال، إن لم تأت حينها، فسيسرني كثيرا أن تقترح الحضور قريبا فيما بعد ...
سأبدأ بعض الأبحاث حول الحيوانات البحرية الدنيا، سأستمر فيها بضعة أشهر، أو ربما عام. وبعد ذلك سوف أبدأ في مطالعة ملاحظاتي عن الأنواع والضروب المتراكمة طوال عشر سنوات، وهي التي أعتقد أنها ستستغرق مني خمس سنوات في كتابتها، ويخيل إلي أنها حين تنشر ستهبط مكانتي هبوطا ساحقا في نظر كل علماء التاريخ الطبيعي الحصفاء - وهذا هو ما أتوقعه للمستقبل.
هل تجيد ابتكار الأسماء؟ فلدي جنس جديد وغريب تماما من البرنقيل، أريد تسميته، وإنني في حيرة تامة بشأن ابتكار اسم له.
بالمناسبة، لم أخبرك بأي شيء عن ساوثامبتون. لقد استمتعنا (أنا وزوجتي) بالأسبوع الذي قضيناه هناك إلى أقصى درجة؛ كانت كل الأبحاث مملة، لكنني التقيت العديد من الأصدقاء وكونت الكثير من المعارف الجديدة (من علماء التاريخ الطبيعي الإيرلنديين على وجه الخصوص)، وذهبت في العديد من الجولات الممتعة. أتمنى لو كنت معنا هناك. في يوم الأحد ذهبنا في رحلة ممتعة للغاية إلى وينتشستر مع فالكونر [هيو فالكونر (1809-1865)، الذي عرف في المقام الأول بصفته عالم حفريات، رغم أنه عمل كعالم نبات طوال حياته المهنية في الهند؛ حيث كان أيضا طبيبا في شركة الهند الشرقية] والكولونيل سابين [الراحل السير إدوارد سابين، الرئيس السابق للجمعية الملكية، ومؤلف سلسلة طويلة من الأبحاث حول المغناطيسية الأرضية] والدكتور روبينسون [الراحل الدكتور توماس رومني روبينسون، من مرصد آرما]، وآخرين. لم أستمتع في حياتي استمتاعي بذلك اليوم. إلا أنني افتقدت رؤية إتش واطسون [الراحل هيويت كوتريل واطسون، مؤلف «النباتات البريطانية وعلاقتها الجغرافية»، الذي يعد من ضمن سلسلة كتب مهمة للغاية عن طبوغرافيا الجزر البريطانية والتوزيع الجغرافي لنباتاتها.] أعتقد أنك عرفت أنه التقى فوربس وأخبره أن له مقالا قاسيا منشور عنه. ونما إلى علمي أن فوربس أوضح له أنه ليس له مبرر للشكوى، لكن حيث إن المقال طبع، فهو لن يسحبه، لكنه عرض على فوربس أن يلحق به ملحوظات، وهو ما رفضه فوربس بطبيعة الحال ...
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 7 أبريل [1847؟]
عزيزي هوكر
كان لا بد أن أكتب إليك قبل الآن، لولا أنني كنت مريضا على نحو شبه دائم طوال الفترة السابقة، حتى إنني حاليا أعاني من أربع بثور وتورمات، وهي التي تجعلني إحداها بالكاد قادرا على استخدام ساعدي الأيمن، مما منعني عن العمل تماما، وأحبط حماسي كلية. شعرت بخيبة أمل كبيرة لما فاتتني رحلتي إلى كيو، ومما ضاعف من شعوري هذا أنني نسيت أنك ستكون بعيدا طوال هذا الشهر؛ لكنني لم يكن لدي اختيار، وقد لازمت الفراش تقريبا طوال يومي الجمعة والسبت. أهنئك على تحسن فرصك في الهند [إذ غادر هوكر إنجلترا في رحلة إلى الهيمالايا والتبت في 11 نوفمبر، 1847. كانت البعثة مدعمة بمنحة صغيرة من وزارة الخزانة، وبذلك اكتسبت صفة المهمة الحكومية]، ولكنني في الوقت نفسه يجب أن أحزن لذلك؛ فسوف أشعر بالضياع تماما دونك؛ إذ سأفتقد مناقشتي لك فيما يتعلق بنقاط عديدة، وتوضيحي لك (لسوء حظك) لصعوبات فرضياتي حول الأنواع والاعتراضات عليها. سيكون من العار الشديد أن يوقف المال بعثتك؛ لكن لا بد أن الحكومة سوف تساعدك إلى حد ما ... رحلتك الحالية، مع آرائك الجديدة، وسط البقايا النباتية الموجودة في طبقات تكون الفحم، ستكون شائقة جدا. إذا أتيحت لك فسحة من الوقت؛ «فقط في هذه الحالة»، فسيسرني أن أسمع بعض الأخبار عما تحرزه من تقدم. ستصير رحلتك الحالية موفقة إذا ذهبت إلى أي من مناطق استخراج الفحم في الهند. ألن يكون هذا أمرا جيدا للتباهي به أمام الحكومة؛ إذ سيقدر النفعيون هذا. بالمناسبة، سأطلب منك بعض الأمور حول سلالات الحيوانات المستأنسة في الهند ...
من تشارلز داروين إلى إل جينينز (بلومفيلد)
داون [1847]
عزيزي جينينز
إنني في غاية الامتنان على الروزنامة الصغيرة الرائعة؛ فقد تصادف أنني كنت أتوق للحصول على واحدة حتى أحتفظ بها في حقيبة أوراقي. [إن الروزنامة الصغيرة المشار إليها هنا قد نشرت لأول مرة عام 1843، باسم «روزنامة جيب علماء التاريخ الطبيعي» للسيد فان فورست، وقد حررتها له. وكانت موجهة بنحو خاص لأولئك المهتمين بالظواهر الدورية للحيوانات والنباتات، وهي التي أدرجت قائمة مختارة منها تحت كل شهر من شهور العام.] لم أر هذا النوع قط من قبل، وسوف أحصل على واحدة بالتأكيد في المستقبل. أعتقد أنه من الممتع للغاية أن تكون لديك قبالة عينيك قائمة بترتيب نمو النباتات والحيوانات حولك؛ فهذا من شأنه إعطاء إثارة جديدة لكل يوم طيب. لكن ثمة شيئا أود أن يجرى له تحسين صغير؛ ألا وهو تصحيح الوقت ليكون على فترات زمنية أقصر؛ فإنني أشك أن أغلب الناس الذين لديهم مزاول مثلي سيرغبون في دقة تتعدى هامش الدقائق الثلاث. إنني دائما ما أشتري الروزنامة التي تكلفني شلنا من أجل ذلك «فقط». بالمناسبة، «روزنامتك» - أقصد، روزنامة فان فورست - باهظة الثمن جدا؛ لا بد، على الأقل، أن تعفى من رسوم البريد مقابل الشلن ثمنها. ألا تعتقد أن وجود جدول (وليس قواعد) للتحويل من المقاييس، وربما الأوزان، الفرنسية إلى الإنجليزية، سيكون مفيدا فائدة كبرى؛ وكذلك من الدرجات المئوية إلى الفهرنهايت، - قدرات العدسات على التكبير وفقا للمسافات البؤرية؟ في الواقع قد تجعلها هكذا أعظم منشورات العصر فائدة. إنني أعلم أكثر ما سأرغب فيه على الإطلاق، وهو وجود ملحوظات جوية لكل شهر، مع بيان تقريبي لمسار الرياح وتوقعات الطقس، حسب حركات البارومتر. أعتقد أن الناس دائما ما يستمتعون بمعرفة درجات الحرارة القصوى والمتوسطة في الفترات الزمنية المقابلة في السنوات الأخرى.
أرجو أن تستمر في هذا الأمر لعام آخر. أشكرك شكرا جزيلا يا عزيزي جينينز.
المخلص لك جدا
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الأحد [18 أبريل، 1847]
عزيزي هوكر
أرد إليك مع وافر شكري خطاب واطسون، الذي نسخته. إنه خطاب رائع، وإنني ممتن لك للغاية لحصولك لي على تلك المعلومات القيمة. لا شك أنه قد تعجل بقوله إن الضروب الوسيطة لا بد بالضرورة أن تكون نادرة، وإلا فقد تعتبر أنماط أنواع؛ فهو يغفل عن التواتر العددي كأحد العناصر. بالتأكيد إذا كان أ وب وج ثلاثة ضروب، وإذا كان أ هو الأكثر انتشارا بدرجة كبيرة (ومن ثم عرف أولا أيضا)، فسيعتبر هو النمط، دون الالتفات إلى ما إذا كان ب وسيطا تماما أم لا، أو ما إذا كان نادرا أم لا. يا للمقالات الرائعة التي سيكتبها دبليو! لكنني أعتقد أنه كتب الكثير في دورية «ذا فايتولوجيست». لا بد أن تشجعه على النشر حول التباين؛ إنه من العار أن تظل حقائق مثل تلك التي في خطابه دون نشر. يجب أن أجعلك تعرفني إليه؛ هل سيكون رجلا لطيفا واجتماعيا بحيث يذهب معنا إلى دروبمور؟ [إنه يقصد الرحلة التي كانا يخططان لها أثناء أسبوع اجتماع الجمعية البريطانية في أكسفورد عام 1847.] رغم أنه إذا جاء، فيجب ألا يأتي فوربس (وأعتقد أنك تحدثت عن دعوة فوربس)، وإلا فسنشهد معركة كبرى. سأود أن أرى يوما ما مراسلات الحرب. هل لديك مجلدات دورية «ذا فايتولوجيست»، وهل يمكنك الاستغناء عنها لبعض الوقت؟ سوف أتصفحها سريعا ... لقد قرأت أعدادك الخمسة الأخيرة [من عمله عن الجانب النباتي لرحلته إلى القطب الجنوبي]، وكالعادة أثارت عدة نقاط اهتمامي الشديد، خاصة مناقشاتك حول أشجار الزان والبطاطس. ورأيت أنك قدمت عدة عبارات ضدنا نحن مؤيدي نظرية تحول الأنواع. كذلك كنت أتصفح المجلدات الأخيرة من مجلة «أنالز أوف ناتشورال هيستوري»، فقرأت بحثين يتسمان بالعبارات الطنانة والافتقار للروح بقلم - وهما يليقان تماما بمؤلف كتاب ... إن التناقض بين الأبحاث التي في هذه المجلة وتلك التي في نظيرتها الفرنسية مخز إلى حد ما؛ فهناك كثير من الأبحاث في الأولى، بأوصاف قصيرة للأنواع، ودون كلمة واحدة حول علاقاتها، أو تراكيبها الداخلية، أو توزيعها أو عاداتها. أنا الآن أقرأ كتابا ل ... وهناك بعض الأشياء التي أثارت اهتمامي فيه، لكنه يبدو لي مملا بعض الشيء، وكل مفرداته الطبية والدوائية تذكرني بعيادة الطبيب. سأظل للأبد كارها لذكر هذه المفردات، وهذا الكره قد بدأ منذ حضوري لمحاضرات دانكان التي كانت تعقد في الساعة الثامنة في صباح أيام الشتاء - فقد كانت ساعة كاملة باردة دون إفطار حول خواص مواد مثل الراوند!
أرجو أن تكون رحلتك مثمرة للغاية. إليك صادق مودتي يا عزيزي هوكر.
صديقك إلى الأبد
سي داروين
ملحوظة:
أعتقد أنني لم أكون سوى صداقة واحدة جديدة مؤخرا، وهي صداقة آر تشيمبيرز؛ وقد تلقيت للتو نسخة من الطبعة السادسة لكتاب «بقايا». وأشعر الآن باقتناع تام على نحو ما أنه هو المؤلف. إنه في فرنسا، ويراسلني من هناك.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [1847؟] ... يسرني ما سمعته عن اعتقاد برونيار أن السيجلاريا نبات مائي، وأن بيني يعتبر الفحم نوعا من الخث تحت المائي. أراهن بخمسة مقابل واحد أن هذا الأمر سيصير معترفا به بوجه عام خلال عشرين عاما [وهي نبوءة لم تتحقق]، ولا أكترث لأي صعوبات أو تعذرات متعلقة بعلم النباتات في هذا الشأن. إن كان بإمكاني إقناع نفسي أن السيجلاريا ومثيلاتها تمتعت بنطاق كبير من العمق؛ بعبارة أخرى، كانت تستطيع العيش على عمق يتراوح من خمس لمائة قامة تحت الماء، فستنكشف كل الصعوبات بكل أنواعها تقريبا (استنادا للحقيقة البسيطة التي مفادها أن البحر الضحل العادي الموحل يدل على القرب من اليابسة). (ملحوظة: ينتابني الضحك حين أتخيلك وأنت تتهكم بشأن هذا طوال هذا الوقت.) وعدم وجود أصداف في الفحم ليس بالمشكلة الكبيرة، إذا وضعنا في الاعتبار أن عمق الوحل لا يناسب أغلب الرخويات، وأن الأصداف غالبا ستتآكل من حمض الهيوميك، كما يبدو أنه حدث في الخث وفي العفن «الأسود» (كما يخبرني لايل) الذي في نهر المسيسيبي. وهكذا تكون مسألة الفحم قد حسمت - وهو المطلوب إثباته. ولتتهكم بعيدا!
أشكرك شكرا جزيلا على خطاب الترحيب الذي أرسلته من كامبريدج، وإنني مسرور أن جامعتي لاقت استحسانك، وهي التي أحتقرها من أعماقي كمكان للتعليم، ولكن أحبها للذكريات السعيدة الكثيرة التي لي هناك ...
شكرا على عرض إعارة «ذا فايتولوجيست»؛ سأكون ممتنا للغاية لذلك؛ فلا أعتقد أنني قد أستطيع اقتراضها من أي شخص آخر. لن أنخدع كثيرا بثنائك، لكنني لا أعتقد أنني أضعت كتابا قط أو سهوت عن إرجاعه لفترة طويلة من الزمن. إن كتاب «ويب» الخاص بك غلف جيدا، وكتب عليه اسمك بحروف كبيرة «من الخارج».
وصل مجهري الجديد («لعبة مذهلة» كما يدعوه المحنك آر براون)، وإنني سعيد به؛ فهو حقا لعبة مذهلة. لقد بقيت في لندن مدة ثلاثة أيام ، ورأيت العديد من أصدقائنا. كذلك أحزنني كثيرا سماعي خبرا غير طيب عن السير ويليام. الوداع يا عزيزي هوكر، ولتكن فتى مطيعا، وعد السيجلاريا من النباتات تحت المائية.
صديقك إلى الأبد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [6 مايو، 1847]
عزيزي هوكر
لقد هاجمتني هجوما شرسا، ولا بد أن أحاول الدفاع عن نفسي. لكن أولا اسمح لي أن أقول إنني لم أكتب إليك قط إلا من أجل مسرتي الخاصة؛ والآن أخشى أن ترد علي وأنت منشغل ودون رغبة (وإنني على يقين أنني ما كان ليصير لدي أي رغبة في الكتابة إن كنت في انشغالك). أرجوك لا تفعل ذلك، وإن خطر لي أن كتابتي تستلزم منك ردا سواء شئت أم أبيت، فستتحطم كل السعادة التي أشعر بها في الكتابة إليك. أولا، لم أعتبر خطابي «استدلالا» أو حتى «افتراضا»، وإنما ببساطة تمرد ذهني؛ فبينما كنت أرسل بحث بيني، بحت لك بنتيجة قراءته. ثانيا، أنت على حق، بالتأكيد، في اعتقادك أنني مجنون، إذا كنت تفترض أنني قد أصنف أي سراخس كنباتات بحرية؛ لكن بالطبع ثمة بون شاسع بين النباتات التي يعثر عليها قائمة في طبقات الفحم وتلك التي ليست قائمة، والتي ربما تكون قد انجرفت. أليس جائزا أن تكون نفس الظروف التي حفظت الغطاء النباتي في موضعه الأصلي، هي التي حفظت النباتات المنجرفة؟ أعلم أن نباتات الكالاميت يعثر عليها قائمة؛ لكني أعتقد أن النباتات القريبة الصلة بها مبهمة جدا؛ مثل السيجلاريا. أما بالنسبة للنباتات الحرشفية، فقد نسيت وجودها، كما يصير حين يتمرد الشخص، وأنا الآن لا أدري ما هي، ولا إذا كانت قائمة أم لا. إن كانت هذه النباتات؛ أي نباتات الكالاميت والنباتات الحرشفية، «قريبة الصلة جدا» من الخضروات الأرضية، كما هو الحال مع السراخس، ووجدت قائمة في موضعها الأصلي، فلا بد بالطبع أن أتخلى عن رأيي. لكن السيجلاريا هي النبات المنتصب الرئيسي بالتأكيد، وقد سمعتك تبالغ بشأن قريباتها المبهمة.
ثالثا، لم يطرأ على بالي قط التقليل من قيمة الدليل المتعلق بعلم النبات لحساب الدليل المتعلق بعلم الحيوان؛ إلا في حدود اعتقادي أنه من المسلم به أن التكوين النباتي قلما أعطى دليلا على قرابة أقرب من تلك التي بين الفصائل، وهذا ليس دائما. أليس من الخطر الحكم على العادات في النباتات، كما هو في الحيوانات بالتأكيد، بدون وجود قرابة وثيقة جدا؟ هل يستطيع عالم النبات أن يعرف من التكوين وحده أن فصيلة المانجروف، هي الوحيدة تقريبا أو تماما من النباتات ذوات الفلقتين، التي تستطيع العيش في البحر، وكذلك الحال بالنسبة لفصيلة الزوستيرا من بين النباتات ذوات الفلقة الوحدة؟ هل هي حجة سليمة أنه بما أن الطحالب هي تقريبا النباتات البحرية الوحيدة المغمورة، فإن المجموعات الأخرى المنقرضة لم يكن بها أعضاء لها مثل هذه العادات؟ تلك الحجة لن تكون حاسمة مع الحيوانات، وأستطيع إثبات ذلك بعدة أمثلة؛ لكنني أشعر أنني بدأت الآن أسيء إلى نفسي؛ فأنا لا أريد سوى الدفاع عن نفسي بعض الشيء، لا أن أجر على نفسي الخسائر بالهجوم عليك. إن أساس خطابي، ورأيي المدروس، رغم أنني أحسب أنك ستعتقد أنه غير معقول، هو أنني قد أعتمد بالأحرى على الدليل الجيولوجي البحت، مع تساوي الأدلة الأخرى، عن الدليل المتعلق بعلم الحيوان أو علم النبات. ولا أعني أنني سأعتمد قريبا على الدليل الجيولوجي «الضعيف» بدلا من الدليل الحيوي «الجيد». أعتقد أن أساس الاستدلال الجيولوجي المحض (الذي يتعلق في معظمه بتأثير الماء على قشرة الأرض، وحركاتها لأعلى وأسفل) أبسط من الأساس المستخلص من الموضوع الصعب المتعلق بالصلات والبنية وذلك فيما يتعلق بالعادات. بالكاد أستطيع تحليل الحقائق التي بلغت بها هذا الاستنتاج، لكن يمكنني التدليل عليه. إن رؤية بالاس ستؤدي بأي شخص لافتراض أن الطبقات السيبيرية، التي تجمدت بها هياكل الحيوانات، قد ترسبت سريعا؛ ومن ثم فإن تلك الحيوانات كانت تعيش في المناطق المجاورة؛ لكن معلوماتنا المستقاة من علم الحيوان منذ ثلاثين عاما جعلت الجميع يرفضون على نحو خاطئ هذا الاستنتاج.
لتخبرني أن السراخس القائمة في موضعها الأصلي توجد مع نباتات السيجلاريا والاستجماريا، أو أن علاقات القرابة بين نباتات الكالاميت والنباتات الحرشفية (بافتراض أنهما يعثر عليهما في موضعهما الأصلي مع نباتات السيجلاريا) «واضحة» جدا، حتى إنه من غير الممكن أنهما كانتا بحريتين، كما هو الحال لكن بدرجة أكبر مع المانجروف والأعشاب البحرية، وسوف أعتذر لك ولكل علماء النبات بكل خنوع لسماحي لعقلي بأن يجمح في موضوع لا علم لي به بالتأكيد. لكن حتى أسمع هذا، سأظل محتفظا برأيي سرا بنفس التشبث وكما ستعتقد، بنفس الروح الفلسفية التي يؤكد بها كينيج أن آثار أقدام التشيروثيريوم طحالب فوكوس.
لا أعلم ما إن كان هذا الخطاب سيسقطني أكثر من نظرك، أم سيصلح موقفي قليلا، لكنني أرجو الأخير. على أي حال، لقد ثأرت لنفسي بإصابتك بالضجر بخطاب طويل جدا. الوداع، ولتكن متسامحا معي.
صديقك للأبد
سي داروين
ملحوظة:
متى ستعود إلى كيو؟ لقد نسيت أحد الأغراض الرئيسية من خطابي، وهو أن أشكرك شكرا «جزيلا» على عرضك إعارتي دورية «جورنال أوف ذا هورتيكالتشرال سوسايتي»، لكنني طلبت العددين. [المقتطفان التاليان [1847] يشيران لاستمرار معركة الفحم وحسمها.
بالمناسبة، حيث إن الفحم تحت المائي قد جعلك في غاية السخط، فقد فكرت في اختبار الأمر مع فالكونر وبانبري [الراحل السير سي بانبري، الذي اشتهر بصفته عالم حفريات نباتية] معا، وهو ما جعلهما أكثر سخطا وشراسة؛ «لا بد لي أن أخرج هذا الهراء الملعون من رأسي.» كان بانبري أكثر تهذيبا واحتقارا. وهكذا صرت الآن أعلم كيف أثير سخط أي عالم نبات وأختال عليه. أتساءل ما إذا كان هناك أمور يمكن أن تثير سخط علماء الحيوان والجيولوجيين؛ ليتني أستطيع معرفة ذلك.
لا أملك سوى شكرك على خطابك الشديد الرقة. أرجوك لا تعتقد أنني انزعجت من خطابك؛ فقد أدركت أنك كنت تفكر بانفعال، وبالتالي عبرت عن مكنونك بغلظة، وقد تفهمت هذا. معاذ الله أن أكون رجلا يزن كل تعبير بحرص رجل اسكتلندي. أتمنى لك من كل قلبي النجاح في معضلتك النبيلة، أما أنا، فأتوق بشدة لإجراء بعض الحديث معك وسماع رؤيتك النهائية.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر [وهو عبارة عن أجزاء من خطابين ]
داون [أكتوبر، 1847]
أهنئك تهنئة حارة على اكتمال استعداداتك، مع تمني مزيد من التوفيق في المستقبل. سوف تكون رحلة ومهمة نبيلة، لكن أتمنى لو كانت قد انتهت؛ إذ سوف أفتقدك على المستوى الشخصي وعلى كل المستويات لدرجة فظيعة ... إنني في حيرة بالغة حيال السبيل للقائنا ... أعي جيدا أنه لا بد أنك منشغل لدرجة فظيعة. إن كنت «لا تستطيع» أن تأتي إلى هنا، فلا بد أن تسمح لي بالمجيء إليك لليلة؛ فيجب أن تكون لي معك دردشة أخرى وعراك آخر حول الفحم.
بالمناسبة، لقد حاولت أن أحث لايل (الذي ظل مقيما هنا معي عدة أيام) على أن يقدم لي نظريته حول الفحم؛ إن ما أتى به عن الكنباث «القائم» السرئي رهيب بالنسبة لنظريتي عن النباتات التحت مائية. سأموت مطمئنا أكثر إن وجد لي أحد حلا لمسألة الفحم. يخطر لي أحيانا أنه لا يمكن أن يكون الفحم قد تكون على الإطلاق. قال لي السير أنتوني كارلايل العزيز ذات مرة بجدية، إنه يعتقد أن البهضم وما شابهه من الحيوانات قد أرسلت من السماء لمعرفة ما إذا كانت الأرض ستوفر لها سبل العيش؛ وإنني أعتقد أن الفحم قد انهمر من السماء ليوقع البشر في حيرة. يجب أن تبحث مسألة الفحم جيدا في الهند.
صديقك إلى الأبد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر [6 نوفمبر، 1847]
عزيزي هوكر
تلقيت للتو خطابك بحزن شديد؛ فلا حيلة لنا في ذلك. سأظل دائما أرى نيتك المجيء إلى هنا، في ظل تلك الظروف، باعتبارها أعظم برهان على الصداقة تلقيته على الإطلاق من أحد البشر. كان ضميري سيؤنبني لعدم ذهابي إليك يوم الخميس، لكنني لم أستطع؛ حيث لم أكن قادرا بتاتا على ترك شروزبيري قبل ذلك اليوم، ولم أرجع للبيت إلا ليلة أمس، وقد بلغ مني الإنهاك مبلغه. إذا لم يصلني خطاب غدا منك (وهذا بالكاد ممكن)، وإذا كنت على ما يرام، فسأستقل عربة إلى كيو صباح الاثنين، فقط لأودعك. وسأمكث لساعة فقط ...
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر [نوفمبر، 1847]
عزيزي هوكر
إنني متوعك جدا، وغير قادر على فعل أي شيء. أرجو حقا ألا أكون قد ضايقتك. كنت في حال سيئ جدا طوال أمس، حتى إنني سررت أنك لم تكن هنا؛ فقد كنت سأشعر بمرارة شديدة لو كنت لدي هنا دون أن تستمتع بيومك الأخير معي. والآن لن أراك. الوداع، وليباركك الرب.
صديقك المحب
سي داروين
سوف أكتب إليك في الهند.
في عام 1847 ظهر مقال للسيد دي ميلن، [الذي يدعى الآن السيد ميلن هوم] انتقد فيه عمل أبي بشأن جلين روي، وهذا هو المشار إليه في الاقتباس المميز التالي من خطاب لأبي إلى السير جيه هوكر: «كنت في حالة سيئة للغاية طوال الأيام القليلة الماضية، لاضطراري إلى التفكير في جلين روي والكتابة عنها كثيرا ... فقد هاجم السيد ميلن نظريتي، مما أزعجني لدرجة مروعة.» لم أستطع العثور على أي رد منشور على كلام السيد ميلن؛ لذا أعتقد أن «الكتابة» المذكورة اقتصرت على خطابات. لم يكن بحث السيد ميلن هادما لبحث جلين روي، وهذا ما يقر به أبي في الاقتباس التالي من خطاب إلى لايل (مارس، 1847). إن الإشارة إلى تشيمبيرز لها ما يفسرها، وهو أنه اصطحب السيد ميلن في زيارته إلى جلين روي. «جعلت آر تشيمبيرز يعطيني موجزا لآراء ميلن حول جلين روي، ثم أعدت قراءة بحثي، والآن بعد سماعي ما لديه ليقوله، أنا حتى لم أندهش؛ فمن المثير للسخط والإهانة أن تجد أن تشيمبيرز لم يقرأ بحثي حول هذا الموضوع بأي اهتمام، أو حتى يطالع الخريطة الملونة، وبذلك لم يبحث عن الرصيف الجديد الذي وصفته، ولم تعط الحجج أو الحقائق المتعلقة بالتفاصيل التي قدمتها أقل قدر من الاهتمام. لقد كنت مستسلما تماما، ومخلوع الفؤاد إلى حد ما في الجمعية الجيولوجية، حتى طمأنتني وذكرتني بالحقائق الرئيسية في القضية كلها.»
الخطابان التاليان إلى لايل، وإن كانا بتاريخ لاحق (يونيو، 1848)، يتعلقان بنفس الموضوع:
كنت في الاجتماع المسائي [للجمعية الجيولوجية]، لكنني لم أكن على مقربة منك . كم جعل - من نفسه أحمق (وإن كان لا بد أن أقول إنه أحمق مسل للغاية). لقد جاء حديثك بعده منعشا للأذهان، وقد أحسن فوكس (ابن عمي) وصفه في بضع كلمات بقوله: «يا له من تناقض!» لقد بدا لي كلامك افتراضا ممتازا حول هبوط التكوينات الويلدنية. لم أسمع ما انتهيت إليه في المجلس؛ فقد كنت في إعياء وذهول تام. لقد وجدت أن سميث، الذي من منطقة جوردان هيل، لديه رأي حتى أسوأ من رأيي بشأن كتاب آر تشيمبيرز. لقد أغضبني تشيمبيرز قليلا؛ فهو يقول إنني «أفترض» و«أجاهر باعتقادي» أن منطقة جلين روي بحرية، وإن الفكرة قد قبلت لأن «قدرة اليابس على الحركة كانت الفكرة السائدة في ذلك الوقت.» وهو يضيف بعض الخطوط «الفوقية» الضعيفة جدا إلى جلين سبين (التي رآها بالمناسبة أجاسي)، ويوضح أن ميلن وكيمب على حق في أن ثمة علامات مائية أفقية (وهي التي «ليست» على مستويات متطابقة مع تلك الخاصة بجلين روي) في أجزاء أخرى من اسكتلندا على ارتفاعات شاهقة، ويضيف حالات أخرى متعددة. هذا جل ما أضافه إلى المعلومات الخاصة بهذا الأمر. وهو لا يستولي فحسب على حجتي المتعلقة بالدعائم والشرفات التي أسفل الرصيف السفلي وبعض الحجج الأخرى (دون إشارة إلى صاحبها)، وإنما يسخر من كل سابقيه لعدم إدراكهم أهمية الأجزاء القصيرة من الخطوط الواقعة بين الخطوط الرئيسية في جلين روي؛ في حين أنني بدأت وصفها بقولي «لقد فحصتها باهتمام شديد، لما أدركته من أهميتها»، وأسهبت في الحديث عنها باستفاضة. وقد أخبرته على نحو غير مباشر أنني لا أعتقد أن له ذريعة حقيقية لاعتبار نفسه الوحيد (وهو ما يؤكده بطريقة مباشرة نوعا ما) الذي حل مشكلة جلين روي. وبالنسبة للشرفات القائمة على المستويات الأقل ارتفاعا والمتطابقة في الارتفاع في جميع أنحاء اسكتلندا وإنجلترا، فإنني أميل للاعتقاد أنه أعطى احتمالا قليلا لوجود بعض الشرفات الرئيسية المتطابقة، لكن يلزم وجود دليل دقيق على ذلك. هل تجد ذلك معقولا؟ إنه يفترض كتفسير محتمل لارتفاع بريطانيا العظمى أنه في أحد المحيطات الكبرى سقط واحد على عشرين من قاع السطح المائي كله (لا يقول أين ذلك) مسافة نصف ميل، وهو ما نجم عنه ارتفاع ظاهر حسبه بمقدار مائة وثلاثين قدما.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون [يونيو، 1848]
عزيزي لايل
من باب إنصاف تشيمبيرز أنا مضطر لإزعاجك بهذا الخطاب لأقول إنه، في حدود ما يخصني شخصيا في مسألة جلين روي، قد اعتذر اعتذارا رسميا، ويقر بما اقترفه من خطأ غير مقصود باستيلائه على اثنين من الحجج والحقائق التي تخصني دون الاعتراف بذلك. وختم كلامه بقوله إنه «بلغ نفس النقطة عن طريق سلك مسار بحثي مستقل، مما يغفر إلى حد ما هذا السهو.» وينم خطابه برمته عن نية طيبة جدا؛ إذ يقول إنه «مغتبط للغاية بالثناء «الحذر» الذي أسبغته عليه، إلخ.» إنني سعيد بحق أنني استطعت أن أقول بأمانة إنني اعتقدت أنه قد أسدى خدمة جليلة باستدعاء المزيد من الاهتمام إلى موضوع الشرفات. وهو يعترض قائلا إنه ليس من العدل القول بأن نظرية سقوط البحر نظريته؛ فهو دائما ما يتحدث بحذر عن وجود تغير في المستوى فقط، وهذا صحيح تماما؛ لكن القسم الذي يوضح فيه كيف يتصور احتمال سقوط البحر مثير جدا للدهشة، حتى إنني أعتقد أنه سيبدو بالنسبة لي، كما هو الحال بالنسبة للآخرين، متناقضا جدا مع حذره السابق. أرجو أن يجد كتابه لديك استحسانا أكثر مما وجده لدي.
مع إخلاصي الشديد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
6 أكتوبر، 1848 ... كنت أحاول مؤخرا إثارة حملة (لكنني لن أنجح، وقطعا أشك إن كان لدي الوقت والقوة لمواصلتها)، ضد ما يفعله علماء التاريخ الطبيعي من إلحاق اسم «أول» واصف لأي نوع باسم النوع للأبد. أرى هذا كمكافأة فورية على عمل متسرع؛ على «التسمية» وليس «الوصف». يجب أن يكون للنوع اسم معروف جيدا بحيث تكون معه إضافة اسم الكاتب أمرا لا داعي له، و[نوعا] من الغرور الأجوف. وليس من المقبول في الزمن الحاضر إعطاء أسماء نوعية فحسب؛ لكن أعتقد أن علماء الحيوان ربما يفتحون المجال لحذف هذه الأسماء، بالإشارة إلى كتاب تصنيفيين أكفاء بدلا من الواصفين الأوائل. أعتقد أن علم النبات لم يعان فيما يتعلق بالتسمية بقدر معاناة علم الحيوان؛ فالشخصيات مغمورة أكثر، لحسن الحظ. هل فكرت في هذه النقطة من قبل؟ لماذا يلحق علماء التاريخ الطبيعي أسماءهم بأسماء الأنواع الجديدة، في حين أن علماء المعادن والكيمياء لا يفعلون هذا بالمواد الجديدة؟ أرجو أن تبلغ فالكونر مودتي عند الكتابة إليه. إنني في أشد الأسف على ما سمعته من أنه مريض. فليباركك الرب يا عزيزي هوكر، وأرجو لك التوفيق.
صديقك المخلص
سي داروين
من تشارلز داروين إلى هيو ستريكلاند [هيو إدوين ستريكلاند (1811-1853)، واضع النظام الشهير الخاص بتسمية الكائنات في علم الحيوان، الذي لا تزال مبادئه متبعة بوجه عام]
داون، 29 يناير [1849] ... يا لها من مهمة التي اضطلعت بها! إنني «أجل» بالفعل حماسك المتفاني في سبيل مجال علوم التاريخ الطبيعي. هل لديك نسخة «إضافية» من قواعد التسمية التي نشرت في «محاضر اجتماعات الجمعية البريطانية»؟ إذا كانت لديك، وستعطيني إياها، فسوف أكون ممتنا حقا؛ فإنني آبى شراء المجلد بالكامل من أجلها. لقد وجدت القواعد مفيدة جدا؛ فمما يبعث على الاطمئنان تماما أن يكون لديك شيء تستند إليه في بحر التسمية المضطرب (ومن ثم، فإنني ممتن لك)، رغم أنني أجد أن الالتزام بها دائما شديد الصعوبة. ولديك هنا حالة (وأعتقد أنه كان يجب الالتفات إليها عند وضع القواعد)؛ حيث إن أسماء الكورونولا والسينيراس
Cineras
والأوشن
Otion
استخدمها كوفييه ولامارك وأوين، وتقريبا «كل» الكتاب المعروفين، لكنني أجد أن أحد الألمان قد استبق تلك الأسماء الثلاثة جميعا بأسماء أخرى؛ إذن أعتقد أنني إن كنت سأتبع قاعدة الأسبقية الصارمة، فالضرر الذي سينجم عن ذلك أكثر من النفع، ولا سيما أنني متأكد أن الأسماء الجديدة المفترض استخدامها لن تستخدم. أعتقد أنني أرفض تطبيق قاعدة الأسبقية في هذه الحالة؛ فهل تجد غضاضة في أن ترسل إلي رأيك بهذا الشأن؟ لقد جعلتني الظروف مؤخرا أفكر كثيرا في موضوع التسمية، وقد وصلت إلى رأي راسخ بأن نهج إلحاق اسم المكتشف الأول لأي نوع للأبد باسم هذا النوع، كان أكبر لعنة حلت على علوم التاريخ الطبيعي. ومنذ بضعة شهور، كتبت البحث الرديء المرفق، معتقدا أنني ربما أثير الموضوع، لكن حماسي تلاشى، ولا أعتقد أنني سأكرر هذا أبدا؛ وإنني أرسله إليك لعله يحظى باهتمامك لمطالعة أفكاري. لقد أدهشني أن أجد أثناء حديثي مع علماء التاريخ الطبيعي أن العديد منهم يرون تقريبا ما أرى في هذه المسألة. وإنني واثق أنه ما دام يرضى غرور «تجار الأنواع» بأن يروا أسماءهم تضاف للأنواع؛ لأنهم وصفوها على نحو بائس في سطرين أو ثلاثة، فسيصير لدينا نفس الكم «الهائل» من العمل السيئ الذي لدينا الآن، وهو ما يكفي ليثبط همة أي رجل لديه استعداد لأن يهب أي فرع من العلم اهتمامه ووقته. إنني أجد لكل جنس من هدابيات الأرجل ستة أسماء، لكن لا يوجد وصف دقيق واحد لأي نوع في أي من الأجناس. ولا أعتقد أن الحال كان سيصبح هكذا لو كان كل رجل يدرك أن تخليد ذكرى اسمه يتوقف على تأديته عملا على أكمل وجه، ولا يقتصر على إضافة اسم إلى بضعة سطور هزيلة تشير إلى القليل من الصفات الخارجية البارزة فحسب. لكنني لن أرهقك بالمزيد من الخطابة المستفيضة. فلتقرأ بحثي أو لا تقرأه، فلتفعل ما يحلو لك، وأرجعه متى أردت.
صديقك الوفي جدا
سي داروين
من هيو ستريكلاند إلى تشارلز داروين
ذا لودج، تيوكسبيري، 31 يناير، 1849 ... علي بعد ذلك تأمل اعتراضك الثاني - وهو أن الاحتفاظ باسم المكتشف «الأول» للأبد مع اسم النوع، هو مكافأة على عمل متسرع وغير متقن. هذه المسألة مختلفة تماما عن مسألة قاعدة الأسبقية نفسها، ولم يخطر على بالي قط، رغم أنه يبدو محتملا للغاية، أن التطبيق العام لهذه القاعدة قد تنتج عنه تلك النتيجة. لا بد أن نحاول مواجهة هذا الشر بطريقة أخرى.
ليس الهدف من إضافة اسم أحد الرجال لاسم أحد الأنواع إشباع غرور هذا الرجل، وإنما تحديد النوع بدقة أكثر. أحيانا يعطي رجلان، بالصدفة، نفس الاسم (كل منهما على حدة) لنوعين من نفس الجنس. والأكثر تواترا أن يخطئ كاتب لاحق في استخدام الاسم النوعي لكاتب سابق له؛ ومن ثم فإن حلزون هيليكس بوتريس
Helix putris
الخاص بمونتاجو ليس هو حلزون هيليكس بوتريس الخاص بلينيوس، رغم أن مونتاجو افترض أنه كذلك. في حالة كهذه لا يمكننا الاكتفاء باسم هيليكس بوتريس فقط، وإنما يجب إضافة اسم المؤلف الذي نقتبس كلامه. لكن إن كان النوع لم يكن له سوى اسم واحد فقط (مثل غراب القيظ)، ولم يحمل أي نوع من الغربان نفس الاسم، فمن غير الضروري، بالتأكيد، أن نضيف اسم المؤلف. لكن حتى في هذه الحالة أفضل إضافة اسم لينيوس لاسم الطائر لأنه يذكرنا أنه أحد الأنواع القديمة، المعروفة منذ زمن طويل، ويمكن العثور عليها في كتاب «نظام الطبيعة» وغير ذلك؛ ولذلك أخشى أنه (على الأقل إلى أن يصير نظام التسمية الخاص بنا أكثر استقرارا على نحو تام) سيكون من المستحيل تحديد الأنواع بدقة علمية، بدون إضافة اسم كاتبها الأول. يمكن بالتأكيد أن تفعل هذا بالطريقة التي تقترحها، بأن تقول مثلا «في كتاب لامارك عن اللافقاريات»، لكن عندئذ لن يكون هذا متفقا مع قانون الأسبقية؛ إذ لا يمكن استخدام اسم لامارك، ما دام قد خرق ذلك القانون. إلا أنه مما يساهم في تحقيق درجة كبيرة من الدقة في التحديد أن تضيف إلى الاسم النوعي (الأقدم) إشارة «واحدة» مناسبة إلى عمل نموذجي، وحبذا إن كان إلى شخصية بارزة، مع مرادف إذا لزم الأمر. قد تكون هذه الطريقة مرهقة، لكن الإرهاق أقل شرا كثيرا من عدم اليقين.
كما أنه يبدو بالكاد ممكنا أن نطبق مبدأ الأسبقية، دون المساعدة التاريخية التي تسديها إضافة اسم الكاتب إلى الاسم النوعي. إذا أطلقت أنا، أحد المنادين بقاعدة الأسبقية، على نوع ما اسم سي دي، فهذا يوحي بأن سي دي هو أقدم اسم أعرفه؛ لكن حتى يمكن لك ولآخرين الحكم على صلاحية الاسم، فيجب أن تعرف من الذي صك الاسم أولا ومتى. أما إذا أضفت للاسم النوعي سي دي الاسم إيه بي، اسم واصفه الأول ، فسأمدك في الحال بدليل عن التواريخ التي أعطي خلالها هذا الوصف، والكتاب التي ذكر فيه، وبهذا أساعدك في تحديد ما إذا كان سي دي هو بحق الأقدم، ومن ثم التسمية الصحيحة.
إلا أنني أقر بأن مبدأ الأسبقية (رغم جدارته)، ينزع، عند إضافة اسم الكاتب، إلى التحريض على الغرور والعمل غير المتقن. ورغم ذلك أعتقد أن ثمة الكثير مما يمكن فعله لإحباط تلك التعريفات المبهمة وغير المرضية التي شكوت منها عن وجه حق، عن طريق «التشهير» بتلك الممارسة. لندع علماء التاريخ الطبيعي الأفضل استعدادا يعترضون رسميا على كل التعريفات المبهمة والمرسلة وغير الملائمة للأنواع الجديدة (المفترضة). ولندع لجنة (تابعة للجمعية البريطانية مثلا) تعين لإعداد قائمة بمختلف الأعمال الحديثة التي وصفت فيها أنواع جديدة، مع ترتيبها وفقا للجدارة. وسيضم المستوى الأدنى فيها أسوأ الأمثلة في هذا الشأن، وبهذا سيتعرض مؤلفوها للخزي الذي يستحقونه، وسيشهر بهم كرادع ليتعظ أولئك الذين قد يأتون بعدهم.
هكذا أكون قد أعربت عن آرائي بصراحة (وكما أرجو، على نحو مفهوم) عما يبدو الحل الأفضل في الحالة الانتقالية والخطيرة الحالية للتصنيف في علم الحيوان. يتدافع نحو المجال عدد لا يحصى من العاملين، الذين الكثير منهم غريبو النزعات وأنصاف متعلمين، وأعتقد أن الجيل الحالي ملقى على عاتقه مسئولية ما إن كان العلم سيئول للأجيال المستقبلية على هيئة كتلة مشوشة أم تحكمه بعض القواعد والتنظيم. لو كان باستطاعتنا تكوين مجلس نواب من الكيانات العملية الرئيسية في أوروبا وأمريكا، لكان من الممكن فعل شيء، لكن مما يبدو عليه الحال، أقر أنني لا أرى نفسي قادرا على فعل شيء يتعدى محاولة متواضعة للقيام بالخطوة الأولى في عملية الإصلاح.
صديقك إلى الأبد
إتش إي ستريكلاند
من تشارلز داروين إلى هيو ستريكلاند
داون، الأحد [4 فبراير، 1849]
عزيزي ستريكلاند
إنني حقا «شديد» الامتنان لك، على خطابك المستفيض والشائق للغاية والواضح، وعلى التقرير أيضا. سوف أنظر في حججك، ذات الأهمية الشديدة، لكن أقر مع ذلك أنني لا أستطيع أن أحمل نفسي على رفض أسماء «معروفة» جدا، ليس في بلد «واحد» فقط، ولكن حول العالم، مقابل أسماء مجهولة؛ فقط لأنني لا أظن أن أحدا سيحذو حذوي. أرجو أن تصدق أنني لن أخرق قانون الأسبقية إلا في حالات نادرة. هلا قرأت المرفق (وأعدته لي)، وأخبرني ما إذا كان لا يصيبك بالدهشة! (ملحوظة: «أعدك» أنني لن أسبب لك المزيد من المتاعب.) أريد إجابات بسيطة، وأرجو ألا تهدر وقتك في ذكر أسباب؛ إنني متلهف لإجابتك بشأن حيوان بلوط البحر. لقد طرحت مسألة الأوشين ... إلخ، على دابليو تومسون، المتعصب لقانون الأسبقية، واستسلم بشأن هذه الأسماء المعروفة. إنني في متاهة تامة من الشك حيال نظام التسمية؛ فلا يوجد في جنس هدابيات الأرجل الكبير «أي» نوع معرف تعريفا صحيحا؛ فالتعرف على أي نوع هو مسألة تخمين محض (يسترشد فيه بالتوزع والشيوع والعادات)؛ هكذا بالكاد أستطيع معرفة أي من هدابيات الأرجل الجالسة البريطانية من الرسوم أو الأوصاف. لا يمكنني تحمل إعطاء أسماء جديدة لكل الأنواع، لكنه ربما سيكون من الخطأ أن أعطي أسماء قديمة بالتخمين فحسب؛ في الوقت الحالي ليس لدي أدنى فكرة أي من النوعين كان يقصد؟ كل الكتاب باسم أناتيفيرا لافيس
Anatifera lævis ؛ لذلك فقد أعطيت ذلك الاسم للنوع الأكثر شيوعا بعض الشيء. في واقع الأمر، لا يوجد أي نوع موصوف وصفا دقيقا؛ فلم يتكبد أي عالم تاريخ طبيعي مشقة أن يفتح صدفة أيا من الأنواع ليصفها وصفا علميا، ورغم ذلك كل الأجناس لديها نصف دزينة من الأسماء المرادفة. لنفترض «جدلا» أنني أؤدي عملي بدقة تامة، لكن تصادف أن شخصا أعطى أسماء للعينات الأصلية، لنقل مثلا شونو، الذي رسم مئات الأنواع وأسماها، وهكذا فهو سيستطيع أن يلغي كل أسمائي وفقا لقانون الأسبقية (فهو قد يؤكد أن الأوصاف التي أعطاها كافية)؛ فهل تعتقد أنه من المفيد للعلم أن يحدث هذا؟ أنا لا أعتقد ذلك، وأعتقد أن الفائدة والجدارة (اللتين أذكرهما جدلا فحسب) كان لا بد أن يكون لهما دور. إن الموضوع يفطر القلب.
أرجو أن تقلب في رأسك من حين لآخر الحجة التي سقتها عن الضرر الناتج عن إلحاق اسم المكتشف بالأسماء النوعية؛ أستطيع أن أرى بوضوح شديد الضرر «الشديد» الذي سببه ذلك، وقد وجدت بنفسي في علم المعادن أنه لا يوجد ولع بإضافة المكتشفين أسماءهم للمواد التي يكتشفونها؛ فلا يتولى أحد موضوعا دون أن ينوي أن ينهيه على أكمل وجه؛ حيث يعلم أن سبيله «الوحيد» للتميز يقوم فقط على قيامه بعمله بمهارة، ولا علاقة له على الإطلاق ب «التسمية». لكنني أسلم بإحدى النقاط، وأقر بأن الإشارة لاسم الواصف الأول لا بد أن تحدث في كل الأعمال التصنيفية، لكنني أعتقد أن ثمة فائدة ستجنى إذا ما ذكرت الإشارة بدون إضافة اسم الكاتب فعليا كجزء من الاسم الثنائي، وأعتقد أن الإشارة، على النحو الذي أقترحه، إلا إذا كانت في الأعمال المنهجية، من شأنها أن تقمع الغرور كثيرا. يخيل لي أن روحا فاسدة جدا تحوم في جميع أنحاء علوم التاريخ الطبيعي، كأن التقدير لا يستحقه الشخص إلا على تسمية أحد الأنواع وتعريفها؛ وأنا أعتقد أنه يستحق القليل منه أو لا يستحقه على الإطلاق. أما إذا درس أي نوع دراسة «دقيقة» وتشريحية، أو درس مجموعة كاملة دراسة تصنيفية، فالتقدير مستحق، لكنني أعتقد أن وصف أحد الأنواع وحده لا يعد شيئا، وأنه لن يقع على من يقوم بذلك «ظلم» إذا أغفلت الإشارة إليه، رغم ما يسببه ذلك من مشاكل هائلة في علوم التاريخ الطبيعي. وأرى أن أي شخص يصف أحد الأنواع لا يستحق تقديرا أكثر من التقدير الذي يستحقه النجار على صنع صندوق. إنني أتعامل بطيش وتشدد في مواجهة تجار الأنواع، أو بالأحرى في مواجهة غرورهم؛ فعملهم عمل نافع وضروري لا بد أن ينجز؛ لكنهم يتصرفون كأنهم هم الذين صنعوا الأنواع، وكأنها ملكيتهم الخاصة.
إنني أستخدم قائمة أسماء أجاسي؛ وعلى الأقل ثلثا التواريخ المتعلقة بهدابيات الأرجل خاطئة خطأ جسيما.
سوف أفعل ما بوسعي في مجال حفريات هدابيات الأرجل، وسأكون ممتنا للغاية لتزويدي بالعينات، إلا أنني لا أعتقد أن الأنواع (وبالكاد الأجناس) يمكن تعريفها بالصمامات وحدها؛ فأشكالها تتباين كثيرا في كل من الأنواع الحديثة التي فحصت، وإن وصف أحد الأنواع بالصمامات فحسب، ليشبه وصف أحد سرطانات البحر من خلال أجزاء «صغيرة» من درعه فقط، في حين أن هذه الأجزاء متباينة لدرجة كبيرة، ولا تغطي الأحشاء كما في القشريات. أقدم خالص اعتذاري على المتاعب التي سببتها لك، لكنني بالتأكيد لن أسبب لك المزيد منها.
صديقك الوفي
سي داروين
ملاحظة : في مناقشاتي مع أوين وأندرو سميث، وجدتهما ميالين كثيرا إلى التخلي عن عادة إلحاق أسماء الكتاب بالأنواع، وأعتقد أنني إذا حركت حملة في هذا الشأن، فقد أحمل قطاعا كبيرا على الانضمام إليها. اتفق دبليو تومسون معي على نحو ما، لكنه لم يكن مستعدا للتوسع في الأمر بقدر ما فعلت.
من تشارلز داروين إلى هيو ستريكلاند
داون، 10 فبراير [1849]
عزيزي ستريكلاند
مرة أخرى علي أن أشكرك شكرا حارا على خطابك. ستؤتي ملاحظاتك ثمارها إلى حد ما، وسوف أحاول أن أكون أكثر التزاما بقاعدة الأسبقية المتشددة؛ أما بالنسبة لتسمية بلوط البحر باسم «ليباس» (وهو ما لم يخطر لي)، فلا يمكنني فعله؛ فسيأبى قلمي كتابته - إنه «مستحيل». وتحدوني آمال عريضة أن تتبدد بعض الصعوبات التي أواجهها، والناتجة عن التواريخ الخاطئة في كتاب أجاسي، واضطراري لدمج عدة أجناس في جنس واحد؛ حيث إنني حتى الآن كنت ألجأ إلى المصادر الأصلية، إلا في حالات قليلة. أما بالنسبة لتطبيق أفكاري في كتابي عن هدابيات الأرجل، فلن أود فعل ذلك دون أن أحصل على موافقة الآخرين، وبطريقة علنية ما، ودون أن تكون مناسبة تماما بالطبع؛ فإنني لا أستطيع مطلقا التعرف على نوع ما دون أن يكون لدي العينة الأصلية، التي لحسن الحظ تتوفر لي في حالات عدة في المتحف البريطاني. لكنني أنوي تطبيق قناعاتي، في عدم إثبات ملكيتي أو وضع اسم «داروين» بعد اسم أنواعي، أو تقديم أسماء أي كتاب على الإطلاق في النص التشريحي؛ حيث إن الجزء التصنيفي سيفي بالغرض لأولئك الذين يريدون معرفة تاريخ أحد الأنواع بالقدر غير الكامل الذي أستطيع توضيحه .
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر [ذا لودج، مولفرن 28 مارس، 1849]
عزيزي هوكر
خطابك الذي بتاريخ 13 أكتوبر ظل بلا رد حتى هذا اليوم! يا له من رد جاحد على خطاب أثار اهتمامي للغاية، واحتوى على أشياء كثيرة ومعلومات مثيرة! لكنني مررت بشتاء قاس.
في الثالث عشر من نوفمبر، توفي أبي العزيز المسكين، ولا أحد ممن لم يعرفوه كان سيصدق أن رجلا تعدى الثالثة والثمانين من العمر استطاع أن يحتفظ بطبيعة مرهفة ومحبة للغاية، وبكل ما يتمتع به من بصيرة دون أن تشوبها شائبة حتى النهاية. كنت أثناء ذلك معتلا للغاية، حتى إنني لم أقو على السفر، مما زاد من بؤسي. حقا كنت في حالة سيئة جدا طوال هذا الشتاء ... وبدأ جهازي العصبي يتأثر، حتى إن يدي كانتا ترتعشان، وكان رأسي يدور كثيرا. ولم أكن أستطيع فعل أي شيء لمدة يوم كل ثلاثة أيام، وكنت في يأس شديد منعني من الكتابة إليك، أو فعل أي شيء إلا ما كنت مضطرا إليه. وخال لي أن حياتي في طريقها للنهاية سريعا. لكن حين سمعت بالصدفة، عن شخصين استفادا كثيرا من العلاج المائي، حصلت على كتاب دكتور جالي وقمت بالمزيد من الاستفسارات، وأخيرا انتقلت إلى هنا مع زوجتي وأبنائي وكل خدمنا. فقد استأجرنا منزلا لمدة شهرين، ونحن هنا منذ أسبوعين. لقد صرت أقوى قليلا بالفعل. يساور الدكتور جالي يقين كبير أنه يستطيع أن يعالجني، وهو ما لم يستطع فعله الأطباء العاديون بكل تأكيد. إنني على ثقة أن العلاج المائي ليس دجلا.
كم سأستمتع بالعودة إلى داون بصحة متجددة، إذا أسعدني الحظ بذلك، واستكمال عملي العزيز عن البرنقيلات. أرجو أن تسامحني على تقصيري بعدم الرد على خطابك مبكرا. لقد أثار اهتمامي لدرجة غير عادية الموجز الذي أعطيته عن رحلتك الاستكشافية الكبرى المزمعة، التي أعتقد أنك سترجع منها سريعا. كم أرجو صادقا أن يحالفها التوفيق في كل النواحي. [حين كان أبي في مصحة العلاج المائي في مولفرن، حدث له موقف مع موضوع الاستبصار، وهو ما يكتب عنه في الاقتباس التالي من خطاب إلى فوكس ، بتاريخ سبتمبر، 1850.
إنك تتحدث عن المعالجة المثلية، وهو موضوع يثير غضبي، أكثر حتى من الاستبصار. إن الاستبصار يتجاوز الإيمان، حتى إن قدرات المرء العادية تنحى جانبا، لكن في المعالجة المثلية تدخل الملاحظة والإدراك السليم في الاعتبار، وكلاهما لا بد أن يتنحيا جانبا، إذا كان للجرعات الصغيرة أن يكون لها أي تأثير على الإطلاق. كم هي صحيحة الملحوظة التي رأيتها في يوم سابق لكيتليه، فيما يتعلق بدليل الطرائق العلاجية؛ بعبارة أخرى، إنه لا أحد يعلم فيما يتعلق بالمرض ما النتيجة المترتبة على عدم فعل شيء، كمقياس للمقارنة مع المعالجة المثلية، وسائر الأشياء الأخرى المماثلة. لا أملك سوى الاعتقاد أنه عيب مؤسف في عزيزي الدكتور جالي؛ أنه يؤمن بكل هذه الأشياء. حين كانت الآنسة ... في غاية المرض، استعان بفتاة مستبصرة لتخبره بالتغيرات الداخلية، ومنوم مغناطيسي ليجعلها تنام، وأحد المعالجين المثليين، وهو الدكتور ... وعمل هو نفسه كمعالج مائي لها، والفتاة تعافت.
يتبين في فقرة من خطاب سابق لهذا إلى فوكس (ديسمبر، 1844) أنه كان على نفس القدر من التشكك بشأن موضوع التنويم المغناطيسي: «فيما يخص التنويم المغناطيسي، فالبلد بأكمله تتردد فيه حقائق أو حكايات تثير الدهشة. لقد سمعت للتو عن طفل، ذي ثلاثة أو أربعة أعوام (كنت أعرفه هو وأبويه جيدا)، نومه أبوه مغناطيسيا، وهي أولى الحقائق التي ذهلت لها. وإنني لن أصدق الأمر تماما حتى أرى أدلة قوية أو أسمع بها عن حيوانات (كما ذكر أنه ممكن) دخلت في سبات دون أن تخدر؛ بالطبع استحالة ذلك لن تثبت أن التنويم المغناطيسي لا أصل له؛ لكنها مجرد تجربة واضحة للحسم، وإنني أتعجب لعدم اختبار الأمر بأسلوب منهجي. لو كان التنويم المغناطيسي درس، كأنه علم، لما كان الأمر قد ترك حتى الزمن الحاضر «ليتم على نحو مرض»؛ حيث أعتقد أن أحدا لم يقم به. فلتأت ببعض القطط، واستعن بمنوم مغناطيسي ليجري التجربة. أخبرني أحد الرجال أنه قد نجح في التجربة، لكن تجاربه كانت مبهمة للغاية، كما هو متوقع من شخص قال إن القطط يسهل تنويمها أكثر من الحيوانات الأخرى؛ لأنها تحمل شحنات كهربائية كثيرة!».]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 4 ديسمبر [1849]
عزيزي لايل
لا يحتاج هذا الخطاب ردا، وإنني أكتبه منتشيا بالزهو. لقد أرسل لي دانا تقريره عن «الجانب الجيولوجي للبعثة الاستكشافية الخاصة بالولايات المتحدة»، وقد قرأت لتوي الجزء الخاص بالمرجانيات. أقول، بكل تواضع، «إنني مندهش من دقتي»! فإن كنت سأعيد الآن تأليف كتابي عن المرجانيات، فبالكاد سأضطر لتغيير أي جملة، ما عدا أنني كان لا بد أن أعزو للنشاط البركاني الحديث أثرا أكبر في إعاقة نمو المرجانيات. ما دمت قلت كل هذا، فيجب أن أضيف أن «تبعات» النظرية على مناطق الهبوط قد جرت معالجتها في فصل مستقل لم أصل إليه بعد، وأشك أننا سنختلف في ذلك أكثر. يتحدث دانا عن اتفاقه مع نظريتي «في أغلب النقاط»؛ وأنا لا أستطيع أن أجد نقطة يختلف فيها معي. وبالنظر إلى أنه رأى شعابا مرجانية أكثر مما رأيت لدرجة هائلة، فهذا الأمر يعطيني شعورا رائعا بالرضا. فهو يتعامل معي بلطف شديد؛ ومن ثم، فإن كبريائي في حالة تامة من الرضا.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
مولفرن، 9 أبريل، 1849
عزيزي هوكر
في صباح اليوم التالي بعد أن أرسلت لك خطابي الأخير (أعتقد في الثالث والعشرين من مارس)، تلقيت خطابيك المثيرين الحافلين بالنميمة والجيولوجيا؛ وقد تبادلت الأخير مع لايل مقابل خطابه بعد ذلك. سوف أكتب بأسلوب عشوائي حسبما ترد الموضوعات. رأيت المقال النقدي في دورية «ذا أثنيام»، ووجدت أنه كتب بنية شريرة؛ لكن الداء بالكامل يكمن في القول بأنه لم يكن ثمة جديد في ملاحظاتك بحيث تستحق النشر. لا أحد يأبه هذه الأيام للمقالات النقدية. ولي أن أذكر أن يومياتي تعرضت لبعض «القدح الشديد»، وجرى تناولها بنوع من «الغطرسة» وما إلى ذلك، حتى انتهوا إلى القول بأن العمل بدا «مكونا من قصاصات وترهات من يوميات المؤلف». أقدر جدا بحق ما تقوله، وأصدقك تماما في أن اهتمامك بالمقال محدود بما يتعلق بأبيك؛ وأن هذا «وحده» ما يجعلك ترغب في رؤية أجزاء من خطاباتك تلقى الانتباه اللائق في نفس الدورية. لقد تأملت بكل ما أوتيت من قوة ما إن كان أي جزء من خطاباتك الحالية مناسبا للنشر في دورية «ذا أثنيام» (التي ليس لي اهتمام بها؛ فهؤلاء الأوغاد حتى لم «يعيروا أي اهتمام» لأعمالي الجيولوجية الثلاثة التي أرسلتها لهم)، وقد توصلت إلى نتيجة مفادها أنه من الأفضل ألا ترسلها. يخالجني يقين، واضعا كل الظروف في الاعتبار، أنه من الأفضل ألا ترسل أي شيء إلا إن كنت ستتجشم العناء وتكتب «باهتمام» موجزا مكثفا وتاما لإحدى السمات البارزة في أسفارك. كما أن هذين الخطابين، بهما الكثير من المحتوى الجيولوجي بالنسبة لدورية «ذا أثنيام»، ويكادان يحتاجان صورا مطبوعة من قوالب خشبية. من ناحية أخرى، التفاصيل المتوفرة ليست كافية بحيث يمكن عرضها أمام الجمعية الجيولوجية. لا يساورني «أدنى شك» أن الحقائق التي لديك ذات أهمية قصوى فيما يتعلق بالنشاط الجليدي في الهيمالايا؛ لكن بدا لي أنا ولايل أن برهانك كان يجب أن يساق بوضوح أكثر ...
لقد كتبت لك منذ وقت قريب جدا حتى إنني ليس لدي شيء لأقوله عن نفسي؛ لقد منعتني حالتي الصحية عن الاستمرار في حملة ضد إضافة العلماء أسماءهم لأسماء الأنواع، وهو ما حذرتني من عواقبه. لقد عرضت بحثي على ثلاثة أو أربعة علماء تاريخ طبيعي، واتفقوا جميعا معي إلى حد ما: لو كنت متمتعا بصحتي ونشاطي، لما كنت استسلمت، [و] أعتقد أنه بمساعدة نصف دزينة من علماء التاريخ الطبيعي الأكفاء بحق، كان من الممكن فعل شيء لمواجهة الولع البائس المخزي بتسمية الأنواع. تتساءل في خطابك عن العلاقة بين «طيور الزينة الداجنة» والبرنقيلات، لكن لا يغرك الاعتقاد أنني لن أعيش حتى أفرغ من عملي عن الأخيرة، ثم أجعل نفسي أبدو أحمق في موضوع الأنواع، الذي يكون في إطاره موضوع طيور الزينة الداجنة شائقا جدا.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
ذا لودج، مولفرن [يونيو، 1849] ... لقد وصلني كتابك [«زيارة ثانية إلى الولايات المتحدة»]، وقرأت المجلد الأول كله وجزءا صغيرا من المجلد الثاني (فالقراءة هي أصعب عمل مسموح به هنا)، وقد أثار اهتمامي لدرجة بالغة. فهو يجعلني تواقا لأكون أمريكيا. تريد إيما أن أقول إنها «شعرت بارتياح خبيث» فيما يتعلق بصحة ملاحظاتك حول التطور الديني ... أشعر بسعادة حين يخطر لي كم ستثير استياء بعض المتعصبين والقائمين على التعليم الجامعي. حتى الآن لم يكن به «الكثير» عن الجيولوجيا أو التاريخ الطبيعي، وهو ما أرجو أن تكون خجلان قليلا منه. تبدو لي ملاحظاتك حول كل الموضوعات الاجتماعية لائقة بمؤلف كتاب «مبادئ»، إلا أنه لو كنت أنا من كتبت «مبادئ» (أعلم أن هذا نوع من التحيز والفخر)، لما كنت كتبت عن أي أسفار؛ لكني أعتقد أنني أغار على مكانة كتاب «مبادئ» وعظمته أكثر منك أنت نفسك.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
14 سبتمبر، 1849 ... إنني مستمر في جلساتي الخاصة بالعلاج المائي، وها أنا أستعيد صحتي وقوتي بالتدريج ولكن ببطء. تحديت كل التعليمات، وتناولت العشاء في تشيفنينج مع اللورد ماهون، الذي شرفني كثيرا بزيارته لي، وإن كنت لا أستطيع تخمين كيف سمع بي. وقد سحرتني الليدي ماهون، وإن أي شخص ليتملكه الزهو أمام العبارات اللطيفة التي جاءت من شفتيها الجميلتين عنك. أحب اللورد ستانهوب العجوز كثيرا؛ رغم أنه أهان الجيولوجيا وعلم الحيوان بشدة عندما قال: «الافتراض بأن الرب القدير خلق العالم، ثم وجده عاطلا، فحطمه، ثم صنعه مرة أخرى، ثم حطمه مرة أخرى، كما يقول الجيولوجيون، ما هو إلا ترهات. إن وصف أنواع الطيور والأصداف ... إلخ، ما هو إلا ترهات.»
إنني في سعادة غامرة أننا سوف نلتقي في بيرمينجهام؛ إذ أثق من ذلك، إذا ظلت صحتي في تحسن. أعمل الآن يوميا في أفرودة هدابيات الأرجل لمدة ساعتين ونصف، وهكذا أتقدم فيها قليلا، لكن ببطء شديد. وأحيانا، بعد العمل طوال أسبوع كامل وبعد وصف ربما نوعين فقط، أجد نفسي متفقا فكريا مع اللورد ستانهوب أن ذلك كله ترهات؛ إلا أنني قبل أيام وجدت حالة غريبة لإحدى هدابيات الأرجل الوحيدة الجنس، وليس الخنثى؛ حيث كان للأنثى السمات الشائعة لهدابيات الأرجل ، وكان لديها في صمامي صدفتها جيبان صغيران، احتفظت في «كل» منهما بذكر صغير؛ وليس لدي علم بأي حالات أخرى حيث يكون للأنثى بنحو دائم زوجان. ما زال لدي واقعة أغرب، وهي شائعة في عدة أنواع، وهي أنه رغم أنها خنثى، فلديها ذكور صغيرة إضافية، أو سأسميها، مكملة، وواحدة من العينات التي كانت خنثى، كان لديها ما لا يقل عن سبعة، من هذه الذكور المكملة ملتصقة بها. حقا إن حيل الطبيعة وعجائبها بلا حدود. أعتذر عن إسهابي في الحديث عن هدابيات الأرجل كما فعلت مع الجيولوجيا؛ يؤلمني الاعتقاد أنني قد لا يتاح لي مرة أخرى الإحساس بالسعادة الشديدة المرتبط باستكشاف منطقة جديدة، وبعث ضوء يبدد الظلمة والاضطراب فيما يتعلق بإحدى المناطق المعروفة. هكذا لا بد أن أبذل قصارى جهدي في بحثي عن هدابيات الأرجل.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 12 أكتوبر، 1849 ... بالمناسبة، كان من أمتع أجزاء اجتماع الجمعية البريطانية رحلتي إلى بيرمينجهام مع السيدة سابين والسيدة ريف والكولونيل؛ وكذلك الكولونيل سايكس وبورتر. اتفقت أنا والسيدة سابين على نحو رائع حول عدة نقاط، وأكثر ما كنا صادقين في اتفاقنا بشأنه هو الأمور المتعلقة بك. تحدثنا عن خطاباتك من سفينة إريبس؛ ووافقتني الرأي تماما أنك وصاحب وصف صيد الماشية في جزر فوكلاند كان بإمكانكما تأليف كتاب رائع معا! [كتب السير جيه هوكر الوصف المفعم بالحيوية لصيد الماشية في كتاب السير جيه روس «رحلة استكشافية في المناطق الجنوبية» 1847، المجلد الثاني، صفحة 245.] إنها امرأة لطيفة للغاية، وكذلك أمها الحاذقة الحكيمة. كانت بيرمينجهام غاية في الرتابة مقارنة بأكسفورد، رغم أنني كنت مصطحبا زوجتي معي. وقد التقينا كثيرا بآل لايل وهورنر وروبينسون (رئيس الجمعية)؛ لكن المكان كان كئيبا، ومنعني سوء حالتي من الذهاب إلى ووريك، رغم أن هذه الرحلة كانت، بكل المقاييس، أدنى مرتبة كثيرا من تلك الخاصة ببلينيم، ولا تقارن على الإطلاق باليوم الخلاب الذي قضيناه في دروبمور. إن المرء ليعتريه الملل الشديد من كل هذا الصراخ.
سألتني عن علاجي بالماء البارد؛ إنني مستمر فيه على خير ما يرام، وحقا أشعر بتحسن طفيف في كل شهر، وإن كنت أفضل حالا نهارا عن الليل. لقد بنيت منضحة، وسوف أستحم باستخدامها طوال الشتاء، سواء كان هناك صقيع أم لم. يشتمل علاجي الآن على التعرض لمصباح كحولي خمس مرات أسبوعيا، والاستحمام في حوض ماء ضحل لمدة خمس دقائق بعد ذلك؛ والتعرض للمنضحة لمدة خمس دقائق والالتفاف بملاءة مبتلة يوميا. هذا العلاج منشط على نحو رائع، وتعاقبت علي أيام هذا الشهر وأنا في صحة أفضل من الشهور الماضية. أستطيع الآن العمل ساعتين ونصف الساعة يوميا، وأجد هذا أقصى ما في إمكاني؛ حيث إن العلاج بالماء البارد، مع ثلاث جولات سير قصيرة، متعب لدرجة غريبة؛ حتى إنني أجد نفسي «مجبرا» على الخلود للفراش في الساعة الثامنة وأنا منهك تماما. وما زال وزني يزداد باستمرار، وأتناول الطعام بكميات كبيرة، ولا أجبر على الطعام مطلقا. لقد انتهى الانقباض اللاإرادي لعضلاتي، وكل ما كان ينتابني من إغماءات وما شابه، والبقع السوداء التي كانت تغشى عيني وما شابه. يعتقد الدكتور جالي أنني سوف أشفى تماما خلال ستة أو تسعة شهور أخرى.
أكثر ما يثير ضجري في العلاج المائي هو اضطراري للامتناع عن أي قراءة، عدا قراءة الجرائد؛ فالعمل في أفرودة البرنقيلات ساعتين ونصفا يوميا هو أقصى ما يمكنني فعله من الأشياء التي تشغل ذهني؛ وبالتالي فإنني متأخر لدرجة فظيعة في كل الكتب العلمية. اقتصر عملي مؤخرا على وصف الأنواع فحسب، وهو أصعب كثيرا مما توقعت، وبه من أنواع الإثارة ما للأحاجي لحد كبير؛ لكن أعترف أنني كثيرا ما يصيبني العمل بالإرهاق، وأحيانا لا أستطيع أن أكف عن سؤال نفسي ما الجدوى من قضاء أسبوع أو أسبوعين في التأكد أن بعض الاختلافات الملحوظة بالكاد تندمج معا لتشير إلى ضروب لا أنواع. ما دمت أعمل في التشريح لا أجد نفسي بتاتا في ذلك المزاج المقزز الفظيع المتسائل عن الفائدة في القيام بالأشياء. مرة أخرى، يا له من عمل بائس أن تبحث عن الأسماء ذات الأسبقية ! انتهيت للتو من نوعين لهما سبعة أسماء أجناس وأربعة وعشرون اسما نوعيا! إن أكثر ما أجد فيه الراحة هو الاعتقاد بأن العمل لا بد أنه سيتم في وقت ما، وأنني قد أنجزه، مثل أي شخص آخر.
لقد توقفت عن حملتي ضد إلحاق أسماء العلماء بالأنواع، أما البحث الخاص بي، فهو طويل بما لا يسمح لي أن أرسله لك، لذلك لا بد أن تراه، إن كنت تود ذلك، حين ترجع. بالمناسبة، تقول في خطابك إنك تولي عملي عن الأنواع اهتماما أكبر من عملي عن البرنقيلات؛ هذا خطأ كبير من ناحيتك؛ فإنني أرى أن اهتمامك الشديد ببحثي البسيط حول البرنقيلات مقارنة ببحثي النظري عن الأنواع كان له أثر كبير جدا فيما قررته من الاستمرار في الأول، وتأجيل بحثي عن الأنواع ... [يشير الخطاب التالي إلى وفاة ابنته الصغيرة، وهو الأمر الذي حدث في مولفرن في الرابع والعشرين من أبريل، 1851.]
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، 29 أبريل [1851]
عزيزي فوكس
لا أعتقد أنك قد سمعت بخسارتنا الأليمة والقاسية. بينما كانت صغيرتنا العزيزة المسكينة آني في حالة طيبة جدا في مولفرن، انتابتها نوبة قيء، وظننا في البداية أنها ليست ذات أهمية، لكنها سريعا ما أخذت شكل حمى مستمرة ومخيفة، وهي التي قضت عليها خلال عشرة أيام. أحمد الله أنها لم تعان مطلقا، وأسلمت الروح في وداعة مثل ملاك صغير. عزاؤنا الوحيد أنها عاشت حياة سعيدة، وإن كانت قصيرة. لقد كانت طفلتي المفضلة؛ فمشاعرها الودود وصراحتها وبهجتها المرحة وعواطفها الجياشة جعلتها محبوبة للغاية. يا للروح الصغيرة العزيزة المسكينة! إنني أشعر بها حولي في كل مكان.
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، 7 مارس [1852]
عزيزي فوكس
لقد مضى حقا وقت طويل منذ أن جرى بيننا أي اتصال، وكنت سعيدا للغاية لتلقي خطابك. لقد تذكرت الصمت الذي طال أمده بيننا منذ عدة أسابيع، وفكرت حينذاك في الكتابة إليك، لكنني كنت مريضا. أهنئك وأواسيك في الوقت نفسه على طفلك «العاشر»؛ أرجو منك أن ترسل لي مواساتك فقط حين أرزق بطفلي العاشر. لدينا الآن سبعة أطفال، كلهم في خير حال، حمدا لله، وكذلك أمهم. إن خمسة من هؤلاء من الأولاد، وقد اعتاد أبي أن يقول إنه من المؤكد أن المتاعب التي يأتي بها الولد تساوي متاعب ثلاث بنات؛ هكذا يصير لدينا سبعة عشر طفلا في الواقع. ينتابني الغثيان كلما فكرت في المهن؛ فجميعها تبدو سيئة لدرجة ميئوس منها، وحتى الآن لا يمكنني أن أرى أي بصيص من الأمل بشأنها. أود بشدة أن أتحدث عن هذا (بالمناسبة، مصادر قلقي الثلاثة هي أولا اكتشاف الذهب في كاليفورنيا وأستراليا؛ حيث إن هذا سيجعلني معدما بأن يجعل أموالي المستثمرة في الرهونات بلا قيمة؛ وثانيا أن يأتي الفرنسيون عبر طريقي ويسترام وسيفيناوكس، وهكذا يطوقون داون؛ وثالثا، المهن التي سيعمل بها أبنائي)، وأرغب في التحدث عن التعليم، الذي سألتني عما سنفعله بشأنه. لا يمكن لأحد أن يحتقر بحق التعليم الكلاسيكي النمطي الغبي أكثر مني؛ إلا أنني لم أتحل بالشجاعة الكافية لعدم الالتحاق به؛ فبعد شكوك عديدة، أرسلنا للتو ابننا الأكبر إلى راجبي؛ حيث وضع في مكان مناسب جدا لسنه ... أكن لك الاحترام والإعجاب وأحسدك على تعليم أبنائك في المنزل. ماذا عسانا أن نفعل بأبنائنا؟ قبيل نهاية هذا الشهر سنذهب لرؤية ويليام في راجبي، ومن هناك نتوجه إلى شروزبيري لقضاء خمسة أو ستة أيام مع سوزان؛ بعد ذلك سأعود للمنزل للعناية بالأطفال، وستذهب إيما إلى إف ويدجوود في إتروريا لمدة أسبوع. أشكرك شكرا جزيلا على دعوتك الشديدة الرقة والكرم للذهاب إلى ديلامير، لكن أخشى أننا لا نستطيع تدبر ذلك؛ فأنا أتوجس من الذهاب لأي مكان، بسبب تدهور معدتي بسرعة مع أي انفعال. وأنا الآن نادرا ما أذهب إلى لندن؛ ليس لأنني أسوأ حالا، بل قد أكون بالأحرى أفضل حالا، وأعيش حياة مريحة جدا بثلاث ساعات من العمل اليومي، لكنها حياة زاهد. تمر علي الليالي «دائما» صعبة، وذلك يحول دون أن أصبح نشيطا. تسألني عن العلاج المائي. أنا أخضع كل شهرين أو ثلاثة، لخمسة أو ستة أسابيع من العلاج المكثف بعض الشيء، ودائما ما يأتي ذلك بنتائج طيبة. إنني لأرجو وأتضرع إليك أن تأتي هنا متى استطعت أن تجد الوقت لذلك؛ فلا تعلم كم سيجلب هذا لي ولإيما من سعادة. لقد انتهيت من المجلد الأول لصالح جمعية راي عن هدابيات الأرجل ذوات السويقات، الذي ستحصل عليه قريبا، بصفتك عضوا في الجمعية كما أعتقد. اقرأ الوصف الذي وضعته للنوع الجنسي فيما يتعلق بالإبلا
Ibla
والسكالبيلوم
Scalpellum . أعمل الآن في دراسة هدابيات الأرجل الجالسة، وأعياني التعب من العمل؛ على الرجل أن يعمل ثماني ساعات يوميا على الأقل حتى يكون عالم تاريخ طبيعي منهجيا. كأنك أطلعت على ما بداخلي حين قلت إنني لا بد أن أكون قد تمنيت رؤية آثار الكارثة التي حلت بقرية هومفيرث؛ فمنذ أسبوع كنت أقول لإيما إنني لو كنت على عهدي في الماضي، لكنت رحلت إلى هناك على الفور. لقد سألتني عن إيرازموس؛ إنه على نفس الحال إلى حد كبير؛ تقريبا في توعك مستمر. وسوزان أفضل كثيرا، وفي عافية وسعادة غامرة. أما كاثرين فهي في روما، وقد استمتعت بها لدرجة مدهشة تماما بالنسبة لعظامي المسنة اليابسة. والآن أعتقد أنني أخبرتك بما يكفي، وأكثر مما يكفي عن آل داروين؛ لذا علي أن أودعك الآن يا صديقي العزيز الغالي. كم كانت سعيدة الأوقات التي قضيناها في احتساء القهوة في غرفتك في كلية كرايست، ونحن نفكر في خنفساء الصليب الأرضية. أوه، في تلك الأيام لم يكن يشغلنا مهن الأبناء، ولا نخشى عليهم من اعتلال صحتهم، ولا ذهب كاليفورنيا، ولا غزو الفرنسيين. كم يصير للمستقبل أهمية قصوى عن الحاضر حين يحيط بالمرء أطفاله! وما يثير ذعري هو اعتلال الصحة الوراثي. حتى الموت يبدو أفضل لهم.
خالص تحياتي عزيزي فوكس، صديقك المخلص
سي داروين
ملحوظة:
كانت سوزان تعمل مؤخرا بطريقة أراها بطولية بحق فيما يتعلق بالانتهاك الفاضح لقانون مكافحة استخدام الأطفال في تنظيف المداخن. لقد أقمنا جمعية صغيرة في شروزبيري لمقاضاة أولئك الذي يخرقون القانون. وقد تكفلت سوزان بالأمر كله. وقد تلقت خطابات لطيفة جدا من اللورد شافتسبري ودوق ساذرلاند، لكن إقطاعيي شروبشير القساة في جمود الحجر. يبدو أن انتهاك القانون أكثر شيوعا خارج لندن. إن المرء لتنتابه القشعريرة حين يتخيل أحد أبنائه وهو في السابعة يجبر على صعود مدخنة لتنظيفها، ناهيك عما يتبع ذلك من أمراض شديدة وأطراف متقرحة ومهانة معنوية تامة. إذا كان هذا الموضوع يشغلك بشدة، فلتجر بعض الاستفسارات، وأضف لأعمالك الطيبة الكثيرة هذا العمل، وحاول إلهاب حماس القضاة. هناك أشخاص كثر يثيرون ضجة في أجزاء مختلفة من إنجلترا بصدد هذا الموضوع. ليس مرجحا جدا أنك قد ترغب في فعل ذلك، لكن يمكنني أن أرسل لك بعض المقالات والمعلومات إذا أردت ذلك، سواء لتقرأها أو لتوزعها.
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون [24 أكتوبر، 1852]
عزيزي فوكس
تلقيت هذا الصباح خطابك الطويل والعزيز جدا علي، وسوف أجيب عليه هذا المساء؛ إذ سأكون مشغولا للغاية مع أحد الرسامين، الذي سيرسم هدابيات الأرجل، وسأظل مثقلا بالأعمال طوال الأسبوعين القادمين. لكنك تستحق مني أولا توبيخا كبيرا - وأرجو أن تعتبر نفسك قد وبخت على هذا النحو - للاعتقاد أو كتابة أنني قد ينتابني الضجر من أي كم من التفاصيل تخبرني به عنك أو عما يخصك؛ فهذا فقط ما أهوى سماعه؛ صدقني أنني كثيرا ما أفكر في الأيام الخوالي التي قضيتها معك، وأحيانا لا أستطيع أن أصدق كم كان المرء مبتهجا وغير مبال في تلك الأيام. وكثيرا ما تذكرني أمسيات الخريف الصافية بجولات الصيد التي تنطلق من أوزموستون. يؤسفني بحق أننا نعيش بعيدا جدا عن بعضنا، وأن تحركاتي قليلة جدا. كنت مؤخرا في صحة طيبة على غير العادة (بدون علاج مائي)، لكن لا أجد قدرتي على تحمل أي تغيير أفضل من ذي قبل ... فمنذ أيام، ذهبت إلى لندن وعدت منها، فأعاد إلي الإجهاد، وإن كان طفيفا، نوباتي السيئة من القيء. يحز في نفسي ما سمعته عن توعك صدرك، وأرجو مخلصا حقا أن يكون الألم ناتجا عن العضلات فحسب؛ كثيرا ما يتعب صوت رجال الدين. أستطيع أن أتفهم جيدا إحجامك عن الافتراق عن جماعتك الكبيرة السعيدة والذهاب إلى الخارج؛ لكن حياتك ثمينة للغاية، لذلك يجب أن تكون حذرا للغاية بشأنها قبل فوات الأوان. إنك تسأل عنا جميعا؛ لدي الآن خمسة أولاد (آه من المهن! وآه من الذهب! وآه من الفرنسيين! هذه الآهات الثلاثة تشكل مصادر قلق مفزعة) وبنتان ... لكن هناك مصدر آخر للقلق وهو الأسوأ وهو الضعف الوراثي. كل شقيقاتي بخير ما عدا السيدة باركر، التي ساءت صحتها كثيرا. أما عن إيرازموس، فهو في حالته الصحية الضعيفة المعتادة: لقد انتقل مؤخرا إلى شارع كوين آن. سمعت عن زواج شقيقتك فرانسيس المزمع. أعتقد أنني رأيتها قبل ذلك، لكن ذاكرتي تأخذني للوراء نحو خمسة وعشرين عاما مضت حين رأيتها وهي مريضة. أتذكر جيدا نظرة السرور على محياها. أتمنى لها بإخلاص شديد السعادة التامة.
أرى أنني لم أجب على نصف استفساراتك. يروق لنا كثيرا ما رأيناه من مدرسة راجبي وما سمعناه عنها، ولم نندم قط على إرسال [ويليام] إلى هناك. أعتقد أن المدارس تحسنت كثيرا منذ زمننا؛ لكنني أكره المدارس وكل جوانب النظام الذي ينتهك المشاعر الأسرية بفصل الأولاد في مرحلة مبكرة جدا من حياتهم عن أسرهم؛ لكنني لا أرى بدا من ذلك، ولا أجرؤ على المجازفة بتعريض شاب لمغريات العالم دون أن يكون قد خضع للمحنة الأقل وطأة بدخول إحدى المدارس الكبرى.
أرى أنك تسأل حتى عن أشجار الإجاص التي لدينا. لدينا الكثير من أشجار الإجاص من نوعية بير دي ألينبيري ووينتر نيليس، وماري لوي، وغيرها من «أفضل أنواع أشجار الإجاص»، لكن كلها غريبة؛ لقد حملت الأشجار القصيرة القياسية ثمارا قليلة، لكن ليس لدي مساحة لمزيد من الأشجار؛ لذا ستكون أسماؤها بلا جدوى لي. يجب حقا أن تأخذ إجازة وتأتي لزيارتنا يوما ما؛ فلا يمكن أن تجد ترحيبا أكثر حرارة في أي مكان آخر. أعمل الآن في المجلد الثاني من عملي عن هدابيات الأرجل، التي أرهقتني مخلوقاتها إرهاقا شديدا. إنني لأبغض البرنقيل كما لم يبغضه أحد قط من قبل، حتى إن كان بحارا على متن سفينة بطيئة الإبحار. لقد نشر مجلدي الأول، والجزء الوحيد الذي يستحق المطالعة هو الذي عن النوع الجنسي في الإبلا والسكالبيلوم. أرجو أن أكون قد انتهيت من عملي المضجر بحلول الصيف القادم. وداعا، فلتأت متى استطعت أن تتدبر ذلك.
لا أملك سوى الرجاء أن يأتي الدمل عليك بفائدة؛ فقد سمعت عن أنواع كثيرة من الأمراض التي اختفت إثر الإصابة بدمل. أعتقد أن الألم رهيب. أتفق معك تماما بشدة أن مادة الكلوروفورم اختراع رائع. إن تفكير المرء في أبنائه يزيد سعادته على نحو كبير. منذ بضعة أيام خلعت خمسة ضروس (اثنان منهما بالمخلاع) في جلسة واحدة تحت تأثير هذه المادة الرائعة، ولم أشعر بشيء تقريبا.
خالص تحياتي صديقي العزيز الغالي، صديقك المحب جدا
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، 29 يناير [1853]
عزيزي فوكس
لم تكن أخبارك الأخيرة التي نقلتها لي منذ عدة شهور مرضية حتى إنني لم أنفك أفكر فيك، وسأكون ممتنا حقا إذا كتبت لي سطورا قليلة، وأخبرتني فيها كيف صار حال صوتك وصدرك. أرجو صادقا أن تكون أخبارك طيبة ... ثاني أبنائنا لديه ميول ميكانيكية قوية، ونفكر في أن نجعله مهندسا. سوف أحاول أن أجد له مدرسة أقل كلاسيكية، ربما بروس كاسل. أود بالطبع أن أرى تنوعا في التعليم أكثر من الموجود في أي مدرسة عادية - حيث لا يوجد استخدام لملكات الملاحظة أو الاستدلال، أو اكتساب لمعلومات عامة - أعتقد أنه نظام بائس. من ناحية أخرى، الفتى الذي تعلم المثابرة في تعلم اللغة اللاتينية والتغلب على صعوباتها، لا بد أن يكون قادرا على المثابرة في أي مجال. سأكون دائما مسرورا بسماع أي شيء عن المدارس أو التعليم منك. ما زلت أعمل في موضوعي القديم الذي يبدو أنه بلا نهاية، لكنني متأكد أنني سأذهب للمطبعة خلال شهور قليلة بمجلدي الثاني حول هدابيات الأرجل. سرني كثيرا أن أجد أن أوين وقلة آخرين اعتقدوا صحة بعض الحقائق الغريبة التي وردت في مجلدي الأول، وهذا الرأي الطيب اعتبره نهائيا ... فلتكتب لي في القريب العاجل، وأخبرني بكل ما تستطيع عن نفسك وأسرتك؛ وأرجو أن تكون أخبارك عن نفسك أفضل كثيرا من أخبارك الأخيرة. ... لم أزر لندن كثيرا مؤخرا، ولم أر لايل منذ عودته من أمريكا؛ كم كان محظوظا حين استخرج بيديه أجزاء من ثلاثة هياكل عظمية لزواحف من طبقات العصر الكربوني، ومن داخل شجرة متحفرة، كانت مجوفة من الداخل.
الوداع يا عزيزي فوكس، صديقك المحب
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
13 سي هاوسيز، إيستبورن [15 (؟) يوليو، 1853]
عزيزي فوكس
إننا هنا في حالة شاملة من التبطل، وفي هذا رفاهية لي. وأعتقد أننا جميعا كنا سنصبح في حالة من السعادة الفائقة، لولا العواصف الباردة المقيتة والأمطار الكثيرة، وهو ما يسبب دائما الكثير من الضجر للأطفال وهم بعيدون عن ديارهم. تلقيت خطابك الذي يحمل تاريخ الثالث عشر من يونيو، بينما كنت أكدح بشدة مع السيد ساوربي في وضع الرسوم من أجل مجلدي الثاني؛ ولذلك فقد أجلت الرد عليه حتى أجد متسعا من الوقت. لقد سرني لأقصى درجة أن أتلقى خطابك. كنت قد نويت منذ عدة شهور أن أرسل لك خطاب توبيخ قاسيا أو مستعطفا لأعلم كيف كان حالك، حتى التقيت بالسير بي إيجرتون، الذي أخبرني أنك بخير، وكالعادة، أبدى إعجابه بأعمالك، خاصة في الزراعة، وعدد الحيوانات، بما في ذلك الأطفال، التي تحتفظ بها في أرضك. أحد عشر طفلا، السلام عليك يا مريم! أعتقد أنهم يمثلون مصدر قلق هائل لك. في واقع الأمر، أنا أنظر لأولادي الخمسة باعتبارهم هما فظيعا، وأكره مجرد التفكير في المهن التي سيمتهنونها، إلخ. لو كان بوسع المرء أن يضمن لهم صحة جيدة، فلن يهم ذلك كثيرا، فأنا لا يسعني سوى أن أرجو أن يتحسن مستوى المهن بعض الشيء، مع الهجرات الضخمة. لكن ما يثير جزعي هو الضعف الوراثي. أود بوجه خاص سماع كل ما يمكنك قوله عن التعليم، وإنك تستحق التوبيخ على قولك إنك «لم تقصد «الإثقال علي» بقصة طويلة.» لقد سألتني عن مدرسة راجبي. إنها تروق لي تماما، استنادا إلى نفس المبدأ الذي يحب لأجله جاري، السير جيه لاباك مدرسة إيتون، وهو أنها ليست أسوأ من أي مدرسة أخرى. إن المصروفات، وجميع الأشياء الأخرى المشابهة، بما في ذلك بعض الملابس، ومصروفات السفر، إلخ، تتراوح بين 110 و120 جنيها إسترلينيا سنويا. لا أعتقد أن المدارس سيئة كما كانت، كما أنها أكثر اجتهادا بكثير. أعتقد أن الأولاد يعيشون في عزلة شديدة في دراساتهم المنفصلة؛ وأشك أنهم سيختلطون كثيرا بالآخرين كما اعتاد الأولاد قبل ذلك؛ وهذا، في رأيي، ميزة كبيرة للمدارس الداخلية على المدارس الصغيرة. وأعتقد أن ميزة المدارس الصغيرة الوحيدة على المنزل هو الانتظام الإجباري للأولاد في عملهم، وهو ربما ما يحصل عليه أبناؤك في منزلك، وما لا أعتقد أن أبنائي سيحصلون عليه في منزلي. بخلاف ذلك، من المؤسف تماما إرسال الأولاد بعيدا عن منزلهم في مرحلة مبكرة جدا من حياتهم. ... دعنا نعد للحديث عن المدارس. اعتراضي الرئيسي عليها بصفتها أماكن للتعليم، هو القدر الهائل من الوقت الذي يقضى في دراسة الكلاسيكيات. يخيل لي (رغم أنه قد يكون مجرد خيال) أنني أستطيع ملاحظة الأثر السيئ والانكماشي على ذهن ابني الأكبر، من وقف اهتمامه بأي شيء يلعب فيه الاستدلال والملاحظة دورا. يبدو أن ملكة الحفظ والتذكر وحدها هي التي تستخدم. لا شك أنني سوف أبحث عن مدرسة ذات دراسات أكثر تنوعا من أجل أبنائي الأحدث سنا. كنت أتحدث مؤخرا إلى رئيس كاتدرائية هيرفيرد، المؤمن إيمانا قويا جدا بوجهة النظر هذه؛ حيث أخبرني أن إحدى المدارس في هيرفيرد ستبدأ في هذه الخطة؛ وأن الدكتور كينيدي في شروزبيري سيشرع متحمسا في تعديل تلك المدرسة ...
يسرني «للغاية» أن أسمع أنك استحسنت عملي عن هدابيات الأرجل. لقد بذلت قدرا يكاد يكون غير منطقي من الجهد في هذا الموضوع، ولا شك أنني ما كنت لأعمل به لو كنت توقعت ما به من مشقة. أرجو أن أنتهي من المجلد الثاني بحلول نهاية العام؛ فلتكتب ثانية دون أن يمر زمن طويل جدا؛ إنه من دواعي سعادتي الحقيقية أن أسمع أخبارك. الوداع، مع أطيب تحيات زوجتي لك وللسيدة فوكس.
مع حبي يا صديقي العزيز الغالي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، 10 أغسطس [1853]
عزيزي فوكس
أشكرك شكرا جزيلا على الكتابة إلي بهذه السرعة بعد مصابك الفادح جدا. لشد ما تأثرت بخطابك! وكلانا يعزيك بشدة حقا أنت والسيدة فوكس؛ فنحن أيضا، كما قد تذكر، فقدنا منذ مدة ليست بعيدة جدا، طفلة عزيزة للغاية، لا أملك حتى الآن التفكير فيها ساكن النفس. بيد أن الزمن، كما لا بد أنك عرفت من تجربتك الشديدة المرارة، يخفف آلام المرء وأحزانه ويخمدها، على نحو عجيب حقا. لا شك أن الأمر يكون صعبا في البداية. لكن لا يسعني سوى أن أرجو العافية لك وللسيدة فوكس المسكينة، وأن يجلب الدهر صروفه برفق، ويجمع شملكم جميعا معا، مرة أخرى، كعهد الأسرة السعيدة التي كونتها مؤخرا، كما أثق تماما.
مع حبي يا عزيزي فوكس، صديقك
تشارلز داروين [يشير الخطاب التالي لميدالية الجمعية الملكية، التي منحت له في نوفمبر 1853.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 5 نوفمبر [1853]
عزيزي هوكر
من بين الخطابات التي تلقيتها هذا الصباح، كان أول خطاب فتحته من الكولونيل سابين؛ وقد أدهشني المحتوى كثيرا بلا شك، لكن رغم أن الخطاب كان «رقيقا جدا»، فبطريقة ما، لم أهتم كثيرا بالإعلان الذي احتواه. بعد ذلك فتحت خطابك، فكان له أثر الدفء والود واللطف لأنه جاء من شخص عزيز، حتى إن الحقيقة نفسها، بالطريقة التي قلتها بها، جعلت السعادة تغمرني حتى ارتجف قلبي من الفرحة. صدقني عندما أقول إنني لن أنسى سريعا السرور الذي بعثه في خطابك؛ فتلك المشاركة الوجدانية المخلصة الحنونة أهم من كل الميداليات التي تمنح أو ستمنح. أشكرك مرة أخرى يا عزيزي هوكر. أرجو ألا يعرف ليندلي [جون ليندلي (1799-1865)] أنه كان منافسا لي؛ فعدم حصوله على الميدالية قبلي بفترة طويلة يعد أمرا «سخيفا» (أنت بالطبع لن تخبر أحدا على الإطلاق بقولي هذا؛ فالآخرون سيظنون أنه نوع من التصنع من جانبي، وإن كنت أعتقد أنك لن تظن ذلك)؛ أنا «متأكد» أنك فعلت الصواب تماما بترشيحه، ورغم ذلك كم كنت رفيقا طيبا وعزيزا ورقيقا لابتهاجك بهذا الشرف الذي منح لي!
إن «السعادة» التي شعرت بها في هذه المناسبة أدين بها كاملة لك.
الوداع يا عزيزي هوكر
صديقك المحب
سي داروين
ملحوظة:
لك أن تصدق كم كان الأمر مفاجأة لي؛ حيث لم أسمع قط أن الميداليات يمكن أن تمنح إلا للأبحاث المنشورة في «محاضر اجتماعات الجمعية». كل هذا سيجعلني أعمل بحماس أكثر على إتمام المجلد الثاني.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 18 فبراير [1854]
عزيزي لايل
كان لا بد أن أكتب لك قبل ذلك، لولا تأكدي من ذهابك إلى تينيريف، أما الآن فإنني في غاية السرور لسماعي أن إحرازك مزيدا من التقدم شيء أكيد؛ وليس السبب أنني لدي الكثير من أي نوع لأقوله، كما قد يخطر لك حين تسمع أنني لم أذهب إلى لندن سوى مرة واحدة منذ سافرت. وقد سررت بوجه خاص، منذ يومين، لرؤية خطابك إلى السيد هورنر، بما حمله من أخبار جيولوجية؛ كم أنت سعيد الحظ لشفاء ركبتيك! إنني مذهول لما تحكيه عن الجمال الذي هناك، رغم أنني أعتقد أنه رائع. إن التفكير في تسلقك تلك الوديان المنحدرة ونزولك منها يجعلني أحسدك بشدة حقا. ويا لها من مجموعة جميلة التي تنتظرك عند رجوعك من رحلاتك الاستكشافية! كثيرا ما أفكر في البهجة التي اعترتني حين تفحصت الجزر البركانية، بل يمكنني حتى تذكر صخور بعينها قمت بالدق عليها، ورائحة الجروف الساخنة السوداء الجفائية؛ لكن يبدو أنك لم تنل الكثير من تلك الروائح «الساخنة». إنني أحسدك حقا. كم أود لو كنت معك، وأتأمل الوديان السحيقة والضيقة.
كم هي فريدة جدا المعلومة التي ذكرتها عن أن ميل الطبقات أكبر حول محيط الجزيرة عنه في منتصفها؛ هل تفترض أن الارتفاع كان له شكل القبة المسطحة؟ أتذكر أنني «كثيرا» ما كنت أندهش حين كنت في سلاسل جبال أمريكا الجنوبية من انحدار طبقات الأرض بقدر أكبر في السلاسل «المنخفضة المتطرفة جدا»، مقارنة بالأغلبية العظمى للجبال الداخلية. أعتقد أنه كان سيخطر لك أن تقيس بدقة عرض أي قواطع صخرية في قمة أي جرف كبير وقاعه (وهو ما فعله السيد سيرل [؟] في سانت هيلينا)؛ فطالما بدا لي أنه من «الغريب جدا» عدم تلاشي التصدعات «أكثر» في المناطق العليا. بالكاد أستطيع تذكر أي أخبار لأخبرك بها؛ فلم أر أحدا منذ كنت في لندن، حين سررت برؤية فوربس في أفضل حال، وكان ممتلئا ومتين البنية تماما. ورأيت في المتحف بعضا من الذهب الخام الثمين لدرجة مدهشة المجلوب من شمال ويلز. كذلك أخبرني رامزي أنه نسب مؤخرا كمية كبيرة من الحجر الرملي الأحمر الجديد وتيهيات الأسنان إلى العصر البرمي. لا شك أنك تطالع الجرائد، وتعلم أن إي دو بومون صار سكرتيرا دائما، وسيصبح أقوى نفوذا عن ذي قبل، حسبما أعتقد، وقد أخذ لو فيريه مكان أراجو في المرصد الفلكي. كذلك عقد مؤخرا اجتماع في الجمعية الجيولوجية، حيث طرح بريستويتش (حسب ما أخبرني به آر جونز) نظريتك؛ أقصد تلك القائلة بأن كل الطين الأحمر والحجر الصوان المنتشرين بالقرب من الهضبة الطباشيرية هي رواسب ناتجة عن التحلل البطيء للطباشير!
أما نحن، فليس هناك أخبار بشأننا، وكلنا على ما يرام. منذ فترة، أقام معنا آل هوكر لمدة أسبوعين، ومما أثار بهجتنا للغاية أن هنزلو قد جاء إلينا، وكان في حالة تامة من الهدوء والراحة هنا؛ فإنه لمن بواعث السعادة أن ترى وجها هادئا وطيبا وذكيا هكذا. كانت المخاوف من وجود مشكلة بقلبه هائلة، لكنني، أدعو الرب، ألا يكون لها أي أساس. لقد نشر كتاب هوكر [«مذكرات الهيمالايا»]، وقد أعد على نحو «غاية في الجمال». وقد أسدى إلي شرفا لا حد له بإهدائه إلي! أما أنا، فقد وصلت للصفحة رقم 112 من عملي عن البرنقيلات، وهذه هي قصتي مجملة. بالمناسبة، بما أنك مهتم كثيرا بأمريكا الشمالية، فلي أن أذكر أنني تلقيت خطابا من بحار زميل في أستراليا ، يقول إن المستعمرة تتحول إلى النظام الجمهوري حتما بسبب تدفق الأمريكيين إليها، وإن كل المشروعات الرائعة المبتكرة لاستخراج الذهب يضعها وينفذها هؤلاء الرجال. يا لها من أمة سباقة! فلتبلغ الليدي لايل والسيدة بانبري وبانبري أطيب تحياتي. أرجو من كل قلبي أن يكون بجزر الكناري عشرة أضعاف ما في ماديرا من إثارة، وأن تسير كل الأمور على خير حال مع مجموعتك كلها.
الوداع يا عزيزي لايل
مع وافر إخلاصي وحبي لك
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 1 مارس [1854]
عزيزي هوكر
انتهيت أمس مساء من قراءة المجلد الأول [من كتاب «مذكرات الهيمالايا»]، وأهنئك بإخلاص شديد على إنتاج «كتاب من الطراز الأول»؛ كتاب سيكتب له الخلود بلا ريب. ولا يساورني شك أنه سيأخذ مكانه الصحيح باعتباره معيارا، ليس فقط لأنه يحتوي على مادة قوية بحق، لكن أيضا لأنه يعطي صورة للبلد بالكامل؛ فبإمكان المرء أن يشعر أنه قد رآه (مثلما انتابني شعور غير مريح للغاية عند القراءة عن بعض الجسور والمنحدرات الشديدة)، وكذلك «يدرك» كل السمات الطبيعية الرائعة. لديك بالفعل سبب للفخر؛ فلتتأمل كم هم قليلون الرحالة الذين لديهم معرفة عميقة بمجال واحد، واستطاعوا إلى جانب ذلك أن يضعوا خريطة (والتي هي بالمناسبة إحدى أكثر الخرائط التي رأيتها تميزا، ولهذا السبب أدعو لك بالبركة) وأن يدرسوا الجيولوجيا والأرصاد الجوية! كنت أعتقد أنني أعرفك معرفة جيدة جدا، لكن لم يكن لدي أدنى فكرة أن أسفارك كانت هي هوايتك؛ لكنني سعيد بالكتاب بحق؛ فأنا على يقين أنه لن يأتي عليك أنت والسيدة هوكر أبدا الوقت الذي لن تشعرا فيه بالفخر حين تتذكران الجهد الذي بذل في هذين المجلدين الرائعين.
إن خطابك، الذي تلقيته هذا الصباح، أثار اهتمامي «لأقصى درجة»، وأشكرك بحق على إخباري بتطلعاتك وأفكارك القديمة. وكل ما تقوله يزيد من شعوري العميق بالسعادة من الإهداء، لكن هل تذكر، أيها الرجل الشرير، أنك سألتني كيف سيكون شعور لايل حيال إهداء العمل إليه في اعتقادي؟ أتذكر كيف أجبت بحزم، وأفترض أنك أردت أن تعرف كيف سأشعر؛ من كان يتخيل أنك بهذا المكر؟ إنني سعيد أنك أبديت القليل من الطموح حيال كتابك؛ فلا بد أنك تذكر أنني طالما وبختك لعدم إيلاء قدر أكبر من الاهتمام بالشهرة، رغم أنني يجب، في نفس الوقت، أن أقر أنني كنت أحسدك وأبجلك لكونك متحررا (متحررا للغاية، كما اعتقدت دائما) من هذه العلة التي تعد «آخر رذيلة يتخلى عنها ...» ولا تقل «ليس لدي سابقة قط في هذا الشأن؛ كان الشبح موجودا دائما» لأنك سرعان ما ستجد أشباحا أخرى ماثلة أمامك. كم أعرف هذا الشعور جيدا، بل كانت معرفتي به في الماضي أكثر حيوية؛ لكن أعتقد أن حالة معدتي قد أوهنت لحد كبير حماسي السابق الصرف للعلم والمعرفة.
إنني أكتب خطابا طويلا لدرجة غير معقولة، لكن لا بد أن أعود إلى كتابك، الذي لم أقل عنه أي شيء بالتفصيل. بادئ ذي بدء، تبدو لي الصور والخرائط أفضل ما رأيت على الإطلاق؛ ويبدو لي الأسلوب واضحا وضوحا مثاليا في كل الأجزاء (ويا لها من فضيلة نادرة الوجود!) وبعض الفقرات بليغة حقا. كم هي ممتازة الطريقة التي وصفت بها الوديان العلوية، وكم هو بغيض طقسها! تملكني هلع شديد من تلك الليلة المخيفة التي تساقطت فيها الثلوج والتي قضيتها على منحدرات كينتشين. ولم أندهش لشيء قدر اندهاشي من قوتك البدنية؛ وكل تلك الجسور المزعجة! حسنا، الحمد لله! إنه ليس من المرجح «كثيرا» أنني قد أذهب إلى الهيمالايا على الإطلاق! لقد أثار اهتمامي الكثير من الجوانب العلمية، خاصة كل ما ورد عن تلك الركامات الجليدية الرائعة. أعتقد بالطبع أنني أتخيل الوديان بوضوح أكثر إلى حد ما، ربما لرؤية وديان تاهيتي. لا يمكنني الشك أن الهيمالايا تدين فيما يتعلق بكل معالمها للمياه الجارية، وأنها تعرضت لهذا النشاط لمدة أطول من أي جبال (وصفت حتى الآن) في العالم. يا له من تناقض مع جبال الأنديز!
ربما تود أن تسمع القليل جدا الذي يمكنني قوله من نقد، وهذا ينطبق فقط على البداية؛ حيث لم تكن هناك «انسيابية» كافية (وهو الأمر الذي فاجأني) حتى بلغت مدينة ميرزابور على نهر الجانج (لكن الجزء الخاص بقطاع الطريق الهنود كان مثيرا للاهتمام للغاية)، حيث بدا أن التيار حملك على نحو أكثر رصانة لجمل أطول وحقائق ومناقشات أكثر امتدادا، إلخ. أتساءل ما إذا كان هذا الجزء لا يمكن تلخيصه في الطبعة الجديدة (إنني مسرور لما سمعته عن أن موراي قد باع الطبعة الأولى كلها). وإذا وضع الجزء الخاص بالطقس في حواش سفلية، فإنني أعتقد أن هذا سيكون من قبيل التحسين الجيد. إن رؤية الأسماء اللاتينية مكتوبة بخط مائل، وكلها مختلطة بأسماء إنجليزية مكتوبة بخط عادي تجعلني حزينا للغاية، رغم أن العالم بأسره يرى بخلاف ذلك، لكن لا بد أن أتحمل هذا العبء، حيث يبدو أن كل رجال العلم يعتقدون أن تأنيق اللغة اللاتينية بكتابتها بخط عادي مثل اللغة الإنجليزية القديمة المسكينة سيفسدها. حسنا، إنني فخور جدا ب «كتابي»؛ لكن ثمة أمرا واحدا يضجرني، وهو أنني لا أميل كثيرا إلى سؤال الناس إذا كانوا قد اطلعوا عليه، وعن رأيهم فيه؛ فإنني أشعر أنني متماه معه بشدة، حتى إن تلك الأسئلة تصير شخصية بعض الشيء؛ لذلك، لا أستطيع أن أخبرك برأي الآخرين. لكنك سترى في دورية «ذا أثانيام» مقالة نقدية جيدة عنه.
يا له من خبر رائع الذي ورد من تاسمانيا! إنه حقا حدث هام ويستحق التقدير للمستعمرة. [إنه يشير إلى منحة طوعية من الحكومة الاستعمارية لتغطية نفقات كتاب السير جيه هوكر، «نباتات تاسمانيا».] إنني دائما ما أشيد قصورا في الهواء بشأن الهجرة، وكانت تاسمانيا مقرا لي مؤخرا؛ ومن ثم، أشعر بفخر شديد ببلدي المختار؛ فذلك الحدث بحق فريد ومبهج للغاية، لتناقضه مع ضعف تقدير العلم في بلدي القديم. أشكرك من كل قلبي على خطابك هذا الصباح، وعلى كل البهجة التي أعطاها لي إهداؤك، لكن لا أستطيع مقاومة التفكير في كم سيزدريك ... لعدم إهداء الكتاب لأحد الرجال العظام، وهو الذي كان سيأتي عليك وعلى الكتاب ببعض الفائدة في نظر العالم. آه يا عزيزي هوكر، لقد كنت شديد الحماقة في هذا الأمر، وبهذا تبرر ما أقوله عن عدم اكتراثك لشهرتك بالقدر الكافي. أتمنى أن أكون مستحقا لرأيك الطيب في من جميع النواحي. الوداع. كم من السار أن تستريح أنت والسيدة هوكر من أعبائكم الكثيرة! ...
الوداع مرة أخرى. لقد كتبت خطابا طويلا جدا. أراك لاحقا، وليباركك الرب.
تحياتي لك هوكر، صديقك إلى الأبد
سي داروين
ملحوظة:
لقد ألقيت للتو نظرة عاجلة على خطابي غير المترابط، وأرى أنني لم أبح بإعجابي الشديد على الإطلاق بحجم الجهد العلمي الذي قمت به، في فروع كثيرة جدا؛ فهو عظيم حقا. ولديك حق أن تلتمس بعض الراحة، أو حتى أن تقول، إذا كان هذا يروق لك، إن «ساعة مجدي قد ولت»، لكنني أشعر بثقة تامة أن فجر مجدك والاعتراف العام بقيمتك قد بدأ يشرق للتو. [في سبتمبر، من عام 1854، كان عمله عن هدابيات الأرجل قد انتهى تقريبا، فكتب إلى الدكتور هوكر مخبرا إياه بذلك:
لقد كنت أبدد وقتي خلال الأسابيع القليلة الماضي بطريقة مضجرة؛ جزئيا في التكاسل، وأشياء متفرقة، وإرسال عشرة آلاف من عينات البرنقيلات من المنزل لشتى أنحاء العالم. لكنني سوف أشرع خلال يوم أو اثنين في الاطلاع على ملحوظاتي القديمة حول الأنواع. كم سيكون لدي من أشياء لأناقشها معك، ولا بد أن أبدو ذكيا حتى لا «أصير» واحدا من أكثر الأشخاص إثارة للضجر في الحياة، بالنسبة للقليلين من أمثالك الذين لديهم الكثير من المعرفة.]
الفصل العاشر
تطور كتاب «أصل الأنواع»
[في القسم الذي يتناول أعمال أبي المنشورة في الفصل الثاني، وصف تطور كتاب «أصل الأنواع» وصفا مختصرا بكلمات أبي. الخطابات الواردة في الفصل الحالي والفصول التالية ستوضح ما جرى إيجازه في هذا القسم وتسهب فيه.
من الجلي أنه لم يكن يشعر في المرحلة المبكرة من رحلة «البيجل» أن التعبير عن نفسه بلغة تقليدية تماما فيما يتعلق بنشأة الأنواع الجديدة يتعارض مع رؤيته؛ ومن ثم، فقد كتب
1
في عام 1834 في بالبارايسو قائلا: «لقد وجدت بالفعل طبقات من أصداف حديثة ما زالت محتفظة بلونها على ارتفاع بلغ 1300 قدم، وبالأسفل ، الأرض المنبسطة مليئة بها. والفرضية التي مفادها أن انعدام الحيوانات قد يكون راجعا إلى عدم خلق أي منها منذ ارتفاع هذه المنطقة من قاع البحر تبدو لي غير مستبعدة تماما.»
هذه الفقرة لا ترد في كتاب «يوميات الأبحاث» المنشور، الذي انتهت آخر بروفة طباعة له في عام 1837؛ وهذه الحقيقة منسجمة مع التغير الذي نعلم بأنه كان جاريا في آرائه. لكن في كتاب «يوميات الأبحاث» المنشور نجد فقرات تعرض وجهة نظر متوافقة مع التاريخ الطبيعي اللاهوتي التقليدي أكثر من توافقها مع آرائه اللاحقة؛ هكذا، حين يتحدث عن الطيور التي من جنس سينالاكسيس
Synallaxis
وجنس سايتالابوس
Scytalopus (الطبعة الأولى، صفحة 353؛ والطبعة الثانية، صفحة، 289) يقول: «عند العثور، كما في هذه الحالة، على أي حيوان يبدو أنه يلعب دورا ضئيلا جدا في المسار العظيم للطبيعة، يميل المرء للتساؤل لماذا قد خلق ذلك النوع المميز.»
إن المقارنة بين طبعتي كتاب «يوميات الأبحاث» مهمة، حيث تعطينا فكرة عن نمو آرائه حول التطور. إنها لا تعطينا مؤشرا حقيقيا عن حجم الفرضية التي كانت تتشكل في ذهنه، لكنها ترينا أنه كان واثقا من صحة اعتقاده لدرجة كافية مما سمح بظهور لمحة أكبر عن التطور في الطبعة الثانية. لقد ذكر في سيرته الذاتية (ارجع للفصل الثاني) أنه لم تكن لديه رؤية واضحة عن مدى صحة فكرة الانتقاء الطبيعي حتى قرأ كتاب مالثس. كان هذا في عام 1838، بعد عام من انتهائه من الطبعة الأولى (التي لم تنشر حتى عام 1839)، وقبل كتابة الطبعة الثانية بخمسة أعوام (1845). ومن ثم، حدثت نقطة التحول في تكوين نظريته في الفترة بين كتابة الطبعتين.
سأعرض لكم أولا بضع فقرات تكاد تكون متطابقة في الطبعتين، وبالتالي فهي مهمة للغاية لتوضيحها رؤيته في عام 1837.
لا بد أن حالة نوعي جنس المولثرس
Molothrus (الطبعة الأولى، صفحة 61؛ والطبعة الثانية، صفحة 53) إحدى أولى الحالات التي لاحظ بها وجود أنواع نموذجية - وهي إحدى الظواهر التي نعلم أنها (انظر السيرة الذاتية في الفصل الثاني) أدهشته بشدة. ويوضح النقاش حول الحيوانات المستقدمة (الطبعة الأولى، صفحة 139؛ والطبعة الثانية ، صفحة 120) كم كان متأثرا بالاعتماد المتبادل المعقد بين سكان منطقة معينة.
ترد وجهة نظر مشابهة في النقاش (الطبعة الأولى، صفحة 98؛ والطبعة الثانية، صفحة 85) الخاص بالاعتقاد الخاطئ بأن الحيوانات الكثيرة تحتاج، من أجل إعاشتها، غطاء نباتيا غزيرا؛ يستخدم للتدليل على عدم صحة وجهة النظر هذه مقارنة بين الحيوانات في جنوب أفريقيا وأمريكا الجنوبية، والغطاء النباتي في القارتين. المثير في النقاش أنه يبين بوضوح جهلنا التام بظروف المعيشة المناسبة لأي كائن.
ثمة فقرة اقتبست أكثر من مرة لارتباطها بنشأة آرائه. وهي تناقش الاختلاف الصارخ بين أنواع الفئران في شرق وغرب الأنديز (الطبعة الأولى، صفحة 399): «ما لم نفترض أن نفس النوع قد خلق في بلدين مختلفين، فلا يمكننا أن نتوقع أن يفوق التشابه بين الكائنات الحيوية على الجانبين المتقابلين للأنديز ذلك الموجود بين الكائنات على ساحلين يفصل بينهما مضيق بحري عريض.» وفي الطبعة الثانية، في صفحة 327، تكاد تأتي هذه الفقرة متطابقة لفظيا، وتكاد تكون هي نفسها.
ثمة فقرات أخرى في الطبعة الثانية تحمل طابعا تطوريا على نحو أكبر، لكنها بخلاف ذلك شبيهة بالفقرات المناظرة لها في الطبعة الأولى. هكذا، عند وصف الحيوان القارض توكو توكو
Tuco-tuco
الأعمى (الطبعة الأولى، صفحة 60؛ والطبعة الثانية، صفحة 52)، لا يشير في الطبعة الأولى إلى ما كان لامارك سيعتقده بشأنه، ولا تستخدم الحالة كمثال على التعديل، كما في طبعة عام 1845.
وفي الطبعة الثانية (صفحة 173) تأتي فقرة مثيرة للاهتمام حول العلاقة بين «الدرداوات المنقرضة، وحيوانات الكسلان وآكل النمل والمدرع الحية.» «لا يساورني شك أن هذه العلاقة العجيبة بين الحيوانات المنقرضة والحية في القارة نفسها، ستلقي مزيدا من الضوء من الآن فصاعدا على ظهور كائنات حيوية على أرضنا، واختفائها منها، أكثر من أي فئة أخرى من الحقائق.»
لا ترد هذه الجملة في الطبعة الأولى، لكنه كان على ما يبدو متعجبا للغاية من اختفاء الأسلاف العملاقة للحيوانات الحالية. والاختلاف بين المناقشات في الطبعتين يخبرنا بالكثير. في كلتا الطبعتين، ثمة تأكيد على جهلنا بظروف المعيشة الخاصة بالحيوانات، لكن في الطبعة الثانية، يصاغ النقاش بحيث يؤدي إلى بيان واضح عن شدة الصراع من أجل البقاء. ثم يتلو ذلك مقارنة بين الندرة والانقراض، مما يقدم فكرة أن بقاء الأنواع الموجودة وسيادتها يتوقفان على درجة تأقلمها مع الظروف المحيطة. في الطبعة الأولى، نجده فقط «ميالا للاعتقاد في كون علاقات بسيطة مثل تغير المناخ والطعام، أو دخول أعداء، أو زيادة عدد الأنواع الأخرى، سبب تعاقب الأجناس.» لكنه أخيرا (في الطبعة الأولى) ينهي الفصل بمقارنة بين انقراض أحد الأنواع واستنزاف ضروب من أشجار الفاكهة واختفائها؛ كما لو كان يعتقد أن كل نوع قد كتب عليه الحياة لمدة غامضة عند خلقه.
يثير الاختلاف في تناول مسألة جالاباجوس بعض الاهتمام. في الطبعة الأولى، جرت الإشارة إلى النمط الأمريكي للكائنات الموجودة في الجزر، وكذلك حقيقة أن الجزر المختلفة لديها أشكال حيوية خاصة بها، لكن أهمية المسألة كلها لا تطرح بقوة؛ هكذا، في الطبعة الأولى، يقول فقط:
هذا التشابه في النمط بين القارات والجزر البعيدة، مع اختلاف الأنواع في الوقت نفسه، بالكاد نال القدر الكافي من الملاحظة. قد يفسر هذا الوضع، حسب وجهات نظر بعض المؤلفين، القول بأن قوة الخلق قد عملت بالقانون نفسه على امتداد منطقة كبيرة. (الطبعة الأولى، صفحة 474)
هذه الفقرة غير موجودة في الطبعة الثانية، والتعميمات حول التوزيع الجغرافي أوسع وأكثر اكتمالا. وهكذا، فهو يتساءل:
لماذا كانت كائناتها الأصلية، متشابهة ... بنسب مختلفة في النوع والعدد عن تلك التي في القارة، وبالتالي تؤثر على بعضها البعض بأسلوب مختلف؛ لم خلقت على أنماط التكوين الأمريكي؟ (الطبعة الثانية، صفحة 393)
يظهر الاختلاف نفسه في المعالجة في مكان آخر في هذا الفصل؛ حيث يأتي وصف التدرج في شكل منقار الثلاثة عشر نوعا المتقاربة من طائر الحسون دون تعليق في الطبعة الأولى (صفحة 461). أما في الطبعة الثانية (صفحة 380)، فهو يخلص إلى الآتي:
قد يخيل إلى المرء من ندرة الطيور في هذا الأرخبيل، أن أحد الأنواع قد أخذ وجرى تعديله من أجل غايات مختلفة.
بوجه عام يبدو لي عدم وجود قدر أكبر من الاختلاف بين الطبعتين جديرا بالملاحظة؛ فهو دليل آخر على حذر المؤلف وانضباطه في معالجة نظريته. بعد قراءة الطبعة الثانية من «يوميات الأبحاث»، نجد بشعور حاد بالاندهاش مدى تطور آرائه في 1837. ونستطيع تكوين رأي واضح حول هذه النقطة من دفاتر الملاحظات التي كان يدون فيها أفكارا ورؤى مستقلة. وسوف أقتبس من دفتر الملاحظات الأول، الذي انتهى منه بين يوليو 1837 وفبراير 1838، وأكثر ما يجعل هذا مهما هو أنه يعطينا معرفة عميقة بالحالة التي كانت عليها أفكاره قبل قراءة كتاب مالثس. لكن حيث إن الملاحظات مكتوبة بأسلوبه الشديد التعجل، فسنجد أن كثيرا جدا من الكلمات محذوفة، حتى إنه كثيرا ما يتعسر الوصول إلى معنى. سأعرض الاقتباسات كما كانت مكتوبة مع استثناءات قليلة (تدل عليها أقواس مربعة). غير أن علامات الترقيم قد غيرت، وصوبت الأخطاء القليلة الواضحة حين بدا ذلك ضروريا. والاقتباسات ليست معروضة بالترتيب، وإنما مصنفة على نحو ما.
يفسر الانحدار لماذا الحيوانات الحديثة من نمط الحيوانات المنقرضة نفسه، وهو قانون شبه مثبت.
يمكننا أن نرى سبب شيوع بنية ما في بلاد معينة حين بالكاد نستطيع تصديق ضرورتها، لكن ما دام ذلك كان ضروريا لواحد من الأسلاف، فالنتيجة لا بد أن تصير إلى ما هي عليه؛ ومن ثم، نجد الظباء في رأس الرجاء الصالح؛ والجرابيات في أستراليا.
أعظم الاختلافات تكون بين المناطق التي انفصلت منذ زمن طويل - إذا كان الانفصال منذ عصور سحيقة، ربما يظهر نمطان متباينان، لكن لكل منهما أشكاله النموذجية - كما في أستراليا.
هل سينطبق هذا على المملكة الحيوية بأسرها حين برد كوكبنا في البداية؟
يوضح الاقتباسان التاليان كيف طبق نظرية التطور على «المملكة الحيوية بأسرها»، من النباتات حتى الإنسان.
إذا فضلنا أن نطلق العنان للفرضية، فقد نقول بأن الحيوانات، التي تعد رفاقنا في الألم والمرض والموت والمعاناة والجوع، والتي نستعبدها في أشق الأعمال، ونصاحبها في لحظات لهونا - ربما تشاركنا النشأة من سلف مشترك؛ فربما ننصهر جميعا معا.
الاختلاف في القدرات العقلية بين الإنسان والحيوانات ليس كبيرا كالاختلاف بين الكائنات الحية التي ليست لديها ملكة التفكير (النباتات)، والكائنات الحية التي تتمتع بملكة التفكير (الحيوانات).
مرة أخرى تتعلق الاقتباسات التالية بوجهة نظر استدلالية حول احتمال نشأة الأنواع عن طريق التناسل أو الانتشار (أو ما كان يسميه «الانحدار»).
ربما يجب أن تسمى شجرة الحياة بالشعبة المرجانية للحياة، التي منبت فروعها ميت؛ ومن ثم، لا يمكن رؤية التحولات.
ربما لم يكن ثمة مرتبة تطور بين الخنزير والتابير قط، إلا أنهما انحدرا من جد ما مشترك؛ هكذا إن كانت المراتب الوسيطة أنتجت عددا لا نهائيا من الأنواع، فالأرجح أن السلسلة كانت ستصبح أكثر كمالا.
ويتحدث في موضع آخر عن الأشكال الوسيطة، فيقول:
يعترض كوفييه على فكرة انحدار الأنواع بقوله: لماذا لم تكتشف أشكال وسيطة بين الباليوثيريوم
والميجالونيكس
Megalonyx
والمستودون، والأنواع الموجودة الآن؟ حسنا، وفقا لنظريتي (في أمريكا الجنوبية) قد يكون الأب لكل حيوانات المدرع شقيقا للبهضم - العم الذي انقرض الآن.
وحين يتحدث في موضع آخر عن الأشكال الوسيطة، يقول ملاحظا:
سيقول المعارضون: «أرنا إياها». وسأجيب أنا: حسنا، إذا أريتموني كل درجة بين كلاب البولدوج والكلاب السلوقية.
هنا نرى أن حالة الحيوانات الداجنة كانت موجودة في ذهنه بالفعل لارتباطها بإنتاج الأنواع الطبيعية. وبطبيعة الحال يؤدي اختفاء الأشكال الوسيطة إلى موضوع الانقراض، وهو ما يبدأ به الاقتباس التالي.
من الحقائق العجيبة أن تنقرض خيول وأفيال وحيوانات مستودون في الوقت نفسه في مواقع مختلفة هكذا.
هل سيقول السيد لايل إن أحد [نفس؟] الظروف قتلها على رقعة تمتد من إسبانيا إلى أمريكا الجنوبية؟ أبدا.
إنها تموت؛ لأنها لا تتغير، مثل تفاح جولدين بيبين؛ إنه «جيل من الأنواع» مثل جيل «من الأفراد».
لماذا يموت الفرد؟ لتخليد خواص معينة (ومن ثم التأقلم)، ومحو الضروب العارضة، وللتكيف مع التغيير (فإن التغيير، حتى في الضروب، تكيف). وينطبق هذا على الأنواع.
إذا لم يستطع الفرد التناسل، فلن تكون لديه ذرية - كذلك الأمر مع الأنواع.
إذا أنتج «نوع» «نوعا» آخر، فلن ينقطع نسبهما تماما؛ مثل تفاح جولدين بيبين، الذي ينمو حين ينتج بالبذور - أو يموت كله.
الحصان المتحفر نتج عنه الحمار الوحشي، في جنوب أفريقيا - واستمر - بينما انقرض في أمريكا.
كل حيوانات النوع الواحد مرتبطة معا تماما مثل براعم النباتات، التي تموت في الوقت نفسه، رغم أنها نبتت في وقت سابق أو لاحق، فلنثبت أن الحيوانات مثل النباتات - لنتعقب التدرج بين الحيوانات المترابطة وغير المترابطة - وستصير القصة مكتملة.
لدينا هنا وجهة النظر التي أشير إليها من قبل عن وجود مدة حياة معينة مكتوبة على كل نوع.
لكن في الملحوظة التالية نجد الانقراض مرتبطا بالتباين غير المواتي، وبهذا يعطى تلميح عن الانتقاء الطبيعي:
فيما يتعلق بالانقراض، يمكننا بسهولة أن نرى أن أحد ضروب النعام (الريا الصغرى) قد يكون غير متأقلم على نحو جيد ولذا قد ينقرض؛ أو، من ناحية أخرى، يمكن أن يتوالد الكثير من طائر الأورفيس [أحد طيور جالاباجوس]، لأنه يتأقلم جيدا مع الظروف. وهذا يستدعي المبدأ الذي يفيد بأن التباينات الدائمة الناتجة عن التكاثر المحدود والظروف المتغيرة تستمر وتتوالد حسب التأقلم مع تلك الظروف، ولذا فإن موت أحد الأنواع من عواقب عدم التأقلم مع الظروف (على عكس ما يبدو من أمريكا).
يحمل الجزء الأول من الاقتباس التالي فكرة مشابهة. ونهاية الفقرة مهمة للغاية، حيث تدل على أنه كان لديه في هذا التاريخ المبكر رؤى للطابع الواسع النطاق لنظرية التطور:
إن الإيمان بتطافر الأنواع والتجميع الجغرافي يؤدي بنا لمحاولة اكتشاف «مسببات» التغيير؛ وهكذا يصبح أسلوب عمل التكيف (هل كان رغبة الآباء؟) والغريزة والبنية مفعما بالتكهنات والملاحظات. يجب النظر لكل جيل على أنه اختزال [أي، مختزل في عدد صغير من أفضل الأفراد تنظيما]؛ اختبار لأقصى قدر مفهوم من التنظيم ... ستبعث نظريتي النشاط في التشريح المقارن للحفريات والكائنات الحديثة: فهي سوف تؤدي لدراسة الغرائز والوراثة ووراثة القدرات العقلية، والكثير مما وراء الطبيعة.
إنها سوف تؤدي لدراسة أكثر دقة للتهجين والتوالد ومسببات التغيير حتى نعلم مم نشأنا ولأين نتجه - ما الظروف المواتية للتهجين وما التي تمنعه - وهذا والفحص المباشر للتحولات المباشرة في بنية الأنواع ، قد يؤدي للوصول لقوانين التغير، وهو ما سيكون الموضوع الرئيسي للدراسة، التي سترشد تخميناتنا.
الاقتباسان التاليان يثيران اهتماما مماثلا؛ الثاني مثير للاهتمام على الخصوص، حيث يحتوي على بذرة الجملة الختامية لكتاب «أصل الأنواع»:
ربما كان يقال قبل اكتشاف قوة الجاذبية إن تفسير حركة كل [الكواكب] بقانون واحد صعب للغاية، مثل تفسير حركة كل واحد منها على حدة؛ وهكذا ربما يعتقد أن القول بأن كل الثدييات ولدت من أصل واحد، وتوزعت عن طريق وسائل يمكننا معرفتها، لا يفسر شيئا.
ربما قال علماء الفلك فيما مضى إن الرب نظم مسبقا كل كوكب ليتحرك في مساره الخاص. على الغرار نفسه قدر الرب لكل حيوان أن يخلق بأشكال معينة في بلاد معينة، لكن كم ستكون قدرة [الرب] أكثر بساطة وعظمة [إن] جعل الجاذبية تعمل وفقا لقانون محدد، بحيث تكون تلك عواقب حتمية - وجعل الحيوانات تخلق وفقا لقوانين توالد ثابتة بحيث تكون تلك هي خلفاءها.
وجعل قوانين النقل على ما هي عليه؛ وهكذا ستصير الأشكال في كل بلد بالنسبة للأخرى - وجعل التغيرات الجيولوجية تسير بهذا المعدل، بحيث يكون هذا هو عدد الأنواع وتوزيعها!
الاقتباسات الثلاثة التالية ذات فوائد متنوعة:
حين يرى أحدنا حلمة في صدر رجل، يرى أنها ليس لها أي استخدام، لكنها كانت مستخدمة عندما لم يكن الجنس قد تحدد في الإنسان البدائي - كذلك الأمر مع الأجنحة العديمة الفائدة أسفل أغمدة الخنافس - التي ولدت من خنافس ذات أجنحة، وعدلت؛ فلو كانت عملية الخلق بسيطة، لولدت دونها.
في التجمعات المتناقصة، نجد في أية لحظة عددا أقل من الكائنات القريبة بعضها من بعض؛ فنجد القليل من أنواع الأجناس؛ وفي النهاية نجد القليل من الأجناس (حيث تتقارب العلاقة سريعا)، وأخيرا، ربما يصير هناك جنس واحد. ألا يفسر هذا وجود الأجناس الغريبة ذات الأنواع القليلة الموجودة بين مجموعات كبيرة، التي نضطر لاعتبارها متزايدة؟
الاقتباس الأخير الذي سأعرضه يعطي بذرة نظريته عن العلاقة بين النباتات الجبلية في أجزاء مختلفة من العالم، التي سبقه إي فوربس في نشرها (انظر المجلد الأول، صفحة 72)؛ حيث قال، في دفتر ملاحظاته لعام 1837، إن النباتات الجبلية «أنواع من أجناس تبدلت، أو نباتات شمالية.»
حين نلتفت إلى ملخص نظريته، الذي كتبه في 1844 (ومن ثم، قبل الانتهاء من الطبعة الثانية لكتاب «يوميات الأبحاث»)، نجده أنجز تقدما هائلا في دفتر ملاحظات عام 1837. إن الملخص في الواقع عبارة عن عرض مكتمل لدرجة مدهشة للحجة التي ألفناها بعد ذلك في كتاب «أصل الأنواع». لكن بعض الغموض يكتنف تاريخ كتابة الملخص القصير الذي شكل أساس مقال عام 1844؛ فنحن نعلم من كلماته (المجلد الأول، الفصل الثاني) أنه كتب ملخصا قصيرا لآرائه لأول مرة في يونيو 1842. يؤيد هذا التصريح الكثير من الشواهد مما يؤكد استحالة أن نفترض احتواءه على خطأ في التاريخ. كما أنه يتفق مع الاقتباس التالي من مذكراته:
1842، 18 مايو؛ ذهبت إلى مير.
في 15 يونيو ذهبت إلى شروزبيري، وفي 18 يونيو ذهبت إلى كابل كيريج. وخلال إقامتي في مير وشروزبيري، كتبت ملخصا بالقلم الرصاص لنظرية الأنواع (وذلك بعد خمس سنوات من البدء في العمل عليها).
ومرة أخرى في مقدمة كتاب «أصل الأنواع»، الصفحة الأولى، يكتب قائلا: «بعد فترة استمرت خمس سنوات من العمل [من 1837؛ أي في 1842]، أتحت لنفسي تأمل الموضوع، ودونت بعض الملاحظات القصيرة عنه.»
بيد أن الخطاب الذي يحمل توقيع السير سي لايل والسير جيه دي هوكر، الذي كان مقدمة للبحث المشترك للسيدين سي داروين وإيه والاس حول «ميل الأنواع لتكوين ضروب ... إلخ»،
2
يقول إن مقال عام 1844 (الذي تكون مقتطفات منه جزءا من البحث) «كتب في عام 1839، ونسخ في عام 1844». من الواضح أن هذه العبارة مكتوبة استنادا إلى ملحوظة بخط يد أبي موجودة في صفحة جدول محتويات مقال 1844. وهي التي جاء بها التالي: «كتب هذا في 1839، ونسخ كاملا، كما كتب هنا وقرأتموه، في 1844.» أعتقد أن هذه الملاحظة أضيفت في 1858، حين أرسل المخطوط إلى السير جيه دي هوكر (انظر الخطاب الذي بتاريخ 29 يونيو، 1858، الفصل الثالث عشر). كذلك يوجد المزيد من الأدلة عن هذا الجانب من المسألة. كتب أبي إلى السيد والاس (25 يناير، 1859)، يقول : «كل من رأيته رأى أن بحثك مكتوب بطريقة جيدة جدا وشائق. إنه جعل أجزائي (المكتوبة في 1839؛ أي قبل عشرين عاما من الآن)، التي يجب أن أقول معتذرا إنني لم أكتبها قط بهدف النشر، تتضاءل أمامه.» لقد أشير كثيرا في ملاحظات متعلقة بسيرة أبي الذاتية، على مسئولية دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي» بلا شك، إلى أن أول ملخص كتب في عام 1839، لكن أعتقد أنه يجب اعتبارها مغلوطة. قد يكون الخطأ قد نشأ على النحو التالي؛ أعتقد أن أبي ربما كان يقصد، حين كتب في صفحة جدول محتويات مخطوطة مقال 1844 أن ملخصه أنجز في عام 1839، أن يوحي بأن الإطار العام للنظرية كان قد تبلور لديه بوضوح في ذلك التاريخ. في سيرته الذاتية (ارجع للفصل الثاني)، نجده يتحدث عن ذلك، فيقول «... عام 1839 تقريبا حين توصلت إلى تصور واضح للنظرية ...» وهو ما يعني، دون شك، نهاية عام 1838 وبداية 1839، حين أعطته قراءة عمل مالثس المفتاح لفكرة الانتقاء الطبيعي. لكن هذا التفسير لا ينطبق على خطابه إلى السيد والاس؛ وفيما يخص الفقرة التي في دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي»؛ فمن الصعب أن نفهم كيف سمح بأن تظل باقية كما هي الآن، لتوحي بالانطباع، الذي من الواضح أنها توحي به، أن عام 1839 كان تاريخ أول ملخصاته المكتوبة.
إن ملخص عام 1844 مكتوب بخط كاتب، في ملف من مائتين وإحدى وثلاثين صفحة، حيث تتداخل الصفحات الخاوية مع صفحات المخطوطة بقصد الاستفاضة. وقد روجع النص وصحح، وكتب أبي بنفسه تعديلات بالقلم الرصاص في الهامش. وهو منقسم إلى جزأين: الأول هو «حول تباين الكائنات الحية تحت تأثير التدجين وفي حالتها الطبيعية»، والثاني هو «حول الأدلة المؤيدة والمعارضة لوجهة النظر القائلة بأن الأنواع هي سلالات شكلت طبيعيا وانحدرت من أصول مشتركة.» يحتوي الجزء الأول على الموضوع الرئيسي لكتاب «أصل الأنواع». وهو يقوم، مثل حجة ذلك العمل، على دراسة الحيوانات الداجنة، ويبدأ كل من الملخص وكتاب «أصل الأنواع» بفصل حول التباين تحت تأثير التدجين وحول الانتقاء الاصطناعي. ويتبع هذا، في كلا المقالين، مناقشات حول التباين في الطبيعة، وحول الانتقاء الطبيعي، وحول الصراع من أجل الحياة. هنا، يتلاشى أي تشابه وثيق بين المقالين من ناحية الترتيب. الفصل الثالث من الملخص الذي يختم الجزء الأول، يتناول التباينات التي تلحق بغرائز الحيوانات وعاداتها؛ ومن ثم فهو يقابل إلى حد ما الفصل السابع من كتاب «أصل الأنواع» (الطبعة الأولى). وهو بذلك يشكل تتمة للفصول التي تتناول التباين في البناء. ويبدو أنه وضع في مرحلة مبكرة هكذا من المقال للحول دون الرفض المتعجل للنظرية بأسرها من أي قارئ قد تبدو له فكرة تأثير الانتقاء الطبيعي على الغرائز مستحيلة. هذا الاحتمال أرجح؛ حيث يشار بوجه خاص إلى الفصل الذي يدور حول الغريزة في كتاب «أصل الأنواع» (المقدمة، صفحة 5) على أنه يتناول واحدة «من أكثر الصعوبات التي أحاطت بالنظرية من حيث الوضوح والأهمية.» علاوة على ذلك، ينتهي الفصل في الملخص بقسم عنوانه «ما إن كان ثمة بنى جسدية بعينها ... خارقة بحيث تبرر رفض نظريتنا من الوهلة الأولى.» يأتي تحت هذا العنوان مناقشة العين، التي تجد محلها في كتاب «أصل الأنواع» في الفصل السادس تحت عنوان «صعوبات النظرية». يبدو أن الجزء الثاني وضع ليتفق مع إيمانه بصحة نظريته. وهذا ما صرح به في إيجاز في خطاب إلى الدكتور آسا جراي بتاريخ الحادي عشر من نوفمبر، 1859: «لا يمكنني بأي حال تصديق أن نظرية خاطئة قد تفسر فئات عديدة من الحقائق، مثلما تفعل نظريتي بالتأكيد حسبما أعتقد. على هذه الأرض أنزل مرساتي، وأعتقد أن الصعوبات ستزول بالتدريج.» بناء على هذا الأساس، وبعد أن عرض النظرية في الجزء الأول، يسعى لتوضيح لأي درجة يمكن شرح سلسلة عريضة متنوعة من الحقائق عن طريقها.
هكذا بالكاد يماثل الجزء الثاني من الملخص التسعة الفصول الختامية من الطبعة الأولى لكتاب «أصل الأنواع». لكن يجب أن نستثني الفصل السابع (من كتاب «أصل الأنواع») عن الغريزة الذي يشكل فصلا في الجزء الأول من الملخص، والفصل الثامن (من كتاب «أصل الأنواع») حول التهجين ، وهو الموضوع الذي نوقش في الملخص مع «التباين في الطبيعة» في الجزء الأول.
ستوضح القائمة التالية فصول الجزء الثاني من الملخص وما يناظرها من الفصول الأخيرة من كتاب «أصل الأنواع».
الفصل الأول: «حول النوع الضروري من الوساطة، وعدد تلك الأشكال الوسيطة».
يشمل هذا الفصل نقاشا جيولوجيا، ويناظر أجزاء من الفصلين السادس والتاسع من كتاب «أصل الأنواع».
الفصل الثاني: «الظهور والاختفاء التدريجيان للكائنات الحية». وهو يناظر الفصل العاشر في كتاب «أصل الأنواع».
الفصل الثالث: «التوزيع الجغرافي». وهو يناظر الفصل الحادي عشر والثاني عشر في كتاب «أصل الأنواع».
الفصل الرابع: «علاقات قرابة الكائنات الحية وتصنيفها».
الفصل الخامس: «وحدة النمط».
الفصل السادس: «الأعضاء الأثرية».
تناظر هذه الفصول الثلاثة الفصل الثاني عشر من كتاب «أصل الأنواع».
الفصل السابع: «تلخيص وختام». تتشابه الجملة الأخيرة في الملخص، التي رأيناها في شكلها الأول المبدئي في دفتر ملاحظات عام 1837، تشابها كبيرا مع الجملة الأخيرة في كتاب «أصل الأنواع»، مع وجود تطابق كبير بينهما. ولا ينقسم كتاب «أصل الأنواع» إلى «جزأين»، لكننا نرى أن آثار ذلك التقسيم كان موجودا في ذهن الكاتب، في هذا التشابه بين الجزء الثاني من الملخص والفصول الأخيرة من كتاب «أصل الأنواع». وربما يرجع حديثه
3
عن الفصول التي عن التحول والغريزة والتهجين والسجل الجيولوجي، باعتبارها تشكل مجموعة، إلى تقسيم مخطوطته الأولى إلى جزأين.
يشير السيد هكسلي، الذي تفضل بقراءة الملخص بناء على طلبي، إلى أنه رغم أن «خطوط النقاش الرئيسية» والتوضيحات المستخدمة واحدة فيما بين العملين، فإن مقال عام 1844 «ينسب قدرا أكبر من الأهمية لتأثير الظروف الخارجية في إحداث التباين، ولتوريث العادات المكتسبة، مقارنة بكتاب «أصل الأنواع».»
من المثير للاهتمام للغاية أن نجد في الملخص أول ذكر للمبادئ المألوفة لنا في كتاب «أصل الأنواع». ربما الأبرز بين هذه مبدأ الانتقاء الجنسي، الذي عرض بوضوح. وكذلك عرض الشكل الهام للانتقاء المعروف ب «الانتقاء غير المقصود». هنا أيضا يأتي بيان بالقانون الذي يفيد بأن الخواص المميزة تجنح للظهور في النسل في سن يطابق سن ظهورها في الوالدين .
وأخبرني البروفيسور نيوتن، الذي تكرم كثيرا بقراءة ملخص عام 1844 بإمعان، أن ملحوظات أبي حول هجرة الطيور، التي ترد عرضيا في أكثر من فقرة، تفصح عن أنه قد استبق آراء بعض الكتاب اللاحقين.
فيما يتعلق بالأسلوب العام للملخص، فلا يتوقع أن يكون به كل خصائص كتاب «أصل الأنواع»، وإننا، في الواقع، لا نجد ذلك التوازن والسيطرة، ولا ذلك التركيز والاستيعاب، التي نجدها بارزة للغاية في عمل سنة 1859.
في السيرة الذاتية التي كتبها أبي عن نفسه (ارجع للفصل الثاني)، صرح بما بدا له أنه العيب الرئيسي في ملخص عام 1844؛ فقد أغفل «مشكلة مهمة للغاية»، وهي مشكلة تشعب الطابع. وقد جرت مناقشة هذه النقطة في كتاب «أصل الأنواع»، لكن حيث إن الأمر قد لا يكون مألوفا لكل القراء، فسأعطي وصفا موجزا للمشكلة وحلها. يبدأ أبي بالقول بأن اختلاف الضروب فيما بينها أقل مقارنة بالأنواع، ثم يتابع حديثه قائلا: «بيد أنه، حسب وجهة نظري، الضروب هي أنواع في طور التكوين ... كيف إذن تتعاظم الاختلافات الأقل بين الضروب لتصبح اختلافات أكبر بين الأنواع؟»
4
وهو يوضح كيف يحدث تشعب مماثل تحت تأثير التدجين حيث انفصلت سلالة متجانسة في الأصل من الخيل إلى خيول سباق وخيول جر عربات، إلخ، ثم يواصل ليشرح كيف ينطبق المبدأ نفسه على الأنواع الطبيعية. «لمجرد أنه كلما كان المنحدرون من أي نوع واحد أكثر تنوعا في البناء والتكوين والعادات، كانت قدرتهم على اغتنام أماكن عديدة ومتنوعة تنوعا واسعا في نظام الطبيعة أفضل كثيرا؛ ومن ثم يصيرون قادرين على زيادة أعدادهم.»
يتجلى المبدأ في حقيقة أنه إذا بذر ضرب واحد من القمح في قطعة من الأرض، وبذر في أخرى خليط من الضروب، فسيكون المحصول في الحالة الأخيرة أكبر. تمكن عدد كبير من الأفراد من العيش لأنهم لم يكونوا جميعا من الضرب نفسه. يصير الكائن الحي أكثر كمالا وأكثر ملاءمة للبقاء حين تؤدي الأعضاء المختلفة وظائف الحياة المختلفة، بتقاسم الأعمال. على النحو ذاته يصير النوع أكثر كفاءة وأكثر قدرة على البقاء على قيد الحياة حين تتمايز أجزاؤه المختلفة بحيث تقوم بمهام مختلفة.
عند قراءة ملخص عام 1844، وجدت أنه من العسير اعتبار خلوه من أي بيان واضح لمبدأ التشعب عيبا في المقال. يوحي الانحدار مع التعديل بالتشعب، وقد أوضح المقال على نحو رائع فكرة الانحدار، ومن ثم التشعب، حتى إننا لا نلحظ غياب الدليل على أن التشعب في حد ذاته ميزة. وكما رأينا في فصل السيرة الذاتية، فإن أبي، في عام 1876، قد وجد أن تجاهله للمشكلة وحلها غير معقول بالمرة.
إن عرض الخطاب التالي هنا سيكون أفضل من عرضه حسب ترتيبه الزمني؛ حيث يوضح كيف كان شعور أبي تجاه قيمة الملخص في الوقت الذي انتهى منه فيه.]
من تشارلز داروين إلى السيدة داروين
داون، 5 يوليو، 1844
لقد انتهيت للتو من ملخص نظريتي عن الأنواع. إن، كما يخيل لي، لاقت نظريتي القبول في النهاية، حتى إذا كان لدى متخصص واحد متمرس، فستكون تلك خطوة هامة في العلم.
لذلك فإنني أكتب هذا في حالة وافتني المنية فجأة، ليكون رجائي الأصدق والأخير، وهو ما أوقن أنك ستعتبرينه كأنه أدرج في وصيتي قانونيا، أن تخصصي 400 جنيه إسترليني لنشره، وكذلك، أن تتكبدي العناء، أنت أو هينزلي، للترويج له. أتمنى أن يعطى ملخصي لشخص كفء، مع هذا المبلغ حتى يحثه على بذل الجهد في تحسينه والتوسع فيه. سوف أعطيه كل كتبي حول التاريخ الطبيعي، وهي إما مميز بها بعض الفقرات المهمة أو توجد في آخرها قائمة بالصفحات التي توجد بها هذه الفقرات، راجيا إياه مطالعة تلك الفقرات والتمعن فيها باهتمام وتحديد ما إذا كانت تتعلق بالفعل، أو يحتمل أنها تتعلق، بهذا الموضوع. أرجو أن تعدي قائمة بكل تلك الكتب كنوع من التحفيز للمحرر. كذلك أرجو أن تسلميه كل القصاصات المجمعة في ثمانية أو عشرة ملفات ورقية بنية. القصاصات، مع الاقتباسات المنقولة من أعمال متنوعة، هي التي قد تساعد المحرر. كذلك أبتغي أن تساهمي أنت، أو أحد النساخ، في فك شفرة أي من القصاصات التي قد يرى المحرر أنها ربما تكون مفيدة. وأترك لحكم المحرر ما إذا كان سيقحم هذه الحقائق في النص، أو على هيئة ملحوظات، أو في ملاحق. وحيث إن مطالعة المراجع والقصاصات سيكون عملا ممتدا، وحيث إن «تصحيح» ملخصي والتوسع والتبديل فيه سيستغرق وقتا طويلا أيضا، فإنني أترك مبلغ ال 400 جنيه إسترليني هذا كنوع من المكافأة، وكذلك أي أرباح من العمل. أعتقد أن على المحرر من أجل هذا أن يجعل الملخص ينشر سواء على مسئولية أحد الناشرين أو مسئوليته. تحتوي كثير من القصاصات في الملفات على مجرد اقتراحات مبدئية ووجهات نظر سابقة، وهي التي قد أصبحت عديمة الفائدة الآن، وغالبا سيتبين أن كثيرا من الحقائق ليس لها علاقة بنظريتي.
فيما يخص المحررين، سيكون السيد لايل الأفضل إذا تولى الأمر؛ أعتقد أنه سيجد العمل ممتعا، وسيتعلم بعض الحقائق الجديدة عليه. وحيث إن المحرر لا بد أن يكون عالم جيولوجيا وكذلك عالم تاريخ طبيعي، فإن ثاني أفضل محرر سيكون البروفيسور فوربس من لندن. يتلوه (والأفضل تماما في عدة نواح) البروفيسور هنزلو. والدكتور هوكر سيكون اختيارا جيدا «جدا». التالي هو السيد ستريكلاند. إن لم يقبل أحد من هؤلاء تولي الأمر، فسألتمس منك استشارة السيد لايل، أو رجل متمرس آخر، بشأن تزكية أحد المحررين الذي يجمع بين كونه جيولوجيا وعالم تاريخ طبيعي. إذا كانت مائة جنيه إسترليني أخرى هي التي سيتوقف عليها الاستعانة بمحرر جيد، فإنني ألتمس منك رفع المبلغ إلى 500 جنيه إسترليني.
يمكن إعطاء مجموعاتي المتبقية في مجال التاريخ الطبيعي لأي أحد أو أي متحف يقبل عرضها. [يبدو أن الملحوظة التالية قد شكلت جزءا من هذا الخطاب، لكن ربما كانت بتاريخ لاحق:
لايل، بمعاونة هوكر على الخصوص (وأي مساعد جيد في مجال علم الحيوان)، سيكون الاختيار الأفضل على الإطلاق. وما لم يتوفر المحرر الذي سيتعهد بأن يكرس وقته للأمر، لن تكون ثمة فائدة من دفع هذا المبلغ.
إذا كانت هناك صعوبة في الحصول على المحرر الذي سيدرس الموضوع دراسة مستفيضة، ويفكر في علاقة الفقرات المميزة في الكتب والمنقولة من قصاصات الورق، فلتدعي حينئذ ملخصي ينشر كما هو، مع ذكر أنه أنجز منذ عدة سنوات مضت، ومن الذاكرة دون الرجوع لأي أعمال، ودون نية نشره في شكله الحالي.
يبدو أن فكرة احتمال بقاء ملخص 1844، في حالة وفاته، التسجيل الوحيد لعمله، ظلت في ذهنه طويلا؛ حيث إنه في أغسطس من عام 1854، حين انتهى من دراسة هدابيات الأرجل، وكان يفكر في البدء في «عمله عن الأنواع»، أضاف في ظهر الخطاب أعلاه، «إن هوكر إلى حد كبير هو أفضل شخص لتحرير عملي حول الأنواع. أغسطس، 1854».]
الفصل الحادي عشر
تطور كتاب «أصل الأنواع»: الخطابات، 1843-1856
[يحكى تاريخ حياة أبي في مراسلاته مع السير جي دي هوكر على نحو أكثر اكتمالا من أي سلسلة أخرى من الخطابات، وينطبق هذا بوجه خاص على تاريخ تطور كتاب «أصل الأنواع»؛ ومن ثم، يبدو هذا موضعا ملائما للملحوظات التالية، التي تفضل السير جوزيف هوكر بإعطائي إياها؛ فهي، علاوة على ذلك، تعطي صورة مثيرة للاهتمام لبداية صداقته مع أبي: «كان أول لقاء لي مع السيد داروين في 1839، في ميدان ترفالجر. كنت أسير مع ضابط كان رفيقه لفترة قصيرة على متن «البيجل» قبل ذلك بسبع سنوات، لكنه لم يكن قد التقى به من وقتها، على ما أعتقد، فعرفه بي؛ كان اللقاء موجزا بالطبع، لكن الصورة التي رسمتها له في ذهني وما زلت محتفظا بها كانت لرجل طويل بعض الشيء وعريض المنكبين قليلا، لديه انحناء بسيط في ظهره، وسمت محبب ومفعم بالحياة حين يتحدث، وحاجبان كثيفان، وصوت عميق لكن عذب، وإن ترحيبه بزميله القديم كان خليقا ببحار؛ أي ينم عن الصدق والمودة على نحو مبهج. لقد راقبت شكله وانفعالاته جيدا؛ فقد كنت على علم بإنجازاته وجهوده، من قراءتي عدة بروفات لكتابه «يوميات الأبحاث» الذي لم يكن قد نشر بعد حينذاك؛ حيث كان السيد داروين قد أرسلها إلى السيد (الذي صار بعد ذلك السير تشارلز) لايل، الذي أرسلها بدوره إلى أبيه، حضرة السيد تشارلز لايل، مالك إقطاعية كينوردي، الذي (لكونه صديقا قديما جدا لأبي، ولاهتمامه الكريم بمهنتي المنتظرة كعالم تاريخ طبيعي) سمح لي بقراءتها بإمعان. في ذلك الوقت كنت أسرع لإكمال دراستي، حتى أحصل على درجتي العلمية قبل التطوع لمصاحبة السير جيمس روس في رحلة القطب الجنوبي الاستكشافية، التي كان ديوان البحرية قد قررها للتو؛ وقد كان وقتي ضيقا للغاية، حتى إنني اعتدت النوم وأوراق هذا الكتاب أسفل وسادتي، حتى أقرأها بين الاستيقاظ والنهوض. وقد تأثرت بها تأثرا عميقا، ربما لحد اليأس، نظرا لتنوع المهارات، الذهني منها والجسماني، المطلوبة في عالم التاريخ الطبيعي، الذي يجب أن يكمل ما بدأه داروين، وفي الوقت نفسه أشعلت في حماس الرغبة في السفر والملاحظة.
كان من المصادر الدائمة للسعادة بالنسبة لي أنني عرفت الكثير عن عمل السيد داروين العلمي عدة سنوات قبل أن تبدأ تلك الألفة التي تطورت إلى مشاعر قريبة جدا من مشاعر التبجيل لحياته وأعماله وشخصيته، بالقدر المنطقي والملائم. لا يبقى سوى أن أضيف لهذه الواقعة الصغيرة أنني تلقيت نسخة كاملة من كتاب «يوميات الأبحاث»، كهدية من السيد لايل، قبل مغادرة إنجلترا بأيام قليلة.
بدأت مراسلتي للسيد داروين (ديسمبر، 1843) سريعا جدا بعد الرجوع الرحلة الاستكشافية بأن أرسل لي خطابا طويلا، ليهنئني بحرارة على رجوعي لأسرتي وأصدقائي، معبرا عن أمنيته سماع المزيد عن نتائج الرحلة، التي استقى بعض المعلومات عنها من خطابات خاصة بي (مكتوبة إلى السيد لايل أو نقلت عن طريقه). بعد ذلك، تحول مباشرة للنقاش في مسائل علمية، ولفت انتباهي إلى أهمية الربط بين الحياة النباتية في تييرا ديل فويجو وتلك التي في سلاسل جبال أمريكا الجنوبية والتي في أوروبا، ودعاني لدراسة المجموعات النباتية التي جمعها من جزر جالاباجوس، وكذلك نباتاته التي أحضرها من باتاجونيا وتييرا ديل فويجو.
هذا جعلني أرسل له ملخصا للاستنتاجات التي استخلصتها فيما يخص توزيع النباتات في المناطق الجنوبية، وضرورة افتراض دمار مساحات كبيرة من اليابسة لتعليل علاقات الحياة النباتية لما يسمى الجزر القطبية الجنوبية. أنا لا أفترض أن أيا من هذه الأفكار كانت جديدة عليه، لكنها أدت إلى مراسلات مفعمة بالحيوية وطويلة زاخرة بالمعرفة .»
فيما يلي الخطاب (1843) المرسل إلى جيه دي هوكر المشار إليه أعلاه.]
سيدي العزيز
كنت أتمنى قبل هذا أن أسعد برؤيتك وتهنئتك على سلامة رجوعك من رحلتك الطويلة والمجيدة. لكن نظرا لأنني قلما أذهب إلى لندن، فقد لا نلتقي لبعض الوقت، إلا إن حملت على حضور اجتماعات الجمعية الجيولوجية.
إنني متلهف لمعرفة ما تنوي فعله بكل ما لديك من مواد - لقد سررت كثيرا بقراءة أجزاء من بعض خطاباتك، حتى إنني سأشعر بأسف شديد، إذا لم تسنح لي، باعتباري واحدا من العامة، فرصة قراءة المزيد. أفترض أنك الآن مشغول بشدة ومفعم بالبهجة: كم أتذكر جيدا سعادتي في الشهور القليلة الأولى لي في إنجلترا - فقد كانت تستحق كل المتاعب التي يصادفها المرء في مواجهة العديد من العواصف! لكنني ابتعدت عن الموضوع الذي جعلني أكتب إليك، وهو إبداء سعادتي بأن هنزلو (كما أخبرني منذ عدة أيام في خطاب) قد أرسل لك مجموعتي الصغيرة من النباتات. لا يمكن أن يخطر لك حجم سعادتي لذلك؛ حيث إنني كنت أخشى أنها قد تضيع كلها، وهي التي، على قلتها، صادفت متاعب جمة في جمعها. ثمة ملحوظات قليلة جدا، التي أعتقد أن هنزلو قد تلقاها، والتي تصف المواطن، إلخ، الخاصة بقليل من النباتات شديدة التميز. وقد أوليت الزهور الجبلية لتييرا ديل فويجو اهتماما خاصا، وأوقن أنني حصلت على كل النباتات التي كانت مزهرة في باتاجونيا في المواسم التي مرت حين كنا هناك. طالما اعتقدت أن أي موجز عام للحياة النباتية على اليابسة الممتدة بعيدا حتى البحار الجنوبية، سيكون مثيرا للفضول للغاية. فلتدل بملحوظات مقارنة حول الأنواع القريبة من الأنواع الأوروبية، لصالح الجهلاء في علم النباتات من أمثالي. طالما رأيت أن من النقاط المثيرة للفضول اكتشاف ما إن كان هناك العديد من الأجناس الأوروبية في تييرا ديل فويجو التي ليست موجودة على امتداد سلاسل جبال أمريكا الجنوبية؛ إن المقارنة في هذه الحالة ستكون هائلة، فلتذكر في أي موجز تضعه، أي الأجناس أمريكية وأيها أوروبية، وكم هي كبيرة الاختلافات بين الأنواع ، حين تكون الأجناس أوروبية، من أجل الجهلاء من أمثالي .
أرجو أن يرسل لك هنزلو نباتاتي التي أحضرتها من جزر جالاباجوس (وهي التي أبدى هومبولت نفسه اهتماما كبيرا بشأنها) - لقد تكبدت كثيرا من العناء في جمع كل ما استطعت جمعه. أعتقد أن نباتات هذا الأرخبيل تمثل حالة تكاد تكون موازية لتلك الخاصة بنباتات سانت هيلينا، التي طالما أثارت الاهتمام. أرجو المعذرة على هذا الخطاب الطويل غير المترابط، ولك مني كل الصدق يا سيدي العزيز.
مع إخلاصي الشديد
سي داروين
هلا تفضلت بإبلاغ السير دبليو هوكر احترامي وتحياتي؟ [كتب أبي عام 1846 مشيرا إلى عمل السير جيه دي هوكر عن الحياة النباتية في جالاباجوس قائلا:
لا أستطيع أن أخبرك بحجم سعادتي بنتائج دراستك واندهاشي منها؛ فكم تؤيد لدرجة غريبة فرضيتي حول الاختلافات في حيوانات الجزر المختلفة، التي طالما كانت مصدر قلق لي.
ثم كتب مرة أخرى (1849):
تلقيت أبحاثك حول جالاباجوس [التي نشرتها الجمعية اللينية وتضمنت نتائج دراسة هوكر لنباتات جالاباجوس الخاصة بأبي] منذ عدة أسابيع، وقد بدأت قراءتها بمجرد وصولها. حقا مهما قلت فلن أستطيع أن أعبر عن إعجابي الشديد بالنقاش الجغرافي الذي جاء بها: إنه في رأيي نموذج مثالي لما يجب أن يكون عليه نقاش كهذا؛ لقد استغرقني قراءته والتمعن فيه أربعة أيام. كم تبدو الحياة النباتية لجرز ساندويتش مثيرة للاهتمام! وكم أتمنى لو كانت لديك مواد حتى تتناول حياتها النباتية كما فعلت فيما يتعلق بجالاباجوس. في البحث التصنيفي، انتابني شيء من خيبة الأمل لعدم العثور على ملحوظات عامة عن علاقات القرابة والبنيات، إلخ، مثل التي غالبا ما تذكرها في الحوارات، ومثل التي قدمها دي كوندول وسانت إيلير في كل أبحاثهما تقريبا، وهو ما يجعلها مثيرة للاهتمام حتى لمن هو ليس بعالم نبات. «بعد ذلك بفترة وجيزة [يستأنف السير جيه دي هوكر الحديث] في خطاب بتاريخ يناير 1844، ذكر موضوع «أصل الأنواع»، وأعتقد أنني كنت أول من يخبره بأفكاره التي كانت جديدة حينذاك حول الموضوع، والتي أنقلها من خطابه هنا؛ لأهميتها باعتبارها مساهمة في تاريخ نظرية التطور»]:
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر [11 يناير، 1844]
بجانب اهتمامي العام بالأراضي الجنوبية، ما زلت منذ رجوعي مستغرقا في عمل به كثير من الافتراض، ولا أعرف شخصا لن يقول إنه سخيف للغاية. لقد اندهشت للغاية من توزيع الكائنات، إلخ، إلخ، في جزر جالاباجوس، ومن طبيعة الثدييات الأمريكية المتحفرة، إلخ، إلخ، حتى إنني عزمت أن أجمع عشوائيا الحقائق من كل نوع، التي قد تكون ذات علاقة بأي طريقة بماهية الأنواع. لقد قرأت أعدادا كبيرة من كتب الزراعة والبستنة، ولم أتوقف قط عن جمع الحقائق. وأخيرا بزغ بصيص من الضوء، وأكاد أكون مقتنعا (على عكس الرأي الذي بدأت به تماما) أن الأنواع (هذا يشبه الاعتراف بجريمة قتل) قابلة للتغير، فلتعذني السماء من هراء لامارك عن «النزعة للتطور» و«حالات التكيف الناتجة عن الإرادة البطيئة للحيوانات»، إلخ! لكن الاستنتاجات التي توصلت إليها ليست مختلفة اختلافا كبيرا عن استنتاجاته؛ رغم أن وسائل التغير مختلفة كلية. أعتقد أنني اكتشفت (ها هو افتراض!) الطريقة البسيطة التي تصير بها الأنواع متكيفة تكيفا بديعا لغايات متنوعة. إنك الآن ستتبرم، وتقول في نفسك: «ما هذا الرجل الذي أهدر وقتي في الكتابة إليه؟!» كنت أعتقد هذا منذ خمسة أعوام. [الخطاب التالي المكتوب في الثالث والعشرين من فبراير، 1844، يوضح أن معرفته بالسير جيه دي هوكر كانت تتطور سريعا إلى صداقة آنذاك. ترجع أهمية الخطاب في المقام الأول إلى أنه يبين نوع المشكلات التي كانت تشغل ذهن أبي في ذلك الوقت]:
عزيزي هوكر
أرجو أن تعذرني على تحرري في أسلوب مخاطبتك، لكنني أشعر أننا باعتبارنا شركاء في حب الترحال حول العالم وزملاء عمل (وإن كنت ضعيفا جدا في هذا الشأن) يجوز لنا أن ننحي جانبا بعضا من الرسميات التقليدية. انتهيت للتو من كتاب صغير حول الجزر البركانية التي زرناها. لا أعلم درجة اهتمامك بالموضوعات الجيولوجية المتخصصة، لكن أرجو أن تسمح لي بإرسال نسخة منه لك. أظن أنني أستطيع إرساله من لندن بالشحن عن طريق عربات البريد العادية. ... سوف أطرح عليك «المزيد» من الأسئلة، رغم أنني أعتقد، دون طرحها عليك، أنني سأرى إجابات عليها في عملك، حين ينشر، وهو ما سيأتي في وقت مناسب تماما لغاياتي. أولا بالنسبة لجالاباجوس، سترى في كتابي «يوميات الأبحاث»، أن الطيور، رغم أنها أنواع خاصة بهذا المكان، لديها طابع أمريكي جنوبي واضح؛ لقد تأكدت للتو أن الشيء نفسه ينطبق على أصداف البحر. الأمر كذلك مع تلك النباتات المميزة لهذا الأرخبيل؛ وأنت تذكر أن نسبها الرقمية قارية (أليست هذه حقيقة غريبة جدا؟) لكن هل هي قريبة في الأشكال لأمريكا الجنوبية؟ هل تعلم بحالة أي أرخبيل آخر، حيث تملك الجزر المنفصلة أنواعا نموذجية محددة؟ طالما عزمت (لكنني لم أفعل ذلك بعد) على أن أطالع عمل ويب وبيرتيلو حول جزر الكناري من أجل هذا الهدف. حين حادثت السيد بينثام أخبرني أن جزر أرخبيل ساندويتش المنفصلة احتوت على أنواع نموذجية محددة من أجناس الشفويات نفسها. ألن يستحق هذا بحثك؟ وكيف الحال بالنسبة لجزر الأزور؟ بالطبع قد تميل العواصف الغربية العاتية لنشر الأنواع نفسها على تلك المجموعة.
أرجو (وأعتقد أن رجائي غير ضروري على الإطلاق) أن تنتبه لهذا النوع العام من القرابة في الجزر المنفصلة، رغم أنني أفترض أن إدراك هذا النوع من العلاقات أصعب في النباتات منه في الطيور أو ذوات الأربع؛ لأن مجموعاتها، كما يخيل لي، أقل عددا بعض الشيء. هل يمكن تصنيف سانت هيلينا، وإن كان ذلك مستبعدا، سواء مع أفريقيا أو أمريكا الجنوبية؟ لقد حملت، من بعض الحقائق التي كنت قد جمعتها، على استنتاج أن حيوانات الجبال «إما» متشابهة لدرجة ملحوظة (أحيانا في وجود الأنواع نفسها وفي أحيان أخرى الأجناس نفسها)، «أو» مختلفة لدرجة ملحوظة. وقد خطر لي أنه ربما يمكن أن يعزى جزء من خصوصية الحياة النباتية في سانت هيلينا وجالاباجوس إلى أن جزءا كبيرا من هاتين الحياتين جبليتان. أخشى أن ملاحظاتي بالكاد تكفي لتمييز الكثير من مواطن نباتات جالاباجوس، لكنها قد تكفي في بعض الحالات. يأتي أغلب، إن لم يكن كل، النباتات الخضراء المورقة من قمم الجزر، وتأتي النباتات الرفيعة البنية العديمة الأوراق من الأجزاء القاحلة المنخفضة؛ هلا تفضلت بوضع هذه الملحوظة في الاعتبار، حين تفحص مجموعتي؟
سأزعجك بسؤال واحد آخر فقط. في مناقشة مع السيد جولد اكتشفت أن في أغلب أجناس الطيور الشائعة حول العالم أو في جزء كبير منه، تنتشر الأنواع الفردية على نطاق أوسع؛ ومن ثم فالبومة شائعة، والعديد من أنواعها منتشرة انتشارا كبيرا جدا. كذلك الأمر كما أعتقد مع أصداف البر والمياه العذبة - وأستطيع أن أورد حالات أخرى. لكن أليس الأمر كذلك مع النباتات اللازهرية؛ ألا تنتشر أغلب الأنواع انتشارا واسعا، في تلك الأجناس الشائعة؟ أنا لا أفترض أن العكس صحيح؛ أي إنه حين يكون النوع منتشرا انتشارا واسعا، فجنسه أيضا ينتشر انتشارا واسعا. هلا أسديتني معروفا بالتفكير في هذا الأمر من حين لآخر؟ فسوف أتكبد متاعب جمة لأحصل على قائمة بالأجناس الزهرية الشائعة ثم أبحث عن درجة قابلية أنواع هذه الأجناس للانتشار في بلادها المتعددة؛ لكن فلتضع هذا الأمر في اعتبارك فحسب من وقت لآخر، خلال مساعيك، رغم أنه من المحتمل أن تكون هذه المسألة قد خطرت لك أو لأحد من علماء النباتات منذ وقت طويل. تسلط الجيولوجيا الضوء على حقائق مثيرة، تخص توزع الأصداف؛ أعتقد أنه من المثبت لحد كبير أنه ما دام التوزيع الجغرافي لأحد الأنواع ممتدا، كذلك كان بقاؤه واستمراره. أرجو ألا تشعر بالكثير من الامتعاض تجاه خطاباتي، ولك مني أصدق تحياتي.
صديقك المخلص
سي داروين
ملحوظة:
إنني في غاية الامتنان على تكرمك بإهدائي صورة لهومبولت؛ إنني أجله، وبعد أن حظيت بمحادثته في لندن، تملكتني الرغبة في اقتناء صورة له. [الاقتباس التالي مأخوذ من ملحوظات السير جيه هوكر.
يبدأ الفصل التالي من مسرحية علاقتنا بتواصل شخصي. بدأ هذا بدعوة إلى الإفطار معه في منزل شقيقه (إيرازموس داروين) في شارع بارك؛ تلاها بعد فترة قصيرة دعوة إلى داون للقاء بعض الرفاق من علماء التاريخ الطبيعي. وفي الفترات القصيرة التي كانت تتحسن فيها صحته بعد فترات طويلة من المرض الذي كان كثيرا ما يجعل الحياة عبئا عليه، بين عامي 1844 و1847، تلقيت العديد من تلك الدعوات، التي كانت مبهجة بالنسبة لي. ولا يمكن تخيل منزل أكثر كرما ولا أكثر جاذبية من كل الاعتبارات من داون - كان هناك من رفاق العمل في أغلب الأحيان الدكتور فالكونر وإدوارد فوربس والبروفيسور بيل والسيد ووترهاوس - وكانت هناك جولات سير طويلة وأوقات من اللهو الصاخب مع الأطفال زحفا على اليدين والركبتين، وسماعا للموسيقى التي ما زالت تراودني حتى الآن. أتذكر أيضا أسلوب داروين الحميم، وضحكته العميقة، واستمتاعه التام بالحياة الأسرية مع الأصدقاء؛ وتنزهه معنا جميعا، وحواراته معنا الواحد تلو الآخر في غرفة مكتبه، لمناقشة بعض المسائل في فرع المعرفة البيولوجية أو الطبيعية الذي كنا ندرسه؛ وهي التي كنت على أي حال دائما ما أغادرها شاعرا أنني لم أمنح شيئا ولكن حملت أكثر مما كان يسعني حمله. لاحقا، حين زاد تدهور صحته، كنت لأيام وأسابيع عديدة زائره الوحيد؛ فكنت أحضر عملي معي وأستمتع بصحبته كيفما سنحت الفرصة. وكان من الأمور الثابتة أن يستجوبني كل يوم، على حد تعبيره، لنصف ساعة أو نحو ذلك بعد تناول الإفطار في مكتبه؛ حيث كان يأتي بكومة من الوريقات التي تحمل أسئلة في علم النبات والجغرافيا، إلخ، حتى أجيب عليها، ثم يختتم النقاش بأن يخبرني بالتطور الذي أنجزه في عمله، ويطلب رأيي في نقاط متنوعة. ثم ما كنت أراه حتى وقت الظهيرة تقريبا، حين كنت أسمع صوته العذب الرنان ينادي اسمي أسفل نافذتي - كان ذلك حتى أنضم إليه في جولة سيره اليومية ساعة الضحى حول الممشى الرملي. وحين كنت أنضم إليه، كنت أجده مرتديا معطف صيد رماديا خشنا في الصيف، وعباءة ثقيلة على منكبيه في الشتاء، ويحمل عصا غليظة في يده؛ وكنا نمشي متثاقلين في أنحاء الحديقة؛ حيث كانت هناك دائما تجربة لنتوقف عندها، ثم نتجه نحو الممشى الرملي، الذي كنا ندور حوله دورات ثابتة العدد، كان يجري خلالها حديثنا غالبا حول الأراضي والبحار الأجنبية، والأصدقاء القدامى، والكتب القديمة ، وأشياء بعيدة عن العقل والعين.
بعد الظهر كان ثمة جولة سير أخرى مشابهة، التي كان ينسحب مرة أخرى بعدها حتى العشاء إذا كان على ما يرام بما يكفي للانضمام إلى الأسرة؛ وإذا لم يكن كذلك، كان يذهب بصعوبة إلى غرفة الجلوس؛ حيث كان يستمتع بالموسيقى أو حديث أسرته، جالسا على كرسيه العالي وواضعا قدميه المنتعلتين خفين كبيرين على كرسي عال.
فيما يلي سلسلة من الخطابات توضح تطور آراء أبي، وطبيعة عمله أثناء هذه الفترة.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [1844] ... الاستنتاج الذي توصلت إليه هو أن أكثر المناطق التي تنتشر فيها الأنواع هي التي قد تكرر انفصالها وانعزالها عن المناطق الأخرى، ثم تجمعت معها وانفصلت عنها ثانية؛ وهي العملية التي تدل على قدم العهد وبعض التغيرات في الظروف الخارجية. سيبدو هذا الأمر افتراضيا جدا على نحو مبرر. لا أستطيع أن أعطي أسبابي بالتفصيل؛ لكن الاستنتاج الأعم، الذي يشير إليه التوزيع الجغرافي لكل الكائنات الحية كما يبدو لي، هو أن الانعزال هو الظرف الملازم أو المسبب الرئيسي لظهور أشكال «جديدة» (أعلم جيدا أن ثمة بعض الاستثناءات الجلية). ثانيا، من رؤيتي درجة انتشار النباتات والحيوانات في بلد ما، حين تدخل إليه، ومن رؤية العدد الضخم للنباتات التي ستعيش، في إنجلترا على سبيل المثال، إذا «حوفظ عليها من الحشائش والنباتات المحلية»، حملت على الاعتقاد أن انتشار الكائنات الحية في أي بلد وعددها يتوقفان على سماتها الخارجية بدرجة أقل، من اعتمادهما على عدد الأشكال، التي كانت هناك في الأصل، سواء خلقت أو أنتجت. أشك كثيرا فيما إن كنت ستجد أنه من الممكن تفسير عدد الأشكال بالاختلافات التناسبية للتعرض؛ ولا يمكنني الشك فيما إن كان نصف الأنواع في أي بلد قد دمرت أم لم تخلق، مع أن ذلك البلد يبدو لنا مأهولا بالكامل. فيما يخص الخلق الأصلي أو إنتاج أشكال جديدة، لقد قلت إن الانعزال يبدو هو العنصر الرئيسي؛ هكذا، فيما يتعلق بالكائنات الأرضية، أتوقع أن تحتوي قطعة الأرض، التي تكرر خلال الفترات الجيولوجية المتأخرة انفصالها وتحولها إلى جزر، وعادت إلى التجمع، على أغلب الأشكال.
لكن مثل هذه التخمينات إنما هي لتسلية صاحبها، وهي عديمة الفائدة في هذه الحالة؛ إذ لا تدل على أي خط ملاحظة مباشر؛ لو كنت رأيت كم هو افتراضي القليل الذي كتبته على نحو مبهم، لما كنت أزعجتك بقراءته. لك تحياتي، غير الافتراضية أخيرا.
مع إخلاصي الشديد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 1844 ... لقد نسيت ما كان في خطابي السابق، لكن لا بد أنه كان سخيفا جدا؛ حيث يبدو أنني أفصحت عن اعتقادي بتأثر عدد الأنواع إلى حد كبير بدرجة انعزال وانفصال المنطقة الموجودة بها؛ لا بد أنني كنت مخبولا حتى أكتب ذلك؛ فليس لدي دليل، ولا شخص مستعد لقبول كل آرائي؛ لكن في أكثر لحظاتي تفاؤلا، كل ما أتوقع هو أن أصير قادرا على أن أبين حتى لعلماء التاريخ الطبيعي الحصفاء، أن ثمة وجهين لمسألة عدم قابلية الأنواع للتغير؛ أن من الممكن رؤية الحقائق وتجميعها في ظل الاعتقاد بأن الأنواع القريبة من بعضها انحدرت من سلالات مشتركة. وفيما يتعلق بالكتب التي تتحدث عن هذا الموضوع، فليس لدي علم بأي كتب منهجية، سوى كتاب لامارك، والذي هو بحق حثالة؛ لكن ثمة كتب كثيرة، مثل كتب لايل وبريتشارد، إلخ، حول نظرية عدم قابلية الأنواع للتغير. وقد دفع أجاسي مؤخرا بأقوى حجة في صالح عدم قابلية الأنواع للتغير. وكتب إيزيدور جي سانت إيلير بعض المقالات الجيدة، التي تميل لتأييد فكرة القابلية للتغير، في سلسلة «سوت آبوفون»، تحت عنوان «علم الحيوان العام». أليس من الغريب أن يكتب مؤلف كتاب «الحيوانات اللافقارية» قائلا إن الحشرات، التي لا ترى بيضها قط، (وبالنسبة للنباتات، بذورها) لا بد أنها «ترغب» في أن تكون بأشكال معينة حتى تلتصق بأشياء معينة؟ الاعتقاد الشائع الآخر (الألماني بصفة خاصة) بالكاد يقل عن السابق عبثية؛ فهو يرى أن الطقس والغذاء، إلخ، قد يجعل القمل مهيأ لتسلق الشعر، أو نقار الخشب لتسلق الأشجار. أعتقد أن كل هذه الآراء العبثية تنبع، على حد علمي، من عدم تناول أي أحد للموضوع من زاوية التباين تحت تأثير التدجين، أو دراسة كل ما هو معروف حول التدجين. سررت للغاية بسماع نقدك بشأن الحياة النباتية على الجزر وعدم انتشار النباتات؛ الموضوع طويل جدا بحيث لا يمكن مناقشته في خطاب؛ يمكنني الدفاع عن نفسي إلى حد كبير، لكنني أشك ما إن كان سيكون دفاعا موفقا في عينيك، أم في عيني بالطبع.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [يوليو، 1844] ... أقرأ الآن كتابا رائعا يضم حقائق عن التباين - كتاب برون، «تاريخ الطبيعة». إنه مكتوب بلغة ألمانية صعبة، وإنه يستبقني، بإمتاع أحيانا، وبقسوة أحيانا أخرى. من الآن فصاعدا سيزداد فزعك مني عشرة أضعاف فزعك من إتش واطسون. أكره الحجج المستمدة من نتائج، لكن فيما يتعلق بآراء حول الانحدار، فالتاريخ الطبيعي في واقع الأمر يصبح موضوعا عظيما يولد النتائج على نحو رفيع (ربما تسخر مني الآن على زلة اللسان الغبية جدا هذه) ... لا بد أن أترك هذا الخطاب حتى الغد؛ لأنني متعب، لكنني أستمتع بشدة بالكتابة إليك، حتى إنني يجب أن أزعجك أكثر قليلا.
هل لديك أي دليل قوي على غياب الحشرات في الجزر الصغيرة؟ لقد وجدت ثلاثة عشر نوعا في جزر كيلينج المرجانية. إن الذباب ملقحات جيدة، وقد رأيت حشرة تربس مجهرية وذبابة من جنس السيسيدومايا
Cecidomyia
تطيران من زهرة في اتجاه أخرى وملتصقا بهما حبوب لقاح. في بلاد القطب الشمالي يبدو أن النحل يبتعد شمالا ليصل للزهور هناك.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
شروزبيري [سبتمبر، 1845]
عزيزي هوكر
أكتب إليك خطابا قصيرا لأقول لك إن كتاب «الكون» وصل سليما تماما، وحتى أشكرك على خطابك اللطيف. لقد بدأت للتو في المقدمة، وإنني أعاني بسبب الأسلوب، الذي يعد نصف المعركة في تلك الأجزاء. كم هي صحيحة كثير من الملحوظات (أقصد بقدر ما أستطيع أن أفهم من اللغة الإنجليزية الرديئة هذه) التي حول مشهد الطبيعة؛ إنها تعبير دقيق عن أفكار المرء.
ليتني كان لدي أي كتب لأعيرها لك مقابل الكتب الكثيرة التي أعرتني إياها!
كل ما تقوله لطفا عن عملي حول الأنواع لا يغير بمقدار ذرة وقاحتي التي طالما اعترفت بها في تجميع الحقائق والتكهن بشأن موضوع التباين، دون أن أكون قد أوليت مسألة الأنواع الجهد اللازم. لكن الآن بعد تسعة أعوام أجد أنها كانت أكبر مصادر المتعة بالنسبة لي على أي حال.
الوداع يا عزيزي هوكر، إنني لآسى أكثر مما قد تتخيل، على احتمال أن تكون لقاءاتنا نادرة.
إنني لم ألحظ قط فيك سوى عيب واحد، وهو أنك متواضع لدرجة خطيرة؛ فأنت استثناء من حكمة سيدني سميث، القائلة بأن التميز والتواضع ليس بينهما صلة، سوى ابتدائهما بالحرف نفسه.
الوداع
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إل جينينز (بلومفيلد)
داون، 12 أكتوبر [1845]
عزيزي جينينز
شكرا على خطابك. يؤسفني أن أقول إنني لم أتوصل حتى ولو إلى حقيقة بسيطة في علم الحيوان الإنجليزي حتى أوافيك بها. لقد اكتشفت أنه حتى الملاحظات البسيطة تحتاج، في حالتي، بعض الفراغ والطاقة، وهما العنصران اللذان لا أستطيع التفريط فيهما؛ حيث إن كتابة عملي الجيولوجي تستنفدهما تماما. طالما ظننت أنني سأحتفظ بدفتر يوميات وأدون فيه كل شيء، لكنني بالطريقة التي أعيش بها الآن اكتشفت أنني لا ألاحظ شيئا لأدونه؛ فالعناية بحديقتي وأشجاري، والذهاب في جولة مشي صغيرة للغاية أحيانا بذهن خال، تشغل فترة ما بعد الظهيرة كل يوم بالطريقة نفسها. إنني مندهش أنك مع كل ما لديك من أعمال أبرشيتك، كان لديك الوقت لتفعل كل ما قد فعلته. سيسرني كثيرا أن أرى عملك الصغير [«ملاحظات حول التاريخ الطبيعي»] (وكنت سأصبح فخورا لو كنت استطعت إضافة حقيقة واحدة إليه). إن عملي حول مسألة الأنواع ترك لدي انطباعا قويا جدا بأهمية كل الأعمال التي على غرار عملك المنتظر، التي تحتوي على ما يحلو للناس عامة أن يسموه حقائق تافهة؛ هذه هي الحقائق التي تجعل المرء يفهم آلية عمل الطبيعة أو تنظيمها. ثمة موضوع، يثير فضولي بشدة، وربما يمكنك أن تسلط عليه بعض الضوء، إذا كنت قد أوليته بعض التفكير من قبل؛ وهو: ما هي الضوابط وما هي فترات الحياة المتعلقة بتوقف زيادة أي نوع معين؟ فلتحسب الزيادة في عدد أي طائر، إذا افترضت أن نصف الصغار فقط هي التي تربى وهي التي تتوالد: في ظل حياة الآباء «الطبيعية» (أي الخالية من العوارض) سيكون عدد الأفراد هائلا، وقد اندهشت أيما اندهاش حين خطر لي مدى ضخامة الدمار الذي «لا بد» أنه يلحق سنويا أو عرضا بكل نوع، إلا أننا بالكاد ندرك وسائل هذا الدمار وفتراته.
إنني أواظب على القراءة عن تباين الحيوانات والنباتات الداجنة وماهية الأنواع وجمع الحقائق المتعلقة بهما. ولدي كم هائل من الحقائق، وأعتقد أن بإمكاني التوصل لبعض الاستنتاجات المنطقية. الاستنتاج العام الذي انسقت إليه ببطء من قناعة معاكسة تماما هو أن الأنواع قابلة للتغير، وأن الأنواع القريبة من بعضها شركاء في الانحدار من سلالات مشتركة. أعلم كم ما أعرض نفسي له من توبيخ على هذا الاستنتاج، لكنني على الأقل توصلت إليه بأمانة وترو. لكنني لن أنشر شيئا عن هذا الموضوع قبل عدة سنوات. في الوقت الحالي أعمل على كتاب «ملاحظات جيولوجية عن أمريكا الجنوبية». أرجو أن أجد في كتابك بعض الحقائق حول التباينات الطفيفة في بنية الحيوانات التي درستها أو غرائزها.
المخلص لك دائما
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إل جينينز
داون [1845؟]
عزيزي جينينز
إنني ممتن لك للغاية على ما تجشمته من عناء حتى تكتب لي هذا الخطاب الطويل. إن السؤال حول مكان توقف الزيادة في عدد نوع ما ووقته وكيفيته يبدو لي مثيرا للاهتمام بنحو خاص، وإن استعصاء حله علينا يوضح كم نحن جهلاء بحيوات أكثر ما نألفه من أنواعنا وعاداتها. كنت مدركا للحقيقة المجردة التي مفادها أن الطيور العجوزة تبعد صغارها، لكنني لم أفكر قط في التأثير الذي أشرت إليه بوضوح شديد، والمتعلق بسد الفجوات المحلية في العدد في الحال. لكن تبقى الصعوبة الأصلية: لو لم يقتل مزارعوك عصافيرك وغربانك، كيف كان سيصير حال تلك التي تهاجر الآن إلى أبرشيتك؟ في وسط إنجلترا يكون المرء بعيدا للغاية عن الحدود الطبيعية للغربان والعصافير ليفترض أن الصغار يطردون بعيدا هكذا من كامبريدجشير. لا بد أن توقف الزيادة يحدث بقوة في وقت ما في حياة كل نوع؛ إذ لو قدرنا أن نصف النسل فقط هو الذي يرعى ويتوالد، فكم ستكون الزيادة مهولة! إلا أنه لا يحق لأحد الشعور بالدهشة الشديدة من جهله، حين يعلم أنه من المستحيل أن يخمن مدة الحياة ونسبة حالات الوفاة لحالات الميلاد في البشر من دون إحصائيات. إذا كان من الممكن توضيح أن الطيور المهاجرة، فيما يبدو، «التي تتوالد هنا» وتتزايد ترجع في السنوات اللاحقة بالعدد نفسه تقريبا، في حين أن تلك التي تأتي هنا لقضاء الشتاء وموسم عدم التناسل سنويا، تأتي هنا بالعدد نفسه، لكن ترجع بأعداد منخفضة للغاية، فسنعرف (كما يبدو مرجحا بالتأكيد) أن توقف الزيادة يحدث في الأساس في الطيور المكتملة النمو في فصل الشتاء، وليس في البيض والطيور الصغيرة جدا، وهي الفترة التي كثيرا ما بدت لي الأرجح. إذا خطر على بالك أي ملحوظات حول هذا الموضوع في أي وقت، فسأكون في غاية الامتنان لإفادتي بها.
فيما يتعلق بعملي البعيد جدا حول الأنواع، فلا بد أنني عبرت عن نفسي مفتقرا الدقة على نحو استثنائي إذا كنت قد جعلتك تفترض أنني قصدت أن استنتاجاتي حتمية. لقد صارت كذلك، بعد سنوات من التمعن في الألغاز، لي «وحدي»؛ لكنني حتى في أكثر أحلام يقظتي جموحا لا أتوقع البتة أكثر من أن أكون قادرا على أن أوضح أن ثمة جانبين لمسألة عدم قابلية الأنواع للتغير؛ بعبارة أخرى، ما إذا كانت الأنواع تخلق «مباشرة» أم بقوانين وسيطة (مثل حياة الأفراد وموتهم). أنا لم أتناول الموضوع من ناحية صعوبة تحديد ماهية الأنواع وماهية الضروب، وإنما (رغم أنني لا أعرف لماذا أعرفك بتطور أعمالي) من ناحية تلك الحقائق مثل العلاقة بين الثدييات الحية والمنقرضة في أمريكا الجنوبية، وبين تلك التي تعيش في القارات والجزر المجاورة، مثل جالاباجوس. وقد خطر لي أن مجموعة من كل تلك الحقائق المتشابهة قد تنير الطريق إما لصالح أو ضد وجهة النظر القائلة بأن الأنواع المتقاربة تتشارك في الانحدار من أصل مشترك. ويحملني بحث طويل في كتب الزراعة والبستنة والناس على الاعتقاد (أعلم جيدا كم لا بد أن يبدو هذا من الوقاحة العبثية) بأنني أرى الطريقة التي تصير بها الضروب الجديدة متكيفة على نحو رائع مع ظروف الحياة الخارجية ومع الكائنات الأخرى المحيطة. إنني رجل جريء بحيث قد أجعل نفسي عرضة لاعتقاد الآخرين بأنني أحمق تماما، بل أحمق عن عمد. بناء على طبيعة الأسس التي تجعلني أعتقد أن الأنواع قابلة للتغير في الشكل، أرى أن هذه الأسس لا يمكن أن تقتصر على الأنواع الأكثر قربا من بعضها؛ لكن لا أعرف لأي مدى قد تمتد؛ حيث إن أسبابي تضعف بشدة، عند تطبيقها على الأنواع الأبعد والأبعد عن بعضها. أرجو ألا تعتقد أنني لا أستطيع أن أرى أن بأفكاري صعوبات كبيرة عديدة، لكنها تبدو لي أقل مما تبدو للآخرين. لقد كتبت ملخصا باستنتاجاتي (من 200 صفحة) وجعلته ينسخ؛ إذا تراءى لي ذات يوم في المستقبل أنك قد تراه جديرا بالقراءة، فسأكون بالطبع في غاية الامتنان لتلقي نقد من ناقد شديد التمكن مثلك. اعذرني على هذا الخطاب الأناني، مفرط الطول، رديء الأسلوب، الذي حملتني عليه بملحوظاتك.
مع صدقي وإخلاصي الشديد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إل جينينز
داون، 17 أكتوبر، 1846
عزيزي جينينز
أعتذر أنني لم أعرب قبل ذلك بوقت طويل عن امتناني لك على هديتك شديدة الكرم، وهو كتاب «ملاحظات حول التاريخ الطبيعي». لكن تصادف أنني كان لدي عدة كتب أخرى أقرؤها، ولم أنته من كتابك إلا منذ بضعة أيام. ولقد وجدت متعة شديدة في قراءته، وأثار كثير من الحقائق التي أوردتها فيه اهتمامي الشديد. وأعتقد أن ملحوظاتك حول بعض الحيوانات الدنيا أثارت اهتمامي أكثر من تلك التي عن الحيوانات العليا، وهو الشيء الغريب. بدت لي المقدمة جيدة جدا؛ لكن هذا ما توقعته؛ إذ أتذكر جيدا استمتاعي الشديد بالمقال التمهيدي المنشور في العدد الأول من مجلة «أنالز أوف ناتشورال هيستوري». لكنني افتقدت مناقشة واحدة، وأعتقد أنني خدعت؛ حيث أتذكر قولك إنك ستكتب بعض الملحوظات حول الطقس والبارومتر لإرشاد الجهلاء بمسألة التوقعات. كنت أرجو كذلك لو كنت قد وجدت بعض الملحوظات حول كم التباين في أنواعنا الشائعة. أعلن أندرو سميث ذات مرة أنه سوف يحضر مئات العينات من القنبرات والعصافير من جميع أنحاء بريطانيا العظمى، ويرى ما إن كان يستطيع أن يحدد، بأدق المقاييس، أي تباينات نسبية في المناقير أو الأطراف، وغيرها. وما يجعل هذه النقطة تثير اهتمامي أنني مؤخرا كنت أتصفح استنتاجي جلوجير وبريم المتناقضين لحد غير معقول؛ ذلك الذي يرى أن هناك ستة أنواع من كل طائر شائع، وذلك الذي يحول أنواعا عديدة معروفة إلى نوع واحد. هل سبق لك أن فعلت شيئا من هذا القبيل، أو هل درست من قبل أعمال جلوجير أو بريم؟ وقد أثار اهتمامي وصفك لطيور الخطاف؛ حيث كنت قد أصابتني حيرة تامة عند ملاحظة حدث كالذي تصفه تماما؛ فقد أحصيت ذات يوم مؤخرا، سبعة طيور يزورون العش نفسه ويدبقون الوحل على الجدار الملاصق. كذلك يحضرني أنني ذات مرة رأيت بعض السناجب وهي منكبة على تمزيق تلك العفصات الصغيرة الدائرية شبه الشفافة على ظهر أوراق شجرة بلوط من أجل اليرقات التي بداخلها؛ من ثم، فهي آكلة للحشرات. ذات مرة نفثت خنفساء من نوع سيكروس روستراتوس
Cychrus rostratus
في عيني وسببت لي ألما بالغا؛ ويجب أن أخبرك بما جرى لي على ضفاف نهر كام، في أيامي الأولى في دراسة الحشرات؛ حيث وجدت خنفستين أرضيتين (نسيت ماذا كانتا) أسفل قطعة من اللحاء، فأمسكت كل واحدة منهما بيد، وإذ فجأة رأيت خنفساء الصليب الأرضية الثمينة! لم أكن أستطيع أن أترك أيا من الخنفستين الأرضيتين، ولم يكن من المقبول أن أفقد خنفساء الصليب؛ هكذا أمسكت يائسا إحدى الخنفستين الأرضيتين بين أسناني برفق، وإذ بالوحش الطائش الصغير يرش حمضه في حلقي مسببا لي ألما وازدراء لا يوصفان، وفقدت كلتا الخنفستين الأرضيتين وخنفساء الصليب! اندهشت تماما لمعرفة أن هناك ديدان بلاناريا أرضية؛ فمنذ عام أو اثنين وصفت عدة أنواع أرضية ذات ألوان جميلة من نصف الكرة الجنوبي في مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»، وكنت أعتقد أنها حقيقة جديدة تماما. بالمناسبة، إنك تتحدث عن حالة أحد الخراف المكسور الساق غير المصاب بالديدان الطفيلية المثقبة. لقد سمعت أبي يؤكد أن الحمى أو أي «حادث خطير»، مثل الطرف المكسور، يخرج كل الديدان المعوية من جسد الإنسان. أليس محتملا أن هذا كان هو وضع الديدان المثقبة في حالتها الأولى؟
أرجو أن تكون أفضل حالا بعد رحلتك إلى ساوثامبتون [حيث كان اجتماع الجمعية البريطانية]؛ إذ أتمنى لو كنت تبدو أكثر امتلاء بعض الشيء. لقد استمتعت بهذا الأسبوع للغاية، وجعلني في حالة طيبة. افتقدتك في الأيام القليلة الأخيرة، ولم يتمكن قط كل منا من رؤية الآخر كثيرا؛ لكن كان هناك أناس كثيرون جدا، حتى إنني من ناحيتي لم أكد أرى أحدا. مرة أخرى أشكرك شكرا خالصا على هديتك الكريمة، والسعادة التي أدخلتها علي، ولك خالص تحياتي.
صديقك المخلص للأبد
سي داروين
ملحوظة:
لقد نسيت تماما أن أذكر كم أثارت مناقشتك حول إحصائيات الحيوانات اهتمامي لدرجة كبيرة! متى سيبلغ التاريخ الطبيعي درجة الكمال التي تصير معها تلك النقاط كالتي ناقشتها معروفة تماما عن أي حيوان؟
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
مولفرن، 13 يونيو [1849] ... أخيرا سوف أذهب إلى المطبعة بدراستي الصغيرة المحيرة عن هدابيات الأرجل؛ بعبارة أخرى، هدابيات الأرجل ذوات السويقات المتحفرة. لقد سألتني عن تأثير دراستي للأنواع على نظرياتي حول التباين؛ لا أعتقد أنها أثرت كثيرا - لقد شعرت بوجود صعوبات أكثر. من ناحية أخرى، لقد لفت انتباهي (ربما لدرجة الانصراف دون وجه حق عن الطائفة بالكامل) اختلاف كل جزء بدرجات طفيفة لحد ما في كل نوع؛ فعند مقارنة العضو نفسه مقارنة «دقيقة» في عدة أفراد، دائما ما أجد بعض الاختلاف الطفيف؛ ومن ثم فإن توصيف الأنواع من خلال بعض الاختلافات الدقيقة دائما خطير. كنت أعتقد أن الأجزاء نفسها في النوع نفسه أشبه (أكثر من هدابيات الأرجل على أي حال) بأشياء شكلت في القالب نفسه. كان العمل التصنيفي سيصير سهلا لولا هذا التباين المحير، الذي أجده رغم ذلك ممتعا بصفتي مخمنا، ولكن كريها بصفتي خبير تصنيف. تثير اهتمامي الشديد ملحوظاتك (المزعجة جدا بالنسبة لي) حول تميز توت الهيمالايا الشوكي وصفصافها، إلخ، مقارنة بتلك الموجودة في أمريكا الشمالية، إلخ؛ وإن كان لملخصي البسيط حول الأنواع أي نصيب «صغير» في توجيهك لهذه الملاحظات، فسيكون قد أفاد وقدم خدمة كبيرة بالفعل، ويمكنه هكذا أن يرقد في الأرض بسلام. لم أسمع قط شيئا في غرابة تجاهل فالكونر لخطاباتك؛ إنني في غاية السعادة لعودة الود بينكما، رغم أنه لا بد أنك بذلت جهدا كبيرا في سبيل ذلك. إن فالكونر رجل جدير بأن يحب. أرجو لك الرخاء في كل شيء يا عزيزي هوكر.
صديقك المحب
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الأربعاء [سبتمبر، من دون تاريخ] ... شكرا جزيلا على خطابك الذي تلقيته أمس، والذي جعلني، كالعادة، أعمل الفكر. أضحكني هجومك على تضييقي على فوربس في نظريته حول تغيرات المستوى، في حين كنت متساهلا جدا مع نفسي في هذا الشأن؛ لكن لا بد أن أؤكد أنني لم أر بارتفاع أو انخفاض سطح الأرض في أي مكان من أجل تبرير أي ظاهرة، وأثق أنني نادرا جدا ما فعلت ذلك دون دليل محدد؛ لذا ما زلت أعتقد أنها فكرة جريئة (وربما تكون صحيحة تماما) أن تهبط إلى أعماق المحيط قطعة كبيرة للغاية من السطح، خلال حياة الأنواع الموجودة. لكن لا يوجد قدر أو حد من التغير في المستوى، لست على أتم الاستعداد لأن أقر به، لكنني مضطر أن أقول إنني أريد دليلا أفضل من وجود بضعة نباتات، وهي التي «ربما» (ولا أقول غالبا) قد تكون نقلت إلى هناك بطريقة أخرى. أشكرك شكرا خاصا على محاولتك أن تحضر لي نسخة من عمل «النوع» [الذي ربما يكون مقال جوردون الذي نشر من قبل أكاديمية نانسي في عام 1848-1849 والذي ظهر فيما بعد ككتاب مستقل في عام 1859]، وأشكرك بالقدر نفسه تقريبا على انتقاداتك لكاتبه؛ لقد ارتبت فيه بعض الشيء، ولم تواتني رغبة عارمة في اعتبار ما ذكره من حقائق على أنها مسلم بها. وأجد أن هذه من أكبر الصعوبات التي تلاقيني مع المؤلفين الأجانب، ألا وهي الحكم على مصداقيتهم. كم كانت ملحوظتك صحيحة على نحو مؤلم (بالنسبة لي)، التي مفادها أنه ما من أحد لديه حق دراسة مسألة الأنواع ما لم يصف العديد منها وصفا دقيقا. إلا أنني سررت حين عرفت من أوين (المعارض بشدة لأي قول يرى بقابلية الأنواع للتغير) أنه اعتقد أنه موضوع مقبول للغاية، وأن الحقائق التي يجب طرحها فيما يخص المسألة كثيرة، لكنها لم تجمع حتى الآن. عزائي الوحيد (بينما أنوي محاولة دراسة هذا الموضوع)، أنني انخرطت في عدة فروع من التاريخ الطبيعي، ورأيت متخصصين أكفاء يستكشفون أنواعي، وأن لدي بعض المعرفة بالجيولوجيا (فهذا التزاوج المعرفي ضروري)، ورغم أن ما سألقاه من التقريع سيفوق ما سأتلقاه من المديح، فسوف أقدم على عملي، ما سمحت لي الحياة بذلك. أعتقد أن لامارك هو الاستثناء الوحيد الذي أستطيع أن أفكر به؛ حيث إنه واصف دقيق للأنواع على الأقل في مملكة اللافقاريات، وساوره الشك في مسألة الأنواع الثابتة، لكنه أضر بالموضوع في عمله المنافي للعقل رغم براعته، كما فعل مؤلف كتاب «بقايا»، ومثلما فعل السيد داروين (وذلك كما قد يقول بعض علماء التاريخ الطبيعي المتحررين في المستقبل الذين سيدرسون التخمينات نفسها).
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 25 سبتمبر [1853]
عزيزي هوكر
لقد قرأت بحثك بكثير من الاهتمام؛ إنه يبدو لي واضحا غاية الوضوح، وسوف يكون مقدمة جديرة بالتقدير لكتاب «نباتات نيوزيلاندا»، أو أي حياة نباتية في العالم. كم قلة هم المعممون بين المصنفين! أشك حقا أن ثمة أشياء متضاربة مع بعضها ومتعارضة تماما في الإطارين الذهنيين اللازمين للتصنيف والاستدلال استنادا إلى مجموعة كبيرة من الحقائق. تبدو لي كثير من حججك محكمة الصياغة للغاية، وحسب خبرتي، تبدو الطريقة المباشرة التي ناقشت بها الموضوع فريدة. سيكون العمل بأكمله مفيدا جدا لي متى بدأت في مجلدي، رغم أن بعض أجزائه تتعارض تماما مع آرائي؛ سيكون الأمر ممتعا تماما لي ... حيث كنت قد عقدت العزم لبعض الوقت على أن أعرض حجج «كلا» الطرفين (بقدر ما أستطيع)، بدلا من عرض حجج الطرف المؤيد للقابلية للتغير فقط.
في عملي عن هدابيات الأرجل (بالمناسبة، شكرا على إطرائك اللطيف لي؛ فهو يفيد الناس - أو يفيدني أنا على الأقل - بقدر كبير جدا)، لم أدرك أن إنكار «ثبات» الأنواع قد شكل اختلافا كبيرا بطريقة أو بأخرى؛ في بعض الحالات القليلة (لو كنت أكتب صراحة عن فكرة عدم الثبات) «ما» كان يجب أن أعطي أسماء، وفي بعض الحالات القليلة الأخرى كان يجب أن أعطي أسماء لضروب مميزة. بالتأكيد شعرت بالإهانة، عند المناقشة والشك، والفحص مرارا وتكرارا، في حين أن الشك الوحيد الذي خطر لي هو ما إن كان الشكل اختلف «اليوم» أم «في الماضي» (هذا على سبيل الصراحة، كما تقول شخصية سناجزبي [في رواية «المنزل الكئيب» لديكنز]). بعد وصف مجموعة من الأشكال على أنها أنواع محددة، وتمزيق مخطوطتي وجعلها نوعا واحدا، ثم تمزيقها ثانية وجعلها منفصلة، ثم جعلها نوعا واحدا مرة أخرى (هذا ما حدث لي حقا)، صررت على أسناني، ولعنت الأنواع، وتساءلت: ما الخطيئة التي ارتكبتها لأعاقب على هذا النحو؟ لكن يجب أن أقر أنه ربما الشيء نفسه تقريبا كان سيحدث لي في أي مجال عمل.
يسرني أيما سرور أن أسمع أن كتابك «مذكرات الهيمالايا» تحسن كثيرا؛ فكم من الرائع أن ترفق به صور! إن «عالم التاريخ الطبيعي الشرقي»، ذا الخيال الواسع والذي ليس له اهتمام كبير بالحقائق، هو الرجل المناسب حقا لمناقشة الأنواع! أعتقد أن عنوان «مذكرات عالم تاريخ طبيعي في الشرق» الذي اخترته جيد جدا، لكنني لا أعرف ما إن كان «في الهيمالايا» سيكون أفضل، حيث إن كلمة الشرق تبدو مبهمة بعض الشيء.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر [1853]
عزيزي هوكر
ليس لدي أي ملحوظات تستحق أن أرسلها لك على الإطلاق، ولم يكن من الوارد بالتأكيد أن أفعل؛ نظرا لمدى روعة المقال [المقال التمهيدي لكتاب جيه دي هوكر «نباتات نيوزيلاندا»] واستفاضته. أما فيما يتعلق برأيي، فهذا أهم نقاش نشر على الإطلاق حول الموضوع ذي الصلة. ولا يسعني أن أقول أكثر من ذلك. إنني متفق معك في كل ما تقوله تقريبا؛ لكنني أطالب بمزيد من الوقت لأستوعب مقالا بهذه الجودة. لقد أوشك أن يوقع بي الحزن، من ناحية بسبب الشعور بأنني لم أستطع الإجابة على بعض النقاط التي وددت لو كانت مختلفة من الناحية النظرية، ومن ناحية أخرى لأن ما رأيته مما فعلته «حتى الآن أفضل كثيرا» مما كان «بإمكاني» فعله، فيما يتعلق بنقاشات حول بعض النقاط التي كنت أنوي البدء في تناولها.
استمتعت كثيرا بالصفعات التي ناولتها لتجار الأنواع المحدودي الرؤية. أتمنى لو كان باستطاعتي تقديم ولو أقل قدر من العون. لقد أثار المقال برمته اهتمامي العميق؛ لذا أهنئك على كتابة مقال أعتقد أنه سيصير جديرا بالتذكر. لقد كنت مستغرقا فيه حين وصلني خطابك الشديد اللطف، الذي ترجوني فيه ألا أتعجل. أشكر السيدة هوكر وأشكرك بإخلاص شديد على رغبتكما في رؤيتي؛ فأنا لن أدع صيفا آخر يمر دون أن أراك في كيو؛ فأنا بالتأكيد سأستمتع بذلك للغاية.
إنك تفيض علي شرفا أكثر مما أستحق حقا، بوضعي بعد لايل عند ذكر مسألة ارتفاع الأرض وهبوطها. وخلال عام أو اثنين، حين أعمل في كتابي عن الأنواع (إذا سمحت صحتي بذلك)، سوف أثور وأهاجمك لطرح الكثير من الحقائق المتعارضة بأسلوب جيد لدرجة محيرة.
صديقك المحب للأبد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 26 مارس [1854]
عزيزي هوكر
كنت أتمنى لو حظيت بفترة راحة قصيرة بعد العمل في كتابك عن الهيمالايا، لكن يبدو أن هذا بعيد جدا عما حدث. وإنني في غاية الامتنان (والندم بعض الشيء) على الخطاب الطويل الذي تلقيته هذا الصباح، الدسم جدا بالأخبار والمثير جدا بالنسبة لي من نواح عدة. إنني سعيد جدا بالطبع لسماع أخبار عن التعديلات، وما إلى ذلك، في الجمعية الملكية. أما فيما يخص النادي [النادي الفلسفي للجمعية الملكية]، فيحدوني اهتمام بالغ بشأنه؛ فمنذ يومين أو ثلاثة فقط، كنت أعبر لزوجتي عن ندمي على ما سمحت به من هجري لجميع معارفي تقريبا وهجرهم لي، وأنني سوف أحاول أن أكثر من الذهاب إلى لندن؛ لم أكن ساعتها أفكر في النادي، الذي يعد أكثر الأمور التي ستلبي غرضي في الحفاظ على المعارف القديمة واكتساب بعض المعارف الجديدة؛ لذلك سوف آتي إلى لندن من أجل كل اجتماعات النادي (إلا في حالات استثنائية نادرة)، وأعتقد أن حالتي العقلية فيما بعد ستسمح لي بالذهاب في الغالب لأي اجتماع آخر. لكن من المحزن أن أي تغيير صار كثيرا ما يرهقني. علاوة على ذلك، سأتعهد، كما أخبرت لايل، بأن أستقيل بعد عام، إن لم أداوم على الحضور، وذلك حتى لا أعيق «في أسوأ الأحوال» مسيرة النادي إلا بنحو مؤقت. وإذا استطعت أن تجعلني أنتخب، فسأكون في غاية السعادة بلا شك. أشكرك شكرا وافرا وجزيلا على ردودك بشأن الأنهار الجليدية. ويسرني كثيرا ما سمعته بشأن إصدار الطبعة الثانية [من كتاب «مذكرات الهيمالايا»] بهذه السرعة الشديدة؛ لكنني لست مندهشا؛ حيث سمعت أن أناسا عديدة، في دائرتنا الصغيرة، قرءوه باستمتاع شديد جدا. وينتابني الفضول لسماع ما سيقوله هومبولت بشأنه؛ أعتقد أنه سيسر به، ويلقاه بمديح أكثر من أي كتاب أسفار آخر؛ فأنا لا أستطيع أن أتذكر كتابا به العديد من المواضيع المشتركة مع موضوعات أعماله. يا له من رفيق عجوز رائع! ... بالمناسبة، أرجو، أن ترغم حين تذهب إلى هيتشام، قرب نهاية مايو، على أن تنال قسطا من الراحة. يؤسفني أن أسمع أن كل الأعراض السيئة لم تغادر هنزلو؛ إنه لأمر غريب وجديد أن يراودنا قلق على صحته. إنني ممتن لك بوجه خاص على إرسال خطاب آسا جراي؛ يا له من أسلوب ممتع للغاية ذلك الذي يكتب به! إن رؤية تحفظك وتحفظه تجاه مسألة الأنواع تجعل الارتباك والخزي يجتاحانني؛ فهذا يجعلني حقا أشعر بانزعاج شديد ... سرني سماع كل ما يقوله عن أجاسي: كم هو نادر أن يكتب رجل، بهذه «الدرجة الرفيعة» من البراعة، وبهذه المعرفة «الواسعة» بالعديد من فروع التاريخ الطبيعي، بالأسلوب الذي يكتب به! أخبرني لايل أنه كان سعيدا للغاية بإحدى محاضراته (محاضرات أجاسي) حول التطور التدريجي، إلخ، إلخ، حتى إنه ذهب إليه فيما بعد وأخبره «أنها كانت ممتعة للغاية، حتى إنه ظل يتمنى طوال الوقت أن تكون حقيقة.» نادرا ما أرى بحثا في علم الحيوان من أمريكا الشمالية، دون ملاحظة بصمة أفكار أجاسي عليه - وهو دليل آخر، بالمناسبة، على مدى عظمة هذا الرجل. أسعدتني وأدهشتني رؤية ملحوظات إيه جراي حول تهجين الضروب والقضاء عليها، وهو الشيء الذي ما أبرح أجمع عنه الحقائق منذ اثني عشر عاما، كما تعلم. كم سأشعر بيأس فظيع، إذا جمعت معا ملحوظاتي حول الأنواع، إلخ، إلخ، ثم لم يسفر الموضوع عن شيء! لا تشق على نفسك كثيرا في العمل.
صديقك الأوفى إلى الأبد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 5 نوفمبر [1854]
عزيزي هوكر
سرني تلقي خطابك أمس. أهنئك من كل قلبي [من أجل حصوله على ميدالية الجمعية الملكية]، وسواء كان اكتراثك بالأمر كبيرا أو قليلا، يسعدني أن أرى اعتراف أعلى مجلس علمي في بريطانيا العظمى بمكانتك. أرجو بحق أن تكون السيدة هوكر مسرورة بالأمر، وترغب إيما أن أبلغكما خصيصا خالص تهانيها ... من أعماق قلبي آسف على الخطبة التي ستلقيها بعد العشاء، التي أخشى أنني لن أسمعها. لو لم تكن تتمتع بطوية أعظم كثيرا من طويتي (وإنني أعتقد هذا حقا)، فستجد في الميدالية حافزا صغيرا مبهجا؛ فحين يتعسر الحال بالعمل، وتتأمل عبثية كل شيء، من السار أن تجد دليلا ملموسا على أن الآخرين يرون شيئا بارزا في مجهوداتك.
إلى اللقاء يا عزيزي هوكر، وأستطيع أن أؤكد [لك] أن كلينا استمتع كثيرا حقا بزيارتك أنت والسيدة هوكر لنا هنا. الوداع يا عزيزي هوكر.
صديقك المخلص
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
7 مارس، [1855] ... انتهيت للتو من دراسة كتاب وولستن [توماس فيرنون وولستن ]، «حشرات ماديرا»؛ إنه عمل «جدير بالتقدير». ثمة نقطة غريبة جدا متعلقة بالنسبة المدهشة لغمديات الأجنحة العديمة الأجنحة؛ وأعتقد أنني خمنت السبب، وهو أن القدرة على الطيران ستكون مضرة للحشرات التي تعيش في موقع محدود، وتعرضها لأن يعصف بها في البحر؛ لاختبار هذا الأمر، أجد أن الحشرات التي تعيش في جزيرة ديزيرت جراند، وهي جزيرة صغيرة للغاية، ستكون أكثر تعرضا لهذا الخطر، وهنا نسبة الحشرات عديمة الأجنحة أعلى كثيرا حتى من التي على أرخبيل جزر ماديرا. ويتحدث وولستن عن ماديرا والأرخبيلات الأخرى على أنها «شهود ثابتة ومؤكدة على قارة فوربس القديمة»، وبالطبع عالم دراسة الحشرات ينتصر لهذا الرأي بصورة ضمنية. لكنني أرى من وجهة نظري أن الحقائق المخالفة لهذا الرأي كثيرة جدا. إنه من المقزز والمهين بحق أن ترى استنتاجات متناقضة تماما مستمدة من الحقائق نفسها.
تبادلت بعض الخطابات مع وولستن حول هذا الموضوع وموضوعات أخرى، واكتشفت أنه يفترض بثقة، (1) أن الحشرات في الماضي كانت تتمتع بقدرات أكبر على الارتحال من الآن، (2) وأن اليابسة القديمة كانت ثرية «بنحو خاص» في مراكز الخلق، (3) وأن اليابسة المتصلة دمرت قبل أن يتاح الوقت للكائنات الخاصة للانتشار، (4) وأن اليابسة قد تفككت قبل أن يتاح الوقت لفصائل وأجناس معينة للوصول من أوروبا أو أفريقيا إلى بقاع اليابسة محل النقاش. أليست هذه الافتراضات كثيرة للغاية؟ ورغم ذلك سأظل أرى خلال الاثني عشر أو العشرين عاما القادمة الاقتباس من كلام وولستن كبرهان على ادعاء فوربس المسكين بالوجود السابق لقارة أتلانتس.
أرجو ألا أكون قد أثقلت عليك، لكنني اعتقدت أنك سترغب في أن تسمع أخبارا عن هذا الكتاب، الذي أراه «ممتازا» فيما يضمه من حقائق، وأرى مؤلفه رجلا في غاية اللطف والتواضع.
المخلص لك بشدة
سي داروين
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، 19 مارس، [1855]
عزيزي فوكس
لقد مضى وقت طويل منذ آخر تواصل بيننا، وإنني أريد حقا معرفة كيف حالك؛ لكن هدفي الحالي هو أن أطلب منك رصد أمر ما من أجلي، ولأنني أعلم أنك الآن رجل مشغول للغاية ولديك الكثير جدا لتفعله، فإن احتمال أن تفعل ما أريد كبير؛ فلا جدوى أن تطلب شيئا من رجل متعطل تماما. حيث إن لديك مجموعة متنوعة من الحيوانات، فلا بد أن لديك حماما. (كم أتمنى أن يكون حماما هزازا إن أمكن!) ما أريد معرفته الآن هو العمر الذي ينمو فيه ريش ذيل أفراخ الحمام بالقدر الكافي بحيث يمكن عده. لا أعتقد أنني رأيت حمامة صغيرة من قبل. إنني أعمل باجتهاد على ملحوظاتي، أجمعها وأقارن بينها، حتى أكتب خلال عامين أو ثلاثة كتابا يحتوي على كل الحقائق والحجج، التي يمكنني جمعها، عن وجهي مسألة عدم قابلية الأنواع للتغير. أريد الحصول على صغار سلالاتنا الداجنة، لأرى في أي سن صغيرة تظهر التغييرات ولأي درجة. لا بد أن أربي بنفسي الحمام (وهو ليس أمرا مسليا لي وإنما مضجر وبغيض) أو أشتري صغاره؛ لكن قبل الذهاب إلى البائع، الذي سمعت عنه من ياريل، أرغب حقا في معرفة شيء عن نموها، حتى لا أكشف عن جهلي الشديد؛ ومن ثم، أصير معرضا بشدة للغش والخداع. أما فيما يتعلق بنقطة ريش الذيل، فهي بالطبع مرتبطة بالنمو الغريب لريش الذيل في الكبار من الحمام الهزاز. إذا كانت لديك أي سلالة نقية من الدواجن، سأرجو منك دجاجة بالسن التالية تحديدا؛ أسبوع أو أسبوعين تقريبا. ولترسلها في صندوق بالبريد، إذا كنت لا تأبه لقتل واحدة منها؛ ولتسمح لي بسداد رسوم البريد. لا شك أنه سيسرني كثيرا أن يصلني فرخ حمام جبلي؛ فأنا أنوي استخلاص الهياكل العظمية، وبدأت للتو بالفعل المقارنة بين البط البري والداجن. وأعتقد أن النتائج غريبة بعض الشيء؛ إذ عند وزن العظام المتعددة بعناية شديدة، بينما اختلفت الأوزان التناسبية للاثنين كثيرا بعد تنظيفهما تماما، كان وزن قدم البطة الداجنة أكبر كثيرا. كم أتمنى لو أستطيع الحصول على بطة برية صغيرة في عمر أسبوع، لكن أعلم أن هذا شبه مستحيل.
أما أخبارنا، فليس لدي الكثير لأقوله؛ منزلنا الآن صاخب بالسعال الديكي لحد فظيع، لكن فيما عدا ذلك كل شيء على ما يرام. أما أفضل خبر عني على الإطلاق، فهو أنني انتهيت إلى حد كبير أخيرا من دراسة البرنقيلات الأزلية. وفي نهاية العام مرض اثنان من فتياننا الصغار مرضا شديدا بالحمى والتهاب الشعب الهوائية، وشتى أنواع الأمراض؛ لذلك بدافع الترفيه من ناحية، وبدافع تغيير المكان من ناحية أخرى، ذهبنا إلى لندن واستأجرنا منزلا لمدة شهر، لكن حاق الفشل الذريع بالأمر؛ حيث حل ذلك الصقيع المريع بمجرد أن ذهبنا، وساء الحال بجميع أطفالنا، وأصبت أنا وإيما بالسعال والبرد والروماتيزم طوال الوقت تقريبا. كان في مقدمة قائمة الأشياء التي نوينا أن نفعلها الذهاب لرؤية السيدة فوكس، لكن بعد الانتظار لبعض الوقت لنرى ما إذا كان الطقس سيتحسن، لم نحظ بيوم يستطيع كلانا الخروج فيه.
أرجو بحق ألا يمضي وقت طويل جدا قبل أن تستطيع زيارتنا. إن الزمن يداهمنا، والكهولة تلاحقنا. أرجو أن تطمئنا على نفسك وأسرتك الكبيرة كلها.
أعلم أنك ستساعدني «إذا استطعت» بمعلومات عن صغار الحمام؛ وفي كل الأحوال، فلتكتب لي في أقرب فرصة.
تحياتي لك عزيزي فوكس، صديقك الغالي المخلص
سي داروين
ملحوظة:
من بين جميع أنواع الأشياء المتفرقة التي أتسلى بها، أقارن بين بذور ضروب النباتات. كان لدي من قبل بعض بذور الكرنب البري التي أعطيتها شخصا ما، هل كان هذا أنت؟ ثمة احتمال كبير للغاية أنها قد جرى التخلص منها، فإذا لم يكن الأمر كذلك، فسيسرني كثيرا أن أحصل على القليل منها. [يشير الاقتباس التالي من خطاب إلى السيد فوكس (27 مارس، 1855) إلى موضوع الخطاب السابق نفسه، ويعطي لمحة عن «عمله عن الأنواع»: «الطريقة التي سأقتل بها الصغار ستكون بوضعها أسفل كوب زجاجي مع ملعقة صغيرة من الإيثر أو الكلوروفورم، على أن يكون الكوب ضاغطا على سطح مرن، وتركها لمدة ساعة أو اثنتين؛ فالصغار لديها قدرة كبيرة على التمسك بالحياة. (لقد قتلت من قبل عثا وفراشات بهذه الطريقة.) ستكون الطريقة المثلى أن ترسلها بمجرد أن تشتريها، في صندوق من الورق المقوى بالبريد؛ حيث يمكنك الكتابة عليه وربطه جيدا بحبل؛ وسوف تزيد من أسباب سعادتي حقا بأن تسمح لي بمعرفة رسوم البريد، إلخ. أقسم إنني لا أكاد أصدق أنه قد يكون ثمة «أحد» بهذا القدر من نقاء السريرة بحيث يتحمل هذه المشقة ويفعل شيئا بغيضا للغاية مثل قتل صغار الطيور؛ وإنني على يقين شديد أنني لا أعرف نفسا واحدة قد تفعل هذا، باستثنائك أنت. سوف أطلب منك شيئا آخر؛ إذا ماتت لديك طيور إناث عجوزة من أي من الدواجن المذكورة آنفا (عدا البط) أو كانت عجوزة لدرجة أصبحت معها «عديمة الجدوى»، فأرجو أن ترسلها لي عن طريق السكك الحديدية، موجهة إلى «سي داروين، عناية السيد أكتون، مكتب البريد، بروملي، كنت». هلا احتفظت بهذا العنوان باعتباره أقصر طريقة لإرسال الطرود؟ لكنني لا آبه كثيرا لهذا الأمر؛ حيث بإمكاني شراء الطيور العجوزة نافقة من بايلي لاستخلاص هياكلها العظمية. كان لا بد أن أكتب لك في الحال حتى لو لم يكن قد جاءني منك رد، حتى أرجوك ألا تكلف نفسك مشقة كبيرة بشأن الحمام؛ حيث إن ياريل قد أقنعني بأن أشرع في التربية، والآن أجهز مكانا، وقد كتبت إلى بايلي بشأن الأسعار، إلخ، إلخ. أود كثيرا (حين يتحسن بك الحال) أن أسمع «يوما ما» القليل عن «بطتك الصياحة الصغيرة»؛ لماذا سميت بهذا الاسم؟ ومن أين حصلت عليها؟ وكيف تبدو؟ كنت في غاية الجهل؛ فلم أعلم أن ثمة ثلاثة ضروب من دواجن دوركينج؛ ما أوجه اختلافها؟
نسيت ما إن كنت قد أخبرتك من قبل بهدف عملي الحالي؛ إنه النظر في كل الحقائق التي يمكنني أن أجمعها (وا أسفاه؛ وا أسفاه، كم أجد نفسي جاهلا!) في التاريخ الطبيعي (فيما يتعلق بالتوزيع الجغرافي والحفريات والتصنيف والتهجين والحيوانات والنباتات الداجنة، إلخ، إلخ، إلخ) لأرى لأي حد تؤيد أو تعارض فكرة أن الأنواع البرية قابلة أو غير قابلة للتغير: أعتزم بأقصى ما أوتيت من قوة أن أعطي كل الحجج والحقائق الخاصة بالطرفين. ولدي «عدد» من الناس الذين يساعدونني بكل السبل، ويسدون لي أفضل العون؛ لكن كثيرا ما يساورني الشك ما إن كان الموضوع سيفوق قدراتي تماما أم لا.
يكفي هذا بالنسبة للجزء الخاص بالعمل من خطابي. يؤسفني جدا سماع أخبار غير جيدة بالمرة عن صحتك: إن حياتك ثمينة جدا مع وجود أسرتك الكبيرة، وإنني متأكد أنها لا بد أن تكون سعيدة مع كل نشاطك وصلاحك، أو سعيدة بالقدر المعقول الذي يمكن توقعه في ظل كل هموم المستقبل التي لدينا.
لا يمكن توقع أن يكون الحاضر مثل الأيام التي وجدنا فيها خنفساء الصليب الأرضية أسفل جذوع الصفصاف الخلابة تلك، التي أعشق ذكراها. والآن أجد فائدة كبيرة في القليل الذي أعرفه عن علم الحشرات الذي أدين به لك كاملا. يسرني كثيرا أنك قد منحت نفسك راحة من واجبات أيام الآحاد؛ فكم من الأسقام قد عانيت منها في حياتك! الوداع يا عزيزي فوكس. أشدد على شكري لك بإخلاص على مد يدك بالعون».]
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، 7 مايو [1855]
عزيزي فوكس
لقد كلفتك مراسلتي قدرا كبيرا من المتاعب، إلا أن هذا الخطاب لن يفعل ذلك. وجدت خطابك عند عودتي للمنزل يوم السبت بعد أسبوع من العمل في لندن. حين كنت هناك، رأيت ياريل، الذي أخبرني أنه تفحص بعناية كل النقاط المتعلقة بالبطة الصياحة، ولم يساوره أي شك أنها متطابقة تماما مع ضروب شائعة في حديقة سان جيمس بارك، وأنها هجنت بكثرة معها؛ لذا سيسرني كثيرا الحصول على فرخ بط في سن سبعة أيام وأحد الطيور العجوزة، في حال ماتت إحداها ميتة طبيعية. أخبرني ياريل أن سابين قد جمع أربعين ضربا من البط الشائع! حسنا، لنرجع للعمل؛ إنني متأكد أن لا أحد يستطيع أن يحدد لي أفضل منك العمر المميز للدجاج الصغير. فيما يتعلق بالهياكل العظمية، كنت أخشى أنه سيكون من المستحيل أن أستخلصها، لكن أعتقد أنني سأتمكن من قياس الأطراف، إلخ بتحسس المفاصل. ما تقوله عن الديوك العجوزة يؤكد بالضبط ما خطر لي، وسوف أستخلص هياكل الديوك العجوزة . إذا ما نفق ديك رومي بري عجوز لديك، فلتتذكرني رجاء ؛ فإنني لا أريد فرخ ديك رومي، ولا كلب درواس. أشكرك شكرا جزيلا على العرض. لدي جراء كلاب بولدوج وكلاب سلوقية محفوظة في الملح، وكان لدي أمهار صغار لخيل جر عربات وسباق أخذت قياسات أجزائها بعناية. يساورني الشك فلا أعلم ما إن كنت سأقدم شيئا مفيدا بالمرة أم لا؛ فالأمور تخرج عن حدود قدراتي.
مع إخلاصي الشديد
سي داروين [قد يكون هنا المكان المناسب لهذا الاقتباس من خطاب إلى السيد فوكس، رغم أنه بتاريخ لاحق، يوليو، 1855:
شكرا جزيلا على دجاجة دوركينج البيضاء ذات السبعة الأيام، وعلى غيرها مما وعدت به. هكذا يصير لدي «حجرة رعب» بحق، وقد زاد تقديري لكرمك أكثر حتى من ذي قبل؛ فقد ارتكبت الفعلة الآثمة وقتلت حمامة هزازة ملائكية صغيرة وواحدة من الحمام النفاخ في عمر العشرة الأيام. جربت مع الأولى الكلوروفورم والإيثر، ورغم أنها تبدو ميتة سهلة تماما، فقد طال الأمر؛ ومع الثانية جربت وضع كتل سيانيد البوتاسيوم في زجاجة رطبة كبيرة جدا، قبل وضع الحمامة فيها بنصف ساعة، وهكذا كان غاز حمض البروسيك المنبعث سريع الفتك للغاية.
في خطاب إلى السيد فوكس (23 مايو، 1855) يأتي أول ذكر لعمل أبي الشاق فيما يتعلق بتربية الحمام:
أكتب الآن لأخبرك أنني كنت أتفحص بعضا من دجاجنا المهجن، ولا بد أن أذكر أن تلك «البالغة من العمر أسبوعا» ستفي جدا بالغرض. النقطة الرئيسية التي ظلت لسنوات، ولا تزال، تثير فضولي بشدة، هي التأكد إن كان «صغار» سلالاتنا الداجنة يختلف بعضها عن بعض كما يختلف آباؤها، وأنا لا أثق في أي شيء لا يثبته القياس الدقيق والقواعد الرياضية. أتمنى ألا أكون قد كلفت نفسي عناء كبيرا دون وجود دافع جدير بالتقدير، وأعتقد أن الأمر كذلك بالفعل. لدي طيور هزازة ونفاخة (طيور فاخرة، حسبما أرجو؛ فقد دفعت عشرين شلنا مقابل كل زوج من بايلي) في قفص كبير وبرج حمام، وإنها لمصدر تسلية مطلقة لي، وبهجة لهنرييتا.
أثناء خوض أبي مغامرة تربية الحمام ، تعرف بطبيعة الحال على الكثير من المربين، وكان شغوفا بأن يحكي عن تجاربه بصفته عضوا في نادي كولومبيريان ونادي فيلوبيريستيرا؛ حيث كان يلتقي بأشد المتحمسين لتلك «الهواية»، ويتعلم كثيرا من أسرار عالمهم. وحين كتب إلى السيد هكسلي بعد ذلك بعدة سنوات، اقتبس من كتاب حول «الحمام» للسيد جيه إيتون، ما يوضح ما يجب أن يتميز به المربي الجيد من «حرص شديد وقدرة على الملاحظة الحثيثة». «في دراسته [دراسة السيد إيتون]، التي تتناول «فقط» الحمام البهلواني اللوزي، وهو ضريب من الضرب القصير الوجه، الذي يشكل ضربا من الحمام البهلواني، مثلما هو ضرب من الحمام الجبلي، يقول: «ثمة بعض المربين الصغار البالغي الجشع، الذين يريدون الخمس الخواص جميعا مرة واحدة [أي النقاط الخمس المميزة التي يكون الاهتمام بها أساسا. تشارلز داروين]، وإنهم ينالون جزاءهم بعدم الحصول على شيء منها.» باختصار، إن الانتباه إلى «كل» مزايا الحمام البهلواني اللوزي يكاد يفوق العقل البشري!
حتى تكون مربيا جيدا، ولكي تنجح في تحسين أي سلالة، الحماس ضروري أكثر من أي شيء. لقد ربح السيد إيتون الكثير من الجوائز، فلتصغ لما يقول.
إذا أمكن للسادة النبلاء والأفاضل معرفة الكم الهائل من السلوى والمتعة الذي يأتي من الحمام البهلواني اللوزي، حين يبدءون في فهم خواصه، فأعتقد أنه سيكون من النادر أن تجد أحدهم دون أماكن لتربيته.»
كان أبي يهوى اقتباس هذه الفقرة، ودائما ما كان ذلك بنبرة تعاطف مع المؤلف، إلا أنه كان، بلا شك، قد نسي تعجبه حين كان طفلا من أن «كل الرجال الأفاضل لم يصيروا من المختصين في علم الطيور.» (ارجع للفصل الثاني).
كان أبي مدينا إلى السيد دبليو بي تيجيتماير، الكاتب المعروف في مجال الدواجن، إلخ، بالنصح والتعاون الدائمين؛ إذ بدأ التراسل بينهما في عام 1855، واستمر حتى 1881، حين كتب أبي إليه قائلا: «أؤكد لك أنني كثيرا ما أتذكر في سعادة الأيام الخوالي حين كنت أهتم بالحمام والطيور الداجنة، إلخ، وكنت تمدني بأفضل سبل العون. وإنني كثيرا ما أشعر بالأسف لضعف صحتي التي جعلتني لم أعد قادرا على الحفاظ على معارفي وأصدقائي القدامى.» تكاد تتكون كل خطابات أبي إلى السيد تيجيتماير من سلاسل من الأسئلة المتعلقة بالسلالات المختلفة من الطيور الداجنة والحمام، إلخ؛ ومن ثم، فهي ليست شائقة. وعند التمعن في قراءة مجموعة الخطابات هذه، تنتابك دهشة شديدة من اجتهاد الكاتب في بحثه عن الحقائق، ويتضح أنه كان يثق تماما في معلومات السيد تيجيتماير وحكمه ويقدرهما بشدة. وترد جمل متعددة، على غرار «ملحوظتك بمنزلة منجم ذهب بالنسبة لي» لتعبر عن تقديره لمساعدة السيد تيجيتماير، وهناك أيضا كلمات تعبر عن تقديره الصادق لحماسه السخي وفضله، أو «حبه الخالص والمنزه عن الأغراض للعلم». كذلك لاقت مساعدة السيد تيجيتماير في موضوع النحل وأقراص العسل تقدير أبي، حيث كتب مفصحا: «كان بحثك حول «خلايا النحل»، الذي قرئ أمام الجمعية البريطانية، مفيدا وملهما بشدة بالنسبة لي.»
من أجل حل مشكلات التوزيع الجغرافي للحيوانات والنباتات على أسس تطورية، كان على أبي أن يدرس الوسائل التي يمكن من خلالها نقل البذور والبيض، إلخ، عبر مسافات شاسعة من المحيط. كانت هذه الحاجة هي التي جعلته يهتم بنوع التجارب التي تشير إليها الخطابات التالية.]
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، 17 مايو [1855]
عزيزي فوكس
ستكره مجرد رؤية خط يدي؛ لكن أعدك ألا أطلب منك المزيد من الأشياء بعد هذه المرة، على الأقل لوقت طويل؛ حيث إنك تعيش في مكان تربته رملية؛ فهل السحالي كثيرة لديك؟ إن كان الأمر كذلك، فهل سترى أنه من السخيف أن تعرض بالنيابة عني على الصبية في مدرستك جائزة في مقابل تجميع بيض السحالي؛ شلن مقابل كل نصف دزينة، أو أكثر إذا كانت نادرة، حتى تحصل على دزينتين أو ثلاث وترسلها لي؟ إذا جاء بيض ثعابين بالخطأ، فسيكون مناسبا جدا، حيث أريده كذلك؛ وليس لدينا سحالي أو ثعابين هنا. هدفي هو أن أرى ما إن كان ذلك البيض سيطفو على ماء البحر، وما إن كان سيظل حيا حين يطفو لمدة شهر أو اثنين على الماء في قبوي. إنني أجري تجارب على نقل كل الكائنات الحية بقدر ما أستطيع ؛ ولما كانت السحالي موجودة في كل الجزر، فإنني متلهف للغاية لأرى ما إن كان بيضها يصمد في ماء البحر. بالطبع هذا الخطاب ليس بحاجة لرد، إلا إن استطعت، عن طريق صدفة غريبة ومواتية، أن ترد عليه يوما ما بإرسال البيض.
صديقك الأكثر إزعاجا
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
13 أبريل [1855] ... لقد بدأت تجربة منذ فترة قصيرة وما زالت مستمرة، وأعتقد أنها ستكون مثيرة للاهتمام، وهي أنني أخذت بذورا كنت قد وضعتها في الماء المالح وغمرتها لفترة طويلة في وعاء كبير يحتوي على ماء تتراوح درجة حرارته بين 32 و33 درجة مئوية مختلط بثلج. حين كتبت إليك آخر مرة، كنت على وشك إعلان انتصاري عليك؛ ذلك أن تجربتي كانت قد نجحت بقدر ضئيل؛ لكنني، بدناءة مطلقة، لم أخبرك بهذا، على أمل أنك قد تقول إنك سوف تأكل كل النباتات التي استطعت إنباتها بعد الغمر. من المزعج للغاية أنني لا أستطيع بأي حال تذكر ما قلته سابقا والذي جعلني أعتقد أنك استهزأت بشدة من التجارب؛ فالآن يبدو أنك ترى التجربة كرجل صالح. لدي بذور رشاد وفجل وكرنب وخس وجزر وكرفس وبصل - أربع فصائل كبيرة - في زجاجات صغيرة بالخارج، معرضة لتغير درجات الحرارة. وقد نبتت كلها بعد غمرها لأسبوع بالضبط، وهو ما لم أتوقعه مطلقا (وتخيلت كيف ستسخر مني)؛ فماؤها كلها تقريبا، وذلك الذي كان فيه بذور الرشاد خصوصا، كان كريه الرائحة للغاية، وأفرزت بذور الرشاد كمية كبيرة من المخاط (كان كتاب «بقايا» سيتوقع أن تتحول إلى أفراخ ضفادع)، حتى إنها تلاصقت في كتلة، لكن هذه البذور نبتت ونمت على نحو رائع. وقد تسارع إنباتها كلها (خاصة الرشاد والخس)، ما عدا الكرنب الذي كان نموه مضطربا جدا، وماتت كمية كبيرة منه، على ما أعتقد. خيل لي أن الكرنب، بسبب بيئته الأصلية، كان سيصمد جيدا. ويبدو أن الفصيلة الخيمية والبصل يتحملان الملح جيدا. إنني أغسل البذور قبل زراعتها. لقد كتبت إلى دورية «ذا جاردينرز كرونيكل» [طالبا بعض المعلومات]، رغم أنني ساورني الشك حول جدوى ذلك. إن كان نجاحي يجعل الأمر يبدو ذا أهمية، فسأرسل قائمة بالبذور، لأجعلك تميز بعض الطوائف المختلفة من البذور. اليوم سأعيد زراعة البذور نفسها التي ذكرتها أعلاه بعد أربعة عشر يوما من الغمر. وحيث إن كثيرا من التيارات البحرية تسير بسرعة ميل في الساعة، فمن الممكن أن تنقل لمسافة 168 ميلا خلال أسبوع؛ يقال إن تيار الخليج يسير بسرعة تتراوح بين خمسين وستين ميلا يوميا. ثمة الكثير والكثير في هذا الموضوع؛ لكنني دائما ما أبالغ.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر [14 أبريل، 1855] ... إنك لرجل نبيل لاعترافك بأنك توقعت أن الرشاد سيموت خلال أسبوع؛ فهذا يعطيني انتصارا صغيرا مرضيا. كان الأبناء في البداية يحدوهم حماس عارم، وظلوا يسألونني «ما إن كنت سأهزم الدكتور هوكر!» لقد نما الرشاد والخس جيدا بعد غمرهما لمدة واحد وعشرين يوما. لكنني لن أستمر في الكتابة، وهذه فضيلة كبرى لدي؛ فإنني أجد متعة كبيرة جدا في إخبارك بكل ما أفعله. ... إذا علمت ببعض التجارب (إذا جاز تسميتها بذلك) التي أجريها، فسيكون لديك مطلق الحق للسخرية؛ فهي «غريبة جدا» حتى في «رأيي» لدرجة أنني لا أجرؤ على إخبارك بها.
أليس لدى بعض الرجال فكرة مضحكة عن إجراء التجارب؟ لقد تلقيت خطابا يخبرني أنه «لا بد» أن البذور تتحلى بقدرة «هائلة» على تحمل الماء المالح، وإلا فكيف استطاعت أن تصل إلى الجزر؟ هذه هي الطريقة الصحيحة لحل المشكلة!
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [1855]
عزيزي هوكر
أعتقد أنك رجل رائع للغاية لتعبيرك عن بعض سعادتك لكتابة خطابين لي؛ أرى أن هذا أفضل ما كان يمكنك أن تأتي به؛ لكن فيما يتعلق بالإعراب عن سعادتك بدحض تجاربي، فإني أؤكد لك أنني محتار تماما بما يكفي؛ فتلك البذور البغيضة، كما تلاحظ بالضبط، إذا غاصت لا تطفو.
لقد كتبت إلى سكورسبي وتلقيت ردا جافا بعض الشيء، لكنه مفيد للغاية، حيث لم يترك لي أملا في وجود أي قانون أجهله قد يمنع هبوطها الدائم إلى أعماق المحيط السحيقة. بالمناسبة، كان أمرا عجيبا جدا لكنني تحدثت إلى الكولونيل سابين لمدة نصف ساعة حول الموضوع، ولم أستطع أن أجعله يرى صعوبة مسألة الغوص فيما يتعلق بموضوع النقل! ما يثير الضجر هو أنه إن كانت البذور اللعينة تغوص، فسأكون قد تجشمت كل هذا العناء في تمليح هؤلاء الأوغاد الجاحدين هباء.
كان التوفيق يجانبني في كل شيء مؤخرا؛ فقد التهم السمك في جمعية علم الحيوان الكثير من البذور المنقوعة، ويتراءى في مخيلتي أن طائر بلشون قد التقمها، هي والسمك والأشياء كلها، وحملها لمسافة مائة ميل، وأفرغها على ضفاف بحيرة أخرى ونبتت على نحو مبهر، وفجأة، لفظت الأسماك «كل» البذور من أفواهها بشدة، وباشمئزاز يعادل اشمئزازي.
لكنني لن أتخلى سريعا عن فكرة الطفو؛ في المقام الأول لا بد أن أجرب بذورا حديثة، رغم أنه يبدو أكثر ترجيحا بكثير أنها سوف تغرق؛ ثانيا، على سبيل المحاولة الأخيرة، لا بد أن أعتقد أن القرن أو حتى النبتة أو الغصن بأكمله قد ينجرف مع البحر؛ بسبب الفيضانات والانزلاقات والزلازل؛ لا بد أن هذا يحدث باستمرار، وأعتقد أن القرون، إلخ، إلخ إذا ظلت مبتلة، فلن تفتح وتطرح بذورها. فلتجرب الأمر مع بذور الميموزا في كيو.
كنت أنوي أن أسألك عما إذا كانت الميموزا المتسلقة والبندق القارح
Guilandina bonduc
ينموان في كيو، حتى أجري التجربة على بذور حديثة. أخبرني آر براون أنه يعتقد أن ثمة أربع بذور من غرب الهند قد انجرفت إلى شواطئ أوروبا. وتأكد لي في جزيرة كيلينج أن انجراف البذور إلى الشاطئ ليس من الأمور النادرة؛ إذن فلا بد أنها تطفو وسوف تطفو! يا له من حديث طويل استغرقت فيه!
إذا كان لديك العديد من بذور جزر لوفودين، فلتنقع بعضا منها في بعض الماء الفاتر، ولتزرعها بأقصى درجات العناية؛ إنها من التجارب المهمة بالنسبة لي، والتي فرص عدم نجاحها كبيرة للغاية.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 11 مايو [1855]
عزيزي هوكر
تلقيت خطابك للتو. إنني في غاية السرور بصدق ومن صميم قلبي بالخبر الذي احتوته [تعيين السيد هوكر مساعد مدير الحدائق الملكية في كيو]، وكذلك زوجتي. ورغم أن الراتب هزيل، فمن المؤكد أنك والسيدة هوكر راضيان عنه، على ما أرجو. وحيث إن المنصب لا بد أن يؤدي في السنوات القادمة إلى منصب الرئاسة، فإنني أرجو أن تنظر إليه باعتباره فرصة رائعة. أما من وجهة نظري أنا، فلا أستطيع تخيل منصب أفضل من مدير هذا المكان النبيل الرائع؛ بل إنه أفضل، على ما أعتقد، من شغل منصب أستاذ في بلدة كبيرة. وإنني كلما فكرت في الأمر، زاد سروري. لكنني لن أزيد في الكلام في هذا الشأن؛ غير أنني أرجو أن تكون السيدة هوكر سعيدة تماما بهذا المنصب ...
بما أن دورية «ذا جاردينرز كرونيكل» نشرت سؤالي، وأولته الاهتمام، أعتقد أنه يجب علي أن أرسل، وهو ما خطر لي أن أفعله الأسبوع القادم، تقريري الأول إلى ليندلي لأعطيه خيار نشره؛ لكنني أعتقد أنه من المحتمل أنه قد لا يراه مناسبا لدورية متخصصة في مجال البستنة. حين تنتهي تجاربي (إن بدت النتائج ذات شأن) وإن لم تعترض دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي» على النشر المبكر لتقارير غير كاملة ومؤقتة، فسوف «يسرني» أن أنشر التقرير النهائي هناك؛ فقد عانيت فيه أشد المعاناة، حتى إنني أعتقد أن النتائج ربما كانت تستحق توثيقا أكثر دواما من مجرد صحيفة، لكن أعتقد أن علي إرسالها إلى ليندلي أولا.
بدأت أعتقد أن مسألة الطفو أهم من مسألة الإنبات؛ لذا أبحث بكل ما بوسعي في الموضوع، وأرجو أن ألقي قليلا من الضوء عليه.
أرجو أن تكون أدرت اجتماعا جيدا في النادي. لا بد أن منصب أمين الخزانة مزعج بالنسبة لك، وأرجو ألا يدوم بك الحال في هذا المنصب طويلا؛ أعلم أنني قد أتخلى سريعا عن عضوية النادي على أن أكون أمين خزانته.
الوداع يا سيدي، مساعد المدير وصديقي العزيز
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
5 يونيو، 1855 ... أجري أنا والآنسة ثورلي [وهي سيدة ظلت تعمل كمربية في العائلة لسنوات عديدة] «القليل من الأعمال النباتية» على سبيل التسلية، وإنني لأجد أنه من المسلي جدا أن نزرع تشكيلة من النباتات، في حقل ترك حتى صار مجدبا لمدة خمسة عشر عاما، لكنه كان يزرع منذ وقت طويل؛ وأن نزرع التشكيلة نفسها في حقل مجاور و«مشابه» لكن مزروع؛ فقط لمتعة رؤية أي النباتات ستعيش وأيها ستذوي. من الآن فصاعدا سوف نحتاج لقليل من العون في أحاجي التسمية. كم هي صعبة لحد مخيف تسمية النباتات!
يا له من خطاب لطيف وكريم «للغاية» الذي أرسله لي الدكتور إيه جراي ردا على أسئلتي المزعجة! لقد احتفظت بنسختك من كتابه «دليل» حتى أتلقى منه ردا، وسوف أعيدها إليك بعد الرد على خطابه.
أشكرك شكرا جزيلا على نبات السلة؛ أرجو حقا ألا يكون غاليا جدا؛ حيث أحتاجه في غرض أحمق «للغاية» كما أخبرتك. لقد قرأت في مكان ما أنه لا يوجد نبات يغلق أوراقه بهذه السرعة في الظلام، وأنا أريد تغطيته يوميا، لمدة نصف ساعة، وأرى إن كنت أستطيع تعليمه أن يغلق أوراقه من تلقاء نفسه، أو على نحو أسهل مما يفعل في الظلام. لا يمكنني أن أفهم السبب الذي يجعلك تفضل النقل القاري، كما أعتقد، على النقل بالبحر. كنت أظن أنك مقتنع بأكبر عدد ممكن من وسائل النقل. أما فيما يتعلق بأفكاري النظرية المفضلة، فلا يهم البتة سواء كانت تنتقل بحرا أم برا، ما دامت توجد طريقة محتملة لدرجة مقبولة. لكنه مما يصدمني من الناحية الفكرية أن تخلق أرض، بدون أدلة أخرى ومستقلة. سوف أفهم، حسبما أرى، بكلمات قليلة جدا، آراءك بوضوح أكثر متى التقينا.
لقد تعرفت للتو على أول نوع من العشب، مرحى! مرحى! لا بد أن أقر أن الحظ يقف إلى جانب الجسورين؛ فقد كان، لحسن الحظ، عشب الربيع العطري البسيط؛ إلا أنه مع ذلك اكتشاف رائع؛ لم أتوقع قط أن أتعرف على نوع من العشب طوال حياتي؛ لذا مرحى! وقد كان للأمر أثر حميد لدرجة مدهشة على معدتي.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 15 [يونيو ؟]، [1855]
عزيزي هوكر
أكتب إليك هذا الخطاب القصير فقط لأخبرك أن نبات السلة وصل «سليما تماما»، وأشكرك على ذلك.
لا يمكنك تخيل السعادة التي منحتني إياها بذكر أسماء تلك الأعشاب الثلاث؛ فقط سأنتظر الورق حتى يجف وأجمع كل الأعشاب. إن صادفت شخصا مبتدئا تماما وأردت أن تعطيه نبذة عن علم النبات، فاطلب منه أن يعد قائمة كاملة بمحتويات أحد الحقول أو الغابات الصغيرة؛ إذ أتفق أنا والآنسة ثورلي على أنه مما يعطي إثارة غير عادية للعمل، أن يكون لديك عالم صغير محدد لتدرسه، بدلا من عالم النباتات البريطانية الهائل بأنواعه المتنوعة.
الوداع. كنت صفيقا تماما حين أعربت عن رأيي بقولي «خطوة للوراء». [يشير هذا إلى الاقتباس التالي من بحث أبي حول «الماء المالح والبذور» المنشور في دورية «ذا جاردينرز كرونيكل»، 26 مايو، 1855: «إن تخيل وقوع تلك التغيرات الجيولوجية الهائلة خلال فترة حياة كائنات حية موجودة الآن، دون الاستناد لشيء سوى محاولة تفسير توزيعها، يبدو لي، في ظل حالتنا الراهنة من الجهل بوسائل النقل، أشبه بخطوة للوراء في مجال العلم».] واستحققت على ذلك توبيخا كبيرا، وبعد التفكير أجدني سعيدا جدا أنك لم ترد علي في دورية «ذا جاردينرز كرونيكل».
أثار كتاب «نباتات» [كتاب جوردون «نباتات ميناء جوفينال»] اهتمامي «بشدة». [يذكر أبي في خطابه إلى السير جيه دي هوكر بتاريخ الخامس من يونيو خطابا من الدكتور آسا جراي، عالم النبات الأمريكي المعروف. وكان الخطاب المشار إليه ردا على الخطاب التالي]:
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 25 أبريل [1855]
سيدي العزيز
أرجو أن تتذكر أنني حظيت بشرف التعرف إليك في كيو. وأود أن ألتمس منك خدمة كبيرة، أعلم جيدا أنني لا أستطيع الاعتذار عنها. لكن الخدمة، حسبما أعتقد، لن تسبب لك مشقة كبيرة، وستجعلني في غاية الامتنان. حيث إنني لست عالم نبات، فسيبدو لك من العبثي للغاية أن أطرح عليك أسئلة تتعلق بعلم النبات، لكن يمكنني تبرير هذا بأنني ظللت لعدة سنوات أجمع حقائق حول «التباين»، وحين أجد أن أيا من الملحوظات العامة تبدو صحيحة فيما يتعلق بالحيوانات، أحاول أن أختبرها على النباتات. [يلي هذا التماس معلومات حول النباتات الجبلية الأمريكية، واقتراح بالنشر حول الموضوع.] أؤكد لك أنني أدرك مدى وقاحتي؛ لكوني لست بعالم نبات، للإقدام على تقديم حتى ولو اقتراح في غاية التفاهة لعالم نبات مثلك، لكن مما رأيته وسمعته عنك من صديقنا العزيز الطيب هوكر، أرجو أن تسامحني وأعتقد أنك ستفعل ذلك، ولك مني صادق احترامي يا سيدي العزيز.
المخلص لك
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 8 يونيو [1855]
سيدي العزيز
أشكرك من كل قلبي على خطابك الكريم جدا بتاريخ الثاني والعشرين من الشهر الماضي، وعلى الطريقة اللطيفة والكريمة للغاية التي تناولت بها أسئلتي المزعجة بعض الشيء. لا يسعني أن أخبرك لأي حد أثارت قائمتك الخاصة بالنباتات الجبلية اهتمامي، ويمكنني الآن إلى حد ما أن أتصور نباتاتك الموجودة في قمم جبال الألب. أما صدور الطبعة الجديدة من كتابك «دليل»، فهو خبر «رائع» بالنسبة لي. علمت من مقدمتك كم كنت في حاجة ملحة للمساحة، لكن إضافة (أور) إلى أي نبات أوروبي لن يأخذ حيزا، وكان هذا سيفي بكل الأغراض، من وجهة نظري؛ فمن واقع خبرتي، حين كنت أنظر إلى النباتات الإنجليزية في مراجعنا، كثيرا ما كان يتراءى لي كم كان سيثير الاهتمام لو أعطيت فكرة ما عن نطاق انتشارها؛ ومن ثم، لا يمكن أن يساورني شك أن الباحثين والمبتدئين الأمريكيين سيودون كثيرا أن يعرفوا أي نباتاتهم أمريكي وأيها أوروبي. ألن يكون من المستحسن فيما يتعلق بالنباتات الجبلية أن تلحق بها الإضافة نفسها التي أرسلتها لي الآن في المخطوطة؟ إلا أنني هنا لا أتحدث بدافع الأنانية الناتجة عن كرمك، وإنما فقط من أجل صالح الأمريكيين. أعتقد أنه سيكون من المرهق للغاية أن تذكر في دليلك مواطن تلك النباتات الموجودة غرب جبال روكي، وكذلك مواطن تلك الموجودة في شرق آسيا؛ نظرا لوجود نهر ينيسي، الذي - إذا صح ما أتذكره، حسبما قال جميلين - يشكل خط الفصل الرئيسي لسيبيريا. ربما ثمة علاقة أكبر بين نباتات سيبيريا ونباتات الجزء الشمالي من أمريكا الشمالية. يبدو لي نطاقا النباتات في الشرق والغرب؛ أي ما إذا كانت توجد أغلبها في جرينلاند وغرب أوروبا، أم في شرق آسيا، نقطة هامة جدا حيث تنزع لتوضيح ما إن كانت الهجرة ناحية الشرق أم الغرب. أرجو أن تصدق أنني مدرك تماما أن «الفائدة الوحيدة» من هذه الملحوظات ليست سوى أن توضح لعالم نبات النقاط التي تثير فضول من ليس بعالم نبات ليتعلمها؛ فإنني أعتقد أن كل من يدرس أحد الموضوعات دراسة عميقة يصير غير واع بالنقاط التي يحتاج الجاهل لمعلومات عنها. أشعر بسعادة شديدة أنك تفكر في تحضير بعض الملحوظات حول توزيعك الجغرافي؛ حيث تبدو لي المنطقة التي يتناولها كتاب «دليل» في بعض النقاط أكثر ملاءمة للمقارنة مع أوروبا من أمريكا الشمالية بأسرها. طلبت مني أن أذكر بالتحديد بعض النقاط التي أرغب بشدة في الحصول على معلومات بشأنها، لكنني بالكاد أستطيع فعل ذلك؛ فهي مبهمة للغاية؛ وأفضل أن أنتظر النتائج التي ستأتي من المقارنات، على أن أحصل على معلومات عن أمور محددة. أفترض أنك ستذكر، مثل علماء النبات الآخرين، نسب الفصائل الرئيسية الكبرى كلها (مع استبعاد النباتات الدخيلة) في منطقتك؛ هذه إحدى النقاط التي كنت أنوي جدولتها من كتابك (وهو ما فعلته بصورة تقريبية بالطبع)، لكنني لم أستطع فعل ذلك إلا على نحو «منقوص تماما». كذلك كان لا بد، بالطبع، أن أتأكد من نسبة النباتات الأوروبية، و«الفصائل الكبرى»، من النباتات كلها (مع استبعاد الدخيلة منها)، حتى أتكهن بوسائل النقل. بالمناسبة، اجترأت منذ عدة أيام على إرسال نسخة من دورية «ذا جاردينرز كرونيكل» التي تتضمن تقريرا قصيرا لي عن بعض التجارب البسيطة التي كنت أحاول إجراءها عن قدرة البذور على تحمل ماء البحر. لا أعلم ما إذا كان الأمر قد خطر لك، لكن خطر لي أنه سيكون من المستحسن أن يعطي علماء النبات الأعداد النسبية للفصائل، باستخدام «أعداد صحيحة» وكذلك كسور غير قابلة للاختزال؛ هكذا توصلت من دليلك إلى أن نسبة الفصيلة الخيمية من النباتات «الأصلية» تساوي 36 / 1798 = 1 / 49؛ فدون العلم بالأعداد «الصحيحة»، لا يمكن تحديد مدى قرب أعداد نباتات الفصيلة نفسها من بعضها في بلدين بعيدين؛ لكن من المرجح جدا أنك قد ترى هذا الأمر غير ضروري؛ وحيث إنني ذكرت هذه الأعداد النسبية، فيمكنني أن أعطيك مثالا على نوعية النقاط، التي «أحاول» استنباطها، وكم هي غامضة وعقيمة في كثير من الأحيان! إن تأمل ملحوظة آر براون وهوكر، التي تفيد بأن القرب الشديد في الأعداد النسبية للفصائل الكبرى في بلدين، قد يوضح أنهما كانا متصلين تماما في وقت سابق جعلني أفكر في حساب، مثلا، نسبة الفصيلة المركبة «الدخيلة» في بريطانيا العظمى بالنسبة لكل النباتات الدخيلة، وكانت النتيجة 10 / 92 = 1 / 9,2. تساوي النسبة في نباتاتنا الأصلية أو المحلية 1 / 10؛ ووجدت في حالات كثيرة أخرى تشابها بارزا بالمقدار نفسها. بعد ذلك أخذت دليلك وتقصيت المسألة نفسها؛ وعندئذ وجدت في الفصيلة المركبة تشابها بارزا بالمقدار نفسه تقريبا؛ أي 24 / 206 = 1 / 8 في النباتات الدخيلة، و223 / 1798 = 1 / 8 في النباتات الأصلية؛ لكن حين انتقلت للفصائل الأخرى، وجدت النسبة مختلفة تماما، مما يدل على أن التشابهات في النباتات البريطانية ربما كانت عرضية!
أعتقد أنك سوف تذكر نسبة الأنواع للأجناس؛ بعبارة أخرى، تعطي متوسط عدد الأنواع الموجود في كل جنس؛ رغم أنني فعلت هذا لنفسي.
إن لم يكن في الأمر كثير من المشقة، ألا تعتقد أنه سيكون مثيرا جدا، وكذلك سيعطي فكرة جيدة للغاية عن نباتاتك، أن تقسم الأنواع إلى ثلاث مجموعات، وهي (أ) أنواع شائعة في العالم القديم، محددا أعداد الأنواع الشائعة في أوروبا وآسيا؛ و(ب) أنواع أصلية، لكن تنتمي لأجناس موجودة في العالم القديم؛ و(ج) أنواع تنتمي لأجناس مقصورة على أمريكا أو العالم الجديد؟ لبلوغ أقصى درجة من الكمال، أرى أنه تجب الإشارة إلى ما إن كان ثمة حالات أخرى، مثل الخلنج، لأجناس شائعة في أوروبا أو العالم القديم وغير موجودة في منطقتك. لكنني صراحة أشعر أنه من السخيف للغاية أن أطيل الكتابة لك هكذا حول الموضوع؛ لكن حيث إنك طلبت مني هذا، فإنني أفعله ممتنا، وأكاتبك كما أكاتب هوكر، الذي كثيرا ما يسخر مني دون شفقة، وأنني متأكد أنك لديك سبب أقوى لتفعل هذا.
ثمة نقطة واحدة هي أكثر ما أتلهف للحصول على معلومات عنها، وسأذكرها وأنا في غاية التردد، فقط «لثقتي التامة» أنك ستصدق أن ليس لدي من الحماقة والوقاحة ما يجعلني أرجو لثانية واحدة أن تمدني بها، دون أن تكون قادرا على ذلك بأقل قدر من المشقة. في الوقت الحالي قد لا تثير هذه النقطة اهتمام أحد سواي، وهو ما يجعل الحالة مختلفة كلية عن التوزيع الجغرافي. الطريقة الوحيدة، على ما أعتقد، التي يمكن أن تفعلها بها بقليل من المشقة هو أن تضع طلبي في اعتبارك، أثناء تصويب بروفات الطباعة الخاصة بكتابك، وأن تضع إشارة أو علامة على الأنواع، وأن تسمح لي بالحصول على تلك البروفات القديمة متى أرسلت طردا إلى هوكر. لكن هذا سيكلفك مشقة أن تتذكر طلبي، وهو ما بالكاد أرجو أن تفعله أو أتوقعه. لكنني سأذكر ما أريد فحسب؛ وهو أن تميز «الأنواع القريبة من بعضها» في نباتات إحدى المناطق، لتحدد ما إن كانت الأجناس نفسها لديها «أنواع قريبة من بعضها» في نباتات المناطق «المختلفة» عند المقارنة بينها، وهي مبهمة لدرجة استعصاء إحصائها لأغراض أخرى. حاولت، بمساعدة هوكر، التأكد بطريقة مماثلة مما إن كانت الأنواع المختلفة من الأجناس نفسها في أنحاء بعيدة من المعمورة ضروبا موجودة أم مختلفة. التعريف الذي لا بد أن أعطيه ل «النوع القريب» هو ما تعتقد أنه مميز بوجه خاص، لكنه ما قد يعتقد عالم نبات آخر «جيد» أنه مجرد سلالة أو ضرب كما قد تتصور؛ أو، مجددا، نوع صادفت مشقة في تفرقته عن بعض الأنواع الأخرى، رغم توفر الفرص لك لمعرفته جيدا. إن كان لديك رغبة لتجزل في الكرم وتفعل هذا، واستطعت (وهو ما لا أتوقعه) أن تدخر وقتا، فكما قلت، من شأن علامة فحسب على كل من هذه الأنواع في أي من بروفات الطباعة العديمة الجدوى أن تعطيني المعلومات المنشودة، وهي التي أعلم، إذا جاز لي الإضافة، أنها مبهمة حتما.
كيف يسعني الاعتذار بما يكفي على كل من تجرئي وما بلغه هذا الخطاب من طول بالغ؟ لكن ما أفصح عنه خطابك لي من طبيعة طيبة وعظيمة كان السبب إلى حد ما في ذلك، وهكذا، كما هو الحال كثيرا في هذا العالم، يلقى المرء عقابا على أفعاله الطيبة. لك مني خالص الشكر والصدق.
صديقك المخلص والممتن دائما
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 18 [يوليو، 1855] ... أعتقد أن لدي حالة بسيطة متعلقة ببذور الخردل البري، لكن كما في مسألة التمليح، عليها اللعنة، لا أستطيع أن أتذكر عدد السنوات التي ترى أن تلك البذور قد تعيشها في الأرض. حين تكتب لي المرة القادمة، فلتتحل بالجسارة وتذكر عدد السنوات التي ترى أن كل تلك البذور قد تموت بعدها. منذ بضعة أيام أخبرني رجل بحالة أرى أنها مذهلة، وقد كانت «مذهلة» حقا؛ حيث إنه وفقا للدليل الذي لديه نبتت البذور حية من «قاع طمي لندن»! وقد أثرت اشمئزازه بإخباره أن أشجار النخيل هي ما كان يجب أن تنبت.
لقد سألتني لأي مدى وصلت في موضوع نسب الكائنات إلى أصل مشترك، وسأجيبك بأنني لا أعلم؛ الطريقة التي أعتزم معالجة الموضوع بها هي أن أعرض (بقدر ما أستطيع) الحقائق والحجج المؤيدة والمعارضة لاشتراك أنواع الجنس نفسه في الأصل نفسه، ثم أن أوضح لأي درجة تؤيد أو تدحض الحجج نفسها انحدار الأشكال المختلفة على نحو أكبر فأكبر من الأصل نفسه. وحين نصل إلى أشكال الرتب والطوائف المختلفة، لا يبقى لدينا سوى بعض الحجج التي يمكن استنباطها من التراكيب الأثرية المتشابهة، وبعد ذلك سرعان ما تختفي الحجج. [يتحدث الاقتباس التالي من خطاب إلى السيد فوكس، أكتوبر 1855، بإيجاز عن آخر اجتماع للجمعية البريطانية حضره أبي: «ليس لدي أخبار حقا؛ الشيء الوحيد الذي فعلناه منذ وقت طويل هو الذهاب إلى جلاسجو، لكن الإرهاق كان أكثر مما يستحق الأمر، وأصيبت إيما بدور برد قاس. وعند عودتنا بقينا يوما واحدا في شروزبيري، واستمتعنا برؤية المكان القديم . التقيت لماما بالسير فيليب [جار السيد هوكر] (الذي راقني كثيرا)، وقد سألني: «لماذا بحق حرضتك لسرقة حظيرة دواجنه؟» كان الاجتماع جيدا، وتحدث دوق آرجايل حديثا ممتازا».]
الفصل الثاني عشر
الكتاب غير المكتمل
مايو 1856 إلى يونيو 1858 [في فصل السيرة الذاتية، كتب أبي قائلا: «في بداية عام 1856، نصحني لايل بأن أكتب آرائي بتفصيل كامل، وقد بدأت تنفيذ نصيحته على الفور بنطاق يزيد ثلاثة أضعاف أو أربعة عن النطاق الذي كنت أتبعه بعد ذلك في كتابة عملي «أصل الأنواع»، غير أنه لم يكن سوى ملخص للمواد التي جمعتها.» تخص خطابات الفصل الحالي في أغلبها الإعداد لهذا الكتاب غير المكتمل.
بدأ العمل في هذا الكتاب في 14 مايو، واستمر بوتيرة مطردة حتى يونيو 1858، حين قاطعه وصول مخطوطة السيد والاس. خلال السنتين اللتين نتطرق إليهما الآن كتب عشرة فصول (ما يساوي النصف تقريبا) من الكتاب المرتقب. وكان يبقى أغلب الوقت في المنزل، لكن تعددت زياراته لمصحة الدكتور لين للعلاج المائي في مور بارك، التي زار خلال إحداها ضريح جيلبيرت وايت في سيلبورن.] (1) الخطابات
من تشارلز داروين إلى سي لايل
3 مايو [1856] ... أما عن اقتراحك بإعداد ملخص بآرائي، فإنني لا أعرف ماذا أقول بشأنه، لكنني سأتأمل الأمر، رغم أنه يخالف هواي. سيكون من المستحيل تماما إعطاء ملخص بسيط؛ فكل فرضية تحتاج مجموعة هائلة من الحقائق؛ فإن كنت سأفعل أي شيء، فقد يكون فقط الإشارة للعامل الرئيسي في التغيير - الانتقاء - وربما أيضا القليل جدا من الأمور الأساسية، التي تؤيد تلك الرؤية، والقليل من الصعوبات الرئيسية. إلا أنني لا أعلم ماذا أفعل؛ فأنا أبغض فكرة الكتابة من أجل الفوز بالأسبقية، لكنني لا شك سأحزن إن نشر أي أحد أفكاري قبلي. على أي حال، أشكرك حقا على تعاطفك. سوف أكون في لندن الأسبوع القادم، وسوف أزورك صباح يوم الخميس لمدة ساعة بالضبط، حتى لا أضيع الكثير من وقتك ووقتي، لكن هلا سمحت لي بالمجيء مبكرا في التاسعة هذه المرة ؛ إذ لدي الكثير مما علي أن أفعله في الصباح في الوقت الذي أكون فيه في أقصى درجات قوتي؟ إلى اللقاء، يا مناصري الكبير.
صديقك
سي داروين
بالمناسبة، نبتت «ثلاث» زروع في التربة المندفنة تماما في جذور الأشجار. ونبتت تسع وعشرون زرعة في ملء ملعقة طعام من الطمي الذي أخذته من بركة صغيرة، وقد اندهش هوكر من هذا، وانبهر به، حين أريته كم الطمي الذي كشطته من قدم بطة واحدة.
إن نشرت فعلا ملخصا قصيرا، فأين يا ترى يمكنني أن أنشره؟
إن لم أتلق ردا، فسوف أدرك أن بإمكاني أن آتي من التاسعة إلى العاشرة يوم الخميس.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
9 مايو، [1856] ... إنني في أشد الحاجة إلى النصح والمشورة «الصادقة» إذا استطعت منحهما. كان لي حديث طيب مع لايل حول عملي عن الأنواع، وهو يحثني بشدة على أن أنشر شيئا. وإنني مصر على رفض نشر أي ملخص في أي دورية أو مجلة؛ حيث إنني بكل تأكيد «لن» أفصح عن أفكاري لمحرر أو مجلس ليسمحوا بنشر شيء ربما يعرضهم للأذى. إن نشرت شيئا، فلا بد أن يكون كتابا رفيعا وصغيرا «جدا»، يعطي ملخصا بآرائي والصعوبات التي أراها في الموضوع، لكنه مما ينافي مبادئ العلم للغاية حقا أن أعطي ملخصا لعمل غير منشور، من دون مراجع محددة. لكن بدا أن لايل يعتقد أنني يجوز لي أن أفعل هذا، بناء على اقتراح بعض الأصدقاء، وعلى أساس، يمكنني التصريح به، وهو أنني ظللت أعمل على الموضوع طوال ثمانية عشر عاما، لكن لم أستطع النشر لعدة سنوات، لا سيما أن بإمكاني الإشارة إلى الصعوبات التي بدا لي أنها تحتاج بحثا خاصا. ما رأيك إذن؟ سوف أكون في غاية الامتنان إن قدمت لي مشورتك في هذا الأمر. فكرت في تخصيص عدة شهور لكتابة ذلك الملخص، ومحاولة ألا أتخذ قراري بنشره أو عدم نشره حتى أتمه. ببساطة سيكون من المستحيل أن أعطي مراجع محددة، وأي شيء ذا أهمية سوف أذكره سيكون على عهدة المؤلف بوجه عام، وبدلا من إعطاء كل الحقائق التي أقمت عليها رأيي، يمكنني أن أعطي واحدة أو اثنتين. وسوف أذكر في المقدمة أنه لا يمكن اعتبار العمل علميا بالمعنى الدقيق، وإنما مجرد ملخص أو موجز لعمل مستقبلي ستعطى فيه المراجع وغير ذلك كاملة. ويحي! ويحي! أعتقد أنني كنت سأسخر من أي شخص آخر يفعل هذا، وعزائي الوحيد هو أنني «حقا» لم أحلم بفعل ذلك قط، حتى اقترحه لايل، وبدا بعد التمعن فيه أنه اقتراح حكيم.
إنني في دوامة من المتاعب وأرجو منك حقا أن تسامحني على إزعاجك.
المخلص لك
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
11 مايو، [1856] ... سأنتقل الآن إلى «موضوع أهم»، وهو موضوع شخصي خاص بي؛ إنني في غاية السرور لاستحسانك فكرة أن يكون ثمة «مقال تمهيدي» مستقل (بعبارة أخرى، إن نشر أي شيء على الإطلاق؛ فقد بدا لايل متشككا بعض الشيء بشأن هذا الأمر)، لكنني لا أستطيع تحمل فكرة «استجداء» محرر أو مجلس ما من أجل النشر، ثم ربما الاضطرار إلى «الاعتذار» بصدق على المأزق الذي أديت بهما إليه. إنني في هذا الصدد في الحالة التي تعد، وفقا لمقولة حكيمة جدا لأبي، هي الوحيدة المناسبة لطلب المشورة؛ إذ عندما يكون المرء حاسما في قراره، يكون، كما اعتاد أبي أن يقول، من السهل جدا قبول النصيحة «الجيدة»، ورفض النصيحة «السيئة». لكن يعلم الرب أنني لست في هذا الحالة فيما يتعلق بنشر أي مقال تمهيدي على الإطلاق. رغم ذلك أجد أنه من المنافي تماما لمبادئ العلم أن أنشر نتائج من دون التفاصيل الكاملة التي أدت إليها.
إنه لشيء يبعث على الحزن، وأرجو ألا يكون صحيحا تماما، رأيك القائل بأن الحقائق يمكن أن تثبت أي شيء؛ ومن ثم، فهي بلا فائدة! لكني أعتقد أنني ضخمت من اعتقادك بعض الشيء. لا أخشى أن يرتبط اسمي بالخطأ؛ بعبارة أخرى، أعلم جيدا أن لا بد أن أتخلى عن أي شيء خطأ نشر في المقال التمهيدي في عملي الأكبر، لكني أعتقد أنني هكذا ربما أقدم على مفسدة بنشر الخطأ، وهو ما سمعتك كثيرا تقول إنه يسهل جدا نشره عن تصحيحه. أقر أنني أميل بصفة متزايدة على الأقل نحو الإقدام على المحاولة وكتابة ملخص ومحاولة الاحتفاظ بقراري نشره من عدمه معلقا. لكنني دائما ما أعود لاعتقادي الراسخ أن النشر بدون تفاصيل كاملة يجافي مبادئ العلم لحد فظيع. وأعتقد بالطبع أن عملي المستقبلي سيستفيد تماما من سماع رأي أصدقائي أو النقاد (في حالة مراجعته) بشأن الملخص.
لا بد أن أعتذر لأي شخص عداك على هذا النقاش الطويل لمسألة شخصية جدا؛ لكن أعتقد أن هذا سيكون غير ضروري، وهو ما أثبته بلا شك بما كلفت نفسك من عناء بسببي.
مع خالص امتناني
سي داروين
ملحوظة:
ما تقوله (فقد أعدت قراءة خطابك للتو) عن أن المقال قد يسرق الأضواء من أي كتاب مستقبلي أكبر ويسلب منه كل ما هو جديد وقيم صحيح جدا؛ وهذا ما سيحزنني أكثر من أي شيء. لكنني من ناحية أخرى (مرة أخرى بناء على نصيحة لايل الملحة)، كنت نشرت ملخصا تمهيديا لنظرية الشعاب المرجانية، ولم يأت هذا بنفع أو ضرر. بدأت أتمنى «بكل صدق» لو لم يضع لايل فكرة المقال في رأسي قط.
من خطاب إلى السير سي لايل [يوليو، 1856]
يسرني أن أقول (بصدق مطلق) إن مقالي سينشر بناء على اقتراحك، لكن أرجو ألا يحتاج لكثير جدا من الاعتذار كما اعتقدت في البداية؛ إذ قررت أن أجعله وافيا حسبما تتيح لي المواد المتوفرة لدي حاليا. لا يمكنني أن أقحم كل ما اقترحته؛ إذ سوف يبدو ذلك غاية في التكبر.
من خطاب إلى دبليو دي فوكس
داون، 14 يونيو [1856] ... أظن أن ما تقوله حول مقالي صحيح جدا؛ وقد سبب لي نوبة أخرى من القلق: أرجو أن أنجح في أن أجعله بسيطا؛ فأحد أهدافي الأساسية هي الحصول على معلومات حول النقاط العديدة التي يتناولها. لكنني أخشى بشدة، وهو ما يجب ألا يحدث، لو سمحت بانقضاء ثلاثة أو أربعة أعوام قبل نشر أي شيء ... [الاقتباسان التاليان من خطابين إلى السيد فوكس يستحقان أن نوردهما؛ فهما يبينان كم كان هائلا تراكم المواد التي كان يجب تناولها حينذاك.
14 يونيو [1856]
شكرا جزيلا على المعلومات الرائعة بشأن القطط؛ أرى أنني أتخبط بشدة، لكني أعلم أنني أحتفظ بملحوظاتك الأصلية في مكان ما، بيد أن ملحوظاتي التي جمعتها خلال تسعة عشر عاما كثيرة للغاية حتى إن مراجعتها وتصنيفها سيستغرقان مني عاما على الأقل.
نوفمبر، 1856
أحيانا أخشى أن أنهار؛ فإن موضوعي يزداد اتساعا بنهاية كل شهر من العمل.]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 16 [يونيو، 1856]
عزيزي لايل
سوف أقدم على قول أكثر الأشياء وقاحة في العالم. لكني أستشيط غضبا من الفتوحات الكبيرة التي يقوم بها كثير من أتباعك في مجال الجيولوجيا.
فها هو فوربس المسكين يفترض وجود قارة تمتد إلى أمريكا الشمالية وأخرى (أو نفسها) حتى المنطقة التي توجد بها أعشاب السرجس؛ ويفترض هوكر وجود واحدة تمتد من نيوزيلاندا حتى أمريكا الجنوبية وحول العالم حتى جزر كيرجلن. ويتحدث وولستن عن ماديرا وبورتو سانتو باعتبارهما «الشاهدين المؤكدين على وجود قارة سابقة.» ويكتب وودورد إلي قائلا: ما دامت تقر بوجود قارة على عمق يزيد على 200 أو 300 ميل أسفل المحيط (كما لو كان أمرا هينا)، فلم لا تمتد أي قارة لكل جزيرة في المحيطين الهادئ والأطلنطي؟ وكل هذا أثناء حياة أنواع حديثة! إن لم توقف هذا، وكان ثمة درك أسفل لعقاب علماء الجيولوجيا، فأعتقد أنك، يا سيدي العظيم، ستذهب لهناك. إن أتباعك يتفوقون على نحو بطيء ومتسلسل على كل من ظهر من دعاة نظرية التغير بالكوارث. وسوف يصل بك الحال لأن تصير كبير دعاة هذه النظرية.
هكذا أكون قد استرحت كثيرا، ونفست بقوة عن غضبي.
فلتسامحني يا سيدي، ولك مني خالص الصدق.
المخلص لك دائما
سي داروين
ملحوظة:
لا ترد على هذا الخطاب؛ فقد أرسلته لأنفس عما يجيش بداخلي.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون 17 [يونيو]، 1856 ... أثار كتاب وولستن [«تباين الأنواع»، 1856] بالغ اهتمامي الشديد، رغم أنني أختلف «كثيرا» مع العديد من مبادئه. هل قرأت من قبل أي شيء، مع الوضع في الاعتبار كم يتطرف وولستن كثيرا، بسخافة هجومه على أولئك الذين يجاوزونه في الشطط: «خبيث للغاية»، «سخيف»، «غير منطقي»؟ أعتقد أن المعتقدات الدينية وراء بعض من هذا. وقد قلت له إنه أشبه بكالفين يحرق أحد الهراطقة. لكنه كتاب قيم ورائع جدا في رأيي. من الجلي أنه قد قرأ القليل جدا مما لا يتسق مع آرائه. وقد حثثته على قراءة مقال نيوزيلاندا. كما أن معلوماته الجيولوجية، كما أخبرته، منحصرة إلى حد ما في العصر الإيوسيني. في الواقع لقد كاتبته بصراحة شديدة؛ أخشى أنها صراحة مبالغ فيها؛ إنه يقول إنه على يقين أن الصراحة المفرطة هي سمتي المميزة: لا أعلم إن كان يقصد استهزاء بهذا أم لا؛ أرجو ألا يكون كذلك. على ذكر جيولوجيا العصر الإيوسيني، انتابني غضب شديد بشأن زعم القارة الأطلنطية، لا سيما جراء رسالة من وودورد (الذي نشر كتابا رائعا حول الأصداف)، الذي يبدو أنه لا يساوره شك في أن كل الجزر التي في المحيطين الهادئ والأطلنطي هي بقايا لقارات، غرقت خلال فترة حياة أنواع حية الآن، حتى إنني انفعلت بعض الشيء وكتبت إلى لايل معترضا، وذكرت كل القارات التي افترض وجودها في السنوات الأخيرة كل من فوربس (الآثم الرئيسي!) و«أنت»، ووولستن، ووودورد، مكونين معا امتداد صغيرا من اليابسة! إنني محتد بعض الشيء بسبب هذه المسألة؛ ومن ثم، إن لم أكن مخطئا بالفعل، فإنني متأكد تماما أنني سأصبح كذلك ...
لقد استمتعت كثيرا بخطابك. الوداع
سي داروين
ملحوظة:
18 [يونيو]. لقد كتب لايل خطابا «رائعا» بحقك، كان من المفترض أن يثير استيائي التام، لكن لا أستطيع أن أقول إنه قد فعل ذلك حقا.
إلا أنني لا بد أن أحاول ألا أحتد، بل أتوقف عن ذلك، وأحاول أن أتواضع، وأسمح لكم جميعا بافتراض وجود قارات، بالسهولة نفسها التي يعد بها الطاهي الفطائر.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 25 يونيو [1856]
عزيزي لايل
سأجعل الخطاب الطويل التالي ينسخ لأجعل القراءة أيسر، ولأنني أريد الاحتفاظ بنسخة منه.
لما قلت إنك تود معرفة أسباب رفضي الشديد تصديق فكرة الامتدادات القارية التي قال بها كتاب محدثون، فسأكتبها بكل سرور؛ حيث إنني سوف أذكرها مختصرة في مقالي - ما لم أقتنع بخطئي - حين أناقش الخلق المفرد والمتعدد؛ ومن ثم، سيسرني بنحو خاص أن أعرف رأيك العام فيها. «من المحتمل جدا» أن أكون قد افترضت في فورة غضبي أن ثمة المزيد لمناقشته فيها بخلاف الواقع. إن كان ثمة أسباب أكثر للاعتراف بوجود امتداد القاري في حالة أو حالتين (كما في ماديرا) من حالات أخرى، فلن أشعر بأي صعوبة في الاعتراف بذلك على الإطلاق. لكن إن كان الاعتقاد بضرورة ربط ماديرا باليابسة راجعا للنباتات والأصداف البحرية الساحلية الأوروبية، فإن هوكر مصيب تماما في ربط هولندا الجديدة بنيوزيلاندا، وجزيرة أوكلاند (وجزيرة راءول بالشمال الشرقي)، وهذه بأمريكا الجنوبية وجزر فوكلاند، وهذه بجزر تريستان دا كونيا، وهذه بجزيرة كيرجولين؛ لتشكل بهذا، سواء في الوقت نفسه تماما، أو في فترات مختلفة، لكن خلال حياة كائنات حديثة العهد، نطاقا حول قطبي من اليابس. وهكذا مرة أخرى يجب ربط جزر جالاباجوس وخوان فرنانديز بأمريكا؛ وإن اعتمدنا على الأصداف البحرية الساحلية، فلا بد أن جزر جالاباجوس كانت متصلة بجزر المحيط الهادئ (التي على بعد 2400 ميل) وكذلك بأمريكا، وكل جزر المحيط الهادئ كانت متصلة في قارة هائلة كما يعتقد وودورد على ما يبدو؛ كذلك كانت جزر جنوب المحيط الهندي متصلة في قارة أخرى، مع مدغشقر وأفريقيا وربما الهند. في شمال المحيط الأطلنطي، ستمتد أوروبا عبر المحيط حتى جزر الأزور، وكذلك أقصى الشمال؛ باختصار، ربما يجب أن نفترض أن نصف المحيط الحالي كان يابسة خلال حياة كائنات حية. لا بد أن الكوكب كان له مظهر مختلف تماما خلال هذه الفترة. إذن الطريقة الوحيدة، التي يمكنني تخيلها، للتأكد من هذا، هو النظر فيما إن كانت القارات قد مرت بتلك التحولات العجيبة خلال الفترة نفسها أم لا. في كل من أمريكا الشمالية والجنوبية والوسطى، لدينا أصداف من العصرين الحديث والمايوسيني (أو الإيوسيني)، مختلفة تماما على الجوانب المتقابلة؛ ومن ثم فلا يمكن أن يخالجني شك أن أمريكا بالأساس ظلت في مكانها منذ العصر الإيوسيني على الأقل. في أفريقيا تختلف كل الأصداف الحية تقريبا على الجهات المتقابلة من المناطق الواقعة بين المدارين، وهي مسافة قصيرة عند مقارنتها بمدى انتشار الرخويات البحرية، في البحار المتصلة؛ بناء على ذلك، أستنبط أن أفريقيا قد وجدت منذ خلق أنواعنا الحالية. حتى برزخ السويس وحوض بحري آرال وقزوين عريقا القدم؛ هذا ما أتخيله فيما يتعلق بالهند وذلك من رواسب العصر الجيولوجي الثالث. في أستراليا تدل الحياة الحيوانية الهائلة للجرابيات المنقرضة أن أستراليا كانت قارة مستقلة، قبل ظهور الثدييات الحالية. ولا أشك للحظة أن أجزاء كبيرة جدا من كل هذه القارات قد خضعت لتغيرات «كبرى» في المستوى خلال هذه الفترة، إلا أنني أستنتج أنها كانت في الأساس قائمة كحواجز في البحر، في المكان الذي تقوم فيه الآن؛ بناء على هذا سوف يلزمني أقوى الأدلة لتحملني على تصديق حدوث تلك التغيرات الهائلة في محيطاتنا خلال حياة الكائنات الحية؛ حيث علاوة على ذلك لا بد أن التغيرات كانت أشد من الناحية الرأسية، بناء على الأعماق السحيقة.
ثانيا، إذا افترضنا غرق قاراتنا الحالية، تاركين القليل من قمم الجبال كأنها الجزر، فكيف ستكون طبيعة هذه الجزر؟ تذكر أن جبال البرانس وسييرا نيفادا والأبينيني والألب والكاربات غير بركانية، وجبال إتنا والقوقاز بركانية. في آسيا، جبال ألتاي والهيمالايا غير بركانية على ما أعتقد. وفي شمال أفريقيا الجبال غير البركانية هي جبال الحبشة والأطلس، حسبما أتخيل. وفي جنوب أفريقيا، سلسلة جبال الثلج. وفي أستراليا، جبال الألب الأسترالية غير بركانية. وفي أمريكا الشمالية، الجبال البيضاء وأليجيني وروكي غير بركانية - بعض جبال السلسلة الأخيرة فقط بركانية، على ما أظن. في أمريكا الجنوبية شرقا، الجبال غير البركانية هي سيلا دو كاراكاس، وإيتاكولومي في البرازيل، وفي أقصى الجنوب سييرا فينتانا، وفي سلاسل الجبال الكثير من الجبال بركانية لكن ليس كلها. والآن، فلتقارن هذه القمم بالجزر المحيطية؛ في حدود المعلوم كلها بركانية، ما عدا جزيرتي سان بول (وهي صخرة محيرة عجيبة)، وسيشل، إذا جاز وصف الأخيرة بالمحيطية، بمحاذاة مدغشقر؛ وجزر فوكلاند، على بعد 500 ميل فحسب، ليست سوى ضفة منخفضة؛ ونيو كاليدونيا، وهي بالكاد محيطية، استثناء آخر. هذه الحجة قوية جدا من وجهة نظري. فلنقارن على خرائط جغرافية، بين الجزر التي «تتعدد» أسبابنا لافتراض أنها كانت متصلة باليابسة، مثل سردينيا، وكم تبدو مختلفة. ومع اعتقادي بأن القارات بصفتها قارات، والمحيطات بصفتها محيطات، موغلة في القدم، فلا بد أن أقول إنه إن كان للجزر المحيطية الحالية أي علاقة من أي نوع بالقارات، فإنها تكون قارات؛ وبحلول الزمن الذي تستطيع فيه تكوين قارات، ستعرى البراكين حتى لبها، تاركة قمم من صخور الساينايت أو الدايورايت أو البروفير. لكن ألا يوجد لدينا في أي مكان أي حطام أخير لإحدى القارات في وسط المحيط؟ ربما صخرة سان بول، وتلك الجزر البركانية القديمة الخربة، مثل سانت هيلينا؛ لكن أعتقد أن بإمكاننا رؤية بعض المنطق في أن ما لدينا من أدلة على قارات غارقة أقل من التي لدينا على قارات صاعدة (إن كان في وجهة نظري في عملي عن المرجانيات أي صحة: وهي أن الانفجارات البركانية تصاحب المناطق المرتفعة)، حيث إنه أثناء الهبوط لن يكون ثمة عامل تعويض، وفي المناطق الصاعدة سيكون ثمة عامل «إضافي» من المواد البركانية المتدفقة.
ثالثا، واضعا في الاعتبار عمق المحيط، فقد كنت، قبل تلقي خطابك، ميالا بشدة لإنكار الحجم الهائل للهبوط، لكن يجب أن أعلن استسلامي. فيما يتعلق بالشعاب المرجانية، فقد حرصت على تجنب الاستدلال على وجود قارة بمجموعات من الجزر المرجانية. من الصعب تخمين، كما يبدو لي، حجم الهبوط من الشعاب المرجانية؛ لكن في المناطق الشاسعة مثل أرخبيل لو وأرخبيل مارشال ومجموعة لاكاديف، سيكون هذا من الغريب، بناء على ارتفاع الأرخبيلات المحيطية الحالية، إذا لم تكن قد اندثرت قمم بارتفاع يتراوح بين 8 آلاف و10 آلاف قدم. وحتى بعد خطابك شككت ما إن كان من الإنصاف المحاجة استنادا إلى هبوط قارات في منتصف أكبر المحيطات؛ لكن بعد إنعاش ذاكرتي بالحديث مع رامزي حول السمك المحتمل في أحد خطوط تكوين العصر السيلوري والكربوني الرأسية، فما يبدو أنه لا بد قد حدث هو هبوط بقدر 10 آلاف قدم «على الأقل» خلال هذه التكوينات في أوروبا وأمريكا الشمالية؛ ومن ثم خلال حياة مجموعة الكائنات الحية نفسها تقريبا. لكن حتى 12 ألف قدم لن تكون كافية بالنسبة لجزر الأزور، أو لقارة هوكر؛ لكن أعتقد أن هوكر لا يستنتج وجود قارة متصلة، وإنما مجموعات متقاربة من الجزر، من دون، إذا جاز لنا الاستنباط من القارات الحالية، بحر «شديد» العمق بينها؛ لكن الاحتجاج بالطبيعة البركانية لكل جزيرة محيطية تقريبا يتعارض مع مجموعات الجزر المفترضة تلك؛ إذ أعتقد أنه لا يفترض مجرد سلسلة من الجزر البركانية تطوق نصف الكرة الجنوبي.
رابعا، لا يبدو لي أن الامتدادات القارية المفترضة تفسر تماما كل ظواهر التوزيع على الجزر؛ مثل غياب الثدييات والضفدعيات؛ وغياب مجموعات كبرى محددة من الحشرات في ماديرا، والأكاسيا والبانكسيا، إلخ في نيوزيلاندا؛ وندرة النباتات في بعض الحالات، إلخ. وليس المقصود أن أولئك الذين يعتقدون في وجود وسائل توزيع عرضية متعددة يستطيعون تفسير أغلب هذه الحالات؛ لكنهم يستطيعون على الأقل أن يقولوا إن هذه الحقائق لا تبدو متسقة مع وجود يابسة متصلة في عهود سابقة.
أخيرا، لهذه الأسباب المتعددة، وبوجه خاص باعتبار أنه من المؤكد (وهو ما ستتفق معه) أننا في غاية الجهل بوسائل التوزيع، لا أستطيع منع نفسي من الاعتقاد بأن قارة «أتلانتس» التي افترضها فوربس قد ألحقت ضررا كبيرا بالعلم، حيث تعرقل دراسة وسائل النشر دراسة متأنية. سأكون ممتنا حقا لمعرفة، بإيجاز بقدر ما تريد، ما إن كانت هذه الحجج لها أي وزن لديك، واضعا نفسك في موقع الحكم النزيه. أخبرت هوكر أنني سأكاتبك بشأن هذا الموضوع، وسأود أن يقرأ هذا؛ لكنني لا زلت غير متأكد ما إن كنت أنت أو هو ستعتقدان أن الأمر يستحق الوقت ورسوم البريد أم لا.
صديقك الوفي جدا
تشارلز داروين [في الثامن من يوليو، كتب إلى السير تشارلز لايل، قائلا:
يؤسفني أنك لا تستطيع إعطاء أي حكم حول مسألة الامتدادات القارية؛ وأستنتج أنك تعتقد أن حجتي ليست ذات وزن في مقابل حجة القائلين بوجود تلك الامتدادات. أتمنى حقا لو كنت أستطيع الاعتقاد بصحة ذلك.]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 20 يوليو [1856] ... رغم ما في ذلك من أنانية، أود أن أخبرك (إذ لا «أعتقد» أنني قد فعلت ذلك) كيف أرى عملي. منذ تسعة عشر عاما (!) خطر لي أثناء انشغالي بشيء مختلف في التاريخ الطبيعي أنه ربما قد يكون من الجيد إن سجلت أي حقائق متعلقة بمسألة أصل الأنواع، وهذا ما أخذت أفعله منذ ذلك الوقت. إن الأنواع إما تكون قد خلقت على نحو مستقل، وإما انحدرت من أنواع أخرى، مثل الضروب الخاصة بنوع واحد. أعتقد أنه من الممكن أن نبرهن على إمكانية حصول الإنسان على ضروبه الأكثر تميزا بالحفاظ على تلك الأجدر بالإبقاء عليها والقضاء على الأخرى، لكن لا بد أن أملأ كراسا إن استرسلت في هذا الشأن. على سبيل الإيجاز، إنني أفترض أن الأنواع تنشأ مثل ضروبنا الداجنة مع «الكثير» من الانقراض؛ بعد ذلك أختبر هذه النظرية بالمقارنة مع أكبر عدد يمكنني أن أجده من الفرضيات العامة الراسخة التي وضعت في التوزيع الجغرافي والتاريخ الجيولوجي والقرابات، إلخ، إلخ. ويبدو لي، مع «افتراض» أن تلك النظرية قد تفسر تلك الفرضيات العامة، إننا لا بد، عملا بالأسلوب الشائع في معالجة كل العلوم، أن نقر بها حتى يعثر على نظرية أفضل. فمن وجهة نظري القول بأن الأنواع خلقت كيت وكيت ليس تفسيرا علميا؛ إنما هي طريقة منمقة لقول إنها كيت وكيت. لكنه من غير المعقول أن أحاول توضيح كيف أسعى للمواصلة في الأمر في إطار خطاب. لكن للأمانة، لا بد أن أخبرك أنني توصلت لاستنتاج مخالف يرى أن الأنواع لم تخلق على نحو مستقل - أن الأنواع ليست سوى ضروب محددة للغاية. أعلم أن هذا سيجعلك تحتقرني. وأنا لا أقلل من شأن الصعوبات «الهائلة» المتعددة التي تكتنف وجهة النظر هذه، غير أنه يبدو لي أنها تفسر الكثير من الأشياء غير القابلة للتفسير بطريقة أخرى بحيث يصعب أن تكون خاطئة. وعلى سبيل الإشارة فقط إلى نقطة في خطابك الأخير، ألا وهي أن الأنواع التي في الجنس نفسه «بوجه عام» لها منطقة مشتركة أو متصلة؛ إن كانت بالفعل منحدرة مباشرة من نوع واحد، فهكذا سيكون الحال بالطبع؛ والاستثناءات الكثيرة جدا للأسف (بالنسبة لي) لا بد من تفسيرها بالتغيرات المناخية والجيولوجية. وبناء على هذه النظرية (لكن على الأسس نفسها تحديدا) لا بد أن يكون لكل أفراد النوع نفسه توزيع متصل. لقد ألفت فصلا في هذا الجزء الأخير من الموضوع، وتفضل هوكر بقراءته. كنت أعتقد أن الاستثناءات والصعوبات هائلة جدا في مجملها حتى إن كفتها رجحت مقابل أفكاري، لكنني سررت جدا حين وجدت أنها لاقت قبولا لدى هوكر، الذي قال إنه لم يصبه ذلك القدر الكبير من الحيرة بشأن ديمومة الأنواع قط.
لا بد أن أقول كلمة أخرى من قبيل التبرير (فأنا متأكد أنك ستميل لاحتقاري أنا وأفكاري الغريبة)، وهي أن كل أفكاري حول «كيفية» تغير الأنواع مستقاة من دراسة طويلة متصلة لأعمال خبراء الزراعة والبستنة (والتواصل معهم)؛ وأعتقد أنني أدرك بوضوح تام الطرق التي تستخدمها الطبيعة لتغيير أنواعها وجعلها قادرة على «التكيف» مع العوارض العجيبة والرائعة الجمال التي يتعرض لها كل كائن حي.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 30 يوليو، 1856
عزيزي هوكر
خطابك «عظيم» القيمة بالنسبة لي. لم أستطع الحصول على إجابة محددة من لايل [بشأن نظرية الامتدادات القارية التي قال بها فوربس وآخرون]، كما سترى في الخطابات المرفقة، وإن كنت استنتجت أنه لا يقيم وزنا لحججي. ولولا هذا الخطاب، لكنت استخدمت لهجة شديدة جدا. أرجو أن تطمئن أنني سوف أعبر عن شكوكي بطريقة مقبولة. لم يوضع أحد في مأزق كالذي وضعت فيه قط؛ فإن الامتدادات القارية التي تفترضونها ستزيل صعوبات هائلة تتعارض مع أفكاري، ورغم ذلك لا أستطيع أن أقر بصحة النظرية؛ ولذلك يجب أن أعترف بهذا؛ فلا يمكنني تجاهل حقيقة عدم العثور على حتى ولو كسرة من صخرة من العصر الميزوزوي أو الباليوزي على أي جزيرة على ارتفاع 500 أو 600 ميل من البر الرئيسي. وإنك بالأحرى تسيء فهمي حين تعتقد أنني أشك في «احتمال» حدوث هبوط بقدر 20 أو 30 ألف قدم؛ إنه مجرد احتمال، مع وضع تلك الأدلة التي لدى كل منا عن التوزيع في الاعتبار. لم أتبين بعد مسألة توزيع الثدييات، «المتطابقة» والقريبة من بعضها، بكامل تفاصيلها، من ناحية «عنصر عمق البحر»؛ لكن بقدر ما درست، كانت النتائج متفقة لدرجة أثارت دهشتي مع اعتقادي المزعج جدا بعدم وقوع تلك التغيرات الجغرافية الكبرى التي تعتقد فيها؛ ومن ناحية الثدييات، فبالتأكيد ما نعرفه عن وسائل توزيعها أكثر مما نعرفه عن أي طائفة أخرى. لا شيء يثير سخطي مثل أن أجد نفسي أتوصل دائما لاستنتاجات مختلفة عن استنتاجات متخصصين أفضل مني، من الحقائق نفسها.
أعتقد أنني قد أزلت مؤخرا العديد من الصعوبات الكبرى (غير الجغرافية) التي تعترض سبيل أفكاري، لكن يعلم الرب أنها قد تكون محض هلوسة.
أرجوك أن تعيد خطابات لايل.
يا له من خطاب رائع الذي كتبه لايل إليك، ويا له من رجل رائع! أختلف معه كثيرا في ظنه أن أولئك الذين يعتقدون أن الأنواع «ليست» ثابتة سيضاعفون عدد الأسماء النوعية: في حالتي أنا، أعلم أن مصدر قلقي الأكثر تواترا كان هو ما إن كان الآخرون لن يعتقدوا أن هذا أو ذاك كان مثلا برنقيلا من خلق الرب، وبالتأكيد استحق اسما. خلافا لذلك كان لا بد أن أفكر فحسب فيما إن كان حجم الاختلاف والاستمرار كافيا لتبرير الحاجة لاسم. كما أنني مندهش إزاء اعتقاده أنه من غير الهام ما إن كانت الأنواع مخلوقة على نحو مستقل أم لا؛ متى أثبت أن كل الأنواع تنشأ بالانحدار، بقوانين التغيير، ستكون لدينا أدلة جيدة فيما يتعلق بالفجوات التي في التكوينات. وكم سيختلف التاريخ الطبيعي، وذلك بعد أن نكون في القبر، حين يعتقد أن كل قوانين التغير أحد أهم أجزائه؟
لا يمكنني تصور سبب اعتقاد لايل أن أفكارا مثل التي لدي أو في كتاب «بقايا» سوف تبطل فكرة المراكز المحددة. لكن لا بد ألا أستفيض في الأمر وأضيع وقتك. أخشى أن مخطوطي لن ينسخ قبل أن تسافر للخارج. لك خالص شكري.
صديقك دائما
سي داروين
ملحوظة:
بعد أن أسرد حجتي فيما يتعلق بنظرية الامتدادات القارية بإيجاز شديد، سوف ألحق جملة أقول فيها إن خبيرين أفضل مني قد نظرا في هذه الحجج بعين الاعتبار، ولم يعطياها وزنا.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 5 أغسطس [1856] ... أتفق تماما بشأن خطابات لايل إلي التي، رغم أنها تثير اهتمامي، لم تقدم لي أي إيضاح جديد. خطاباتك، من الناحية «الجيولوجية»، كانت أكثر أهمية بالنسبة لي. لا يمكنك أن تتخيل كم أتمنى جديا لو كنت أستطيع تقبل موضوع الامتداد القاري، لكنني لا أستطيع؛ فكلما فكرت فيه (إذ لا أستطيع أن أخرجه من رأسي)، وجدت أمر تقبله أصعب. لو كان الأمر مقتصرا على نحو ست حالات فحسب، ما كنت سأشعر بأي صعوبة في تقبله؛ لكن تعميم حقيقة أن كل الجزر (ما عدا واحدة أو اثنتين) تشارك جزءا كبيرا من حيواناتها ونباتاتها مع البر الرئيسي لقارة أو أكثر يجعلني في حيرة شديدة. يا لها من حالة عجيبة حالة فصيلة المؤنفات! إنه لمن المحزن، وكذلك المهين، للغاية أنني لا أستطيع فهم الطريقة التي تعبر بها على نحو لافت عن رؤيتك للموضوع، أو الاتفاق معها. إنني أرى الحقائق الخاصة بك (عن الأوكالبتوس، إلخ) «معارضة» بشدة للامتداد القاري، وربما معارضة بشدة للهجرة أيضا، أو على الأقل «بالغة» الصعوبة. وإنني أرى أن أساس اختلافنا (لا بد في الخطاب أن أضع نفسي على قدم المساواة في المحاجة) يكمن في رأيي بأن المعروف عن وسائل التوزيع يكاد يكون معدوما. أتفق تماما مع رأي إيه دي كوندول (وأعتقد رأيك أنت أيضا) أن الإشارة إلى طرق التوزيع «المحتملة» فقط لهو عمل هزيل؛ بيد أنني لا أرى طريقة أخرى يمكن بها معالجة الموضوع؛ إذ أعتقد أن حجة إيه دي كوندول المتمثلة في عدم دخول نباتات إلى إنجلترا إلا بتدخل الإنسان، ليست ذات قيمة. لا أملك سوى الاعتقاد أن نظرية الامتداد القاري لها بعض الآثار السيئة حيث توقف البحث في وسائل الانتشار، وهو ما يبدو لي، سواء كان «سلبيا» أو إيجابيا، ذا أهمية؛ وعند دحضها سيضطر كل من يعتقد في المراكز المفردة إلى أن يقر بصحة فكرة الامتدادات القارية. ... أرى من ملحوظاتك أنك لا تفهم أفكاري (سواء كانت مهمة أم لا) حول التعديل؛ إنني أعزو للعمل المباشر للطقس، إلخ، القليل جدا من التأثير. أفترض أن أهدافنا تختلف فيما يخص المراكز المحددة؛ فأنا سأدعو حديقة المطبخ حيث أنتج الكرنب الأحمر، أو المزرعة التي أنتج فيها بيكويل الماشية القصيرة القرون، المركز المحدد لهذين «النوعين»! فهذه بالتأكيد مركزية كافية!
أشكرك بشدة على كل ما أسديته من مساعدة؛ وسواء إن كان كتابي فقيرا أم لا، فقد بذلت قصارى جهدك لتجعله أقل فقرا. أحيانا تكون معنوياتي مرتفعة للغاية وأحيانا أخرى تضعف بشدة. إن ذهني عاقد العزم حول مسألة أصل الأنواع؛ لكن، يا إلهي، كم هي ضئيلة قيمة ذلك! [فيما يتعلق ب «المراكز المحددة»، ثمة فقرة من خطاب بتاريخ 25 يوليو، 1856، من السير تشارلز لايل إلى السير جيه دي هوكر (كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، المجلد الثاني، صفحة 216) جديرة بالاهتمام:
أخشى كثيرا أنه إن كان داروين يجادل بأن الأنواع أوهام، فسوف يضطر كذلك لأن يقر بأن مراكز الانتشار المفردة أوهام هي الأخرى، وذلك سيسلب مني كثيرا من الأهمية التي كنت أوليها للأقاليم الحالية للحيوانات والنباتات، للبرهان على التغيرات التي جرت خلال العصر الثالث والحديث في الجغرافيا الطبيعية.
لكن يبدو أنه قد أدرك أن قريبا سيتعين مواجهة مذهب الأوهام؛ حيث كتب في الخطاب نفسه: «سواء أقنع داروين كلينا بإنكار اعتقادنا بشأن الأنواع (عند وضع الحقب الجيولوجية في الاعتبار) أم لا، فإنني أتوقع أن كثيرين سيتحولون للمبدأ غير الواضح للقابلية للتعديل.»
في الخريف كان أبي لا يزال يعمل في فصل التوزيع الجغرافي، والتمس مرة أخرى معاونة السير جيه دي هوكر.]
خطاب إلى السير جيه دي هوكر [سبتمبر، 1856]
خلال بضعة أسابيع، ستكون لديك، أيها المسكين التعيس الحظ، مخطوطتي حول واحدة من النقاط المتعلقة بالتوزيع الجغرافي. إلا أنني لن أطلب ذلك المعروف ثانية أبدا، لكن فيما يتعلق بهذه المخطوطة تحديدا، فمن المهم بالنسبة لي أن تطلع عليها؛ فلم أشعر قط في حياتي بتلك الصعوبة فيما يتعلق بما علي فعله، وأتمنى بحق لو كنت أستطيع تناول الموضوع بأسره على نحو سطحي.
في خطاب إلى السير جيه دي هوكر (يونيو، 1856) ترد الفقرة التالية المميزة، لتنم، بلا ريب، عن نوع العمل الذي استلزمه فصله حول التوزيع الجغرافي:
ثمة منطق خاطئ وغريب في عرضه [عرض إي فوربس] الشهير والجدير بالإعجاب لمسألة التوزيع، كيفما يبدو لي، بما إنني قد درستها حتى أضع العناوين الرئيسية في صفحة. لتثق أن مقولتي التالية صحيحة، وهي أن جامع البيانات رجل «عظيم»، أما الرجل المبدع، فهو رجل عادي. يستطيع أي أحمق أن يعمم ويفترض، لكن، أوه، يا إلهي، يا له من عمل أن تدرس نباتات نيوزيلاندا عن شخص آخر!
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
3 أكتوبر، [1856] ... أتذكر أنك اعترضت على نصيحة لايل بكتابة «ملخص» بمعتقداتي حول الأنواع. حسنا، حين بدأت، وجدته عملا غير مرض حتى إنني كففت عنه، والآن أنا أحضر عملي ليكون مثاليا بقدر ما تسمح المواد التي جمعتها في تسعة عشر عاما، لكنني لا أنوي أن أتوقف لإتمام أي مسار بحثي خارج نطاق العمل الحالي؛ لهذا الحد وليس أبعد من هذا سوف أتبع نصيحة لايل الملحة. إن لملاحظاتك أهمية كبيرة لدي. من المحزن أن أرى أن العمل سيصير كتابا كبيرا للغاية. وقد وجدت أن دراستي المتأنية للحمام لا تقدر بثمن حقا؛ حيث بصرتني بعدة نقاط متعلقة بالتباين تحت تأثير التدجين. كانت الأدبيات القديمة الكثيرة، التي يمكن من خلالها تتبع التغيرات التدريجية في سلالات الحمام، مفيدة لي فائدة استثنائية. لقد جاءني للتو حمام وطيور داجنة «حية» من جامبيا! كما أنني أولي الأرانب والبط اهتماما شديدا للغاية، لكن أقل من الحمام. وإنني أجد اختلافات ملحوظة جدا في هياكل الأرانب. هل سبق لك الاحتفاظ بسلالات غريبة من الأرانب من قبل، وهل تستطيع إعطائي أي تفاصيل؟ ثمة سؤال آخر: اعتدت الاحتفاظ بصقور؛ فهل تعرف على الإطلاق متى تتقيأ كرات الفضلات بعد تناولها أحد الطيور؟
لا يثير أي موضوع بالنسبة لي قدر المتاعب والشك والصعوبة الذي تثيره وسائل انتشار أنواع الكائنات الأرضية نفسها على الجزر المحيطية. إن الرخويات البرية تدفعني للجنون، ولا أستطيع الحصول على بيضها بأي طريقة لاختبار قدرتها على الطفو وتحمل التأثير الضار للماء المالح. لن أعتذر عن إفراطي الشديد في الكتابة عن أنشطتي؛ لأنني أعتقد أنك سترغب في معرفتها. أرجو أن تطلعني، في أي وقت، على ما أصبحت عليه حالتك الصحية؛ و«إن أردت»، فلترسل لي بعض المعلومات بشأن البط الصياح.
عزيزي فوكس، المخلص لك
سي داروين [كذلك كتب عن كتابه إلى السير تشارلز لايل (بتاريخ العاشر من نوفمبر) قائلا:
أعمل بمثابرة شديدة في كتابي الكبير؛ لقد وجدت أنه من المستحيل تماما أن أنشر أي ملخص أو مقال تمهيدي؛ لكنني أقدم عملا كاملا بقدر ما تتيح المواد التي لدي حاليا دون الانتظار لتحسينها. وهذا التعجيل الشديد أدين لك به.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الأحد [أكتوبر، 1856]
عزيزي هوكر
لقد وصلت البذور جميعها سليمة تماما، وأشكرك شكرا جزيلا عليها. إنني آسف جدا على المغادرة مبكرا جدا وما فاتني من أي جزء من أمسيتي الممتعة «للغاية». لقد غادرت في همجية شديدة دون أن أودع السيدة هوكر، لكنني وصلت في آخر لحظة؛ حيث وصل القطار بمجرد أن صعدت للرصيف.
أسعدتني بوجه خاص مناقشتنا بعد العشاء؛ فدائما ما يصفي ذهني على نحو رائع الاشتباك معك في معركة. أنا حزين لسماع أن إيه جراي يتفق معك بشأن حال الجغرافيا النباتية. أعتقد أنك إن كنت بحاجة للبحث عن ضوء في الجغرافيا الحيوانية، فإنك على النقيض كنت ستعير مجالك احتراما أكثر كثيرا مما تفعل الآن. لقد تصرفت الصقور على نحو رائع، واستفرغت كرات فضلات بها الكثير من البذور؛ وقد تلقيت للتو طردا به قدما طائر حجل مغطاتان تماما بالطين! الوداع .
صديقك المجنون والمخالف
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 4 نوفمبر [1856]
عزيزي هوكر
أشكرك شكرا حارا أكثر مما تتخيل على خطابك. كان حكمك [بشأن مخطوطة فصل التوزيع الجغرافي] مصدر راحة كبيرة لي. أقسم بشرفي إنني لم أكن أدري إن كنت ستقول إنه (وأعلم أنك كنت ستقولها برفق شديد) سيئ جدا، حتى إنك سترجوني أن أحرقه كله. أرى من وجهة نظري أن مخطوطتي أزالت عن كاهلي بعض الصعوبات، وبدا لي أن الصعوبات قد عرضت بإنصاف إلى حد كبير، لكنني صرت في حيرة شديدة وسط حقائق وأدلة وحجج وآراء متضاربة؛ حتى إنني خالجني شعور عميق بأنني فقدت كل ما لي من قدرة على الحكم. إن رأيك العام إيجابي أكثر مما توقعت.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 23 نوفمبر [1856]
عزيزي هوكر
أخشى أنني سوف أصيبك بالضجر بسبب الخطابات، لكن لا ترد على هذا الخطاب؛ إذ إنني في الحقيقة ودون تملق، أقدر خطاباتك كثيرا، حتى إنه بعد كم الخطابات الكبير مؤخرا، أشعر أنني كنت مسرفا وصرفت نقودا كثيرة جدا؛ ومن ثم، سيكون علي التقتير في جانب آخر.
حين أرسلت مخطوطتي ساورني شعور قوي أنه كان يجب إرسال بعض الأسئلة المبدئية حول مسببات التباين. إن كوني مصيبا أم مخطئا في هذه النقاط إنما هي مسألة منفصلة بالكامل، لكن الاستنتاج الذي توصلت إليه، بمعزل تماما عن التوزيع الجغرافي، هو أن الظروف الخارجية (التي كثيرا ما تستهوي علماء التاريخ الطبيعي) لها أثر «قليل جدا» بمفردها. أما درجة تأثيرها، فهي النقطة التي أشعر فيها بضعفي الشديد بين كل النقاط الأخرى. إنني أحكم بناء على حقائق التباين تحت تأثير التدجين، وربما سأحصل على مزيد من المعلومات. لكن في الوقت الحالي، بعد كتابة مسودة حول هذا الموضوع، يتمثل استنتاجي في أن تأثير الظروف الخارجية ضئيل «للغاية»، عدا التسبب في مجرد القابلية للتباين. إن تلك القابلية للتباين (التي تجعل الطفل «غير» مشابه لوالده تشابها دقيقا) أراها مختلفة «تماما» عن تكون ضرب مميز أو نوع جديد. (لا شك أن القابلية للتباين تخضع لقوانين، والتي أحاول على نحو معقد اكتشاف بعض منها.) أرى أن تكون أحد الضروب أو الأنواع القوية يكاد يرجع بالكامل لانتقاء ما قد يسمى خطأ تباينات أو قابلية تباين «عرضية». يرتبط هذا الانتقاء على نحو مباشر بالزمن، ولا يمكن أن يتم في الطبيعة إلا ببطء شديد. مرة أخرى، الاختلافات الطفيفة المنتقاة، التي ينتج بها أخيرا عرق أو نوع، ترتبط، كما يمكن إثباته حسبما أعتقد (حتى مع النباتات، ومع الحيوانات كما هو جلي)، في علاقة أهم كثيرا مع رفقائها أكثر من الظروف الخارجية؛ لذلك، حسب مبادئي، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، لا يمكنني الاتفاق مع فرضيتك أن الزمن والظروف المتبدلة والرفقاء المتبدلين «شروط القابلية للتحويل»؛ فأنا أرى أن الأول والأخير أكثر «كثيرا» في الأهمية؛ فالزمن ليس مهما إلا بقدر ما يتيح المجال للانتقاء. يعلم الرب ما إن كنت ستدرك ما أقصده أم لا. سوف يكون علي مناقشة الصعوبة التي تتحدث عنها بشأن أشكال المنطقة المعتدلة ومنطقة جنوب القطب الشمالي في نصف الكرة الأرضية الجنوبي والتفكير فيها أكثر مما فعلت بالفعل. لكنني أميل للاعتقاد أنني مصيب (إن كانت مبادئي العامة صحيحة) في أنه سيكون ثمة نزوع ضئيل لتكوين نوع جديد، خلال فترة الهجرة، سواء قصرت أو طالت، رغم أنه من المحتمل أن قدرا كبيرا من القابلية للتباين قد يحدث.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
24 ديسمبر [1856] ... كم أتمنى لو كنت أعيش قريبا منك لأناقش الأمور معك. كنت أقارن لتوي بين تعريفات النوع، وأبين بإيجاز كيف يستنبط علماء التاريخ الطبيعي المعنيون بالتصنيف مواد بحثهم. كانت زهرة الحوض في كتاب «نباتات الهند» مثالا ممتازا لي. إنه مما يدعو للضحك حقا أن ترى مدى اختلاف الأفكار التي توجد في أذهان العديد من علماء التاريخ الطبيعي، حين يتحدثون عن «الأنواع»؛ فلدى البعض التشابه هو كل شيء والانحدار قليل الشأن؛ ولدى البعض الآخر، يبدو أن التشابه ليس مهما ، والخلق هو الفكرة المهيمنة؛ ولدى آخرين، الانحدار هو السر؛ ولدى آخرين، العقم اختبار لا يخطئ، بينما يرى آخرون أنه عديم القيمة تماما. أعتقد أن كل هذا ينبع من محاولة تعريف ما هو غير قابل للتعريف. أظن أنك فقدت البذور السوداء الغريبة التي كانت في زبل الطيور، التي نبتت. على أي حال، الأمر لا يستحق الانزعاج بشأنه؛ فلدي نحو دزينة من البذور المستخرجة من زبل طيور صغيرة.
الوداع يا عزيزي هوكر
صديقك إلى الأبد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 1 يناير [1857؟]
عزيزي الدكتور جراي
لقد تلقيت الجزء الثاني من بحثك [«الإحصائيات الخاصة بنباتات شمال الولايات الأمريكية»، «دورية سيليمان»، 1857]، ورغم أنه ليس لدي شيء محدد لأقوله، فلا بد أن أرسل شكري وصادق إعجابي. أرى أن البحث بأسره يغطي الموضوع بحذافيره، وأنني أوهم نفسي وأخدعها تماما أنني أدرك الآن طبيعة نبتاتك. يا له من فرق الذي تحدثه ملحوظاتك في أوروبا بشأن الأجناس! لقد أسعدني للغاية أن أرى استنتاجك فيما يخص سعة نطاق أنواع الأجناس الكبيرة؛ فهو ينسجم تماما في عدة نواح مع النتائج التي توصلت إليها. إنه يحمل أهمية كبرى لأفكاري. بالمناسبة، لقد أسديتني إطراء «عظيما»؛ إذ أعتبر مجرد ذكري في بحث كهذا شرفا عظيما جدا. غير أن أحد استنتاجاتك يحملني على التذمر، وهو أن خط اتصال النباتات الجبلية يمر بجرينلاند. أود «بشدة» أن أرى أسبابك منشورة بالتفصيل؛ لأن الأمر «يزعجني» (هذا تعبير لائق، أليس كذلك؟) لدرجة فظيعة. أخبرني لايل أن أجاسي لديه نظرية عن الزمن الذي خلقت فيه العظائيات أول مرة، وعند سماع بعض الملاحظات المتروية المخالفة لها، قال إنه لا يؤمن بها، «لأن الطبيعة لم تكذب قط.» وإنني في هذا المأزق نفسه، وأقول لك إن «الطبيعة لا تكذب أبدا» وبناء على ذلك فالمنظرون دائما على صواب.
بما أنك منهك بشدة بسبب العمل، فأعتقد أنك ستقول إنني كالوباء البغيض؛ لكن إليك مسألة أخرى على أي حال. قادتني إحدى تخميناتي الجامحة لاستنتاج (رغم أن الأمر ليس له علاقة بالتوزيع الجغرافي ، لكنه مرتبط بإحصائياتك) أن الأشجار تميل بشدة لأن تكون لديها زهور ذات بنية ثنائية الجنس أو أحادية الجنس أو متعددة الأجناس. لما رأيت أن هذا ما بدا عليه الأمر لدى بيرسون، درست نباتاتنا البريطانية القليلة، مفرقا بين الأشجار والشجيرات على مبدأ لودون، ووجدت أن النتيجة كانت في الأنواع والأجناس والفصائل كما توقعت. هكذا أرسلت أفكاري إلى هوكر لأطلب منه جدولة كتاب «نباتات نيوزيلاندا» بما يتفق مع هذه النتيجة، وقد اعتقد أن نتيجتي مثيرة للاهتمام بالقدر الكافي مما يبرر أن يفعل ذلك؛ وإن التشابه مع بريطانيا ملحوظ للغاية، ومما يؤكد ذلك أنه وضع ثلاث طوائف من الأشجار والشجيرات والنباتات العشبية. (وقال إنه سوف يضع كتاب «نباتات تاسمانيا» على المبدأ نفسه.) تشغل الشجيرات موقعا وسطا بين الطائفتين الأخريين. تبدو لي علاقة مثيرة للاهتمام في حد ذاتها، بل إنها كذلك بالفعل على نحو كبير، إن كانت نظريتي وتفسيري صحيحين.
1
مع خالص شكري، صديقك المزعج جدا
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 12 أبريل [1857]
عزيزي هوكر
أسعدني خطابك أيما سعادة، ولا أستطيع أن أقصي عن ذهني فكرة أنني أستغل كرمك؛ حيث آخذ فقط ولا أعطي شيئا. يا له من كلام رائع ذلك الذي استطعت كتابته حول موضوع التباين برمته! إن الحالات التي نوقشت في خطابك الأخير هامة بالنسبة لي (وإن كانت بغيضة وملعونة)؛ حيث إنها تكشف عن شدة جهلنا بمسببات التباين. سأشير فقط لهذه الحالات، باعتبارها نوعا من التقسيم الفرعي لتعدد الأشكال، الذي يعد أكثر تحديدا قليلا، على ما أعتقد، من تباين التوت الشوكي، على سبيل المثال، ويساويه أو يفوقه في إثارة الحيرة.
كنت أجمع للتو ملحوظاتي حول التباينات التي «تبدو» ناتجة عن التأثير الآني والمباشر للمسببات الخارجية؛ وخرجت بنتيجة واحدة. يقر أكثر المؤيدين لفكرة الخلق المستقل تشددا بأن فراء الحيوانات المنتمية للنوع نفسه يكون أرق في جنوب نطاق انتشار هذا النوع عن شماله، وأن الأصداف المنتمية للنوع نفسه تكون أزهى لونا ناحية الجنوب من الشمال؛ وأنها أبهت لونا في المياه العميقة، وأن الحشرات تكون أصغر وأدكن لونا على الجبال، وأكثر شحوبا وأشبه بالصدف قرب البحر، وأن النباتات تكون أصغر وأغزر شعرا وذات زهور أزهى لونا على الجبال؛ إذن في كل هذه الحالات، وغيرها، تتبع أنواع متمايزة القاعدة نفسها في المنطقتين، ويبدو لي أن أبسط تفسير لهذا هو أن الأنواع ليست سوى ضروب مميزة جدا؛ ومن ثم تتبع القوانين نفسها الخاصة بالضروب المعروفة والمعترف بها. أذكر كل هذا بسبب تباين النباتات عند ارتقائها الجبال؛ وقد سقت الملحوظة السابقة على وجه العموم فحسب دون أمثلة، حيث سأضيف أنه ثمة الكثير جدا من الشك والنزاع حول ما يمكن أن نطلق عليه ضروبا؛ لكنني رغم ذلك صادفت عدة ملاحظات عابرة حول «ضروب» النباتات الموجودة على الجبال والتي من هذا النوع، حتى إنني أعتقد أن بهذه الملحوظة بعض الحقيقة. ما رأيك في هذا؟ هل تعتقد أن ثمة «أي» نزعة في «الضروب»، كما يطلق عليها «بوجه عام»، الخاصة بالنباتات لتصير أغزر شعرا وذات زهور أكبر حجما وأزهى لونا عند اعتلائها الجبال؟
إنني أولي اهتماما ب «حديقة الحشائش» الخاصة بي التي مساحتها ثلاثة أقدام في قدمين؛ حيث أميز كل شتلة بمجرد أن تظهر، وإنني مندهش من العدد الذي نبت، وأكثر اندهاشا من العدد الذي قتلته البزاقات وغيرها. لقد قتل 59 بالفعل هكذا؛ لقد توقعت عددا كبيرا، لكنني كنت أعتقد أن هذا كان عائقا أقل قوة مما يبدو، ونسبت دمار الشتلات برمته تقريبا للاختناق وحده. يبدو أن شتلات الحشائش أقل كثيرا في معاناتها من ثنائيات الفلقة.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
مور بارك، فارنام [(؟) أبريل 1857]
عزيزي هوكر
لقد أرسل خطابك إلي هنا، حيث أخضع للعلاج المائي لمدة أسبوعين، وقد قضيت هنا أسبوعا، وصادفت بالفعل تحسنا غير قابل للتصديق على الإطلاق بالنسبة لي وغير قابل للتفسير بالمرة. أستطيع الآن السير وتناول الطعام مثل أي رجل متمتع بالصحة، وحتى الليالي تمر علي في سلام. لا أستطيع البتة أن أفهم كيف يستطيع العلاج المائي أن يؤتي تأثيرا كما يفعل معي . إنه يغشى العقل إلى درجة كبيرة؛ إذ لم أفكر في أي نوع مهما كان منذ غادرت المنزل. لقد صدمني خطابك؛ كنت أعتقد أن غزارة الشعر وغيرها كانت أمورا مسلما بها عموما في «الأنواع» الجبلية؛ إنني واثق أنني قد رأيت الإشارة إليها عدة مرات. كان فالكونر يتحدث لي عنها منذ عدة أيام. أذكر أن ماين أو جاي، أو شخصا مشابها (قد تحتقره)، وضع ملحوظة حول هذا الأمر بشأن نباتات سلسلة جبال تشيلي. وكتب فيمر كتابا صغيرا حول الموضوع نفسه، وعن اتصاف «الضروب» بهذا في جبال الألب. لكني أقر أنه بعد الكتابة إليك أذهلني أن أجد رجلا (موكين تاندون، على ما أعتقد) يقول إن الزهور الجبلية تميل بشدة لأن تكون بيضاء، وأن أجد لينيوس يقول إن البرد يجعل النباتات «عديمة البتلات»، حتى إذا كانت من النوع نفسه! هل يغلب على نباتات القطب الشمالي أن تكون عديمة البتلات؟ اعتقادي العام الذي تأتى من عملي التجميعي هو الاتفاق تماما مع ما تقوله حول التأثير الصغير المباشر للمناخ؛ وقد أشرت للتو لكثافة شعر النباتات الجبلية باعتبارها «استثناء». كانت قوة الرائحة ستصبح حالة مناسبة لي لو كنت أعرف «ضروبا» أقوى رائحة في البيئات الجافة.
أخشى أنني نظرت لكثافة شعر النباتات الجبلية بصفتها شيئا معترفا به عامة للغاية حتى إنني لم أميز الفقرات التي تقول بذلك في الكتب، حتى أرى الأدلة الذي يقدمها المؤلفون على صحة كلامهم في هذا الشأن. لا بد أن أقر أنني حين سألت فالكونر إن كان يعلم بحالات خاصة لنباتات تفقد شعرها أو تكتسبه حين تنقل، لم يكن يعلم. لكن الآن «في هذه اللحظة» تسعفني الذاكرة، وإنني متأكد أنني في مكان ما ميزت حالة نباتات غزيرة الشعر في جبال البرانس فقدت شعرها عند زراعتها في مونبلييه. هل ستعتقد أنني شديد الوقاحة إذا أخبرتك أنني أعتقد أحيانا (بمنأى تماما عن الحالة الراهنة) أنك شديد القسوة لحد ما مع الملاحظين غير الجيدين؛ أن الملاحظة التي تصدر عن ملاحظ غير جيد «لا يمكن» أن تكون صحيحة ؛ وأي ملاحظ يستحق الإدانة سوف تدينه تماما. أشعر باحترام تام لأي ملحوظة نابعة من تفكيرك؛ لكن حين تكون ضد شخص مسكين، بطريقة ما دون إرادتي لا يؤاتيني هذا الشعور، بيد أنني أظل حاملا القدر نفسه من الاحترام لرأيك. لا أعلم على الإطلاق إن كان ثمة صحة في انتقادي لك، لكني كثيرا ما اعتقدت أنني سوف أخبرك به.
إنني في غاية الامتنان حقا على خطابك، ورغم أنني كنت أنوي أن أضع جملة واحدة فقط وبذلك الإبهام، فربما كان يجب أن أعبر عن مشاعري بقوة بالغة.
المخلص لك دائما، يا عزيزي هوكر
سي داروين
ملحوظة:
هذا الخطاب، كما ترى، ليس به أي شيء يستدعي ردا.
كان توزيع رخويات المياه العذبة كابوسا كبيرا بالنسبة لي، لكن أعتقد أنني أعرف طريقي الآن؛ حين فقس بيضها في البداية كانت نشيطة جدا، وكان لدي ثلاثون أو أربعون تزحف على قدم بطة ميتة؛ ولا يمكن إبعادها، وبإمكانها العيش خارج الماء خمس عشرة بل أربعا وعشرين ساعة. [يشير الخطاب التالي إلى الرحلة الاستكشافية للفرقاطة النمساوية «نوفارا»؛ إذ طلب لايل من أبي تقديم اقتراحات.]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 11 فبراير [1857]
عزيزي لايل
سعدت عندما علمت من الصحف بالرحلة الاستكشافية النمساوية. ليس لدي شيء لأضيفه على صعيد الجيولوجيا إلى ملاحظاتي في «دليل ديوان البحرية للاستقصاء العلمي». لا أعلم ما إن كانت البعثة ملزمة بزيارة أماكن محددة فقط أم لا. لكن إن كان بيد العلماء خيار أو سلطة لتحديد الأماكن، فسيكون هذا رائعا جدا. وإنني على اقتناع مدروس دراسة دقيقة أن لا شيء سيفيد التاريخ الطبيعي أكثر من العناية في جمع «كل كائنات» أكثر الجزر انعزالا، خاصة التي في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ودراستها. إن المعرفة بهذه الجزر، فيما عدا جزر تريستان دا كونيا وجزيرة كيرجولين، غير كاملة بالمرة؛ وحتى في جزيرة كيرجولين، ما زال أمامنا الكثير للوقوف على طبيعة طبقات الليجنيت، وما إن كانت هناك أدلة على نشاط نهر جليدي قديم. إن كل حشرة ونبتة وصدفة بحرية من هذه الأماكن لها أهمية. لا بد أن يكون بحوزة أحد الأشخاص في البعثة مقال هوكر عن نيوزيلاندا. يا له من عمل عظيم أن تستكشف جزيرة رودريجز بطيورها المتحفرة، وكائناتها المتنوعة غير المعروفة على نطاق واسع! وكذلك سيشل، التي نظرا لقرب جزيرة كوكوس الشديد منها، لا بد أن تكون من بقايا أرض ما أكثر قدما. كذلك المعروف عن جزيرة خوان فرنانديز الخارجية قليل. إن بحث مجموعة من علماء التاريخ الطبيعي لهذه الأماكن القليلة سيكون أمرا رائعا؛ سيكون استكشاف جزيرتي سان بول وأمستردام مذهلا، على الصعيدين النباتي والجيولوجي. هل بوسعك أن توصيهم بالحصول على كتابي «يوميات» و«الجزر البركانية» من أجل جالاباجوس؟ إن قدموا من الشمال، فسيكون من الخزي والجرم ألا يزوروا جزيرة كوكوس، التي تعد إحدى جزر جالاباجوس. طالما ساورني الندم على عدم التمكن من فحص الفوهات الهائلة التي على جزيرة ألبيمارل، وهي إحدى جزر جالاباجوس. في نيوزيلاندا، حثهم على البحث عن جلاميد جرفتها الأنهار الجليدية وآثار أنهار جليدية قديمة.
فلتحثهم على استخدام الجرافة في المناطق المدارية؛ فمعرفتنا بحدود الحياة أسفل البحار الحارة ضئيلة أو معدومة.
يجعلني عملي الحالي أدرك درجة تجاهل الحيوانات المحلية الموجودة في البلدان النائية.
أعتقد أن جزيرة ريفياهيهايدو المواجهة للمكسيك، لم تطأها قط قدم عالم تاريخ طبيعي.
إن اقتصرت الرحلة على أماكن مثل ريو ورأس الرجاء الصالح وسيلان وأستراليا، إلخ، فلن تأتي بفائدة كبيرة.
مع خالص وفائي لك على الدوام
سي داروين [تأتي الفقرة التالية في خطاب إلى السيد فوكس، بتاريخ 22 فبراير، 1857، وتتضمن إشارة إلى الكتاب الذي موضوعه التطور الذي كان لا يزال يعمل فيه. أما بقية الخطاب، فيتضمن تفاصيل ليست مهمة:
إنني أولي موضوعي بالغ اهتمامي، رغم أنني أتمنى لو كنت أستطيع إعطاء قيمة أقل من التي أوليها للشهرة الفانية، سواء في الوقت الحالي أو بعد وفاتي، وإن كان ذلك، حسبما أعتقد، ليس لدرجة متطرفة. غير أنني، لو كنت حقا أعرف نفسي جيدا، كنت سأعمل بالجد نفسه، وإن كان بحماس أقل، لو كنت أعلم أن الكتاب سينشر بدون اسم المؤلف للأبد.]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
مور بارك، 1 مايو، 1857
سيدي العزيز
إنني في غاية الامتنان على خطابك المرسل بتاريخ 10 أكتوبر، من سيليبز، الذي تلقيته منذ بضعة أيام؛ إن التعاطف حين تكون المهمة مضنية عظيم القيمة ودعم حقيقي. أستطيع أن أرى بوضوح من خطابك، وأكثر منه بحثك [«عن القانون المنظم لاستقدام أنواع جديدة» (1855)] في مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»، منذ عام أو أكثر، أننا قد فكرنا بالطريقة نفسها لحد كبير، وتوصلنا لاستنتاجات متشابهة إلى حد ما. فيما يخص هذا البحث، فإنني أرى أن كل كلمة تقريبا جاءت فيه صحيحة؛ وأعتقد أنك ستوافقني الرأي أنه من النادر جدا أن تجد نفسك متفقا لدرجة كبيرة مع أي بحث نظري؛ إذ من المؤسف كيف يستخلص كل شخص استنتاجات مختلفة من الحقائق نفسها. بحلول هذا الصيف سيكون قد مضى عشرون عاما منذ فتحت أول دفتر لملاحظاتي حول المسألة المتعلقة بكيفية اختلاف الأنواع والضروب عن بعضها وسبل هذا الاختلاف. والآن أنا أعد عملي من أجل النشر، لكنني أجد الموضوع كبيرا جدا، حتى إنني، رغم كتابة عدة فصول، لا أعتقد أنني سوف أطبعه قبل عامين. لم أعلم حتى الآن بالمدة التي تنوي بقاءها في أرخبيل الملايو. أتمنى أن أستفيد من نشر تفاصيل أسفارك هناك قبل ظهور كتابي؛ فلا شك أنك سوف تحصل على كم هائل من الحقائق. لقد اتبعت نصيحتك بالفعل في التفرقة بين الضروب الداجنة وتلك التي في الطبيعة، لكنني شككت في الحكمة وراء هذا أحيانا؛ لذلك يسعدني أن تدعمني برأيك. مع ذلك لا بد أن أقر أنني أشك بالأحرى في صحة المعتقد السائد جدا الآن الذي يذهب إلى أن كل حيواناتنا الداجنة قد انحدرت من عدة سلالات برية؛ وإن كنت لا أشك أن الأمر كذلك في بعض الحالات. أعتقد أن هناك دليلا أفضل من ذلك الذي قلت به فيما يتعلق بعقم الحيوانات المهجنة. وفيما يتعلق بالنباتات، فإن مجموعة الحقائق التي دونها بترو كولروتير وجيرتنير (وهربرت) «هائلة ». أتفق معك تماما بشأن الآثار الضئيلة ل «الظروف المناخية»، التي نراها يشار إليها لدرجة تثير الملل في كل الكتب؛ أعتقد أن الأثر الذي يجب نسبه لتلك المؤثرات لا بد أن يكون قليلا جدا، لكنني أومن تماما أنها قليلة الأهمية جدا. من «المستحيل» حقا أن أشرح وجهات نظري (في إطار خطاب) بشأن أسباب التباين ووسائله في الطبيعة، لكنني تبنيت على نحو تدريجي فكرة واضحة وواقعية، أما إن كانت صحيحة أو خاطئة، فهذا ما يجب أن يحكم به الآخرون؛ إذ يبدو أن إيمان المؤلف الراسخ بصحة مبدئه، وإن بلغ أشده، للأسف، ليس ضمانا بصوابه على الإطلاق!
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
مور بارك، السبت [2 مايو، 1857]
عزيزي هوكر
لقد أثبت خلو النباتات الجبلية من الشعر بنجاح شديد. إن حالة نبات نفل الرمال «سترتبط» بحالة نباتات جبال البرانس التي تصير جرداء في المستويات المنخفضة. إن وجدت بحق أنني قد وسمت تلك الحقائق، فسوف أضع الدليل بين يديك. أتساءل كيف قد يكون نشأ هذا الاعتقاد؟! هل كان من خلال العلل الغائية لتنعم النباتات بالدفء؟ ربط فالكونر في حديث له بين حقيقتي النباتات والثدييات الجبلية المغطاة بالصوف. بأي حياد وتواضع تقبلت تذمري من قسوتك إزاء العلماء غير الجيدين؟ فبعد أن أرسلته، سألني صوت خفيض كريه بداخلي، مرة أو مرتين، لأي حد كان دفاعي النبيل عن الفقراء في الهمة والحقائق، راجعا إلى أنك كثيرا ما قضيت على أفكار مفضلة لدي؟ وحتى بعد أن أسكت في ازدراء هذا الصوت الخفيض الكريه، فقد أخذ يهمس لي مرة بعد الأخرى. أحيانا أحتقر نفسي لكوني جامع بيانات متواضعا بالشدة نفسها التي تتسنى لك، إلا أنني «لا» أحتقر عملي بأسره؛ إذ أعتقد أن ثمة قدرا كافيا من المعرفة لوضع أساس للنقاش حول أصل الأنواع. لقد حملت على احتقار نفسي والاستهزاء بها بصفتي جامعا للبيانات، لكتابة أن «النباتات الجبلية لديها زهور كبيرة» والآن ربما أستبدل بهذه الكلمات نفسها ما يلي: «النباتات الجبلية لديها زهور صغيرة أو عديمة البتلات!»
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 16 [مايو]، [1857]
عزيزي هوكر
قلت - أرجو أن تكون صادقا في قولك - إنك لم تكره طرحي أسئلة عليك حول نقاط عامة، ولك بالطبع أن تجيب أو لا، حسبما يسمح وقتك أو مزاجك. لاحظت في عالم الحيوان أن أي جزء أو عضو ينمو نموا طبيعيا (بعبارة أخرى، بلا تشوه) في أحد الأنواع بدرجة «عالية» أو «غير معتادة»، مقارنة بالجزء نفسه أو العضو في أنواع قريبة، يميل لأن يكون «متباينا جدا». لا يمكن أن يساورني الشك في ذلك بناء على ما لدي من كم من الحقائق المجمعة. على سبيل المثال، إن هيئة المنقار لدى طيور القرزبيل شاذة جدا مقارنة بطيور أخرى مشابهة في فصيلة الشرشوريات، والمنقار «متباين بشدة». وطائر أبو المغازل، المميز بسبب طول سيقانه العجيب، يتنوع طول سيقانه «بشدة». أستطيع إعطاء «العديد» من الأمثلة المدهشة والمثيرة للفضول في كل الطوائف؛ وهي متعددة جدا لدرجة أنني أعتقد أن الأمر ليس مصادفة. لكن «ليس» لدي أي أمثلة في عالم النبات، بسبب جهلي، على ما أعتقد. إن كان جنس النابنط يحتوي على «نوع» أو نوعين في مجموعة ذات أوراق تتحول إلى شكل جرة، فكان لا بد أن أتوقع أن يكون متباينا جدا؛ لكنني لا أعتبر النابنط مثالا هنا؛ فحين يكون جنس أو مجموعة بأسرها لديها عضو، مهما كان شاذا، لا أتوقع أن يكون متباينا؛ فقط حين يختلف نوع أو بضعة أنواع بدرجة كبيرة في جزء أو عضو ما عن الأشكال قريبة الصلة جدا به في جميع الجوانب الأخرى، أعتقد أن ذلك الجزء أو العضو يكون متباينا بدرجة كبيرة. هل ستفكر في هذا الأمر مليا؟ إنه قانون مهم وجلي بالنسبة لي.
صديقك إلى الأبد
سي داروين
ملحوظة:
لا أعلم مدى اكتراثك بما سأخبرك به، لكنني وجدت أن موكين تاندون يتناول في كتابه «عناصر التشوه الخلقي في النبات» تزغب النباتات، ويبدو أنه ينسب الأمر للجفاف أكثر من الارتفاع؛ لكن يبدو أنه يعتقد أن لا بد من الإقرار بأن النباتات الجبلية مزغبة، وأن هذا التزغب لم تفسره إلا جزئيا ملحوظة دي كوندول، والتي مفادها أن تقزم النباتات الجبلية يكثف الشعر؛ ومن ثم يجعلها تبدو مزغبة أكثر. وهو يقتبس من كتاب سينيبير «فسيولوجيا النباتات»، معتبرا إياه مرجعية؛ إنه المرجعية الأولى على ما أعتقد فيما يتعلق بتزغب شعر النباتات الجبلية.
إن كنت أستطيع أن أبرهن تماما على أن الأنواع المتوطنة كانت أكثر زغبا في المناطق الجافة، فسأنظر لافتراض أن الضروب تكون أكثر زغبا في الأرض الجافة باعتباره حقيقة بالنسبة لي.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 3 يونيو [1857]
عزيزي هوكر
سوف أدخل البهجة إلى نفسي بكتابة خطاب إليك حول الأمور الخاصة بي، وهذه متعة كبيرة لي لا تستطيع أن تدركها؛ فقد ظللت طوال شهور دون أن أنبس بكلمة حول التاريخ الطبيعي. إن خطابك عظيم القيمة لدي، كما يثير دهشتي فيما يخص فرضيتي. أعتقد أن عدم وجود حقائق فيما يتعلق بالنباتات تبرره جزئيا صعوبة قياس التباينات الطفيفة. بالتأكيد، خطر لي هذا بعد الكتابة؛ فلدي حشيشة صليب قوقازية ستبدأ في الإزهار، ومن المفترض أن تصير المدقة متباينة جدا في الطول، وعند التفكير في هذا، تساءلت في الحال كيف يمكن للمرء أن يحكم ما إن كانت متباينة بدرجة كبيرة أم لا. كم يختلف هذا، على سبيل المثال، عن منقار الطائر! لكنني لست مكتفيا بهذا التبرير، وتحدوني الدهشة. بيد أنني أعتقد أن ثمة شيئا في القانون؛ إذ صادفت عدة حالات مثل التالية: كاتبت وولستن وطلبت منه أن ينظر في خنافس ماديرا ويخبرني ما إن كانت أي منها أبدت سمة شاذة جدا عن قريباتها، فذكر لي حالة فريدة لرأس كبير لدى أنثى، ثم وجدت أنه مذكور بالفعل في كتابه أن حجم الرأس كان متباينا «لدرجة مدهشة». قد يعلل جزء من الاختلاف لدى النباتات أنها صفات ذكورية أو أنثوية ثانوية في العديد من حالاتي، لكن لدي حالات لافتة للنظر في هدابيات الأرجل الخنثى. وتبدو لي الحالات متعددة للغاية بحيث لا يمكن أن تكون حوادث عرضية، وهي ذات قابلية كبيرة للتباين ونمو غير طبيعي. يخيل لي أنك لن تعترض على أن أضع ملحوظة تقول إنك قد تأملت المسألة، ورغم ما بدا من دعم حالة وحالتين للفرضية، فقد بدا أن حالات بالعدد نفسه أو أكثر مناقضة لها تماما. أكثر ما يثير دهشتي هي تلك الحاجة إلى أدلة؛ إذ إنني بصفة عامة أجد أن اختبار أي فرضية أسهل عن طريق عمل الملاحظات في الموضوعات النباتية عن الموضوعات الحيوانية. لم أتخيل قط أنك قد ظللت متذكرا الموضوع من الأساس. المسألة برمتها هي واحدة أخرى من أحاجي «المريعة العديدة». ملاحظاتي حول الصراع من أجل البقاء، رغم أنها على نطاق صغير للغاية، بدأت تجعلني أرى بصورة أوضح قليلا كيف يسير الصراع؛ فمن بين ستة عشر صنفا من البذور زرعت في مرجي، خمس عشرة نبتت، لكنها الآن تذوي بوتيرة تجعلني أشك ما إن كانت أكثر من واحدة ستزهر. ولدينا هنا حالة اختناق جرت على نطاق واسع أيضا، مع نباتات وليس شتلات، في جزء من حديقتي حيث تركت لتنمو. على الجانب الآخر، على مساحة من الأرض، مساحتها قدمين في ثلاثة أقدام، ظللت أميز يوميا كل شتلة حشائش عند ظهورها خلال مارس وأبريل ومايو، وقد نبتت 357، قتل من بينها بالفعل 277، في الغالب بسبب البزاقات. على ذكر ذلك، رأيت في مور بارك مثالا جيدا لتأثيرات الحيوانات على الغطاء النباتي؛ توجد أراض مشاع شاسعة بها آجام من أشجار الصنوبر الأسكتلندي القديمة على التلال، ومنذ نحو ثمانية أو عشرة أعوام سيج بعض من هذه الأراضي، والآن تنمو أشجار صغيرة جميلة حول الآجام بأعداد كبيرة، وتبدو بالضبط كما لو كانت قد زرعت، والعديد منها بالعمر نفسه. وفي أجزاء أخرى من تلك الأراضي، والتي لم تسيج بعد، بحثت على مدى عدة أميال ولم أتمكن من رؤية شجرة صغيرة «واحدة». ثم ذهبت لمنطقة قريبة (على بعد ربع ميل من الآجام) وبحثت حثيثا في الأرض البور وهناك وجدت عشرات الآلاف من أشجار الصنوبر الاسكتلندي الصغيرة (ثلاثين في مساحة ياردة مربعة) انتزعت أجزاءها العليا الماشية القليلة التي تهيم عبر هذه الحشائش الفقيرة أحيانا. بدا من حلقات إحدى الأشجار الصغيرة، التي يصل طولها إلى ثلاث بوصات، أن عمرها ستة وعشرون عاما، وأنها ذات ساق قصيرة في سمك أعواد شمع الأختام. يا لها من مسألة عجيبة، ويا له من صراع للقوى، ذلك الذي يحدد نوع كل نبات ونسبته في ياردة مربعة من الأرض! يبدو لي الأمر عجيبا بحق! ورغم ذلك نسمح للدهشة أن تنتابنا حين ينقرض أحد الحيوانات أو النباتات.
يؤسفني أنك لن تكون في النادي. أرى أن السيدة هوكر ستذهب إلى يارموث؛ أرجو ألا تكون حالة أطفالكم الصحية هي السبب. إلى اللقاء.
صديقك إلى الأبد
سي داروين
ملحوظة:
أعتقد أنك تخشى أن ترسل لي قرنا ناضجا من أحد أجناس فصيلة البقوليات، خوفا من أن أجعله يطفو من نيوزيلاندا إلى تشيلي!
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 5 يونيو [1857]
عزيزي هوكر
أقدر اهتمامك الحثيث بشأن الميداليات [ميداليات الجمعية الملكية]. الحمد لله! أنا لست سوى هاو (لكنني هاو شديد الاهتمام) في المجال.
لدي اعتقاد قديم أن الخير في إعطاء الميداليات لشباب في مرحلة مبكرة من حياتهم المهنية، أكثر من تقديمها على سبيل المكافأة إلى رجال أشرفت حياتهم العلمية على النهاية. أما مسألة ما إن كان في الميداليات أي خير، فهي لا تعنينا، ما دامت الميداليات موجودة. أكاد أميل للاعتقاد بأنه من الأحرى خفض المعايير، وإعطاء الميداليات لعلماء شباب عن إعطائها إلى علماء كبار دون استحقاقات «خاصة». وفيما يتعلق بالاستحقاقات الخاصة، أعتقد أنه مما يستحق اهتمامك أنه عند إقرار الاستحقاقات العامة، سيحدث تراخ شديد في منح الميداليات؛ فلتفكر في حالة رجل شديد الثراء، ساهم «فقط» بماله، لكن بدرجة كبيرة، أو شخص نادر الوجود مثل أحد الوزراء الذي اهتم حقا بالعلم. هل ستعطي هؤلاء الرجال ميداليات؟ ربما ليس هناك أفضل من وهب الميداليات لهؤلاء الرجال «دون غيرهم». لكن أقر أنني في الوقت الحالي أميل لمساندة الاستحقاقات الخاصة التي يمكن إثباتها على الورق.
إنني في غاية الحيرة بإيضاحك أنه لا توجد أمثلة واضحة على قانوني (أو بالأحرى قانون ووترهاوس) عن التباين الشديد لحالات النمو غير الطبيعي . أخذت أفكر كثيرا في ملحوظتك حول صعوبة الحكم على القابلية للتباين في النباتات أو مقارنته من خلال القابلية للتباين الكبيرة العامة للأجزاء. سأعتبر أن القانون دحض تماما إن بحثت في ذهنك قليلا عن حالات لقابلية كبيرة للتباين لعضو ما، وأخبرتني ما إن كان التعرف على تلك الحالات سهلا إلى حد ما؛ «فإن كان يمكن ملاحظتها»، ورغم ذلك لا تتزامن مع نمو كبير أو غير طبيعي، فسيدحض ذلك القانون تماما. يبدأ الأمر في ذهنك من جانب القابلية للتباين بدلا من جانب الشذوذ. «ربما» يجب استبعاد الحالات التي يكون فيها جزء ما متباينا بشدة في كل أنواع المجموعة، باعتبارها ربما شيئا مميزا، ومرتبطا بموضوع تعدد الأشكال المحير. هلا أكملت مساعدتك لي بالتفكير، لقليل من الوقت، في الموضوع بهذه الطريقة؟
انشغلت بشدة هذا الصباح بمقارنة كل ملحوظاتي حول التباين في أنواع جنس الفرس المتعددة ونتائج تهجينها. واستنادا لأكثر الحقائق تشابها فيما يتعلق بالحمام المبارك، أعتقد أنني أستطيع أن أحدد بوضوح لون وخطوط جد الحمار والحصان والكواجا والأخدر والحمار الوحشي، منذ ملايين الأجيال! لقد كنت سأسخر من أي شخص يدلي بهذه الملحوظة لي منذ عدة سنوات مضت؛ لكن يبدو لي دليلي جيدا جدا حتى إنني سوف أنشر رأيي في نهاية نقاشي القصير حول هذا الجنس.
لقد أزعجتك مؤخرا بسيل أفكاري، يا أفضل الأصدقاء والفلاسفة.
الوداع
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
مور بارك، فارنام، 25 يونيو [1857]
عزيزي هوكر
هذا الخطاب ليس بحاجة لرد، لكنني سأطلب منك الرد متى تقابلنا. تأمل شتلات الجولق المرفقة، خاصة المنزوع رأسها. الأوراق التالية للفلقات لكونها أشبه بالبرسيم في شكلها تبدو لي مماثلة تماثلا طفيفا للتشابهات الجنينية في الحيوانات الصغيرة، كما في الخطوط الموجودة على الأسد الصغير، على سبيل المثال. سوف أسألك ما إن كان الأمر كذلك ...
2
الدكتور لين وزوجته وحماته، الليدي درايزديل، من ألطف الناس الذين قابلتهم على الإطلاق.
سوف أعود للمنزل في الثلاثين من هذا الشهر. إلى اللقاء يا عزيزي هوكر.
صديقك دائما
سي داروين [إن المجموعة التالية من الخطابات، التي بتواريخ مختلفة، تتعلق بمسألة تباين الأجناس الكبيرة.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
11 مارس [1858]
قادني لكل هذا العمل ملحوظة لفريس، مفادها أن الأنواع في الأجناس الكبيرة بعضها أكثر قربا من بعض عن تلك التي في أجناس صغيرة؛ وإن كان الأمر كذلك؛ ونظرا لأن الضروب والأنواع بالكاد يمكن تمييز بعضها عن بعض، فقد استنتجت أنه لا بد أن أجد في الأجناس الكبيرة ضروبا أكثر من الأجناس الصغيرة. أرجو أن تقرأ يوما نقاشي القصير حول الموضوع برمته. لقد أسديت لي خدمة عظيمة، أيا كان الرأي الذي سأنتهي إليه، بلفت انتباهي، على الأقل، إلى إمكانية أو احتمال تسجيل علماء النبات عددا أكبر من الضروب في الأجناس الكبيرة عن الأجناس الصغيرة. سيكون العمل شاقا لي لأكون صريحا في بلوغ استنتاجي.
مع إخلاصي الشديد على الدوام
سي داروين
ملحوظة:
سأقضي في مهمتي الحالية عدة أسابيع. لقد جعلني العمل في حالة سيئة هذا الصباح، وأنا حزين بشدة لذلك؛ أوه! كم أبغض الأنواع والضروب.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
14 يوليو [1857؟] ... أكتب إليك الآن لألتمس منك مستجديا معروفا، ألا وهو إعارتي كتاب «بورو، «نباتات وسط فرنسا»؛ سواء الطبعة الأولى أو الثانية منه»، ويفضل الثانية؛ وكذلك «نباتات ريجينسبيرج» للدكتور فيرنآوار في «طبوغرافيا التاريخ الطبيعي في ريجينسبيرج، 1839». إن كنت تستطيع توفيرهما، فهلا أرسلتهما لي في الحال إلى العنوان المرفق؟ إن لم يكونا لديك، فهلا أرسلت خطابا قصيرا بذلك مع عودة البريد؛ فلا بد أن أرى إن كان كيبيست يستطيع العثور عليهما بأية وسيلة، وهو ما أخشى أن يكاد يكون مستحيلا في المكتبة اللينية؛ حيث أعلم أنهما هناك.
كنت أجري بعض الحسابات حول الضروب، إلخ، وأتحدث مع لاباك أمس، حيث أشار إلى أفدح خطأ ارتكبته فيما يتعلق بمبدأ ما، وهو ما يتبعه ضياع عمل أسبوعين أو ثلاثة؛ وسأظل في مأزق حتى أحصل على هذين الكتابين للنظر فيهما مجددا، وأرى كيف ستكون نتيجة الحسابات عملا بالمبدأ الصحيح. إنني أكثر الناس بؤسا وحيرة وغباء في إنجلترا بأسرها، وعلى استعداد للبكاء سخطا على عمى بصيرتي واختيالي.
صديقك للأبد، شديد البؤس
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جون لاباك
داون، 14 [يوليو] [1857]
عزيزي لاباك
لقد أسديتني أكبر خدمة على الإطلاق بمساعدتي في تصحيح أفكاري، فإن التبست علي كل الموضوعات كما هي ملتبسة في النسب والاحتمالات، فكيف سيكون الكتاب الذي سأخرج به؟!
لقد قسمت نباتات نيوزيلاندا كما اقترحت. ثمة 339 نوعا في الأجناس المكونة من أربعة أنواع أو أكثر، و323 نوعا في تلك المكونة من ثلاثة أو أقل.
من بين ال 339 نوعا 51 نوعا تضم ضربا واحدا أو أكثر، ومن بين ال 323 نوعا، هناك 37 فقط هكذا. تناسبيا (339 : 323 :: 51 : 48,5) لا بد أن يكون هناك 48,5 نوعا تضم ضروبا. هكذا تمضي الحالة كما أريد، لكنها ليست بالقوة الكافية؛ حيث إنها ليست عامة، حتى أثق فيها كثيرا. إنني على اقتناع تام أن طريقتك هي الطريقة الصحيحة؛ لقد فكرت فيها، لكنني لم أكن لأستخدمها لولا أن أسعدني حظي بحديثي معك.
يروعني بشدة أن أجد أنني أقع في الحيرة بسهولة؛ فقد أوليت الموضوع تفكيرا كثيرا من قبل، ووصلت إلى أن طريقتي كانت صحيحة. لكنها خاطئة لحد فظيع.
يا له من خطأ فظيع ذلك الذي أنقذتني منه! وهو ما أشكرك عليه من كل قلبي.
صديقك دائما
سي داروين
ملحوظة:
يكفي هذا ليجعلني أمزق مخطوطتي بالكامل وأستسلم يائسا.
ستستغرقني مراجعة كل ما لدي من مواد عدة أسابيع. لكن، أوه، ليتك تعلم كم أنا ممتن لك!
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، أغسطس [1857]
عزيزي هوكر
كم من المحزن لحد فظيع أنك لن تستطيع القدوم قريبا، وإنني أؤنب نفسي على عدم الكتابة إليك قبل ذلك. لا بد أنك في غاية الانشغال مع مجموعة علماء النبات في كيو. تخيل الأمر؛ لقد تلقيت للتو خطابا من هنزلو، يقول فيه إنه سيأتي إلى هنا بين الحادي عشر والخامس عشر من هذا الشهر! أليس هذا خبرا رائعا؟ أشكرك كثيرا على بحثك عن كتاب فيرنآوار. لا بد أن ألتمس متضرعا من كيبيست البحث عنه؛ لقد تكرم غاية الكرم بإرسال كتاب بورو لي.
أصبح لدي اهتمام بالغ بجدولة الأنواع التي لها ضروب مميزة بحروف يونانية أو بطريقة أخرى، وذلك وفقا لحجم الأجناس فحسب؛ تبدو لي النتيجة (للحد الذي بلغته حتى الآن) إحدى أهم الحجج التي قابلتها حتى الآن؛ وهي أن الضروب ليست إلا أنواعا صغيرة، أو أن الأنواع ليست سوى ضروب مميزة بشدة. الموضوع بطرق عديدة في غاية الأهمية بالنسبة لي؛ لذا أرجوك بشدة أن تذكر لي أي أعمال متقنة عن النباتات الخاصة بإقليم معين، بها من ألف لألفي نوع، ومميز بها الضروب. من الجيد أن يكون لدينا علماء تصنيف يميلون إلى وضع العديد من الأنواع وآخرون لوضع القليل منها. لقد طالعت، أو ما زلت أطالع أعمال التالية أسماؤهم:
بابينجتون
نباتات بريطانيا
هنزلو «كتالوج لندن». لإتش سي واطسون
بورو
فرنسا
ميكيل
هولندا
آسا جراي
شمال الولايات المتحدة
هوكر
نيوزيلاندا
أجزاء من نباتات الهند
وولستن
حشرات ماديرا
ألم ينشر كوخ كتابا جيدا عن النباتات الألمانية؟ هل يميز فيه الضروب؟ هل تستطيع أن ترسله لي؟ ألا يوجد عمل جيد عن النباتات الروسية، مميز فيه الضروب؟ لا بد أن تكون تلك الأعمال معروفة.
يمكنني الانتظار عدة أسابيع. هلا قلبت الأمر في رأسك إن أتيح لك فراغ من الوقت على الإطلاق؟ يحمل الموضوع أهمية كبيرة لعملي، رغم أنني أرى «عدة» أسباب للخطأ.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 21 فبراير [1859]
عزيزي جراي
في خطابي الأخير لم ألتمس منك معروفا، لكني في هذا سأفعل؛ إلا أن تلبيته ستكلفك القليل جدا من المشقة، وسوف تكون خدمة «جليلة» جدا لي، والأمر متعلق بملحوظة أبداها لي هوكر، وهي التي لا أستطيع تصديقها، والتي قد أوحى له بها أحد خطاباتي. لقد اقترح أن أسألك، وأنا أخبرته أنني لن أبوح بأدنى تلميح برأيه. إنني بوجه عام أثق تماما في هوكر، لكنه أحيانا يكون - على ما أظن، وهو يعترف بهذا - مبالغا في النقد بعض الشيء، وتبدو لي براعته في اكتشاف الأخطاء جديرة بالتقدير. ها هو سؤالي: «هل تعتقد أن علماء النبات الأكفاء عند وضع أعمال عن النباتات المحلية؛ سواء كانت كبيرة أو صغيرة، أو إنشاء ملخص تجميعي مثلما فعل دي كوندول، سوف يتجهون بصورة شبه عامة، لكن دون قصد أو دون وعي، إلى تسجيل الضروب (بعبارة أخرى، تمييزها بالحروف اليونانية وإعطائها وصفا قصيرا) الخاصة بالأجناس الكبيرة أم الخاصة بالصغيرة؟ أم سيكون الاتجاه لتسجيل الضروب على نحو متكافئ في كل الأجناس بغض النظر عن حجمها؟ هل ترى بعد التفكير في الأمر أنك كنت تهتم بالضروب سواء في الأجناس الكبيرة أو الصغيرة، أو الصغيرة جدا، وتسجلها باهتمام كبير؟»
أعلم أن الضروب كثيرا ما تكون أشياء عابرة وتافهة؛ لكن استفساري يتعلق بما اعتقد أنه جدير بالتمييز والتسجيل. إن استطعت استقطاع وقت لترسل لي ردا بالغ الإيجاز على هذا، قريبا جدا، فستكون قد أسديت خدمة كبيرة لي.
مع بالغ امتناني وإخلاصي
سي داروين
ملحوظة:
هل تعلم ما إن كان أي أحد قد نشر أي ملحوظات حول النطاق الجغرافي لانتشار ضروب النباتات مقارنة بالأنواع التي يفترض انتماؤها إليها؟ لقد حاولت دون جدوى الوصول ولو لفكرة مبهمة حول الأمر، لكنني منيت بفشل ذريع، فيما عدا القليل من المعلومات التي أمدني بها السيد واطسون في هذا الموضوع في بحث عن أصداف اليابسة في الولايات المتحدة؛ لكن ربما سيكون من الصعب عليك أن تعطيني ولو إجابة موجزة في هذا الموضوع؛ لذا إن كان الأمر كذلك، فإنني أؤكد لك أنني لست من الحماقة حتى أتوقعها منك.
إن كنت ستكتب إلى إنجلترا قريبا، فيمكنك إرفاق خطابات أخرى لي لأرسلها.
أرجو مراعاة أن السؤال ليس ما إن كان ثمة عدد أكبر أو أقل من الضروب في الأجناس الكبيرة أو الصغيرة، لكن ما إن كان الاتجاه في أذهان علماء النباتات لتسجيل تلك الخاصة بالأجناس الكبيرة أم الصغيرة.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 6 مايو [1858] ... أرسل لك مع هذا الخطاب مخطوطتي حول مسألة «شيوع» الأنواع و«نطاق انتشارها» و«تباينها» في الأجناس الكبيرة والصغيرة. لقد اضطلعت بمهمة شاقة حين تكرمت بلطف شديد وعرضت علي قراءتها، وأنا أشكرك على هذا بشدة. لقد صححت النسخة للتو، وشعرت بخيبة أمل حين وجدت كم هي صعبة ومبهمة؛ لكنني لا أستطيع أن أجعلها أوضح من ذلك، بل إنني في الوقت الحالي لا أطيق مجرد رؤيتها. يحتاج الأسلوب إلى المزيد من التنقيح بالطبع، وإن نشرتها، فيجب أن أحاول فعل ذلك، لكنني الآن لا أعرف كيف أجعلها أوضح.
إن كان لديك الكثير لتقوله وتستطيع التحلي بالصبر للنظر في الموضوع بأسره، فسوف ألقاك في لندن في اجتماع النادي الفلسفي، حتى أوفر عليك عناء الكتابة. بحق السماء، يا أيها الحكم والمتشكك القاسي الرهيب، فلتتذكر أن استنتاجاتي قد تكون صحيحة، رغم أن علماء النبات ربما سجلوا ضروبا أكثر في الأجناس الكبيرة عن الصغيرة. يبدو لي الأمر مجرد ترجيح لأحد الاحتمالات. مرة أخرى أتقدم إليك بخالص الشكر، لكنني أخشى أنك ستجده عملا مريعا.
صديقك إلى الأبد
سي داروين
ملحوظة:
كالعادة جعلني العلاج المائي متمتعا بالعافية لوقت قصير؛ أرجو أن تتحسن صحة السيدة هوكر كثيرا مع البحر.
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 22 ديسمبر، 1857
سيدي العزيز
شكرا على خطابك الذي بتاريخ 27 سبتمبر. إنني في غاية السعادة لمعرفة أنك تدرس مسألة التوزيع بالاتساق مع الأفكار النظرية. إنني على إيمان راسخ بأنه دون التخمين لا تتأتى ملاحظة جيدة أو أصيلة. قليل هم الرحالة الذين اهتموا بنقاط كالتي تعمل عليها الآن، وبالطبع إننا متأخرون بشدة في موضوع توزيع الحيوانات مقارنة بذلك الخاص بتوزيع النباتات. تقول إنك دهشت بعض الشيء لعدم إعطاء بحثك في مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري» أي اهتمام. لا أستطيع أن أقول إنني كذلك؛ فقليل جدا من علماء التاريخ الطبيعي يهتمون بأي شيء خارج حدود وصف الأنواع. غير أنك يجب ألا تفترض أنه لم يهتم أحد ببحثك؛ فقد لفت انتباهي إليه اثنان من الرجال الأكفاء جدا، وهما السير سي لايل والسيد إي بلايث من كلكتا. ورغم اتفاقي معك في استنتاجاتك في هذا البحث، فأعتقد أنني ذهبت لأبعد منك كثيرا؛ لكن الموضوع أطول كثيرا من أن أضعه في حيز تخميناتي. لم أطلع بعد على بحثك حول توزيع الحيوانات في جزر آرو. سوف أقرؤه بأقصى قدر من الاهتمام؛ إذ أعتقد أنها أكثر الأماكن مدعاة للاهتمام في الكرة الأرضية بأسرها فيما يتعلق بالتوزيع، وطالما أقدمت على محاولات غير تامة بالمرة لجمع بيانات عن أرخبيل الملايو. سوف أكون على استعداد تام لتأييد نظريتك عن الهبوط؛ قطعا، بناء على دليل الشعاب المرجانية المستقل تماما، لونت خريطتي الأصلية لجزر آرو (في عملي عن الشعاب المرجانية) باعتبارها منطقة هبوط، لكنني تراجعت وتركتها دون تلوين. لكن أستطيع أن أرى أنك تنزع للذهاب إلى ما هو أبعد في مسألة الاتصال السابق بين الجزر المحيطية والقارات أكثر مني؛ فمنذ قول إي فوربس المسكين بهذه النظرية وكثيرون يؤيدونها بحماس؛ ويناقش هوكر باستفاضة الاتصال السابق بين كل جزر القطب الجنوبي ونيوزيلاندا وأمريكا الجنوبية. منذ عام مضى ناقشت هذا الموضوع كثيرا مع لايل وهوكر (فسأحتاج إلى تناوله)، وكتبت ما لدي من حجج معارضة؛ لكن قد يسرك أن تعرف أن لايل وهوكر كليهما لم يعتدا بحججي. بيد أنني، للمرة الوحيدة في حياتي، تجاسرت على تحدي فطنة لايل التي تكاد تكون خارقة للطبيعة.
لقد سألتني عن أصداف اليابسة التي على جزر بعيدة جدا عن القارات؛ ماديرا بها قلة متشابهة مع تلك التي في أوروبا، والدليل هنا قوي حقا؛ حيث إن بعضها جزئي التحفر. في جزر المحيط الهادئ هناك حالات من التطابق، وهي ما لا أستطيع في الوقت الحالي إقناع نفسي بتفسير وجوده بالاستقدام عن طريق الإنسان؛ وإن كان الدكتور أوجستس جولد قد بين بنحو قاطع أن العديد من أصداف اليابسة قد انتشر في أنحاء جزر المحيط الهادئ عن طريق الإنسان؛ حالات الاستقدام هذه غاية في الإزعاج. ألم تجد الأمر كذلك في أرخبيل الملايو؟ لقد بدا لي في قوائم ثدييات تيمور وجزر أخرى، أن «العديد» منها على الأرجح قد توطن .
لقد سألتني ما إن كنت سأناقش مسألة «الإنسان». أعتقد أنني سأتجنب الموضوع برمته، لما يحيط به من تحيزات جمة؛ وإن كنت أقر تماما أنه أكبر المشكلات التي يواجهها عالم التاريخ الطبيعي وأكثرها إثارة لاهتمامه. إن كتابي، الذي ما زلت أعمل فيه منذ ما يقرب من عشرين عاما، لن يصحح أو يحسم أي شيء؛ لكن أرجو أن يساعد في تقديم مجموعة كبيرة من الحقائق فيما يتعلق بغرض واحد محدد. إنني أتقدم على مهل شديد، من ناحية بسبب سوء الحالة الصحية، ومن ناحية أخرى لأنني أعمل على نحو بطيء جدا. لقد كتبت نصفه تقريبا؛ لكن لا أعتقد أنني سأنشره قبل بضعة أعوام؛ فما زلت منذ ثلاثة أشهر كاملة في فصل واحد عن التهجين!
يدهشني أنك تتوقع البقاء بالخارج ثلاثة أو أربعة أعوام أخرى. يا له من قدر رائع ذلك الذي ستراه، وكم هي مناطق مثيرة للاهتمام، أرخبيل الملايو العظيم وأجزاء أمريكا الجنوبية الأكثر ثراء! إنني أقدر وأجل لأقصى درجة حماسك وشجاعتك في سبيل علوم التاريخ الطبيعي؛ ولك مني أصدق وأعز أمنياتي الطيبة بالنجاح في كل شيء، وأرجو أن تنجح كل نظرياتك، عدا التي عن الجزر المحيطية؛ إذ إنه هو الموضوع الذي سأحاربه بحق حتى الموت.
لك مني كل الصدق والإخلاص يا سيدي العزيز
سي داروين
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
8 فبراير [1858] ... أكد كثيرا في العمل في كتابي، ربما أكثر من اللازم. سوف يكون كتابا كبيرا جدا، وأنا مهتم بشدة بطريقة تصنيف الحقائق. إنني مثل الملك كريسس؛ فقد استحوذت علي ثروتي من الحقائق، وأنوي أن أجعل كتابي ممتازا بقدر ما أستطيع؛ لذا فلن أذهب به للمطبعة قبل بضعة أعوام على أقل تقدير.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
23 فبراير [1858] ... لم أنبهر كثيرا بباكل العظيم، كذلك راقت لي الطريقة التي دافعت بها عن الاستنتاج والاستقراء. إنني أقرأ كتابه [«تاريخ الحضارة»] وهو، بما به من كثير من السفسطة، كما يبدو لي، «رائع» في حجته وأصالته، ويضم معلومات مذهلة.
لاحظت إعجابك التام بأداء السيدة فارار لأغنية «في هذا القبر المظلم» («إن كويستا تومبا أوسكيورا») بألحان بيتهوفن؛ ثمة شيء مهيب في نبرات صوتها العذب.
الوداع. لقد كتبت هذا الخطاب جزئيا لكي أتوقف عن التفكير في خلايا النحل؛ فالموضوع يكاد يثير جنوني وأنا أحاول فهم الخطوات البسيطة التي قد تنتج عنها كل هذه الزوايا العجيبة.
سررت للغاية برؤية السيدة هوكر يوم الجمعة؛ كم تبدو في حال طيب!
فلتسامحني صديقك المحب الذي لا يطاق
سي داروين
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، 16 أبريل [1858]
عزيزي فوكس
أريدك أن تعير اهتمامك لنقطة واحدة من أجلي، وهي التي تثير اهتمامي لأقصى درجة، ولن تكلفك أي عناء أكثر من الانتباه الشديد، وتلك عادة أعرف جيدا أنها لديك.
أجد أن الخيول بألوانها المختلفة كثيرا ما يكون لديها شريط أو خط بامتداد ظهرها وهو الذي يكون لونه بدرجة مختلفة وأدكن من لون بقية الجسم؛ وفي حالات نادرة توجد خطوط عرضية على القوائم، بوجه عام على الجانب السفلي من القوائم الأمامية، وفي حالات أكثر ندرة يوجد خط عرضي باهت جدا على المناكب مثل الحمار.
هل ثمة أي سلالة أقزام خيل في غابة ديلامير؟ لقد وجدت القليل عن أقزام الخيل في هذه النواحي. أعتقد أن السير بي إيجرتون لديه بعض الخيول الكستنائية الأصيلة تماما؛ هل لدى أي منها خط على الظهر؟ كثيرا ما يكون لدى أقزام الخيل، أو بالأحرى الخيول الصغيرة، ذات اللون الرمادي المائل للبني خطوط على الظهر والقوائم؛ وهكذا الحال لدى الخيول الصهباء (وبالصهباء أقصد لون القشدة المختلط باللون البني أو الكميت أو الكستنائي). الخيول الكستنائية أيضا لديها أحيانا، لكنني لم أصادف بعد في الخيول الكستنائية أو خيول السباق أو الخيول الكبيرة الحجم المستخدمة في جر العربات، حالة لديها خط على الظهر. إن أي حقائق من هذه النوعية عن تلك الخطوط في الخيول ستكون «بالغة» الفائدة لي. توجد حالة موازية في قوائم الحمير، وقد جمعت بعض الحالات الغريبة لظهور خطوط في عدة حيوانات خيلية مهجنة. لدي كذلك كم كبير من الحقائق الموازية عن وجود خطوط في الأجنحة في سلالات الحمام. «أعتقد» أن هذا الأمر سيلقي الضوء على لون الخيول البدائية؛ لذا فلتعاونني في هذا الأمر إذا سمحت لك الظروف. كانت حالتي الصحية في تدهور شديد مؤخرا من الإجهاد الشديد في العمل، وسوف أذهب يوم الثلاثاء من أجل العلاج المائي لمدة أسبوعين. إن عملي لن ينتهي. الوداع.
عزيزي فوكس، أرجو أن تكون على ما يرام
الوداع
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
مور بارك، فارنام [26 أبريل، 1858] ... لقد أدخل خطاب لايل السرور على سويداء قلبي للتو. لقد قلت له (أو قال لي) إنني أعتقد من سمات نباتات جزر الأزور أنه لا بد أن الجبال الجليدية قد انجرفت إلى هناك؛ وإنني أتوقع العثور على جلاميد جرفتها الأنهار الجليدية بين طبقات الحمم البركانية المرتفعة؛ وجعلت لايل يكتب إلى هارتونج ليسأله عن ذلك، ويقول هارتونج إن سؤالي يفسر ما كان يحيره، ألا وهو وجود جلاميد كبيرة (بعضها مصقول) من الشيست الميكائي والكوارتز والحجر الرملي، وغيرها، بعضها مغروز، والبعض الآخر على ارتفاع من أربعين إلى خمسين قدما فوق مستوى سطح البحر، حتى إنه كان قد استنتج أنها لم ترد على هيئة صابورة السفن. أليس هذا شيئا جميلا؟
لقد تحسنت حالتي الصحية بعض الشيء مع العلاج المائي، لكنني لست على حال يجعلني أزهو بنفسي اليوم؛ لذا فإلى اللقاء.
مع خالص تحياتي يا صديقي العزيز
سي دي
من تشارلز داروين إلى سي لايل
مور بارك، فارنام، 26 أبريل [1858]
عزيزي لايل
لقد أتيت هنا لقضاء أسبوعين للخضوع للعلاج المائي؛ إذ بلغت معدتي حالا مريعا من العمل المتواصل. إنني في غاية الامتنان لك لإرسالك خطاب هارتونج المثير للاهتمام لي. إن الجلاميد التي جرفتها الأنهار الجليدية مذهلة؛ إنها من الحالات الكبرى للجليد العائم في مقابل الأنهار الجليدية. لقد كان حريا به أن يقارن بين السواحل الشمالية والسواحل الجنوبية للجزر. إن هذا الموضوع يثير اهتمامي لأقصى درجة؛ فقد كتبت فصلا طويلا جدا حوله، جامعا بإيجاز كل الأدلة الجيولوجية حول تأثير الأنهار الجليدية في مناطق شتى من العالم، ثم ناقشت بإسهاب (فيما يتعلق بنظرية تغير الأنواع) هجرة النباتات والحيوانات وتعديلها، في البحر والبر، في جزء كبير من العالم. سيلقي الأمر، من وجهة نظري، فيضا من الضوء على موضوع التوزيع برمته، إذا اجتمع مع مسألة تعديل الأنواع. في واقع الأمر، إنني أقدم على الحديث في هذا الأمر ببعض الثقة؛ حيث إن هوكر، منذ عام تقريبا، تفضل بقراءة فصلي بعناية، ورغم أنه اعترض بشدة على الاستنتاج العام، فقد سررت بما بلغني من أسبوع أو اثنين من أنه مال للاقتناع الشديد بآرائي حول التوزيع والتغيير خلال العصر الجليدي. لقد تلقيت خطابا من تومسون، من كلكتا، منذ بضعة أيام، والذي فيه عون كبير لي، حيث إنه يبين فيه الحرارة التي تستطيع نباتات المنطقة المعتدلة تحملها. لكن الموضوع أطول كثيرا من أن يناقش في خطاب؛ وإنني لم أكتب إلا لأن خطاب هارتونج قد أثار الموضوع برمته في ذهني مرة أخرى. لكنني لن أكتب أكثر من ذلك؛ فغرضي هنا هو عدم التفكير في شيء، والخضوع للاستحمام كثيرا، والسير كثيرا، والأكل كثيرا، وقراءة الكثير من الروايات. الوداع، وشكرا جزيلا، وأطيب تحياتي لليدي لايل.
المخلص دائما
سي داروين
من تشارلز داروين إلى السيدة داروين
مور بارك، الأربعاء، أبريل [1858]
الطقس رائع للغاية. أمس، بعد الكتابة إليك، سرت لمدة ساعة ونصف متخطيا فسحة الغابة بقليل، واستمتعت بشدة بكل شيء؛ فاللون الأخضر الزاهي رغم دكانته لأشجار الصنوبر الاسكتلندي الهائلة، واللون البني للسنبلات المتدلية لأشجار القضبان القديمة، بجذوعها البيضاء، واللون الأخضر البعيد لأشجار اللاركس شكلت جميعا منظرا بالغ الجمال. وفي النهاية، استغرقت في سبات عميق على الحشائش، واستيقظت على جوقة من الطيور تشدو حولي، وسناجب تجري صاعدة الأشجار، وبعض طيور نقار الخشب تضحك، وكان المشهد من أكثر المشاهد الريفية المبهجة التي رأيتها على الإطلاق، ولم أفكر ولو للحظة كيف خلقت أي من هذه الحيوانات أو الطيور. جلست في غرفة الاستقبال حتى بعد الساعة الثامنة، ثم ذهبت وقرأت ملخص القاضي للقضية، ورأيت أن برنار مذنب. [لقد حوكم سيمون برنار في أبريل 1858 بتهمة التواطؤ مع أورسيني في محاولته اغتيال إمبراطور فرنسا. وكان الحكم أنه «غير مذنب».] ثم قرأت قليلا من روايتي، التي كانت ذات طابع أنثوي وتتحدث عن الفضيلة والتدين والخير وما إلى ذلك، لكنها مملة بلا جدال. أقول إنها ذات طابع أنثوي، لأن المؤلفة جاهلة بأمور المال، وليست سيدة راقية بمعنى الكلمة - فهي تجعل رجال روايتها يقولون: «سيدتي». تروق لي الآنسة كريك كثيرا، رغم أننا انخرطنا في بعض المشاحنات، ونختلف في كل الموضوعات. يروق لي كذلك السيد المجري؛ فهو رجل مهذب للغاية، وكان ملحقا دبلوماسيا سابقا في باريس، ثم عمل في سلاح الفرسان النمساوي، والآن يعيش في المنفى، بعد صدور العفو عنه، في حالة صحية متدهورة. ويبدو أنه لا يحب كوشوث، لكنه يقول إنه على يقين أنه شخص وطني مخلص، وفي غاية النباهة والفصاحة، لكنه ضعيف، وبلا عزيمة.
الفصل الثالث عشر
كتابة كتاب «أصل الأنواع»
18 يونيو 1858 إلى نوفمبر 1859 [تحكي الخطابات الواردة في الفصل الحالي قصتها بوضوح واف، ولا تحتاج سوى إلى كلمات قليلة على سبيل التفسير. إن مقال السيد والاس، المشار إليه في الخطاب الأول، حمل العنوان الفرعي: «عن ميل الضروب إلى الاختلاف كليا عن نمطها الأصلي»، ونشر في دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي» (1858، المجلد الثالث، صفحة 53) كجزء من البحث المشترك ل «السيدين سي داروين وإيه والاس» الذي كان عنوانه بالكامل: «عن ميل الأنواع لتكوين الضروب؛ وعن ديمومة نشوء الضروب والأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي».
تألف إسهام أبي في البحث من الآتي: مقتطفات من ملخص عام 1844؛ وجزء من خطاب موجه للدكتور آسا جراي، بتاريخ 5 سبتمبر، 1857، وهو يرد في الصفحة 120. وقد «أرسل» البحث للجمعية اللينية السير تشارلز لايل والسير جوزيف هوكر، اللذان جاء في خطابهما التمهيدي بيان توضيحي بظروف الحالة.
لقد كتبا في إشارة إلى مقال السيد والاس قائلين:
قدر بشدة السيد داروين الآراء المعروضة في هذا المقال، حتى إنه اقترح، في خطاب إلى السير تشارلز لايل، الحصول على موافقة السيد والاس للسماح بنشره المقال بأسرع وقت ممكن. وقد أيدنا هذه الخطوة بدرجة كبيرة، على ألا يحجب السيد داروين عن العامة، كما كان ميالا بشدة (لصالح السيد والاس)، الملخص الذي كتبه بنفسه حول الموضوع نفسه، والذي قرأه أحدنا قراءة متمعنة عام 1844، كما ذكر من قبل، وكان كلانا مطلعين على محتوياته منذ عدة سنوات. وحين اقترحنا هذا على السيد داروين، سمح لنا باستخدام ملخصه، وغير ذلك، بالطريقة التي نراها مناسبة، وعند تبني المسار الحالي، بتقديمه للجمعية اللينية، أوضحنا له أننا لا نضع في اعتبارنا حقه وحق صديقه النسبيين في الأسبقية فحسب، وإنما مصلحة العلم عامة.] (1) الخطابات
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 18 [يونيو 1858]
عزيزي لايل
منذ عام تقريبا نصحتني بقراءة بحث لوالاس كان قد أثار اهتمامك في مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»؛ وحيث إن هناك مراسلات فيما بيننا، كنت أعلم أن هذا سيسعده كثيرا؛ لذا أخبرته به. لقد أرسل لي اليوم المقال المرفق، وطلب مني أن أرسله إليك. وهو يبدو لي جديرا جدا بالقراءة. لقد تحققت كلماتك لدرجة كبيرة - بأنني سوف أسبق. لقد قلت هذا حين شرحت لك هنا بإيجاز شديد آرائي عن «الانتقاء الطبيعي» القائم على الصراع من أجل البقاء. لم أر قط صدفة مدهشة كهذه؛ لو كان لدى والاس ملخص مخطوطتي الذي كتبته عام 1842، ما كان سيستطيع وضع ملخص قصير أفضل من هذا! حتى مصطلحاته تعد الآن عناوين لفصولي. أرجوك أن تعيد لي المخطوطة، التي لم يقل إن كان يريد أن أنشرها أم لا، لكنني بالطبع سوف أكتب في الحال لأي دورية وأعرض إرسالها إليها. هكذا سوف يدمر كل ما في عملي من أصالة، أيا كان قدره، رغم أن كتابي، إن كان سيصبح له أي قيمة على الإطلاق، لن يتأثر؛ إذ إن قوام العمل كله يتمثل في تطبيق النظرية.
أرجو أن تستحسن ملخص والاس، حتى يتسنى لي أن أخبره بما ستقوله.
عزيزي لايل، صديقك الوفي جدا
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، الجمعة [25 يونيو ، 1858]
عزيزي لايل
آسف جدا على إزعاجك، مع كل انشغالك، في مسألة شخصية محضة، لكنك إن أعطيتني رأيك المتروي، فستسدي لي أجل خدمة قدمها أحد لي على الإطلاق؛ فأنا لدي ثقة تامة في حكمك وأمانتك.
لا يوجد شيء في ملخص والاس لم يدون على نحو أوفى في ملخصي، الذي نسخ عام 1844، وقرأه هوكر منذ نحو اثني عشر عاما. ومنذ عام تقريبا أرسلت ملخصا قصيرا، لدي نسخة منه، لآرائي (بسب التشابه في عدة نقاط) لآسا جراي، بحيث أستطيع أن أقول وأثبت بكل حق أنني لم آخذ شيئا من والاس. وسوف يسرني كثيرا أن أنشر الآن ملخصا بآرائي العامة في اثنتي عشرة صفحة أو نحو ذلك، لكنني لا أستطيع أن أقنع نفسي أن فعلي هذا يعد فعلا شريفا. لم يقل والاس شيئا بشأن النشر، وقد أرفقت خطابه. لكن حيث إنني لم أكن أنوي نشر أي ملخص، فهل يعد هذا فعلا شريفا، وقد أرسل لي والاس ملخصا بنظريته؟ أفضل أن أحرق كتابي كاملا، على أن يعتقد هو أو أي شخص آخر أنني قد تصرفت بخسة. ألا تعتقد أنه بإرسال هذا الملخص يقيدني؟ إن استطعت النشر ولم يكن هذا فعلا خسيسا، فسأصرح بأنني حملت على نشر ملخص الآن (وسيسرني كثيرا أن يسمح لي القول بأن ذلك كان اتباعا لنصيحتك التي أسديتني إياها منذ وقت طويل) بسبب ما كان من والاس من إرسال الخطوط العريضة لاستنتاجاتي العامة لي. إن اختلافنا الوحيد [هو] أن ما قادني لآرائي هو ما فعله الانتقاء الاصطناعي بالحيوانات الداجنة. وسأرسل لوالاس نسخة من خطابي إلى آسا جراي؛ لأثبت له أنني لم أسرق نظريته. لكن لا أعرف ما إن كان نشره الآن سيكون تصرفا حقيرا وخسيسا أم لا. كان هذا انطباعي الأول، وكنت سأتصرف تبعا له دون شك لولا خطابك.
هذه مسألة تافهة لأزعجك بها، لكنك لا تعلم كم سأكون ممتنا لنصيحتك.
بالمناسبة، هل تمانع في إرسال هذا وردك على هوكر إلي؟ فحينئذ سيكون لدي رأي أفضل وأطيب صديقين لي. هذا الخطاب مكتوب بأسلوب رديء، وإنني أكتبه الآن؛ لأنني قد أقصي الموضوع برمته عن تفكيري لفترة؛ فقد أنهكني التفكير فيه.
فلتسامحني يا صديقي العزيز؛ فهذا خطاب تافه، متأثر بمشاعر تافهة.
مع إخلاصي الشديد
سي داروين
لن أزعجك أنت أو هوكر بهذا الموضوع ثانية أبدا.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 26 [يونيو، 1858]
عزيزي لايل
فلتغفر لي إضافة ملحوظة في ذيل الخطاب لأجعل موقفي أضعف ما يكون.
قد يقول والاس: «إنك لم تكن تنوي نشر ملخص بآرائك حتى تلقيت خطابي؛ فهل من العدل أن تستغل أنني قد بحت لك بأفكاري دون تحفظ، وطواعية، وبهذا تمنعني من أن أستبقك؟» الاستغلال الوحيد الذي قد أقدم عليه هو أن ما حثني على النشر معرفتي بأن والاس لديه نظريتي نفسها. يبدو عسيرا علي أن أجبر هكذا على خسارة أسبقيتي التي وصلت إليها قبله بسنوات عديدة، لكنني أشعر أن ما فعلته ليس من العدل؛ فالانطباعات الأولى صحيحة بوجه عام، وكان اعتقادي في البداية أنه من المجافي للشرف أن أنشر الآن.
صديقك الوفي
سي داروين
ملحوظة:
طالما اعتقدت أنك ستكون وزيرا للعدل من الطراز الأول؛ وإنني أخاطبك الآن بصفتك وزيرا للعدل.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الثلاثاء [29 يونيو، 1858] ... تلقيت خطاباتك للتو. لا أستطيع التفكير في الموضوع الآن [مباشرة بعد وفاة ابنه الرضيع بالحمى القرمزية]، لكنني سأفعل قريبا. لكن بوسعي أن أرى أنك تصرفت بكرم بالغ، وكذلك لايل، أكثر حتى مما كان بإمكاني أن أتوقع منكما، وهذا لشدة كرمكما.
يمكنني بسهولة نسخ خطابي إلى آسا جراي، لكنه قصير جدا. ... فليباركك الرب. سيصلك الرد قريبا، بمجرد أن أقوى على التفكير.
لك خالص مودتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
الثلاثاء ليلا [29 يونيو، 1858]
عزيزي هوكر
قرأت خطابك للتو، وأرى أنك تريد الأبحاث في الحال. إنني في حالة من الإعياء التام، ولا أستطيع فعل أي شيء، لكنني سأرسل مخطوطة والاس، وخلاصة خطابي إلى آسا جراي، التي تتناول على نحو سريع وسائل التغيير فحسب، ولا تشير لأسباب الاعتقاد بأن الأنواع تتغير. أعتقد أن هذا كله متأخر جدا، وأكاد لا أعيره اهتماما. لكنك في غاية الكرم لبذل هذا الكم الكبير جدا من وقتك وعطفك. إنه لكرم بالغ، ولطف هائل. سأرسل ملخصي الذي كتبته عام 1844 فقط حتى ترى خط يدك وتوقن أنك قرأته بالفعل. حقا إنني لا أطيق النظر فيه، فلا تضيع فيه الكثير من وقتك. من المخزي أن آبه للأسبقية من الأساس.
سيوضح لك جدول المحتويات كنهه.
سأكتب ملخصا مماثلا، لكن أقصر وأدق لدورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي». سوف أفعل أي شيء.
فليباركك الرب يا صديقي العزيز الطيب. لا أستطيع الكتابة أكثر من ذلك. سأرسل خادمي بكل هذا إلى كيو.
تحياتي
سي داروين [الخطاب التالي هو ذلك الذي أشرت إليه من قبل بوصفه جزءا من البحث المشترك المنشور في دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي»، عام 1858]:
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 5 سبتمبر [1857]
عزيزي جراي
لا أتذكر الكلمات التي استخدمتها بالتحديد في خطابي السابق، لكن ربما قلت إنني أعتقد أنك ستحتقرني تماما حين أخبرك بالاستنتاجات التي توصلت إليها، وقد فعلت هذا لأنني اعتقدت أنه كان لزاما علي لكوني رجلا أمينا. وإنني لأكون شخصا غريبا، في ضوء كل ما أدين به لكرمك الفياض جدا، إن كنت أقصد بقولي هذا أن أنسب إليك أي شعور بالمرارة؛ فلتسمح لي أن أخبرك أن هوكر أراني العديد من خطاباتك (غير الشخصية)، قبل أن أبدأ في مراسلتك، وقد بعثت في أخلص مشاعر الاحترام لك؛ ولا بد أن أكون ناكرا للجميل بلا شك إن لم تكن خطاباتك، وكل ما سمعته عنك، قد رسخا بقوة هذا الشعور لدي. لكنني لم أكن متأكدا على الإطلاق أنك، عندما تعرف الاتجاه الذي كنت قاصده، ربما تعتقد أنني شديد الجموح والحماقة في آرائي (يعلم الرب أنني بلغتها بتمهل كاف، وبضمير حي كما أرجو) حتى إنك ستعتقد أنني لا أستحق المزيد من الاهتمام أو المساعدة. إليك مثالا واحدا: في المرة الأخيرة التي رأيت فيها صديقي القديم والعزيز فالكونر، هاجمني هجوما شديد الضراوة، لكن بلطف تام، وقال لي: «إن الأذى الذي ستتسبب فيه يفوق الخير الذي سيقدمه عشرة من علماء التاريخ الطبيعي. أستطيع أن أرى أنك بالفعل «ضللت» هوكر بل أوشكت أن تفسده!» هكذا حين أرى شعورا بهذه القوة لدى أقدم أصدقائي، لا يمكن أن تأخذك الدهشة عندما تجدني أتوقع دائما أن تقابل آرائي باحتقار. لكن يكفي ما قلته في هذا الأمر.
أتقدم إليك بأصدق آيات الشكر على ما في خطابك الأخير من روح طيبة. وأتفق مع كل كلمة فيه، وأعتقد أنني أرى الصعوبات الشديدة التي تعترض نظريتي مثل أي أحد. أما فيما يتعلق بالمدى الذي وصلت إليه، فكل الحجج التي تؤيد أفكاري تتناقص «بسرعة»، كلما زاد نطاق الأشكال التي تجرى دارستها. لكن مع الحيوانات، يؤدي بي علم الأجنة إلى مدى هائل ومخيف. إن حقائق التكيف هي أكثر ما جعلني ملتزما بالمنهج العلمي التقليدي لمدة طويلة - كتل حبوب اللقاح في جنس نباتات الصقلاب؛ نبات الهدال، وحبوب لقاحه التي تحملها الحشرات، وبذوره التي تحملها الطيور؛ نقار الخشب، ودور قدميه وذيله، ومنقاره ولسانه، في مساعدته لتسلق الأشجار والحصول على الحشرات. إن الحديث عن مسئولية المناخ أو العادة اللاماركية عن حالات التكيف تلك في كائنات حيوية أخرى لهو أمر عقيم. وأعتقد أنني تغلبت على هذه الصعوبة. وبما أنك تبدو مهتما بهذا الموضوع، وحيث إنه في الكتابة إليك ومعرفة ما يجول بخاطرك، ولو حتى بإيجاز شديد، منفعة «كبرى» لي، فسوف أرفق أقصر ملخص (منسوخ، حتى أوفر عليك العناء في القراءة) لأفكاري حول الوسائل التي تنتج بها الطبيعة أنواعها. يقوم اعتقادي بتغير الأنواع على حقائق عامة في القرابات وعلم الأجنة والأعضاء الأثرية والتاريخ الجيولوجي والتوزيع الجغرافي للكائنات الحية. وفيما يتعلق بملخصي، فلا بد أن تطمئن لأقصى درجة أن كل فقرة تشغل فصلا أو فصلين في كتابي. ربما ستعتقد أنها تفاهة من ناحيتي أن أطلب منك ألا تتحدث عن نظريتي لأحد؛ والسبب في ذلك أنه إذا سمع بها أحد، مثل مؤلف كتاب «بقايا»، فقد يدرجها في عمله بسهولة، وعندئذ سوف أضطر للاقتباس من عمل ربما يحتقره علماء التاريخ الطبيعي، وهذا سيقضي إلى حد كبير على أي فرصة لأن يستقبل آرائي أولئك الذين أقدر آراءهم دون غيرهم. [يلي هذا نقاش حول «تباين الأجناس الكبيرة» الذي ليس له علاقة مباشرة ببقية الخطاب.] (1)
من المدهش ما يستطيع مبدأ الانتقاء عن طريق الإنسان تحقيقه؛ أي اختيار أفراد متمتعين بصفة مستحبة معينة، واستيلادهم، ثم تطبيق عملية الاختيار هذه عليهم مرة أخرى، بل حتى المربون أنفسهم مندهشون من نتائج ما يقومون به في هذا الإطار؛ فهم يستطيعون إنتاج اختلافات لا تلاحظها العين الجاهلة. ولم يتبع الانتقاء بأسلوب «منهجي» في أوروبا إلا خلال نصف القرن الأخير فحسب. إلا أنه كان يتبع أحيانا، وحتى بأسلوب منهجي إلى حد ما، في عصور موغلة القدم. كذلك لا بد أنه كان ثمة انتقاء غير متعمد منذ أقدم الأزمنة، تحديدا في الاحتفاظ بالحيوانات (دون أي اعتبار لنسلها) الأكثر نفعا لكل جنس من البشر في ظروفه الخاصة. إن «الاجتثاث» وهو الاسم الذي يطلقه أصحاب المشاتل أو العاملون فيها على تدمير الضروب التي تحيد عن نمطها، لهو نوع من الانتقاء. وإنني مقتنع أن الانتقاء المقصود والعرضي كان العامل الرئيسي في تكوين سلالتنا الداجنة. لكن مهما كان تأثير هذا الأمر، فقدرته الكبيرة على التعديل تجلت بلا جدال في العصور الأخيرة. إن الانتقاء يعمل فقط عن طريق تراكم تباينات طفيفة جدا أو كبرى، سببتها ظروف خارجية، أو عن طريق حقيقة عدم تشابه النسل مع الأصل تشابها تاما في أحد الأجيال. والإنسان، بهذه القدرة على تراكم التباينات، يكيف الكائنات الحية وفقا لحاجاته؛ إذ «يمكن القول» بأنه يجعل صوف بعض الخراف مناسبا للأبسطة، وصوفا آخر مناسبا من أجل الملابس، وهكذا. (2)
لنفترض إذن أنه كان ثمة كيان، لم يأخذ بالمظهر الخارجي وحده، وإنما استطاع دراسة التكوين الداخلي كاملا - ولم يكن متقلب الهوى - وظل ينتقي من أجل غاية واحدة خلال ملايين الأجيال، فمن سيقول إنه قد لا يحدث تأثيرا! لدينا في الطبيعة تباينات «طفيفة»، أحيانا في كل النواحي؛ وأعتقد أنه من الممكن إثبات أن التغير في ظروف الوجود هو السبب الرئيسي في عدم تشابه الطفل التام لوالديه؛ وفي الطبيعة، ترينا الجيولوجيا التغيرات التي حصلت، وما زالت تحصل. لدينا زمن لا متناه تقريبا؛ لا يستطيع تقدير هذا حق قدره غير عالم الجيولوجيا العملي، لديك العصر الجليدي مثلا، الذي عاشت خلاله كله أنواع الأصداف نفسها على الأقل؛ لا بد أنه كان ثمة ملايين الملايين من الأجيال خلال هذا العصر. (3)
أعتقد أنه من الممكن إثبات أنه ثمة قوة مؤثرة لا تخطئ، أو «انتقاء طبيعي» (الذي هو عنوان كتابي)، تنتقي لكل كائن حي ما هو لصالحه فقط. كتب دي كوندول ودبليو هربرت ولايل مدافعين بشدة عن الصراع من أجل البقاء؛ لكن رغم ذلك لم تكن كتاباتهم قوية بالقدر الكافي. تذكر أن كل كائن (حتى الفيل) يتكاثر بمعدل معين بحيث لن يظل على سطح الأرض، خلال سنوات قليلة، أو بضعة قرون أو آلاف السنين على الأكثر، أي نسل لأي نوع. لقد وجدت صعوبة باستمرار في تذكر أن الزيادة في كل نوع تتوقف خلال جزء من حياته، أو خلال أحد الأجيال التي عادت للظهور لفترة قصيرة. إن القليل فقط من الكائنات التي تولد سنويا تستطيع العيش حتى تنشر نوعها. يا له من اختلاف بسيط ذلك الذي يحدد عادة أيها سيعيش وأيها سينقرض! (4)
فلتتأمل الآن حال بلد يمر ببعض التغيير؛ هذا سيؤدي لجعل بعض سكناه يتباينون تباينا طفيفا، إلا أنني أعتقد أن أغلب الكائنات تتباين تباينا كافيا طوال الوقت بما يسمح بحدوث الانتقاء؛ فبعض سكانه سيبادون، وتتعرض البقية للتأثير المتبادل لمجموعة مختلفة من السكان، وهو ما أعتقد أنه أهم بالنسبة لحياة كل كائن من مجرد المناخ؛ ونظرا للطرق العديدة للغاية التي يكون على الكائنات استخدامها للحصول على الغذاء بالصراع مع كائنات أخرى، والهروب من الخطر في مراحل مختلفة من حياتها، ونشر بيضها أو بذورها، إلخ، إلخ؛ فلا يمكن أن يساورني الشك أنه خلال ملايين من الأجيال سيلد أحد الأنواع أفرادا ذات تباين طفيف بما ينفع ناحية ما من حياتها؛ هؤلاء سيكون لديهم فرصة أفضل للبقاء، وسينشرون هذا التباين، الذي سيزيد ببطء مرة أخرى عن طريق التأثير التراكمي للانتقاء الطبيعي؛ والضرب الذي تكون بهذه الطريقة إما سيتواجد مع نمطه الأصلي أو سيقضي عليه وهو الأشيع؛ هكذا قد يصير كائن حي، مثل نقار الخشب أو نبات الهدال، متكيفا مع مجموعة من الحوادث العارضة؛ فالانتقاء الطبيعي يراكم تلك التباينات الطفيفة في جميع أجزاء تكوينه، التي تفيده بأي شكل، خلال أي جزء من حياته. (5)
ستطرأ صعوبات متعددة الأشكال لكل شخص فيما يتعلق بهذه النظرية. وأعتقد أن أغلبها يمكن الرد عليه بإجابات وافية. وعبارة «لا قفزات في الطبيعة» تجيب على بعض من أوضح تلك الصعوبات. وبطء التغيير، وحقيقة أن الذي يخضع للتغيير قلة قليلة فقط في أي من الفترات الزمنية يجيب على صعوبات أخرى. كذلك تجيب أوجه القصور البالغة في معرفتنا الجيولوجية على صعوبات أخرى. (6)
يؤدي مبدأ آخر، يمكن تسميته «مبدأ التشعب»، دورا مهما في أصل الأنواع، حسبما أعتقد. ستتوفر سبل أكثر للحياة في منطقة ما إن شغلتها أشكال شديدة التنوع؛ نرى هذا في الأشكال النوعية المتعددة التي تعيش في ياردة مربعة من الأرض المعشوشبة (فقد أحصيت عشرين نوعا ينتمي لثمانية عشر جنسا)، أو في النباتات والحشرات التي تعيش في أي جزيرة صغيرة متسقة، والتي تنتمي لعدة أجناس وفصائل كما تنتمي لعدة أنواع. يمكننا فهم هذا من خلال الحيوانات العليا، التي نفهم عاداتها بنحو أفضل. ونعلم أنه أثبت بالتجارب أن أي قطعة أرض ستنتج محصولا أكبر، إن زرعت بأنواع متعددة من الحشائش، عن أن تزرع بنوعين أو ثلاثة. هكذا، يمكن القول بأن كل كائن حي، بالانتشار بسرعة، يبذل أقصى ما في وسعه لزيادة أعداده. وهكذا سيكون الحال مع نسل أي نوع بعد انقسامه إلى ضروب أو أنواع فرعية أو أنواع حقيقية. ويستتبع هذا، حسبما أعتقد، بناء على الحقائق الآنفة، أن يحاول النسل المتغير لكل نوع الاستحواذ على أماكن متعددة ومتنوعة بقدر المستطاع في المنظومة الاقتصادية للطبيعة (ولا يوفق في ذلك إلا القليل منه). وبوجه عام، سيأخذ كل ضرب أو نوع جديد حين يتكون مكان والده الأقل أهلية ومن ثم، سيقضي عليه. أعتقد أن هذا هو أصل تصنيف أو تنظيم كل الكائنات الحية في جميع الأزمنة؛ فهي دائما «تبدو» كأنها تتشعب لفروع وفروع تابعة مثل شجرة من جذع مشترك؛ حيث تدمر الأغصان المزدهرة الأخرى الأقل حيوية - وتمثل الفروع الميتة والمفقودة الضروب والفصائل المنقرضة.
هذا الملخص غير كامل «على الإطلاق»، لكنني لا أستطيع أن أجعله أفضل من ذلك في تلك المساحة القصيرة جدا. ولا بد لعقلك أن يملأ فراغات واسعة عديدة. دون بعض التدبر، سيبدو كل هذا محض هراء؛ بل ربما يبدو هكذا بعد التدبر.
سي دي
ملحوظة:
هذا الملخص الصغير يتطرق بإيجاز فقط للقوة التراكمية للانتقاء الطبيعي، وهي التي أراها حتى الآن أهم عامل في إنتاج أشكال جديدة. أما القوانين التي تحكم التباين الأولي أو البدائي (وهو موضوع غير مهم إلا بصفته الأساس الذي يؤثر فيه الانتقاء؛ ومن ثم يكون في هذا الصدد شديد الأهمية)، فسوف أناقشها في موضوعات متعددة، بيد أنني قد لا أبلغ حيالها سوى استنتاجات غاية في الاجتزاء والقصور، كما قد تعتقد. [قرئ البحث المشترك للسيد والاس وأبي أمام الجمعية اللينية في مساء الأول من يوليو. وكان السير تشارلز لايل والسير جيه دي هوكر موجودين، وكلاهما، على ما أظن، أدليا ببعض الملحوظات، في المقام الأول بهدف التأكيد لأولئك الحاضرين على ضرورة إعارة أقصى اهتمامهم لما سمعوه. إلا أنه لم يحدث أي نقاش. وقد كتب لي السير جوزيف هوكر قائلا: «الاهتمام كان شديدا، لكن الموضوع كان جديدا جدا وخطيرا جدا بحيث لا يمكن لأنصار الفكر القديم الدخول في غمار جدال بشأنه قبل التسلح له. وبعد الاجتماع نوقش الموضوع بقلق شديد؛ حيث ألقى التأييد من جانب لايل، وربما من جانبي بدرجة صغيرة، بصفتي معاونا له في المسألة، الرهبة في نفوس الزملاء، الذين لولا ذلك كانوا سيهاجمون النظرية بقسوة. كذلك كان لدينا الأفضلية المتمثلة في معرفتنا بالكاتبين وفكرتهما».]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 5 يوليو [1858]
عزيزي هوكر
لقد صرنا في سعادة أكبر وذعر أقل الآن بعد أن أرسلنا كل الأطفال من المنزل، وسوف ننقل هنرييتا، بمجرد أن تستطيع المشي. سقمت الممرضة الأولى بتقرح الحلق وتقيح اللوزتين، والثانية مريضة الآن بالحمى القرمزية، لكنها تتعافى، حمدا للرب. لك أن تتخيل كم كنا وجلين. لقد كانا أسبوعين في غاية الشقاء. أشكرك شكرا جزيلا على خطابك، الذي أخبرتني فيه أن كل شيء جرى بنجاح في الجمعية اللينية. أرجو أن تسمح لي مرة أخرى أن أخبرك بدرجة إحساسي بجزالة كرمك وكرم لايل في هذا الموقف. لكنني، في الواقع، أشعر بالخزي لأنكما اضطررتما لتضييع وقتكما بسبب مسألة الأسبقية. سأكون متلهفا لرؤية بروفات الطباعة. وأنا لا أدري مطلقا ما إن كان خطابي إلى آسا جراي سيطبع أم لا؛ أعتقد أنه لن يطبع، وخطابك فقط هو الذي سيطبع؛ لكنني لا أبالي مطلقا، وأترك لك أنت ولايل كامل الحرية في هذا الشأن.
أستطيع بسهولة إعداد نبذة عن كامل عملي، لكن يشق علي أن أرى طريقة لجعلها بأسلوب علمي بحيث يمكن نشرها في دورية، دون إعطاء حقائق، وهو ما سيكون مستحيلا. بالتأكيد، لا يمكن للنبذة أن تكون قصيرة جدا، فهل تستطيع أن تعطيني أي فكرة عن عدد الصفحات التي قد تتيحها الدورية لي في هذا الشأن؟
بعد عودتي للمنزل مباشرة، سأبدأ في تقليص النبذة لتناسب قدر المساحة المتاحة. إن رفضها الحكام لعدم دقتها العلمية، فربما أستطيع نشرها على هيئة كتيب.
فيما يتعلق بملخصي الكبير [الخاص بعام 1844]، هلا أرسلته متى تيسر ذلك قبل أن تغادر إنجلترا، إلى العنوان المرفق؟ إن لم تغادر قبل العاشر من أغسطس، فسأفضل أن تظل معك. أرجو أن تكون سطرت مآخذك على مخطوطتي حول الأجناس الكبيرة، إلخ، بما يضمن تذكرها؛ إذ سأكون في غاية الأسف لو خسرتها. إنني لا أرى أملا في لقائنا إن سافرت في الفترة المقبلة. ونشكرك بصدق على دعوتك للانضمام إليك؛ فلا يسعني تخيل شيء أكثر متعة من ذلك؛ إلا أن أطفالنا أضعف حالا من أن نتركهم بمفردهم؛ لذا سأكون مجرد عبء بلا فائدة.
أخيرا، قلت إنك سوف تكتب إلى والاس؛ لا شك أنني أود ذلك بشدة؛ حيث إن ذلك سيعفيني تماما من الحرج: فإن بعثت إلي بخطابك، محكم الغلق، فسأرسله مع خطابي، لمعرفتي بالعنوان، وما إلى ذلك.
هلا أرسلت لي متى تيسر ذلك ردا بآرائك حول طول نبذتي؟
إن رأيت لايل، فهلا أخبرته كم أنا ممتن حقا لتكرمه بالاهتمام بموضوعي؟ لا بد أن تعلم أنني أراه من الهام جدا لاستقبال نظرية عدم ثبات الأنواع أن يبدي أعظم عالم جيولوجيا وعالم نبات في إنجلترا «أي نوع من الاهتمام» بالموضوع: إنني على يقين أن هذا سيساهم كثيرا في القضاء على الأحكام المسبقة.
المخلص لك
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
منزل الآنسة ويدجوود، هارتفيلد، تونبريدج ويلز [13 يوليو، 1858]
عزيزي هوكر
يبدو لي خطابك إلى والاس مثاليا وواضحا تماما وغاية في اللباقة. ولا أعتقد أنه من الممكن تحسينه، وقد أرسلته اليوم مع خطاب مني. طالما اعتقدت أنه من المحتمل جدا أني قد أسبق، لكنني كنت أظن أنني ذو نفس راقية بالقدر الكافي لأكترث لذلك، إلا أنني وجدت نفسي مخطئا ومعاقبا، بيد أنني استسلمت تماما، وكتبت نصف خطاب إلى والاس لأتنازل له عن الأسبقية برمتها، وما كنت لأغير موقفي بالطبع لولا ما أبديته من عطف استثنائي تماما أنت ولايل. أؤكد لك أنني أقدره، ولن أنساه. إنني في «غاية» الرضا عما حدث في الجمعية اللينية. كنت أعتقد أن خطابك وخطابي إلى آسا جراي سيصيران مجرد ملحق في بحث والاس.
سوف نرحل من هنا إلى ساحل البحر خلال بضعة أيام، غالبا إلى جزيرة وايت، وعند عودتي (بعد معركة مع هياكل الحمام) سأشرع في إعداد النبذة، لكن كيف لي بأي حال أن أعد نبذة ذات معنى في ثلاثين صفحة من أجل الدورية، لا أدري، لكنني سأبذل قصارى جهدي. سوف أطلب كتاب بينثام؛ أليس من المؤسف أن تضيع وقتك في جدولة الضروب ؟ بإمكاني أن أجعل مدير مدرسة داون يفعل ذلك عند عودتي، وأستطيع إخبارك بكل النتائج .
لا بد أن أحاول لقاءك قبل رحلتك، لكن لا تظن أنني أطلب منك على نحو غير مباشر أن تأتي إلى داون؛ فلن يتاح لك الوقت لذلك.
لا يمكنك أن تتخيل مقدار سعادتي بأن فكرة الانتقاء الطبيعي كان لها تأثير الدواء المعالج لما عانيته من تعسر هضم لمسألة عدم قابلية الأنواع للتغير. متى يستطيع علماء التاريخ الطبيعي رؤية أن تغير الأنواع أمر مؤكد، فأي مجال رائع سينفتح - فيما يتعلق بقوانين التباين كلها، وعلم أنساب كل الكائنات الحية، ومسارات هجرتها، إلخ، إلخ. أرجوك أن تشكر السيدة هوكر على خطابها القصير الشديد الرقة، وأرجوك أن تخبرها كم أنا ممتن، بل أخجل في واقع الأمر حين يحضرني أنها اضطرت لأن تتكبد عناء نسخ مخطوطتي البغيضة. كان هذا كرما هائلا من ناحيتها. الوداع يا صديقي العزيز الطيب.
المخلص لك
سي داروين
ملحوظة:
حظيت هنا ببعض المتعة وأنا أشاهد نملة استعبادية؛ فلم يكن باستطاعتي مغالبة الشك في القصص العجيبة التي تدور حول هذا، لكنني رأيت الآن طرفا غازيا مهزوما، ورأيت نزوح النمل الاستعبادي من جحر لآخر، حاملا عبيده (وهم من العبيد العاملين في «المنازل»، وليسوا من العاملين في الحقول) في أفواهه!
أميل للاعتقاد بصحة التعميم، الذي مفاده أنه عند فرز العسل في نقطة من دائرة تويج الزهرة، وانحناء المدقة، فهي تنحني دائما إلى خط عابر إلى العسل. وزهرة العائق خير مثال على ذلك، على عكس زهر الحوض - إن خطر لك الأمر، فلتنتبه لهذه النقطة الصغيرة فحسب.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
فندق كينجز هيد، سانداون، جزيرة وايت
18 يوليو [1858] ... سنستقر هنا لعشرة أيام، ثم نذهب إلى شانكلين، التي تبدو أكثر إمتاعا لشخص لا يقوى على السير مثلي. نرجو أن يكون للبحر أثر طيب على هنرييتا وليونارد. إن حدث هذا، فستؤتي الرحلة ثمارها، وهذا كل ما في الأمر.
لم أوفك قط ولو نصف حقك من الشكر على كل ما أبديته لي من اهتمام وكرم استثنائيين في مسألة والاس. لقد أخبرني هوكر بما أنجز في الجمعية اللينية، وإنني راض تماما عن ذلك، ولا أعتقد أن والاس قد يعتقد أن سماحي لك ولهوكر بفعل ما تريانه من الإنصاف تصرف مجحف. بالطبع تكدرت قليلا لخسارتي الأسبقية بالكامل، لكنني استسلمت لقدري. سوف أعد نبذة أطول؛ لكن من المستحيل حقا أن أوفي الموضوع حقه، إلا بإعطاء الحقائق التي يقوم عليها كل استنتاج، وذلك سيكون مستحيلا تماما بالطبع. إنني متأكد أن ما بدا من اهتمام، بأي طريقة ولو بأقل قدر، من شخصك وشخص هوكر في عملي، له تأثير مهم في حمل الناس على النظر للموضوع بعين الاعتبار من دون أحكام مسبقة. أرى أن هذا الأمر في غاية الأهمية، حتى إنني أكاد أكون سعيدا ببحث والاس لأنه أدى لهذا.
عزيزي لايل، الممتن لك للغاية
سي داروين [يشير الخطاب التالي إلى بروفات طباعة بحث الجمعية اللينية. ويقصد ب «المقدمة» الخطاب التمهيدي الذي وقعه السير سي لايل والسير جيه دي هوكر.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
فندق كينجز هيد، سانداون، جزيرة وايت
21 يوليو [1858]
عزيزي هوكر
بالأمس فقط تلقيت بروفات الطباعة، والتي سأراجعها الآن. أعتقد أن المقدمة الخاصة بكما ليست بحاجة للتحسين.
يتملكني الاشمئزاز من أسلوبي السيئ في الكتابة. وليس بإمكاني تحسينه، دون إعادة كتابة كل شيء، وهو ما لن يكون عادلا أو جديرا بالعناء؛ إذ كنت قد بدأت في إعداد نبذة أفضل من أجل الجمعية اللينية. عذري الوحيد هو أنها لم يكن المراد بها النشر «قط». وقد أجريت القليل من التصويبات في الأسلوب فقط، إلا أنني لا أستطيع أن أجعله لائقا، لكن أرجو أن يكون واضحا بدرجة معقولة. وأفترض أن شخصا ما سينقح بروفة الطباعة المعدلة. (أليس لي أن أفترض هذا؟)
هل يمكنني الحصول على بروفة الطباعة بعد إدخال التعديلات عليها لأرسلها إلى والاس؟
لم أدرس ملحوظاتك حول الأجناس الكبيرة بالتروي التام بعد (لكني «أقدر بشدة» قبولك العام للمهمة)، ولن أستطيع ذلك قبل أن أعيد قراءة مخطوطتي، لكن لك أن تثق أنك لن تبدي لي أي ملحوظة وتضيع بسبب «تجاهلي» لها. يسرني بوجه خاص عدم اعتراضك على صياغتي لمآخذك على نحو معدل؛ فإنني دائما ما أراها في غاية الأهمية، وذات قيمة كبيرة، سواء فتكت بأفكاري أم لا؛ لذا سأدرس كل ملحوظاتك بعناية.
لقد طلبت كتاب بينثام؛ حيث إنه، كما يقول ... سيكون من الغريب جدا أن ترى كتابا عن النباتات ألفه شخص لا يعرف شيئا عن النباتات البريطانية!
إنني سعيد جدا بما تقوله عن نبذتي، لكن لك أن تثق أنني سأكثفها إلى أقصى درجة. كما أنني سأساهم في أموال الطباعة إن طالت جدا. كم تعددت الطرق التي ساعدتني بها!
مع حبي
سي داروين [«النبذة» المذكورة في الجملة الأخيرة من الخطاب السابق كانت في الواقع هي كتاب «أصل الأنواع»، الذي بدأ العمل فيه آنذاك. وهو يتحدث في سيرته الذاتية (ارجع للفصل الثاني من هذا الكتاب) عن بدء الكتابة فيها في سبتمبر، لكنه كتب في يومياته قائلا: «من 20 يوليو حتى 12 أغسطس، في سانداون، بدأت كتابة نبذة كتاب الأنواع.» «16 سبتمبر، استئناف العمل في النبذة.» عند بدء الكتابة، كان الهدف هو أن تنشر الجمعية اللينية العمل باعتباره بحثا، أو سلسلة أبحاث، ولم يتضح أنه لا بد أن يأخذ شكل كتاب مستقل إلا في أواخر الخريف.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
نورفوك هاوس، شانكلين، جزيرة وايت
الجمعة، 30 [يوليو] [1858]
عزيزي هوكر
هلا أعطيت القصاصة المرفقة للسير ويليام تعبيرا عن امتناني لكرمه؛ وهذا يعطيني عذرا لإدخال البهجة على نفسي بأن أكتب لك خطابا، وهو الذي لا يحتاج إلى رد.
هذا المكان خلاب جدا، وقد حصلنا على منزل مريح للغاية. لكن، للأسف، لا أستطيع القول بأن حال هنرييتا وليونارد تحسن كثيرا مع البحر. ولا تعافت معدتي من كل متاعبها. لكنني مسرور جدا أننا غادرنا الديار؛ إذ مات حتى الآن ستة أطفال من الحمى القرمزية في داون. وسوف نعود في الرابع عشر من أغسطس.
لقد حصلت على كتاب بينثام [«النباتات البريطانية»]، وإنني لمعجب به بشدة، وقد أخذ ويليام (الذي ذهب للتو في رحلة بالخارج) يشير لي ببراعة إلى أنواع شتى من النباتات الجديدة (بالنسبة لي). إن المعلومات الصغيرة التي حصلت عليها في غاية الروعة. إن الأسماء الإنجليزية في المفاتيح التحليلية تثير حنقنا: فله أن يذكرها بالطبع، لكن لماذا حقا [لا] يجعلها تابعة للأسماء اللاتينية؛ كم يثير هذا غضبي! إن ويليام اقتحم الفصيلة المركبة والفصيلة الخيمية مثل البطل، وألم بالعديد منها سريعا على نحو رائع.
أقضي وقتي في العمل بضع ساعات يوميا في نبذتي، وأجد في هذا متعة وتحسينا لصحتي. إنني الآن في غاية الامتنان لك وللايل بحق لأنكما من أشارا علي بهذا؛ إذ حين أنتهي منها، سأصير قادرا على إتمام عملي في راحة بال وتأن أكثر. أقر أنني كرهت فكرة هذه المهمة، والآن أجدها غير مرضية بالمرة لعدم قدرتي على إعطاء أسبابي على كل استنتاج.
للأسف، سوف أطيل الحديث أكثر مما كنت أتوقع؛ إن إعطاء نبذة عن التباين تحت تأثير التدجين وحده سيأخذ خمسا وثلاثين صفحة من مخطوطتي؛ لكنني سأحاول ألا أدرج شيئا لا يبدو لي على قدر من الأهمية، وكان جديدا لي من قبل. إن إعطاء نبذة عن عمل غير منشور يبدو شيئا غريبا؛ لكنني أكرر أنني في غاية سعادتي أنني قد بدأت جديا فيها.
أرجو أن تحظى أنت والسيدة هوكر برحلة ممتعة للغاية. الوداع يا عزيزي هوكر.
المخلص لك
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
نورفوك هاوس، شانكلين، جزيرة وايت
الخميس [5 أغسطس، 1858]
عزيزي هوكر
أعتقد أن الملحوظة التي تلتمس العذر بشأن أسلوب النبذة كانت ملحوظة ممتازة. لكنني أكتب إليك الآن لأطلب منك أن ترسل إلي مع عودة البريد مخطوطة الأجناس الكبيرة، حتى يتسنى لي إعداد نبذة من بضع صفحات عنها. أعتقد أنك قد فرغت منها تماما، وإن لم يكن الأمر كذلك، فأنا لا أريد استعادتها تحت أي ظرف. إن ربطتها بحبل وأرسلتها كاتبا عليها أنها مخطوطة للطباعة، فأعتقد أن ذلك لن يتكلف أكثر من أربعة بنسات. أتمنى كثيرا أن تقول إنك قد قرأت هذه المخطوطة وتؤيد ما جاء فيها؛ لكنك ستسمع ذلك، قبل أن أقرأها أمام الجمعية .
ما أخبرتني به بعد حديثك مع باسك عن طول النبذة جعلني أشعر بارتياح «كبير»؛ فعدم الحاجة إلى اختصار كل موضوع بدرجة كبيرة سيجعل الجهد المبذول أقل كثيرا؛ لكن سأحاول ألا أشتت ذهن الجمهور أكثر من اللازم. أخشى أنها ستفسد أي اهتمام بكتابي، متى نشر. سيكون من المناسب جدا تقسيم النبذة إلى عدة أجزاء؛ فقد انتهيت للتو من جزء «التباين تحت تأثير التدجين» في أربع وأربعين صفحة من المخطوطة، وتكفي أمسية واحدة لقراءته، لكنني سآسف أشد الأسف إن لم يتيسر نشرها كلها معا.
ما تقوله عن النبذة بخلاف ذلك يجعلني في سرور شديد، لكنه يخيفني؛ إذ أخشى أنني لن أتمكن قط من جعلها بالجودة الكافية. لكن كم أسهب في الحديث حول أموري الشخصية معك!
أدهشني أن أرى بطاقة السير دبليو هوكر هنا منذ يومين أو ثلاثة؛ للأسف كنت بالخارج أتمشى. كذلك كتب إلي هنزلو، مقترحا أن يأتي إلى داون في التاسع من هذا الشهر، لكنني للأسف لن أرجع حتى الثالث عشر منه، ولن ترجع زوجتي إلا بعد ذلك بأسبوع؛ لذلك يؤسفني أيضا أشد الأسف أن أعتقد أنني لن أراك؛ إذ لن أود مغادرة المنزل بهذه السرعة. لقد فكرت في الذهاب إلى لندن والمرور بكيو لقضاء ساعة أو ساعتين.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
نورفوك هاوس، شانكلين، جزيرة وايت [أغسطس] [1858]
عزيزي هوكر
أكتب إليك فقط لأخبرك أن المخطوطة وصلت سليمة منذ يومين أو ثلاثة. وإنني ممتن جدا لتنقيحك الأسلوب فيها؛ فإنني أجد صعوبة لا توصف في الكتابة بأسلوب واضح. حين نلتقي لا بد أن أحادثك حول بضع نقاط تتعلق بهذا الموضوع.
لقد تحدثت عن الذهاب لمكان ما على الساحل؛ نعتقد أن هذا هو أفضل الأماكن الساحلية التي رأيناها على الإطلاق، وتروق لنا شانكلين أكثر من أماكن أخرى على ساحل الجزيرة الجنوبي، رغم أن كثيرا منها جذابا وأكثر جمالا؛ لذا، أقترح أن تفكر في هذا المكان. إن منزلنا على الساحل نفسه، لكن تتباين الأذواق كثيرا بشأن الأماكن.
إن ذهبت إلى برودستيرز ، وكانت هناك ريح قوية من ساحل فرنسا وجو صحو وجاف ودافئ، فلتنتبه؛ فربما ترى زغب نباتات شائكة ذرتها الريح عبر القناة. منذ بضعة أيام رأيت واحدا ذرته الريح للبر، ثم في غضون بضع ثوان رأيت واحدا آخر ثم ثالث، فحدثت نفسي قائلا: يا إلهي، كم عدد النباتات الشائكة الموجودة في فرنسا إذن؟ وكتبت إليك خطابا في مخيلتي. لكنني بعد ذلك نظرت إلى السحب «المنخفضة»، ولاحظت أنها لم تكن آتية للبر، فانتابني خوف أن يكون بي جنة، ثم مشيت مجتازا اللسان فوجدت الريح موازية للساحل، ووجدت على هذا اللسان نفسه مجموعة رائعة من النباتات الشائكة، التي حملتها التيارات العتية بعيدا إلى البحر، ثم أتت إلى الشاطئ مباشرة في زوايا قائمة! وذات يوم جرف التيار عددا كبيرا من الحشرات، وأعدت الحيوية لثلاثين نوعا من الخنافس غمدية الأجنحة، لكنني لا أفترض أنها أتت من فرنسا. لكن هل تترقب من أجلي ظهور زغب نباتات شائكة بينما تخطو وئيدا على الساحل؟
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
11 أغسطس [1858]
عزيزي جراي
وصلني للتو في جزيرة وايت خطابك الذي بتاريخ 27 يوليو. إنها لسعادة حقيقية وكبيرة بالنسبة لي أن أكتب إليك عن أفكاري، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فسوف أكون شخصا في غاية الجحود، بعد كل ما أسديته لي من عون لا يقدر بثمن، لو لم أفعل أي شيء طلبته مني.
لقد ناقشت في مخطوطتي الطويلة التغيرات الحديثة في المناخ وتأثيرها على الهجرة، وسأعطيك هنا «نبذة» عن «النبذة» (الأخيرة هي نبذة عن كتابي كله أعدها من أجل الجمعية اللينية). لا أستطيع إعطاءك حقائق، ولا بد أن أكتب بطريقة افتراضية، رغم أن هذا ليس هو الوضع فيما يتعلق بأي من النقاط. سأذكر فقط، حتى تصدق أن لدي «بعض» الأساس لآرائي، أن هوكر قد قرأ مخطوطتي، ورغم أنه اعترض في البداية على فكرتي الأساسية، فقد أخبرني فيما بعد أن مزيدا من التمعن ووجود حقائق جديدة جعلاه يغير رأيه.
في المرحلة القديمة، أو ربما الحديثة من العصر البليوسيني (أي، «قبل » العصر الجليدي بقليل) كانت درجة الحرارة أكثر ارتفاعا، ولا يمكن الشك في ذلك ولو قليلا، وكانت اليابسة، «بدرجة كبيرة»، تتضمن كثيرا من كائناتها الحالية؛ فكانت الأنواع إلى حد بعيد، ارتكانا إلى الأصداف، كما هي الآن. في هذه المرحلة حين كانت كل الحيوانات والنباتات تشغل مناطق أقرب للدائرتين القطبيتين بعشر إلى خمس عشرة درجة، أعتقد أن الجزء الشمالي من سيبيريا والجزء الشمالي من أمريكا الشمالية - نظرا لأنهما يكادان يكونان «متصلين» (من المحتمل جدا أن جانبي مضيق بيرينج كانا متصلين جنوبا قليلا؛ نظرا للمياه الضحلة) - كانا مأهولين بحيوانات ونباتات شبه واحدة، تماما مثل مناطق القطب الشمالي الآن، ثم صار المناخ باردا أكثر بالتدريج حتى صار كما هو الآن، بعد ذلك انفصلت الأجزاء المعتدلة من أوروبا وأمريكا كما هي الآن، وذلك فيما يختص بمسألة الهجرة. ثم جاء العصر الجليدي، ليدفع كل الكائنات الحية لأقصى الجنوب، فكانت المناطق الوسطى بل حتى الجنوبية من أوروبا مأهولة بكائنات من القطب الشمالي، ومع رجوع الدفء، زحفت كائنات القطب الشمالي ببطء لأعالي الجبال لما سلب منها الجليد؛ ونرى الآن على قممها بقايا حياة نباتية وحيوانية كانت متصلة فيما مضى. هذه نظرية إيه فوربس، لكن لي أن أضيف أنني قد كتبتها قبل أن ينشرها بأربع سنوات.
لدي «اعتقاد» مبهم، دفعتني إليه بعض الحقائق، بأنه كان ثمة عصر أدفأ «قليلا» بين العصر الجليدي والعصر الحالي؛ وبناء على مبادئ التعديل الخاصة بي، أرى أن العديد من أنواع أمريكا الشمالية التي تشبه تلك التي في أوروبا تشابها «وثيقا»، قد صارت معدلة منذ العصر البليوسيني، حين كان ثمة اتصال شبه حر بين العالمين القديم والجديد في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية. لكن يوجد هنا اعتبار أهم؛ فثمة مجموعة كبيرة من الأدلة الجيولوجية على أن العالم بأسره كان أكثر برودة خلال العصر الجليد؛ لقد استنتجت ذلك، منذ عدة سنوات، من ظاهرة الجلاميد التي جرفتها الأنهار الجليدية التي لاحظتها باهتمام في الساحلين الشرقي والغربي لأمريكا الجنوبية. هنا أستطيع أن أعتقد بكل جرأة بأنه في أوج العصر الجليدي، «وحين كانت كل الكائنات المدارية حتما في معاناة كبيرة»، انتقلت عدة أشكال من المناطق المعتدلة ببطء إلى قلب المناطق المدارية، بل بلغت نصف الكرة الجنوبي؛ وتغلغلت قلة من أشكال المناطق الجنوبية في اتجاه معاكس شمالا. (فمرتفعات جزيرة بورنيو بها أشكال أسترالية، والحبشة بها أشكال من رأس الرجاء الصالح.) وأينما كانت هناك أرض «مرتفعة» شبه متصلة، كانت هذه الهجرة متيسرة لدرجة هائلة؛ ومن هنا جاءت الطبيعة الأوروبية لنباتات أرخبيل تييرا ديل فويجو وقمم سلاسل جبال أمريكا الجنوبية؛ والشيء نفسه على جبال الهيمالايا. ومع ارتفاع درجة الحرارة، زحفت كل الكائنات الدخيلة الخاصة بالمناطق المعتدلة لأعلى الجبال؛ ومن هنا جاءت الأشكال الأوروبية التي على جبال نيلجيري وسيلان وقمة جاوا وجبال أورجان في البرازيل. لكن لما كانت تلك الكائنات الدخلية محاطة بأشكال جديدة فقد كانت معرضة جدا للتحسين أو التعديل عن طريق الانتقاء الطبيعي، لتتأقلم مع الأشكال الجديدة التي كان عليها التنافس معها؛ ومن ثم، لا تتطابق أغلب الأشكال التي على جبال المناطق المدارية، لكنها أشكال «نموذجية» لنباتات المناطق المعتدلة الشمالية.
وثمة مجموعات من الحقائق الشبيهة فيما يتعلق بالكائنات البحرية. سيبدو كل هذا لك تهورا شديدا، وقد يكون كذلك، لكنني متأكد أنه ليس بالتهور الذي قد يبدو لك في البداية؛ لم يستسغه هوكر البتة كذلك في البداية، لكنه غير قناعاته على نحو كبير. أعتقد، استنادا إلى الثدييات والبحر الضحل، أن اليابان كانت متصلة بالبر الرئيسي للصين خلال فترة ليست ببعيدة، ثم تأثرت اليابان بالهجرة شمالا وجنوبا، قبل وأثناء وبعد العصر الجليدي، كما حدث في المناطق المناظرة في الصين والولايات المتحدة.
أود أكثر من أي شيء أن أعرف ما إن كانت لديك أي كائنات جبلية من اليابان، وبم تتميز. لقد كان أسلوب الكتابة سيئا في هذا الخطاب، لكن ربما سيكون كافيا لتوضيح ما أراه فيما يتعلق بتغيرات درجات الحرارة والهجرات الرئيسية الحديثة.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر [داون] 6 أكتوبر، 1858 ... إن كان لديك متسع من الوقت أو باستطاعتك تدبره، فسأود كثيرا أن أسمع أخبارك وأخبار السيدة هوكر والأطفال. أين ذهبتم، وماذا فعلتم وتفعلون؟ أريد بيانا شاملا.
لا يمكنك أن تدرك مقدار سعادتي بزيارتك القصيرة هنا؛ فقد كان لها تأثير طيب جدا علي. إن كان هارفي ما زال برفقتك، فأرجو أن تبلغه أرق تحياتي. ... أعمل بدأب شديد لإنجاز نبذتي، إلا أنها وصلت لطول غير معقول، لكنني حتى أجعل نظريتي واضحة تماما (وحتى لا أعرض بإيجاز أكثر من حقيقة واحدة أو اثنتين، وأمر بالصعوبات مرورا عابرا)، لا أستطيع أن أجعلها أقصر من ذلك. وأعتقد أنها ستأخذ مني ثلاثة أو أربعة أشهر؛ فإنني أعمل على مهل، رغم أنني لا أتوقف عنه بتاتا. لا يمكنك تخيل كم خدمتني حين جعلتني أكتب هذه النبذة؛ فرغم أنني كنت أعتقد أن الأمور كلها جلية لدي، فإنها جعلتني أستوضح أفكاري كثيرا، بأن جعلتني أزن الأهمية النسبية لعناصرها المتعددة.
ما زلت أقرأ بشغف شديد مقالك الرائع (حسبما أراه) عن آر براون في دورية «ذا جاردينرز كرونيكل».
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 12 أكتوبر، 1858 ... لقد أرسلت إلى والاس ثماني نسخ [من البحث المشترك بينهما] بالبريد، وسأحتفظ بالنسخ الأخرى له؛ إذ لا يجول بخاطري أي أحد لأرسل إليه أيا منها.
أرجوك ألا تعلن معارضتك الشديدة للانتقاء الطبيعي، حتى تقرأ نبذتي؛ فرغم أنني أعتقد أنك ستلاحظ «العديد» من الصعوبات التي لم تخطر لي قط، فإنك لا يمكن أن تكون قد فكرت في الموضوع مليا كما فعلت.
أتوقع أن تصير نبذتي كتابا صغيرا، وهو الذي سيتعين نشره على نحو منفصل.
يا له من عمل كبير ورائع ذلك الذي تقوم به!
صديقك للأبد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 13 أكتوبر، 1858 ... لقد استأت من نفسي لما طلبته منك من «ألا تعلن معارضتك الشديدة للانتقاء الطبيعي». آسف أنني قد ضايقتك، رغم اهتمامي الشديد بالخطاب التي سترد به. لقد كتبت العبارة بلا تفكير. لكن الحقيقة أنني قد عودت نفسي ، من ناحية بسبب استجوابي من قبل معارفي الذين ليسوا من علماء التاريخ الطبيعي، على توقع المعارضة بل الاحتقار، حتى إنني نسيت للحظة أنك الشخص الوحيد الذي طالما لاقيت منه العطف باستمرار؛ فلتصدقني أنني لم أنس للحظة كم من عون تلقيته منك. إنك على حق تماما أنني لم يساورني أدنى شك قط أن تخميناتي كانت بمثابة «شرك» لك؛ وبالتأكيد كنت أعتقد حتى وقت قريب جدا أن مخطوطتي لم تترك أثرا عليك، وكثيرا ما أدهشني هذا. ولم أكن أعلم أنك قد تحدثت حديثا عاما حول عملي مع أصدقائنا، عدا الصديق العزيز الغالي فالكونر، الذي أخبرني ذات مرة منذ عدة سنوات أن الشر الذي سآتي به يفوق الخير الذي سيقدمه عشرة من علماء التاريخ الطبيعي، وأنني كدت بالفعل أن أفسدك! إن كل هذا أمور أنانية حماقة، وأنا أكتبه فقط خوفا من أن تعتقد أنني جاحد لعدم تقديري لتعاطفك وإدراكي له؛ وهو ما يعلم الرب أنه ليس صحيحا. إنها لعنة أن يصير إنسان منهمكا للغاية في أي موضوع كما هو الحال بالنسبة لي.
كنت في لندن أمس لعدة ساعات مع فالكونر، وقد ألقى علي محاضرة رائعة حول عمر الإنسان. إننا لسنا حديثي العهد؛ فبإمكاننا التفاخر بنسب يعود بعيدا إلى زمن معاصر لأنواع منقرضة. وهو لديه دليل رائع عبارة عن ضرس طاحن كبير استخرج من صخور تنتمي للعصر الثالث.
إنني منهك القوى تماما، وسوف أذهب يوم الاثنين القادم لاستعادة عافيتي بالعلاج المائي في مور بارك.
عزيزي هوكر، صديقك المحب
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
نوفمبر، 1858 ... كنت قد تعهدت ألا أتحدث إليك عن نبذتي التي يبدو أنها لن تنتهي مرة أخرى؛ إذ أدرك أنني ضايقتك بشأنها أكثر مما ينبغي، لكن حيث إنك تشير إلى ضرورة الإسراع بنشرها، فسأقول إن علي تلخيص الفصلين اللذين عن الغريزة والتهجين، وهو ما قد يستغرق أسبوعين لكل منهما. أما المواد التي لدي حول علم الحفريات والتوزيع الجغرافي والقرابات، فأعتقد أن إعداد كل منها سيستغرق مني ثلاثة أسابيع ؛ لأنها أقل اكتمالا؛ وبذلك لن أنتهي من العمل حتى أبريل على أقل تقدير، وهكذا ستصير نبذتي في حجم كتاب صغير. إنني لا أعطي قط أكثر من مثال أو مثالين، وأمر على كل الصعوبات بإيجاز، ورغم ذلك لا أستطيع أن أجعل النبذة أقصر من ذلك، حتى تكون مقبولة، ومع ذلك فأنا أجد أنها ستطول حتى تخرج في شكل كتاب صغير. [خلال هذا الوقت تقريبا، أحيا أبي معرفته القديمة عن الخنافس بمساعدة أولاده في جمعها؛ فقد أرسل خطابا قصيرا إلى صحيفة «ذا إنتومولوجيستس ويكلي إنتيليجينسر»، بتاريخ 25 يونيو، 1859، معلنا عن الإمساك بخنافس ليسينياس سيلفويدز
Licinus Silphoides
وكلايتوس ميستيكوس
Clytus mysticus
وباناجيوس كوادريبوستولاتوس
. يبدأ الخطاب بالكلمات التالية: «نحن ثلاثة جامعين صغار جدا، جمعنا مؤخرا من أبرشية داون ...» وتحمل توقيع ثلاثة من أبنائه، لكن كان واضحا أنهم لم يكتبوه. أتذكر جيدا السرور الذي كان يتملكني وأنا أعطي أبي زجاجتي التي بها خنافس ميتة ليذكر أسماءها، والإثارة التي كان يشاركني إياها كلما اتضح أن إحداها غير شائعة. الخطابان التاليان إلى السيد فوكس (13 نوفمبر، 1858)، وإلى السير جون لاباك، يوضحان هذه النقطة]:
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، 13 نوفمبر [1858] ... يدرس ابني ويليام الآن في كلية كرايست، قاطنا بالغرفة الذي تعلو غرفتك. اندهش خادمي القديم في الكلية، إمبي، لمعرفة أنه ابني، وسأل بسذاجة شديدة، قائلا: «لماذا؟ هل تزوج منذ فترة طويلة؟» يا لها من ساعات هنيئة حين كنت آتيك وأحتسي معك القهوة يوميا! تراودني ذكريات الأيام الخوالي لأن ابني الثالث بدأ للتو في جمع الخنافس، والتقط منذ عدة أيام خنفساء مدفعية
Brachinus crepitans ، فذكرتني بذكرى ويتلسي مير التي لا تنسى. وقد شعرت بحماس شديد حين التقط خنفساء ليسينياس - فهي جائزة غير معروفة لي.
من تشارلز داروين إلى جون لاباك
الخميس [قبل 1857]
عزيزي لاباك
لا أعلم إن كان لديك اهتمام بالخنافس، لكن تحسبا لذلك أرسل إليك في زجاجة هذه الخنفساء التي لا أذكر أنني رأيتها قط، إلا أنه في التحدث عن ذكريات منذ خمسة وعشرين عاما بعض الحماقة. حينما نلتقي، يمكنك إخباري ما إن كنت تعرفها أم لا.
حين أقرأ عن التقاط خنافس نادرة، أشعر كأنني جواد حرب عجوز سمع صوت بوق الحرب - أليس هذا تشبيها كريما لعالم حشرات متهالك؟ إنه يكاد يجعلني أتوق حقا للجمع ثانية. الوداع. «فليحي علم الحشرات»! إنه النخب الذي شربت من أجله عدة كئوس من النبيذ في كامبريدج. «فليحي علم الحشرات» مرة أخرى. ملحوظة: «لم» أعد أحتسي أي كئوس مليئة بالنبيذ مؤخرا.
صديقك
سي دي
من تشارلز داروين إلى هربرت سبنسر
داون، 25 نوفمبر [1858]
سيدي العزيز
أرجو أن تسمح لي بأن أشكرك شكرا جزيلا على هدية مقالاتك الكريمة جدا. لقد قرأت بالفعل العديد منها باهتمام بالغ. تبدو لي ملحوظاتك عن الحجة العامة لما يسمى بنظرية التطور جديرة بالتقدير. وإنني حاليا أعد نبذة عن عمل أكبر حول التغيرات التي تلحق بالأنواع، لكنني أتناول الموضوع بصفتي عالم تاريخ طبيعي فحسب، وليس من وجهة نظر عامة، فيما عدا ذلك، أرى أنه لم يكن ثمة إمكانية لتحسين حجتك، وربما كان لي أن أقتبس منك مستفيدا من ذلك استفادة كبرى. كذلك أثار مقالك حول الموسيقى اهتمامي بشدة؛ فطالما أوليت هذا الموضوع التفكير، وقد توصلت للاستنتاج نفسه تقريبا، رغم أنني غير قادر على دعم الفكرة بأي تفاصيل. علاوة على ذلك، في مصادفة غريبة، ظل التعبير عن الانفعالات لسنوات من المواضيع الملحة قيد التخمين الفضفاض، وأنا لا بد أن أتفق معك تماما أن عملية التعبير برمتها تنطوي على جانب بيولوجي ما. أرجو أن أستفيد من مقالك النقدي عن الأسلوب، وبأسمى آيات الشكر، أرجوك يا سيدي العزيز، أن أظل.
الممتن لك حقا
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 24 ديسمبر [1858]
عزيزي هوكر
إن خبر زيادة راتبك وإعفائك من إيجار المنزل لهو خبر مفرح، وقرار محمود للحكومة. تكلفت حجرتي (التي مساحتها 28 × 19)، مع حجرة مقسمة فوقها، مع «كل التجهيزات» (والطلاء)، ومن دون أثاث، ومع الجص الخارجي، 500 جنيه إسترليني تقريبا. إنني شديد السعادة بهذا الخبر.
لا شك أن الحقائق التي لديك حول التوزيع لافتة جدا للنظر. يحضرني جيدا أنه من بين الحقائق الكثيرة المدهشة في أعمالك المتعددة، لم أتحير لسنوات من شيء أكثر من القول بأن الهجرة كانت أغلبها من الشمال إلى الجنوب، وليست في الاتجاه المعاكس. وأخيرا أقنعت الآن «نفسي» (لكن هذا يختلف تماما عن إقناع الآخرين) بهذا الأمر، لكنني سأحتاج إلى وضع كتاب صغير لأعرب عما يدور بخلدي بالكامل في هذا الموضوع. ظللت لفترة طويلة دون أن أرى علاقة أحد الاستنتاجات التي كنت قد توصلت إليها بهذا الموضوع. إنه يتمثل في أن الأنواع التي تعيش في منطقة كبيرة جدا؛ ومن ثم، توجد بأعداد كبيرة، والتي تعرضت لأقسى منافسة مع أشكال أخرى عديدة، ستصل، عن طريق الانتقاء الطبيعي، إلى مرحلة أعلى من الكمال، من تلك التي تعيش في منطقة صغيرة. وهكذا أفسر الكثير جدا من الحالات الشاذة، أو ما يجوز تسميتها «الحفريات الحية» التي تعيش الآن في المياه العذبة فقط، بعد أن تغلبت عليها أشكال تطورت بصورة أكبر في البحر وأبادتها؛ ومن ثم، كل أسماك الجانويد هي أسماك مياه عذبة، وكذلك سمكة السمندل الحرشفي وخلد الماء، وغيرهما. أرى نباتات أوروبا وآسيا، لما كانتا أكبر منطقتين، الأكثر «تطورا»؛ ومن ثم فهي قادرة على الصمود أمام النباتات الأسترالية الأقل كمالا؛ [في حين] أنها لم تستطع الصمود أمام النباتات الهندية، فلتنظر كيف تستسلم كل كائنات نيوزيلاندا أمام كائنات أوروبا. أظن أنك ستقول إن كل هذا محض هراء، لكنني أعتقد أنه حقيقة راسخة.
أظن أنك سوف تقر بأن ازدهار النباتات الأسترالية في الهند ليس دليلا على أنها استطاعت الصمود أمام عشرة آلاف طارئة طبيعية آتية من نباتات أخرى وحشرات وحيوانات، إلخ، إلخ. أما مسألة جنوب غرب أستراليا ورأس الرجاء الصالح، فسألوذ بالصمت حيالها، وسأكتفي بصب اللعنات على المسألة برمتها. ... تقول إنك تود أن ترى مخطوطتي، لكنك قرأت فصلي الطويل عن العصر الجليدي واستحسنته، كما أنني لم أكتب بعد نبذتي حول موضوع التوزيع الجغرافي برمته، ولن أبدأها قبل أسبوعين أو ثلاثة. لكن «سيسرني» أن أرسل لك النبذة أو المخطوطة القديمة، خاصة فصل النبذة.
لقد كتبت الآن 330 ورقة من نبذتي، وستحتاج إلى 150-200 [أخرى]؛ هكذا سيصير مجلدا مطبوعا من 400 صفحة، ولا بد أن يطبع بصورة مستقلة، وهو ما أظنه سيكون أفضل من عدة نواح؛ فالموضوع يبدو لي كبيرا جدا حقا على أن يناقش في أي جمعية، وأعتقد أن موضوع الدين سيطرحه رجال أعرفهم جيدا.
إنني أفكر في مجلد من قطع الاثني عشر، مثل الطبعة الرابعة أو الخامسة من كتاب لايل، «مبادئ».
لقد كتبت خطابا طويلا لدرجة مخجلة؛ لذا، الوداع الآن يا عزيزي هوكر.
صديقك دائما
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 20 يناير، 1859
عزيزي هوكر
أود كثيرا أن أستعير كتاب هير ذات يوم في المستقبل؛ فأنا لا أريد حاليا قراءة أي شيء محير حتى أنتهي من نبذتي. سيجعلني خطابك الأخير العظيم الفوائد أنتبه بشدة إلى النقاط التي ناقشناها والتي كان بها إفراط في التخمين.
حين تقول إنك لا تستطيع السيطرة على تسلسل الأفكار، أدرك جيدا أنها مريبة ومبهمة لدرجة كبيرة يصعب معها السيطرة عليها. كثيرا ما خالجني ما تسميه الشعور بالخزي من الاستغراق أكثر فأكثر في الشك كلما فكرت في الحقائق المتصلة بنقاط يحيط بها الشك ومنطقها. لكنني كثيرا ما أعزي نفسي بالتفكير في المستقبل، وبالإيمان المطلق أن المشكلات التي نتوغل فيها الآن، ستحل ذات يوم؛ وإننا إن مهدنا الأرض فحسب، فسنكون قد قدمنا خدمة، حتى إن لم نجن حصادا.
أتفق معك تماما أن اختلافنا بشأن وسائل الانتشار حول «الدرجة» فحسب، وأعتقد أننا متفقان لحد معقول. إنك تعبر عن التحول الذي جرى لقاراتنا بأسلوب مبهر جدا، وأنا أتفق معك تماما في كل ما قلته، لكنني يساورني الشك فقط بشأن المحيطات.
كذلك أتفق معك تماما (فإنني في حالة مزاجية مستعدة جدا للاتفاق) في «هجومك على شخصي»، بشأن علو النباتات الأسترالية بناء على عدد أنواعها وأجناسها، لكن ها هو يأتي أحد عناصر الشك الجبارة المزعجة، ألا وهو تأثير الانعزال.
النقطة الوحيدة التي «أجرؤ» على الاعتراض عليها قليلا تتعلق بحالة النباتات المستوطنة في أستراليا . أعتقد أن مولر يتحدث عن انتشارها الكبير بعيدا عن الأراضي المزروعة، وأجد صعوبة في تصديق أن نباتاتنا الأوروبية قد تشغل أماكن قاحلة جدا لا تستطيع النباتات الأصلية العيش فيها. سوف أحتاج الكثير من الأدلة لتحملني على تصديق هذا. لقد كتبت هذا الخطاب لأشكرك فحسب؛ ولذا، فهو لا يحتاج ردا كما ترى.
لقد سمعت هذا الصباح من فيليبس ما أدهشني وهو أن مجلس الجمعية الجيولوجية قد منحني ميدالية وولستن!
صديقك للأبد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 23 يناير، 1859 ... مرفق طيه خطابان من والاس، أحدهما لي والآخر لك. تروق لي للغاية الروح التي كتبا بها. لم أكن متأكدا البتة مما سيقوله. لا بد أنه رجل دمث الخلق. أرجو أن تعيدهما لي؛ فيجب أن يعلم لايل كم هو راض تماما. جعلني هذان الخطابان أرى بوضوح كم أدين لك وللايل في تصرفكما الطيب والكريم جدا في هذه المسألة بالكامل. ... كم سأكون مسرورا حين تكتمل النبذة؛ إذ حينها يمكنني أن أستريح!
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 25 يناير [1859]
سيدي العزيز
إنني غاية في السعادة بتلقي خطابك لي وخطابك للدكتور هوكر منذ ثلاثة أيام؛ فلتسمح لي أن أعرب عن قدر إعجابي الصادق بالروح التي كتبا بها. ورغم أنني ليس لي أي علاقة مطلقا بدفع لايل وهوكر للقيام بما اعتقدا أنه تصرف عادل، فإنني بطبيعة الحال لم أستطع التغلب على لهفتي لمعرفة كيف سيكون انطباعك. وإنني أدين لك ولهما كثيرا بطريقة غير مباشرة؛ إذ يكاد يغالبني اعتقاد أن رأي لايل سيثبت صحته، وأنني ما كنت سأتم عملي الأكبر قط؛ فقد وجدت العمل في النبذة شاقا بما يكفي في ظل اعتلال صحتي، لكنني الآن، حمدا للرب، في الفصل قبل الأخير منها. ستأتي نبذتي في مجلد صغير من 400 أو 500 صفحة. ومتى نشرت، سوف أرسل لك نسخة بالطبع، وسترى حينئذ ما أقصده عن الدور الذي أعتقد أن الانتقاء قام به مع الكائنات الداجنة. إنه دور مختلف جدا، كما تفترض، عن ذلك الذي يقوم به «الانتقاء الطبيعي». أرسلت على عنوان هذا الخطاب نفسه، نسخة من دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي»، ثم أرسلت ما يقرب من ست نسخ من البحث. ولدي عدة نسخ أخرى تحت أمرك.
يسرني معرفة أنك تهتم بمسألة بناء الطيور للأعشاش. لقد فعلت هذا، لكن بهدف واحد دون غيره تقريبا، ألا وهو إثبات أن الغرائز تتباين، وهكذا استطاع الانتقاء التأثير فيها وتحسينها. ثمة غرائز أخرى قليلة، إن جاز القول، يمكن حفظها في متحف.
أشكرك شكرا جزيلا على عرضك الانتباه لمسألة خطوط الخيول. إن كان هناك أي حمير، فلتضفها للدراسة رجاء. سررت لسماع أنك قد جمعت أقراص عسل؛ هذه من هواياتي الخاصة، وأعتقد أن باستطاعتي إلقاء بعض الضوء على الموضوع. إن استطعت جمع أشكال متكررة، دون أن يكون المقابل باهظا جدا، فسيسرني الحصول على بعض العينات مع بعض النحل من كل نوع. إن الأقراص الناشئة التي في مرحلة النمو والشاذة وتلك التي لم يكن بها شرانق، هي الأجدى من أجل القياسات والبحث. ولا بد أن تكون حوافها محمية جيدا ضد الاحتكاك.
كل من رأيته رأى أن بحثك مكتوب بطريقة جيدة جدا وشائق للغاية. إنه جعل أجزائي (المكتوبة في 1839؛ أي قبل عشرين عاما من الآن)، التي يجب أن أقول معتذرا إنني لم أكتبها قط بهدف النشر، تتضاءل أمامه.
لقد سألتني عن رأي لايل. أعتقد أنه محتار بعض الشيء، لكنه لا يستسلم، ويتحدث في رعب، إلي في كثير من الأحيان، عما سيكون، وما سيلحق بالطبعة التالية من كتاب «مبادئ»، لو كان «مضللا». لكنه في غاية الصراحة والأمانة، وأعتقد أنه سينتهي به الحال «مضللا». أما الدكتور هوكر، فقد أوشك أن يصبح مخالفا للإجماع مثلك أو مثلي، وإنني أراه «إلى حد كبير» أجدر حكم في أوروبا.
من كل قلبي أتمنى لك الصحة والتوفيق التام في كل مساعيك، ويعلم الرب، إن كان النجاح يتحقق بسبب العزم والنشاط الشديدين، فأنت أكثر من تستحقه بشدة. أما أنا فأرى حياتي المهنية شبه منتهية؛ فإن استطعت نشر نبذتي وربما عملي الأكبر الذي يتناول الموضوع نفسه، فسأرى أن مسيرتي قد انتهت.
لك مني كل الصدق والوفاء يا سيدي العزيز
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 2 مارس [1859]
عزيزي هوكر
إليك حقيقة غريبة، وإن كانت بسيطة جدا؛ أعتقد أنه يكاد يتعذر أن نجد طائرا يبدو أن علاقته قد تكون منعدمة بالتوزيع أكثر من طائر النوء. لقد شرح السير دبليو ميلنير، من سانت كيلدا، بعض أفراخ النوء الصغيرة، ووجد بذورا كبيرة وغريبة في حوصلاتها؛ أشك أن آباءها التقطتها من تيار الخليج. يبدو أنه يولي تلك البذور أهمية كبيرة. وقد طلبت منه (لكنني أشك أنه سيفعل) أن يرسل بذرة إلى السير ويليام هوكر (لقد ذكرت اللقب لأجل الأبهة) لأرى إن كان أي منكما يستطيع التعرف على اسمها وبلدها الأصلي. هلا ذكرت «رجاء» هذا الأمر للسير ويليام هوكر، وإن وصلت البذرة بالفعل، فهلا تفضلت علي بإعادتها إلى «البارونيت السير دبليو ميلنير، نانابلتون، تادكاستر» في خطاب مسجل، وسوف أسدد أنا رسوم البريد. ولترفق قصاصة الورق التي بها الاسم والبلد إن استطعت، وتخبرني بالأمر بعد ذلك. وأرجو أن تسامحني على تكليفك بهذه المشقة الكبيرة؛ فهي من الحقائق الصغيرة الغريبة التي تستهويني.
فلننتقل الآن إلى موضوع آخر. لقد انتهيت من نبذة الفصل الذي يتناول التوزيع الجغرافي؛ حيث إنه مرتبط بموضوعي. أود كثيرا أن تقرأها؛ لكنني أقول هذا معتقدا أنك لن تفعل، إن كنت، وهو الحال على ما أعتقد، مشغولا جدا. أقسم بشرفي إنني لن أشعر بإهانة، وأرجوك بحق ألا تقرأها، إن كان هذا سيزعجك. وإنما أريد هذا لأنني أشعر بعدم أمان في هذا الموضوع بوجه خاص، وقد تكون الأخطاء تسللت إليه. كما أود كثيرا أن أعلم أكثر الأجزاء التي ستعترض عليها «بشدة». أعلم أننا نختلف بدرجة كبيرة، ولا بد لنا من ذلك، في عدة نقاط. وأخيرا، أود أن أعلم على الخصوص ما إن كنت قد أخذت منك أي شيء، تود الاحتفاظ به حتى تنشره بنفسك؛ لكن أعتقد أن أغلب ما اقتبسته كان من أعمالك المنشورة، ورغم أنني اعترفت مرات عدة بمعاونتك، في هذا الفصل ومواضع أخرى، فإنني مدرك أنه ليس من الممكن لي أن أفعل هذا بالقدر الكافي في النبذة. لكن فلتسمح لي أن أقول مرة أخرى إنه لا يجب أن تعرض قراءته إن كان الأمر مضجرا جدا لك. إنه طويل، وسيصير تسعين صفحة تقريبا، حين ينسخ بالكامل، على ما أتوقع.
أرجو أن تكونوا جميعا بخير. لقد كان لمور بارك بعض التأثير الطيب علي.
مع محبتي
سي داروين
ملحوظة:
فلتسامحني السماء، إليك سؤالا آخر: لأي درجة أنا مصيب في افتراض أن أهم السمات من أجل التقسيمات الرئيسية في النباتات هي السمات الجنينية؟ أفترض أن البذرة نفسها لا يمكن اعتبارها كذلك، ولا حتى سويداء البذور، إلخ. لكن أزعم أن الفلقات وموضعها، وموضع الساق الجنينية والجذر الجنيني، وموضع الجنين بأكمله وشكله في البذرة سمات جنينية، فلأي درجة تصل أهمية هذه السمات؟ أتمنى أن أستشهد بالنباتات كمثال للأهمية الشديدة للسمات الجنينية في التصنيف. أما عالم الحيوان، فلا يوجد شك في الأمر بالطبع.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 5 مارس [1859]
عزيزي هوكر
أشكرك كثيرا على البذرة ... من الغريب أن طيور النوء في سانت كيلدا تتغذى فيما يبدو على بذور نمت في الهند الغربية. لا بد من الإشارة إلى ما إن كانت من البذور التي وردت إلى إنجلترا أم لا. إنني سعيد «للغاية» أنك ستقرأ مخطوطتي الخاصة بالتوزيع الجغرافي؛ إنها تنسخ الآن، وستستغرق (في اعتقادي) عشرة أيام أو نحو ذلك حتى تتم، وسوف ترسل بمجرد الانتهاء منها.
سيسرني كثيرا سماع أفكارك بشأن السمات الجنينية للنباتات؛ ستدرك من الجملة التي أرسلتها إليك أنني أريد ردا من جملة واحدة فقط؛ وهو إن كانت الحقائق كما أفترض أم لا، وسوف أعرف هذا من خطابك، والذي سأشكرك بشدة على إرساله.
كنت في حال متردية للغاية، في الأيام الثلاثة الماضية، حتى إنني أشك أحيانا ما إن كنت سأنجز مجلدي الصغير أم لا، رغم أنه أوشك جدا على الانتهاء.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 15 مارس [1859]
عزيزي هوكر
إنني «سعيد» بما تقوله عن فصلي؛ فإنك لم تهاجمه كما خشيت أن تفعل. لا يبدو أنك اكتشفت «العديد» من الأخطاء. لقد كتبته كله تقريبا من الذاكرة؛ ومن ثم، كنت في خوف كبير. لقد كان من الأفضل لو كان العمل قد كتب كاملا بإتقان أولا، ثم كتبت عنه نبذة فيما بعد. أعتقد أنه لا بد أن يحتوي على أخطاء كثيرة في بعض من آرائه العامة. سأمر سريعا فقط على بعض النقاط التي في خطابك، لكن لا تكلف نفسك عناء الرد إلا إن كان لديك شيء مهم لتقوله. ... أود أن أعلم ما إن كنت مندهشا من حالة توطن الخفافيش في الجزر؛ إنني في اندهاش كبير منها؛ ربما لدرجة مفرطة.
مع خالص شكري، صديقك دائما
سي داروين
ملحوظة:
لا يمكنك أن تدرك كم أدخلت علي من راحة بقراءة هذا الفصل؛ إذ كنت منه في شك عظيم.
سأنتهي غدا من فصلي الأخير (باستثناء التلخيص) حول القرابات وتشابه النسق وعلم الأجنة، إلخ، وتبدو لي الحقائق مؤيدة «جدا» لقابلية الأنواع للتغير.
كنت شغوفا جدا بإنجاز هذا الفصل.
والآن، سأبدأ، حمدا للرب، مراجعة الفصول الأولى السابقة من أجل الطباعة.
غير أن صحتي الآن في تدهور شديد جدا، لدرجة أن حتى هذا سيأخذ مني وقتا طويلا.
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون 24 [مارس] [1859]
عزيزي فوكس
كان كرما شديدا منك أن تكتب إلي في خضم كل متاعبك، رغم أنه يبدو أنك قد تجاوزت بعضا منها بتعافي زوجتك وتحسن صحتك. لم أكن قد سمعت مؤخرا شيئا عن صحة أمك، ويؤسفني ما سمعته عنها. لكن حيث إنها لا تعاني كثيرا، فهذا أهم ما هنالك؛ إذ أعتقد أن كبار السن لا يعيرون الحياة أهمية كبيرة. لا بد أنها كانت فترة عسيرة عليك مع اضطرارك للسفر والعودة أكثر من مرة.
كلنا جميعا على ما يرام، وصحة ابنتنا الكبرى في تحسن. أما عملي، فقد أتممته، وأخيرا أنقح فصولي من أجل الطباعة، وأرجو الحصول على بروفات الطباعة خلال شهر أو ستة أسابيع. أشعر بسأم من العمل. من الغريب جدا أنني لا أشعر أنني أضني ذهني بالعمل، لكن تجبرني الحقائق على استخلاص أن ذهني لم يخلق البتة ليفكر كثيرا. لقد عقدنا العزم على الذهاب إلى إلكلي، أو مكان شبيه، لشهرين أو ثلاثة، بعد أن أنتهي من العمل، لأرى إن كنت أستطيع استعادة عافيتي بأي طريقة؛ فمن المؤكد أنها ضعفت مؤخرا، وأعجزتني عن فعل أي شيء. إنك تجور علي باعتقادك أنني أعمل من أجل الصيت؛ إنني أقدره إلى حد ما، لكن إذا كنت أعرف نفسي، فإنني أعمل مدفوعا بغريزة ما لمحاولة تبين الحقيقة. كم سأكون سعيدا إن استطعت أن تأتي إلى داون يوما ما، لا سيما حين يتحسن بي الحال قليلا؛ فما زلت أرجو هذا. لقد نصبنا طاولة بلياردو، وأرى أن فيها فائدة عظيمة لي، وأنها تخرج موضوع الأنواع الشنيع من رأسي. الوداع يا صديق العمر العزيز.
مع حبي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 28 مارس [1859]
عزيزي لايل
إن ظللت بحال جيد إلى حد مناسب، فأرجو أن أستطيع طباعة مجلدي قريبا في مايو. لما كان الأمر كذلك، أود بشدة أن ألتمس منك نصيحة صغيرة. بناء على جملة جاءت في خطاب السيدة لايل، يخيل لي أنك قد تحدثت إلى موراي. هل هذا صحيح؟ وهل هو على استعداد لنشر نبذتي؟ إن أخبرتني ما إن كان أي شيء قد حدث، وبما حدث، فسوف أكتب إليه حينذاك. هل يعلم بموضوع الكتاب من الأساس؟ ثانيا، هل تستطيع نصحي ما إن كان من الأفضل ذكر شروط النشر التي سوف أفضلها أم أطلب منه أن يقترح هو شروطا أولا؟ وما قد تكون الشروط المناسبة للنشر في اعتقادك؟ تقاسم الأرباح، أم ماذا؟
أخيرا، هلا تكرمت بالاطلاع على العنوان المرفق طيه وإعطائي رأيك وأي اعتراضات؛ يجب أن تتذكر أنني، إن ظللت في صحة جيدة وكان الأمر جديرا أن أفعله، لدي كتاب كامل أكبر كثيرا قارب النهاية حول الموضوع نفسه.
ستصير نبذتي في نحو خمسمائة صفحة في حجم الطبعة الأولى من كتابك «عناصر الجيولوجيا».
أرجو أن تسامحني على إزعاجك بالاستفسارات السابقة؛ فلن تلقى المزيد من الإزعاج حول هذا الموضوع. آمل أن الحياة تسير معك على ما يرام، وأن تحقق النجاح في أعمالك المختلفة.
إنني أكد جدا في العمل لدرجة لم أعتدها، وأتوق لأن أنتهي منه وأكون حرا وأحاول استعادة بعض من عافيتي.
عزيزي لايل، صديقك دائما
سي داروين
أتقدم إليك بخالص آيات الشكر على تسلمك ميدالية وولستن بالنيابة عني.
ملحوظة:
هل تنصحني أن أخبر موراي أن كتابي لا يحيد عن الفكر التقليدي إلا بقدر ما يحتم الموضوع ذلك، وأنني لا أناقش أصل الإنسان، وأنني لا أسوق أي نقاش عن سفر التكوين، إلخ، إلخ، وأنني لا أعطي إلا حقائق وما أسفرت عنه من استنتاجات تبدو لي معقولة.
أم الأفضل ألا أقول لموراي «شيئا»، وأن أفترض أنه لا يمكنه الاعتراض على هذا القدر من الابتداع، الذي لا يزيد في الواقع عن أي دراسة جيولوجية تعارض سفر التكوين معارضة مباشرة؟
المرفق:
نبذة عن مقال
حول
أصل
الأنواع والضروب
عن طريق الانتقاء الطبيعي
بقلم
تشارلز داروين، ماجستير في الآداب
زميل الجمعية الجيولوجية والجمعية الملكية والجمعية اللينية
لندن:
إلخ، إلخ، إلخ، إلخ.
1859.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 30 مارس [1859]
عزيزي لايل
كنت كريما لدرجة فاقت الحدود في كل ما فعلته؛ فإنك لم توفر علي كثيرا من العناء وبعض القلق فحسب، بل لقد فعلت أيضا الأمر كله على نحو أفضل مما كنت سأستطيع أنا بمراحل. وإنني سعيد جدا بكل ما قلته بشأن موراي. وسوف أكتب إليه اليوم أو غدا، وبعدها بفترة قصيرة سأرسل إليه طردا كبيرا بالمخطوطة، لكنني للأسف لن أستطيع فعل هذا قبل أسبوع؛ حيث إن الفصول الثلاثة الأولى بين أيدي النساخ.
يؤسفني اعتراض موراي على كلمة «نبذة»؛ إذ أراها الاعتذار الوحيد الممكن على «عدم» إعطاء المراجع والحقائق كاملة، لكنني سأذعن له ولك. إنني آسف كذلك بشأن مصطلح «الانتقاء الطبيعي». وأرجو أن أحتفظ به مع تفسير مثل هذا: «عن طريق الانتقاء الطبيعي، أو حفظ السلالات المفضلة.»
سبب حبي لهذا المصطلح هو أنه يستخدم باستمرار في كل الأعمال التي عن الاستيلاد، حتى إنني مندهش أنه ليس مألوفا لموراي، لكنني درست تلك الأعمال طويلا حتى إنني لم أعد حكما كفؤا.
مرة أخرى أشكرك بكل صدق وحرارة على مساعدتك الشديدة الأهمية بحق لي.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 2 أبريل [1859] ... لقد كاتبته [السيد موراي] وأعطيته عناوين الفصول، وأخبرته أنه لن يمكنه الحصول على المخطوطة قبل عشرة أيام أو نحو ذلك؛ وهذا الصباح تلقيت خطابا، عرض فيه شروطا رائعة، ووافق على النشر دون رؤية المخطوطة! إذن فهو متحمس جدا؛ على أي حال أعتقد أنني كان لا بد أن أتوخى الحذر، لكنني، بسبب خطابك، أخبرته «بأقصى درجات الوضوح» أنني سأقبل عرضه بشرط وحيد، وهو أن يكون له كل الحق في التراجع، بعد رؤية المخطوطة كلها، أو جزء منها. ستعتقد أنني مغرور، لكنني أعتقد أن كتابي سيحظى إلى حد ما بالشهرة (شهرة كافية لتقيه الخسارة الفادحة) وسط العلماء وأشباههم؛ أما سبب اعتقادي هذا، فهو أنني قد وجدت في حواراتي مع هؤلاء الرجال، وبعض الرجال غير العلميين، اهتماما كبيرا ومدهشا جدا بهذا الموضوع، كما أن فصولي ليست كلها في جفاف وملل ذلك الذي قرأته عن التوزيع الجغرافي. على أي حال، ينبغي أن يكون موراي أفضل من يفصل في ذلك؛ فإن اختار أن ينشره، فأعتقد أنه سيجوز لي إعفاء نفسي من أي مسئولية. وإنني مطمئن أن صديقي؛ أي لايل وأنت، قد بلغ بهما الكرم مبلغه فيما تكبداه في سبيل هذا الموضوع.
سيسرني أن أراك في اليوم السابق للجمعة الحزينة، لكن سيكون ثمة منفعة لك في أي يوم آخر غيره - إذ أعتقد أن أولادي سيأتون للمنزل في ذلك اليوم - وسيكون شبه مستحيل أن أتمكن من إرسال العربة لك. وأعتقد أنه سيكون لدينا بعض الأقارب في المنزل، لكن أرجو ألا تبالي بذلك؛ حيث لا شك أنه سيتيسر لنا الحديث بقدر ما يسمح ضعف حالي. ستسرني رؤيتك أيما سرور. ... إنني متعب؛ لذا لن أزيد عن ذلك.
لك مني كل المحبة يا عزيزي هوكر
سي داروين
ملحوظة:
أرجوك أن ترسل لي مخطوطتي عن التوزيع الجغرافي، «مربوطة جيدا» بحبل متين، قبيل النصف الثاني من الأسبوع القادم - أي في السابع أو الثامن من هذا الشهر - حتى أرسلها مع غيرها إلى موراي، وليساعده الرب إذا حاول قراءتها. ... لا أملك التغلب على شك ضئيل بأن لايل سيعاني كثيرا حتى يحث موراي على نشر كتابي، لكن لم يكن هذا بناء على طلبي، بل إنه بالأحرى يحز في كبريائي.
أعلم أن لايل كان كريما «لأقصى درجة» بشأن مسألتي، لكن كتابتك كلمة «حث» مع وضع خط تحتها توحي بأن لايل قد حث موراي دون وجه حق.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
4 أبريل [1859] ... طلبت مني أن ترى أوراقي مطبوعة؛ أؤكد لك أن القيام بذلك سيجعلني في «غاية» الرضا؛ إذ أرى هذا الطلب إطراء رفيع المستوى. ولك أن تطمئن أنني لن أنسى طلبا أراه معروفا. لكنني (ويا لها من «لكن» ثقيلة علي) لن أطبع قبل مدة طويلة؛ ويمكنني أن أقول بأمانة إنني لا أتبطل عن العمل «مطلقا»؛ بل إنني أعمل عملا شاقا جدا بالنظر لصحتي المتدهورة للغاية؛ رغم ذلك فإني لا أستطيع أن أعمل سوى ثلاث ساعات يوميا، ولا أدري مطلقا متى سأنتهي من العمل. لقد أنجزت أحد عشر فصلا طوالا، لكن لدي بعض الفصول الأخرى الصعبة جدا، مثل فصول علم الحفريات والتصنيفات وعلم الأجنة، إلخ؛ وعلي تصحيح كل التي تمت وإضافة الكثير إليها. للأسف، أجد أن كل فصل يأخذ مني ثلاثة شهور في المتوسط، فكم أنا بطيء! كذلك ليس للاستطرادات الضرورية نهاية. لقد انتهيت للتو من فصل حول الغريزة، حيث وجدت أن تناول موضوع مثل موضوع خلايا النحل، ومقارنة كل ملحوظاتي التي جمعتها خلال عشرين عاما، استغرقا فترة زمنية طويلة ومثيرة للإحباط.
لكنني استفضت في الحديث عن نفسي بأسلوب غاية في الأنانية. بيد أنه لا بد فقط أن أقول كم وجدت مرارا وتكرارا أن خطاباتك، التي كنت أطالعها وأقتبس منها مؤخرا، مفيدة! لكن لست بحاجة لأن تخشى أن أقتبس منها أي شيء مما قد لا يروق لك؛ إذ أحاول توخي أشد الحذر في هذا الصدد. أرجو من كل قلبي أن توفق في التخلص من «كابوس» العمل القديم، وأن تصير رجلا حرا بعض الشيء.
مرة أخرى اسمح لي أن أخبرك أنني أشعر حقا بالامتنان لك.
من تشارلز داروين إلى جيه موراي
داون، 5 أبريل [1859]
سيدي العزيز
أرسل مع هذا الخطاب العنوان (مع بعض الملحوظات في صفحة مستقلة)، والفصول الثلاثة الأولى. إن كان لديك الصبر لقراءة الفصل الأول بأكمله، فأعتقد حقا أنه سيصير لديك فكرة معقولة عن موضوع الكتاب بالكامل. قد يكون ذلك غرورا، لكنني أعتقد أن الموضوع سيثير اهتمام العامة، (وإنني متأكد أن ما به من آراء أصلية.) إن كنت ترى غير ذلك، فلا بد أن أكرر طلبي أن ترفض عملي بحرية؛ ورغم أنني سأحبط قليلا، فلن أشعر بإهانة بالمرة.
إن اخترت قراءة الفصلين الثاني والثالث، فستجد، في رأيي، فصلا مملا وعويصا بعض الشيء، وآخر سهلا ومسليا.
بمجرد أن تفرغ من المخطوطة، أرجوك أن ترسلها مع «مرسال حذر»، و«توجهها توجيها واضحا» إلى الآنسة جي توليت، 14، شارع كوين آن، ميدان كافينديش.
لما كانت هذه الآنسة خبيرة ممتازة في الأسلوب، فسوف تنتبه للأخطاء من أجلي.
لا بد أن تأخذ وقتك في القراءة، لكن كلما سارعت في إتمامها، سارعت هي، وسارعت أنا في الذهاب بعملية للمطبعة، وهو ما أتمناه بشدة.
أفترض أنك سترغب في رؤية الفصل الرابع، حجر الزاوية في بنائي، والفصلين العاشر والحادي عشر، لكن أرجوك أن تبلغني بذلك.
مع إخلاصي يا سيدي العزيز
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 11 أبريل [1859] ... أكتب إليك خطابا قصيرا لأقول إنني تلقيت خطابا من موراي أمس، حيث يقول إنه قد قرأ أول ثلاثة فصول من مخطوطتي (ويشمل هذا فصلا مملا جدا)، وما زال ملتزما بعرضه. إذن فهو لا يريد المزيد من المخطوطات، وبإمكانك إرسال فصل التوزيع الجغرافي متى تريد. [يبدو أن جزءا من المخطوطة قد ضاع في طريق عودته إلى أبي؛ فقد كتب (في 14 أبريل) إلى السير جيه دي هوكر قائلا]:
لدي المخطوطة القديمة، ولولا هذا لكانت الخسارة قد قتلتني! السيئ في الأمر الآن أن هذا سيسبب تأخيرا في بلوغ العمل المطبعة، و«الأسوأ» هو خسارة فائدة اطلاعك على فصلي، ما عدا الجزء الثالث الذي عاد. يؤسفني بشدة أن السيدة هوكر تجشمت مشقة نسخ الصفحتين.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر [أبريل أو مايو، 1859] ... أرجو ألا تخبر أحدا أنني اعتقدت أن كتابي عن الأنواع سيحظى بشهرة معقولة، ويحقق مبيعات مجزية بعض الشيء (وهو ما كان أقصى طموحي)؛ إذ إن فشل فشلا ذريعا، فسيجعلني ذلك أبدو أكثر حماقة.
أرفق إليك نقدا، عينة مما سيحدث مستقبلا:
خطاب المبجل إس هوتون أمام الجمعية الجيولوجية، دبلين [9 فبراير، 1859]:
هذا التخمين الذي تقدم به السيدان داروين ووالاس ما كان ليستحق الاهتمام لولا ثقل نفوذ الاسمين (أي، اسمك واسم لايل)، اللذين طرح تحت رعايتهما. وإن كان يعني ما ينطق به، فهو شيء بديهي؛ وإن كان يعني شيئا أكثر من ذلك، فهو مناف للحقيقة.
وهو المطلوب إثباته.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 11 مايو [1859]
عزيزي هوكر
أشكرك على إخباري بوجود غموض في الأسلوب. لكن لعمري ما كان لعبد يقرع بالسوط أن يستطيع الاجتهاد في سبيل الوضوح أكثر مما فعلت. إلا أن صعوبة القيام بذلك في حد ذاتها تؤدي لاحتمالية فشلي فيه. رغم ذلك لم تجد الآنسة التي قرأت مخطوطتي كلها سوى جملتين أو ثلاث غامضة، لكن بما أن السيدة هوكر قد وجدتها غامضة كذلك، فهذا كفيل بأن يجعلني أرتعد؛ لذا سوف أبذل قصارى جهدي في البروفات. إنك رجل رائع للاهتمام بالكتابة عن هذا الأمر.
فيما يتعلق بحالة الاختلاف التي بيننا، فلم يخطر لي للحظة أن أحدنا لا يستطيع توضيح أفكاره للآخر بالحديث، أو بالكتابة بإسهاب، إن أتيح لأي منا الوقت.
يخيل لي من بعض التعبيرات (لكن إن سألتني ما هي، لن أستطيع الإجابة) أنك ترى القابلية للتباين باعتبارها عارضا ضروريا بالنسبة للكائنات، بل إن ثمة نزعة ضرورية في القابلية للتباين لأن تؤدي للتشعب في الطابع أو الدرجة. «إن كان هذا هو ما تراه»، فأنا أختلف معك. ومرة أخرى، أنا لا أرى «الارتداد» (وهو نوع من الوراثة) مرتبطا ارتباطا مباشرا بالتباين على الإطلاق، رغم ما للوراثة من أهمية أساسية لنا بالطبع؛ إذ إن لم يورث تباين ما، فلن يكون ذا اعتبار لنا. «خيل لي» أن نقاط انطلاقنا ربما كانت مختلفة في نقاط مثل هذه.
أخشى أن كتابي لن يستحق على الإطلاق الأشياء الجميلة التي تقولها عنه؛ يا إلهي، كم أتطلع بشدة لأن أنتهي منه!
دعني الآن أنتقل لموضوع آخر. لقد تلقيت بحث إيه جراي وقد «أثار اهتمامي بشدة». إنني سعيد بملحوظته عن بحثي أنا ووالاس. إنه سيغير من آرائه؛ فليس من المجدي أن يسقط أنواعا كثيرة جدا، ويتوقف عند أخرى اعتباطيا. هذا ما قاله جدي عن التوحيدية بأنها «فراش وثير لتلقف المسيحيين الزائغين عن الطريق القويم.»
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 18 مايو [1859]
عزيزي هوكر
لقد تدهورت صحتي تماما. وسأغادر غدا للحصول على أسبوع من العلاج المائي. يؤسفني جدا حقا أن أقول إنني لا أستطيع الاطلاع على أي بروفات [من المقال التقديمي لعمل هوكر «نباتات أستراليا»] خلال هذا الأسبوع؛ إذ إن هدفي هو إخراج الموضوع من رأسي. وسوف أعود بعد أسبوع. يمكنك الاحتفاظ بالبروفات حتى عودتي للمنزل، إن كان الأمر يستحق ذلك، لكنه على الأرجح لا يستحق.
كتبت هذا في عجالة، صديقك إلى الأبد
سي داروين [بعد عشرة أيام كتب إلى جيه دي هوكر قائلا: ... أكتب إليك خطابا قصيرا لأخبرك أنني سوف أعود يوم السبت، وإن كان لديك أي بروفات طباعة لترسلها، فسيسرني أن أفعل ما في وسعي لفحصها.
لقد كنت ... في إعياء ذهني وجسدي شديد، لكن الراحة التامة والاستحمام بالمنضحة ورواية «آدم بيد»، معا جعلتني في حال طيب للغاية.]
من تشارلز داروين إلى جيه موراي
داون، 14 يونيو [1859]
سيدي العزيز
سيفي الرسم بالغرض تماما، وسوف أرسله إلى السيد ويست قريبا لإجراء بعض التعديلات البسيطة عليه.
يمضي بي العمل في البروفات بطيئا جدا. أتذكر أنني كتبت إليك أنني كنت أعتقد أنه لن يكون ثمة الكثير من التصويب. لقد كتبت ما اعتقدته بكل أمانة، لكنني كنت مخطئا بشدة. إنني أجد الأسلوب سيئا لدرجة لا تصدق، ويصعب جدا جعله واضحا وسلسا. ويؤسفني للغاية أن أقول إن التصحيحات، من ناحية التكلفة، وضياع الوقت بالنسبة لي، فادحة جدا، كأشد ما تكون الفداحة. لكن بعد اختلاس بعض النظرات السريعة، ما زلت أرجو ألا تكون الفصول التالية مكتوبة بالأسلوب الركيك نفسه. إنه غير معقول على الإطلاق أن تكون الكتابة بهذه الدرجة من الرداءة، لكن أفترض أن هذا راجع لانصباب جل اهتمامي على الخطوط العامة للموضوع، بدلا من التفاصيل. في النهاية، لا يسعني سوى أن أقول إنني في غاية الأسف.
مع إخلاصي الشديد
سي داروين
ملحوظة:
لقد أخذت أطالع التصحيحات، وأتمعن فيها. ويبدو لي أنني سوف أكلفك كلفة غير عادلة بالمرة. إن وافقت، أود عقد اتفاق مثل الاتفاق التالي: حين يتم العمل، تحدد في الحساب مقابلا كبيرا وعادلا للتصحيحات، وكل ما يزيد عنه، يخصم من أرباحي، أو أسدده بنحو مباشر.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 21 يونيو [1859]
رغم أنني أعمل بكد شديد، فإنني أتقدم ببطء؛ إذ أجد تصويباتي كثيرة لحد رهيب، والعمل في غاية الصعوبة علي. لقد صححت 130 صفحة، والمجلد سيقع في 500 صفحة. وقد قمت بكل ما في وسعي لأجعله واضحا ومميزا، لكن أخشى بشدة أن أكون قد فشلت في ذلك - فالعديد من النقاشات محيرة جدا ولا بد أن تكون كذلك. لقد بذلت قصارى جهدي. لو كان معك كل ما لدي من مواد، فلدي يقين أنك كنت ستؤلف كتابا رائعا. أتلهف بشدة للانتهاء منه؛ فإنني على شفا الإنهاك.
مع إخلاصي الشديد دائما لك يا عزيزي لايل
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 22 [يونيو، 1859]
عزيزي هوكر
لم أرد على خطابك المبهج، بتاريخ 30 مايو، الذي حمل كثيرا من الأخبار السعيدة لي لأنني كنت منتظرا منك إرسال بروفات طباعة. لكن الآن، بما أنني ليس لدي شيء على وجه الخصوص لأفعله، ها أنا أرسل خطابا، رغم أن ليس لدي شيء معين لأقوله أو أطلبه. في الواقع، كيف يمكن لرجل أن يكون لديه أي شيء ليقوله وهو يقضي كل أيامه في تنقيح بروفات بغيضة؛ وبروفات كتلك! علي بحق تسويدها بالحبر، وتثبيت قصاصات ورق عليها؛ فقد وجدت الأسلوب بائسا جدا. قلت إنك قد حلمت بأن كتابي كان «مسليا»؛ أوشك هذا الحلم أن يتلاشى بالنسبة لي، وبدأت أخشى أن العامة سيجدونه جافا ومحيرا لدرجة لا تحتمل. لكنني لن أنكر أبدا أنه كان بإمكان شخص أفضل مني أن يعد كتابا رائعا من المواد التي لدي. سرني سماع أخبار بحث بريستويتش. كنت أشك (وأرى أن رايت قد عبر عن الشك نفسه في دورية «ذا أثانيام») ما إن كانت قطع الصوان أدوات فعلا؛ حيث إن أعدادها تجعلني أشك، وحين رأيت رسوم بوشيه دي بيرت، استنتجت أنها كانت شظايا ذات زوايا حطمها النشاط الجليدي.
هل جاءت تجربة تهجين أشجار الأكاسيا بأي نتائج مثمرة؟ إنني في غاية الإجهاد من العمل، حتى إنني لا أقوى على إجراء أي تجارب. لقد فرغت فقط من 150 صفحة من البروفة الأولى.
وداعا، يا عزيزي هوكر، صديقك إلى الأبد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه موراي
داون، 25 يوليو [1859]
سيدي العزيز
أكتب إليك لأخبرك أن خمس ورقات سترسل للمطبعة لطباعتها، بينما ستحتاج ورقتان أخريان مراجعة فحسب؛ هكذا أفترض أن عليك أن تقرر قريبا عدد النسخ التي ستطبع.
إنني غير قادر على التوصل لرأي بالمرة. إذ أعتقد أنني جعلت الأسلوب جيدا وواضحا «لحد معقول»، بمعاناة شديدة. لكنني لا أستطيع حقا أن أخمن ما إن كان الكتاب سيصبح ناجحا لدرجة ترضيك أم لا. لكنني أرجو ذلك من كل قلبي.
مع إخلاصي الشديد يا سيدي العزيز
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 9 أغسطس، 1859
سيدي العزيز والاس
لقد تلقيت خطابك وبحثك [ربما كان هذا بحثه «عن التوزيع الجغرافي للحيوانات في أرخبيل المالايو»] في السابع من هذا الشهر، وسوف أرسل الأخير غدا إلى الجمعية اللينية. لكن لتعلم أنه لن ينعقد اجتماع حتى مستهل نوفمبر. يبدو لي بحثك «جديرا بالتقدير» من ناحية الموضوع والأسلوب والاستدلال؛ وأشكرك على السماح لي بقراءته. لو كنت قرأته منذ عدة أشهر، لكنت استفدت منه في مجلدي القادم. لكن الفصلين اللذين تناولت فيهما هذا الموضوع جاهزان للطباعة، ورغم أنهما لم ينقحا بعد، فإنني منهك وخائر الصحة حتى إنني عزمت تماما ألا أضيف لهما كلمة واحدة، وأن أقتصر على تحسين الأسلوب فقط. سترى أن آرائي تكاد تكون مثل آرائك، ولك أن تثق أنني لن أغير كلمة واحدة بسبب قراءتي لأفكارك. هل تعلم أن السيد دبليو إيرل نشر منذ عدة سنوات عن توزيع الحيوانات في أرخبيل الملايو، وعلاقته بعمق المياه بين الجزر؟ لقد اندهشت كثيرا من هذا، وظللت أسجل كل الحقائق المتعلقة بالتوزيع في ذلك الأرخبيل، وغيره، فيما يتعلق بهذا الشأن. وتوصلت لاستنتاج مفاده حدوث قدر كبير من الاستيطان في جزر الملايو المختلفة، وهو ما قد يبرر إلى حد ما، في اعتقادي، الحالات الشاذة. وكانت تيمور أكبر أسباب حيرتي؛ فما رأيك في حيوانات السنور الغريبة هناك؟ أتمنى أن تكون قد زرت تيمور؛ فقد تأكد العثور على حفرية لسن مستودون أو فيل (لا أذكر أيهما) هناك، وهو ما سيشكل واقعة هامة. كنت أعلم أن جزيرة سيليبز كانت مختلفة جدا؛ لكن العلاقة بأفريقيا جديدة تماما بالنسبة لي، ومدهشة، وتكاد تستعصي على التصديق. إنها في غرابة العلاقة بين «النباتات» في جنوب غرب أستراليا ورأس الرجاء الصالح. أختلف معك «كلية» في مسألة استيطان الجزر المحيطية، لكنك ستجد «الجميع» في صفك. وأتفق تماما فيما يتعلق بكل الجزر التي لا توجد بعيدا في المحيط. كذلك أتفق تماما بشأن وقوع هجرات متبادلة صغيرة عابرة بين الأراضي [الجزر؟] حين كانت عامرة بالكائنات، لكن لا أعتقد أن هذا ينطبق على الجزر المرتفعة والقليلة الكائنات. هل تدرك أن الطيور تأتي مع الرياح إلى ماديرا وجزر الأزور (وإلى برمودا من أمريكا) «سنويا»؟ ليتني أعطيت نبذة أكثر اكتمالا بأسبابي لعدم الإيمان بنظرية فوربس عن الامتدادات القارية الكبرى؛ لكن فات الأوان، فلن أغير أي شيء - إذ إنني منهك ويجب أن أنال قسطا من الراحة. لا يساورني شك أن أوين سيعارضنا معارضة مريرة. سينشر هوكر مقدمة عظيمة عن نباتات أستراليا، وسيسهب في التفاصيل. وقد رأيت بروفات نصف الكتاب تقريبا. لك مني أطيب الأمنيات.
مع كل الصدق والوفاء
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 1 سبتمبر [1859] ... لست مندهشا أنك وجدت مقدمتك في غاية الصعوبة. لكن لا تمتعض مما بذلته من جهد، ولا تقل إن «جهدك قد ضاع سدى» وإنك «في مأزق شديد»؛ فلدي يقين أن النتيجة ستكون مكافئة للجهد المبذول. إن كنت لست مغفلا، فلا بد أن أكون خبيرا إلى حد ما بقيمة مثل هذه المقالات العامة، وإنني مقتنع تماما أن مقالاتك هي أهم ما نشر على الإطلاق.
لقد نقحت كتابي كله ما عدا الفصلين الأخيرين، وأرجو أن أنتهي من عمليات المراجعة وكل شيء خلال ثلاثة أسابيع تقريبا، وبعدها سأسافر (أو نسافر جميعا) من أجل بضعة شهور من جلسات العلاج المائي؛ لقد صارت صحتي في حال سيئ جدا، وصرت ضعيفا كالطفل، وغير قادر على فعل أي شيء مطلقا، ما عدا ساعات العمل الثلاثة اليومية في بروفات الطباعة. يعلم الرب ما إن كنت سأصبح قادرا على فعل أي شيء مرة أخرى. ربما تأتي الراحة الطويلة والعلاج المائي بنتائج جيدة.
لم يصلني مقال إيه جراي بعد، ولا أشعر أنني قادر على نقده، حتى إن واتتني الوقاحة والشجاعة لذلك؛ فلتصدقني أنني أنطق بالحقيقة التامة حين أقول إن مقالك عن أستراليا يثير اهتمامي «للغاية»، لدرجة أنني سأستمتع بإعادة قراءته، وإن كنت تعتقد أن مؤاخذاتي ذات أي أهمية لك، فأرجوك أن ترسل لي البروفات (إن كنت تستطيع الانتظار حتى أصير أفضل حالا)؛ إلا أنني أفضل قراءة المقال حين ينشر، إن لم أستطع أن أسدي إليك القليل من المساعدة، مهما كانت قليلة. أرجو أن تدرك أنني سوف أستاء «بحق» إن لم أقرأها لأجلك إن أردت ذلك.
لقد عانيت من نوبة مرض طويلة أمس، مما يجعلني أرى العالم شديد الكآبة اليوم، وتحدوني رغبة عارمة لحد الجنون للانتهاء من كتابي البغيض؛ فلم أر من قبل قط تلك التصويبات التي احتاجتها كل صفحة. إنه يبعث على الإعياء الشديد، ويستحوذ على فترة ما بعد الظهيرة كلها، حيث لا أفعل شيئا مطلقا بعد الساعة الثانية عشرة. لكنني لن أتذمر أكثر من ذلك. الوداع، وأرجو أن نلتقي في الشتاء.
الوداع يا عزيزي هوكر
صديقك المحب
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 2 سبتمبر [1859] ... يسرني كثيرا أنك تود رؤية بروفات الطباعة بعد الانتهاء من تنقيحها! كان يجب أن أعرضها عليك، لكن لم أعلم ما إن كنت ستراها مملة أم لا؛ لقد أرسلت خطابا في هذا الصباح لموراي حتى يرسلها. للأسف لم أصل لأكثر جزء سيثير اهتمامك، حسبما أعتقد، وهو الذي يؤيد النظرية بشدة؛ أي الجزء الخاص بالتعاقب الجيولوجي والتوزيع الجغرافي، وبوجه خاص علم التشكل وعلم الأجنة والأعضاء الأثرية. سأحرص على أن ترسل الصفحات المتبقية إليك عند طباعتها. لكن هل تود أن أرسل النسخ الأخيرة الخالية من الأخطاء بمجرد أن أصححها؟ إن كنت تريد ذلك، فلترسل لي عنوانك في ظرف فارغ. أرجو أن تقرأها كلها، سواء كانت مملة (خاصة الجزء الأخير من الفصل الثاني) أم لا؛ فإنني مقتنع أنه لا يوجد جملة إلا ومرتبطة بحجة العمل ككل. سوف تجد الفصل الرابع محيرا ومبهما، دون مساعدة الرسم الغريب المرفق [الذي يبين علاقة الانحدار بالتشعب]، الذي سأرسل منه بروفة قديمة وعديمة الجدوى. لقد أكثرت جدا في التصحيح، كما يقول موراي، حتى إنني أعدت كتابته تقريبا؛ ورغم ذلك أخشى أن يكون مكتوبا على نحو سيئ؛ فالأجزاء متشابكة؛ ولا أعتقد أنه حتى أنت تستطيع أن تجعلها واضحة تماما. أرجوك ألا تتعجل التقيد (مثل كثير جدا من علماء التاريخ الطبيعي) ببلوغ حد معين وعدم تخطيه فيما يتعلق بقبول النظرية؛ فلدي قناعة راسخة أنه من الضرورة الشديدة تخطي كل الحدود بقبول النظرية بالكامل ، أو التمسك بفكرة الخلق المستقل لكل نوع؛ أناقش هذه النقطة بإيجاز في الفصل الأخير. ولتتذكر أن التأثير الذي سيحدثه حكمك غالبا ما سيفوق تأثير كتابي في تحديد ما إن كانت وجهات النظر التي أتبناها ستقبل أو ترفض في الوقت الحاضر؛ أما في المستقبل فلا يمكن أن يساورني الشك في قبولها، وأن الأجيال القادمة ستتعجب من الاعتقاد السائد كما نتعجب من الاعتقاد الذي كان سائدا بأن الأصداف المتحجرة قد خلقت على الصورة التي نراها عليها الآن. لكن فلتسامحني على الإسهاب في الحديث عن الموضوع الذي يشغلني.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 11 [سبتمبر]، [1859]
عزيزي هوكر
لقد صححت البروفة الأخيرة أمس، ولدي الآن النسخ المنقحة والفهرس، إلخ، التي سأعمل فيها حتى قرب نهاية الشهر. وهكذا سينتهي أصعب جزء من العمل، حمدا للرب.
أكتب إليك الآن لأقول إن ضميري يؤنبني لترددي إزاء الاطلاع على بروفاتك، لكنني كنت أشعر بتوعك وإرهاق لحد فظيع حين كتبت إليك. أنا لا أعتقد أن بإمكاني أن أكون مفيدا لك على الإطلاق، ولكن إن كان بإمكاني ذلك، فأرجوك أن ترسل لي أي بروفات. سوف أكون (بل أخشى أنني كنت) أجحد الرجال للتردد في فعل أي شيء بعد خمسة عشر عاما أو أكثر من مساعدتك لي.
بمجرد أن أنتهي من العمل تماما، سأذهب إلى إلكلي، أو أي مصحة أخرى للعلاج المائي. لكن ما زال أمامي بعض الوقت؛ فقد صارت بروفاتي ملتبسة بالتصويبات، حتى إنه علي التصحيح بكثرة في النسخ المنقحة.
اقترح موراي نشر الكتاب في الأسبوع الأول من نوفمبر. أوه، يا إلهي، كم سيرتاح ذهني وجسدي حين أقصي الموضوع برمته عن رأسي!
أدعو الرب ألا تراني فظا فيما يتعلق بمسألة بروفاتك.
مع حبي، الوداع
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 20 سبتمبر [1859]
عزيزي لايل
كنت من قبل سببا في سعادتي الغامرة، أو بالأحرى بهجتي، بسبب طريقة اهتمامك بأفكاري عن الشعاب المرجانية، التي لم أكن أتوقعها قط، والآن أعطيتني مرة أخرى سعادة مشابهة بالطريقة التي أشرت بها إلى عملي حول الأنواع [وذلك في اجتماع الجمعية البريطانية في أبردين عام 1859.] لا يمكن لشيء أن يجعلني أكثر سعادة من ذلك، وإنني أشكرك على ما أسديته لي، بل أشكرك أكثر لما قدمته الموضوع، حيث أعلم جيدا أن هذه الكلمة ستجعل الكثيرين ينظرون للموضوع بإنصاف بدلا من الاستهزاء به. ورغم أن ما ساورك من شكوك في السابق بشأن عدم قابلية الأنواع للتغير، قد يكون له دور أكبر في تغيير وجهة نظرك (إن كانت قد تغيرت) من كتابي؛ فإنه لما كنت أرى أن حكمك أهم لدي، وأعتقد لدى العالم من عدة رجال آخرين، فإنني بطبيعة الحال في لهفة شديدة لسماعه؛ ومن ثم، أرجوك أن تظل منفتح الذهن حتى تتلقى (ربما خلال أسبوعين) فصولي الأخيرة، التي تعد الأهم من بين كل الفصول في الجانب المؤيد لقابلية الأنواع للتغير. أعتقد أن الفصل الأخير، الذي يلخص كل الحجج المؤيدة والمعارضة ويوازن بينها، سيكون مفيدا لك. لن أستطيع التعبير عن اقتناعي الشديد بصحة معتقداتي، ويعلم الرب أنني لم أتجاهل أي صعوبة قط. أتلهف لحد الحماقة لسماع حكمك، ليس لأنني سأصاب بإحباط إن لم تغير وجهة نظرك؛ إذ أتذكر السنوات الطوال التي استغرقتها حتى أغير اتجاهي، لكنني سأكون في غاية السرور إن غيرت رأيك، ولا سيما إن كان لي نصيب كبير في هذا التحول، وسأشعر حينذاك أن مساري المهني قد انتهى، ولن أهتم كثيرا ما إن كنت مفلحا في أي شيء ثانية في هذه الحياة.
أشكرك شكرا جزيلا على السماح لي بذكر عبارة [في كتابي] عن شكك العميق في هذا الشأن. والآن، كفى حديثا عن نفسي.
لقد قرأت باهتمام بالغ البحث الذي قرئ في أبردين بشأن الأدوات المصنوعة من الصوان؛ لقد جعلت المسألة برمتها أوضح كثيرا لي؛ أفترض أنك لم تعتقد أن الدليل كاف فيما يتعلق بالعصر الجليدي.
أشكرك مخلصا على إشارتك الرائعة إلى كتابي.
ولك مني كل الصدق يا عزيزي لايل، تلميذك المحب.
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، 23 سبتمبر [1859]
عزيزي فوكس
سرني جدا تلقي خطابك منذ بضعة أيام خلت. كنت أود سماع أخبارك، لكنني كنت في حال من الانشغال والخضوع والإنهاك في العمل حتى إنني لم تكن تواتيني الرغبة في الكتابة إلى أي أحد أو فعل أي شيء خارج حدود عملي اليومي إلا مجبرا. ورغم أنك قلت عن نفسك إنك في تحسن، فإنني لا أستطيع أن أرى ذلك مرضيا على الإطلاق، وأتمنى أن تذهب قريبا إلى مولفرن مرة أخرى. اعتاد أبي الإيمان الشديد بمقولة قديمة مفادها أنه إذا ازداد الرجل نحولا بين عمر الخمسين والستين، ففرصته في الحياة المديدة ضعيفة، وعلى العكس من ذلك إذا ازداد سمنة كانت تلك علامة مبشرة جدا؛ من ثم، أرى بدانتك فألا حسنا جدا. أما أنا، فكانت صحتي متدهورة لأقصى درجة طوال هذا الصيف؛ ولم أبق متماسكا إلا بالذهاب إلى مور بارك لفترات قصيرة؛ لكنني تحسنت مؤخرا، وأخيرا، شكرا للرب، كدت أنتهي من كتابي، حيث لم يتبق سوى الفهرس واثنتين أو ثلاث نسخ منقحة لأقرأها. سينشر الكتاب في الأسبوع الأول من نوفمبر، وسترسل نسخة منه إليك؛ فلتتذكر أنه ليس سوى نبذة (لكنها استغرقت مني أكثر من ثلاثة عشر شهرا في كتابتها)، وأن الحقائق والمراجع ليست مذكورة بالكامل على الإطلاق. سيكون لدي فضول لسماع رأيك بشأنه، لكنني لست من الحماقة الشديدة لأتوقع أن أحملك على الارتداد عن معتقدك. لقد قرأ لايل نصف المجلد من النسخ المنقحة، وهو يثني علي «عظيم الثناء». إنه متردد كثيرا بشأن عدم قابلية الأنواع للتغير، لدرجة أنني أتوقع أن يغير رأيه. أما هوكر فقد تحول عن رأيه السابق، وسيعلن عن اعتقاده نشرا قريبا. كفى كلاما عن مجلدي الكريه، الذي كبدني مشقة هائلة حتى جعلني أكاد أبغضه. سوف أرحل إلى إلكلي في الثالث من أكتوبر، لكن الرحلة ستستغرق ثلاثة أيام! لقد فات الأوان على استئجار منزل؛ لكنني سأذهب وحدي هناك لثلاثة أو أربعة أسابيع، ثم أعود للمنزل لمدة أسبوع لأذهب بعد ذلك إلى مور بارك لثلاثة أو أربعة أسابيع، وحينذاك سأحصل على جرعة معقولة من العلاج المائي؛ كذلك أنوي، إن استطعت الالتزام بقراري، أن أبقى بلا عمل هذا الشتاء. لكنني أخشى أن «الملل» سيكون سيئا مثل اضطراب المعدة.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 25 سبتمبر [1859]
عزيزي لايل
أرسل إليك مع هذا الخطاب أربع ورقات جرى تصحيحها. لقد غيرت الجملة القائلة بهزيمة حيوانات عصر الإيوسيني أمام حيوانات العصر الحديث، وأشكرك على ملحوظتك. لكنني تخيلت أنه سيكون جليا أنني افترضت أن المناخ متماثل لحد كبير؛ أعتقد أنك لا تشك أن مناخ العصرين الإيوسيني والحديث في أجزاء «مختلفة» من العالم كان متشابها. لكن هذا لا يعني أنني أعتقد أن المناخ بالأهمية التي يراها أغلب علماء التاريخ الطبيعي؛ ففي رأيي، إن هذا أخطر الأخطاء قاطبة.
سعدت كثيرا حين وجدت أن هوكر الذي قرأ فصولي عن التوزيع الجغرافي، من المخطوطة، متفق تماما مع الرأي القائل بالأهمية الكبرى للعلاقات الحيوية. أود أن تتمعن في صفحة 77 وتتأمل حالة أي كائن وسط نطاق انتشاره.
ينتابني الفضول من الآن لسماع رأيك بشأن التوزيع خلال العصر الجليدي والعصور الدافئة التي سبقته. يسرني كثيرا أنك لا ترى أن الفصل المتعلق بقصور السجل الجيولوجي مبالغ فيه؛ فقد كنت متخوفا بشأن هذا الفصل أكثر من أي جزء.
أعتقد أن تناول علم الأجنة في الفصل الثامن واحد من أقوى نقاطي. لكن يجب ألا أضجرك بالإطالة في الحديث؛ فذهني منشغل بهذا الموضوع لدرجة مزعجة جدا.
أشكرك حقا على إشادتك بي في أبردين؛ فقد كنت منهكا ومتعبا للغاية مؤخرا حتى إنني ظللت شهورا أتساءل ما إن كنت أبدد الوقت والمجهود سدى. لكنني لا أكترث الآن لما يقوله العالم أجمع؛ فدائما ما وجدتك على صواب، وبالتأكيد فيما يتعلق بهذا الموقف فأنا لن أشك للمرة الأولى. وسواء تطرفت معي فيما ذهبت فيه أنا والآخرون المؤمنون بما أؤمن به، أو توقفت عند حد معين، فإنني مسرور لأن عملي لا يمكن أن يكون بلا جدوى. ستضحك إن علمت كم مرة قرأت فقرتك، وقد سعدت بها للغاية.
الوداع
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 30 سبتمبر [1859]
عزيزي لايل
أرسلت اليوم الصفحات الأخيرة، لكن من دون الفهرس، الذي لم يطبع. إنني أراك بمنزلة وزير العدل في مجال العلوم الطبيعية، لذا ألتمس منك، بعد أن تفرغ من العمل، «إعادة النظر» في نقاط جزء الخلاصة في الفصل الأخير. سأكون في لهفة شديدة لسماع رأيك (إن تمكنت من ذلك) بشأن التوازن في عرض الحجج المؤيدة والمعارضة في مجلدي، والحجج المؤيدة والمعارضة الأخرى التي قد تخطر لك. أرجو أن ترى أنني كنت منصفا في ذكر الصعوبات. يخالجني يقين تام أنك إن كنت محتارا لحد معقول الآن، فإنك ستغير رأيك شيئا فشيئا، كلما أطلت التفكير في الموضوع. فإنني أتذكر جيدا كم من سنوات طويلة مضت قبل أن أستطيع مواجهة بعض الصعوبات دون أن يسيطر علي الشعور بالارتباك. ولقد استسلمت أمام مسألة الحشرات المحايدة الجنس.
أعتقد أنني مفكر بطيء جدا؛ إذ ستندهش من عدد السنوات التي استغرقتها حتى أرى بوضوح طبيعة بعض المشكلات التي كان يجب أن تحل، مثل ضرورة مبدأ تشعب الطابع، وانقراض ضروب وسيطة في منطقة متصلة، ذات ظروف متدرجة، والمشكلة المزدوجة لهجائن الجيل الأول العقيمة والهجائن العقيمة، إلخ، إلخ.
حين أتطلع إلى الماضي، أرى أن إدراك المشكلات كان أصعب من حلها، والذي وفقت فيه إلى حد كبير، ويبدو لي هذا غريبا بعض الشيء. حسنا، سواء كان عملي جيدا أو سيئا، فقد تم، بحمد الله؛ وأستطيع أن أؤكد لك أنه كان عملا شاقا، وكثير منه لم يؤت ثماره. تستطيع أن ترى من الطريقة السريعة التي أكتب بها أنني أمضي أمسية خاملة وممطرة. لم أستطع الذهاب إلى إلكلي أمس حيث كنت متوعكا للغاية، لكن أتمنى أن أذهب إلى هناك يوم الثلاثاء أو الأربعاء. أرجوك بشدة، بعد أن تفرغ من قراءة كتابي والتأمل فيه قليلا، أن تسمح لي بإرسال خطاب إلي برأيك. ولتوبخني ولا تكترث إن رأيت أن الأمر يستدعي ذلك؛ يمكنك أن تذكر لي بعض المؤاخذات بالتفصيل ذات يوم، في لندن ربما، إن كنت قد دونت على عجالة أي ملحوظات في الهامش، في حال كانت هناك طبعة ثانية.
لقد طبع موراي 1250 نسخة، وهو ما يبدو لي طبعة كبيرة جدا، لكن أرجو ألا تلحق به الخسارة.
إنني قلق بشدة بشأن كتابي كما لو كان الأول لي؛ فلتسامحني يا عزيزي لايل.
لك مني أصدق الإخلاص
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
إلكلي، يوركشاير، 15 أكتوبر [1859]
عزيزي هوكر
فلتكن رجلا كريما وتستقطع بعض الوقت لتكتب لي خطابا لتخبرني فيه القليل عن نفسك وأعمالك وشئونك.
هل انتهيت من جزء معقول من مقدمتك؟ أعلم أنك ستقلل من شأنها، لكن أعلم جيدا كم ستروق لي. إنني هنا منذ أسبوعين تقريبا، وقد جعلني هذا في حال طيب كثيرا، رغم أن كاحلي التوى يوم الأحد الماضي وهو ما منعني من السير نهائيا. ستأتي أسرتي كلها إلى هنا يوم الاثنين لتمكث ثلاثة أو أربعة أسابيع، بعد ذلك سأعود إلى المصحة الكبرى وأبقى أسبوعين؛ بحيث إن استطعت الحفاظ على معنوياتي، فسأبقى ثمانية أسابيع هنا، وبهذا سأعطي العلاج المائي فرصة عادلة لإثبات مدى جدواها. قبل أن آتي إلى هنا، كانت معدتي وقوتي ومزاجي ومعنوياتي في حال فظيع. لقد انتهيت من كتابي تماما منذ فترة قصيرة؛ وبمجرد أن تصبح النسخ جاهزة، سترسل نسخة إليك بالطبع. أرجو أن تضع علامات في مواضع الانتقادات في نسختك حتى يمكنني الاستفادة منها. كذلك سيسرني سماع انطباعك العام عنه. يبدو لي من خطابات لايل أنه يستحسنه، لكنه يبدو مذهولا من الحدود التي أصل إليها. لكن عند التعمق بدرجة معقولة في مسار الاعتراف بالتعديل، لا أستطيع رؤية أي وسيلة ممكنة لوضع حد، والقول بأنك يجب عليك التوقف هنا. سيعيد لايل قراءة كتابي، وما زلت أرجو أن يغير معتقداته أو ينحرف كما يقول. وكان لايل في «غاية» الكرم حين كتب لي ثلاثة خطابات شديدة الطول؛ إلا أنه لم يذكر شيئا عن الانتشار خلال العصر الجليدي. وأنا أود معرفة ما يدور بخلده بشأن هذا. ما زال لدي سؤال لأطرحه: هل سيكون ثمة فائدة في إرسال نسخة من كتابي إلى دوكين؟ وهل تعرف أي علماء نباتات مفكرين في القارة، يقرءون باللغة الإنجليزية ولديهم اهتمام بهذا الموضوع؟ إن كان الأمر كذلك، فلترسل لي عناوينهم. ماذا عن أندرسون في السويد؟ لن تدرك كم هو رائع أن أقضي اليوم كله متعطلا، دون التفكير مطلقا في كتابي الملعون الذي أوشك أن يقضي علي. أتمنى كثيرا لو أسمعك تتحدث عن حصولك على راحة حقيقة. أعلم كم أنت قوي ذهنيا، لكنني لن أصدق أبدا أنك تستطيع الاستمرار في العمل كما فعلت مؤخرا دون عواقب وخيمة. ذات يوم ستشتد على نفسك أكثر من اللازم. الوداع يا صديقي العزيز الكريم الطيب.
مع حبي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
إلكلي، أوتلي، يوركشاير، 15 أكتوبر [1859]
عزيزي هكسلي
إنني هنا من أجل العلاج المائي وإنني أعود للحياة مرة أخرى، بعد أن انتهيت من كتابي البغيض، الذي كان سيجده أي شخص آخر عملا يسيرا، لكنه كاد أن يقضي علي. لقد ظننت أنك قد تعطيني بعض المعلومات؛ إذ لا أعلم من غيرك أطلبها منه؛ ألا وهي عناوين باراند وفون سيبولد وكايزرلينج (أعتقد أن السير رودريك يعرف عنوان الأخير).
هل تستطيع أن تعلمني بأي علماء أجانب أكفاء ومهتمين ب «التخمين» ممن سيكون من المفيد أن أرسل لهم نسخا من كتابي عن «أصل الأنواع»؟ أشك ما إن كان الأمر يستحق أن أرسله إلى سيبولد. أود أن أرسل نسخا قليلة، لكنني لن أعلم عدد النسخ التي أستطيع تحمل تكلفتها قبل أن أعلم السعر الذي سيحدده موراي.
لست بحاجة لقول إنني سأرسل واحدة إليك بالطبع، في أول أسبوع من نوفمبر. أرجو أن أرسل نسخا إلى الخارج في الحال. سيكون لدي فضول «كبير» لمعرفة التأثير الذي سيتركه الكتاب فيك. أعلم أن فيه الكثير مما ستعترض عليه، وأخطاء كثيرة بلا شك. إنني لا أتوقع على الإطلاق إقناعك بالعديد من هرطقاتي، لكن إن اعتقدت أنت واثنان أو ثلاثة آخرون أنني على الطريق الصحيح، فلن آبه لما تعتقده جماعة علماء التاريخ الطبيعي. ورغم أن الفصل قبل الأخير يحتوي على الحقيقة، فإنني أخشى كثيرا أنه سيجعلك تنتقدني نقدا قاسيا. لكن لا تتصرف مثل ماكلاي في هجومه على فليمينج وتقول: «إنني أكتب بحمض النتريك حتى أنقش على النحاس.»
صديقك إلى الأبد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، يوركشاير
20 أكتوبر [1859]
عزيزي لايل
لقد أخذت أقرأ كل خطاباتك بصورة متتالية، ولا أشعر أنني أوفيتك نصف حقك من الشكر على السعادة البالغة التي منحتني إياها، وعلى فائدتها. إنني أرى فيها دليلا على التذبذب في درجة المصداقية التي تعطيها النظرية، وأنا لست مندهشا على الإطلاق من هذا؛ فقد مررت بالعديد والعديد من حالات التذبذب هذه.
ثمة نقطة في خطابك لم أنتبه إليها، وهي عن الحيوانات (والعديد من النباتات) التي توطنت في أستراليا، والتي تعتقد أنها لم تستطع البقاء دون مساعدة الإنسان. لا أستطيع أن أعي كيف يساعد الإنسان الماشية البرية. لكن إن تغاضينا عن ذلك، فيبدو أنك تعتقد أنها، بسبب معاناتها هلاكا هائلا خلال موجات الجفاف، قد تفنى كلها. خلال «الجفاف الأكبر» في لا بلاتا، ماتت الحيوانات الأصلية، مثل الغزال الأمريكي، بالآلاف، ويبدو أنها عانت بقدر ما عانت الماشية. وفي أجزاء من الهند، بعد إحدى موجات الجفاف، مضت عشر سنوات أو أكثر قبل أن تصل الثدييات الأصلية إلى أعدادها الكاملة مرة أخرى. أعتقد أن حجتك تنطبق على الحيوانات الأصلية كما على البرية.
الحيوان أو النبات الذي يصير بريا في منطقة صغيرة ما ربما يقضي المناخ عليه، لكنني بالكاد أستطيع تصديق هذا بعد أن كان بريا في عدة مناطق كبيرة. مرة أخرى، أميل لأن أصب لعناتي على المناخ؛ لا تعتقد أنني وقح لانتقادك بشأن المناخ. لقد قلت إنك تشك ما إن كان الإنسان قد استطاع العيش في ظل مناخ العصر الإيوسيني، لكن يستطيع الإنسان الآن تحمل مناخ منطقة الإسكيمو وغرب أفريقيا الاستوائية؛ وبالطبع لا يمكن أن تعتقد أن مناخ العصر الإيوسيني اختلف عن مناخ اليوم في جميع أنحاء أوروبا، كما تختلف المناطق القطبية الشمالية عن أفريقيا الاستوائية.
أما فيما يتعلق بخلق الكائنات على النمط الأمريكي في أمريكا، فأعتقد أنه يمكن القول بأنها خلقت هكذا للحول دون أن تكون جيدة أكثر مما ينبغي، بحيث تتغلب على الكائنات الأصلية، لكن تبدو لي هذه النظرية بشعة، بعض الشيء.
لقد تأملت كثيرا ما قلته عن ضرورة التدخل المستمر لقوة مبدعة. ولا أستطيع أن أرى هذه الضرورة؛ وأعتقد أن الإقرار بها سيجعل نظرية الانتقاء الطبيعي بلا قيمة؛ فلتمنح كائنا نموذجيا بسيطا، مثل سمك الطين أو سمك السمندل الحرشفي، خمس حواس وبعض العقل، وأعتقد أن الانتقاء الطبيعي سيفسر إنتاج كل الحيوانات الفقارية.
الوداع؛ فلتسامحني على الإسهاب في هذا الخطاب، ولك مني كل الصدق والشكر الشديد.
تلميذك المخلص لك إلى الأبد
سي داروين
ملحوظة:
حين تعيد القراءة، إن فعلت، أرجوك أن تكتب في الهامش كلمة «استفض»، عند الإيجاز الشديد، أو «ليس واضحا» أو «؟» هذه العلامات ستكلفك عناء قليلا وأستطيع نسخها والتمعن فيها، وستكون عظيمة الفائدة لي.
سوف يتوجب إعادة كتابة كتابي الأكبر كاملا، وليس التوسع في المجلد الحالي فقط؛ من ثم أود أن أهدر أقل وقت ممكن في هذا المجلد، في حالة استلزم طبعة أخرى، لكن أخشى أن الموضوع سيكون مربكا جدا للعامة بالطريقة التي تناولته بها.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
إلكلي، يوركشاير
الأحد [23 أكتوبر، 1859]
عزيزي هوكر
أهنئك على الانتهاء فعليا من مقدمتك [المقال التمهيدي لكتاب «نباتات أستراليا».] إنني متأكد مما قرأته منها (ولدي رغبة عميقة في قراءتها للنهاية دون توقف)، أنك لا بد قد بذلت في سبيلها قدرا هائلا من العمل والتفكير. أود كثيرا أن أرى النسخة التي ترجوني أن أطالعها. إنني الآن أعيش تماما كأحد النبلاء، حتى إنني ألاقي أحيانا بعض الصعوبة في العثور على شيء لأتسلى به طوال النهار، لكن كم من الغريب أنني قضيت ثلاثة أسابيع بلا عمل! إن كان في الأمر أي عزاء لك، فأرجوك أن تخدع نفسك بالقول بأنك تنوي «الاستمرار في الوفاء للعلم المضجر». لكنني أصدق هذا فقط بقدر ما أصدق أن أحد النباتات قد يقول : «ظللت طوال حياتي أنمو، لكن أقسم أنني سأتوقف عن النمو.» لكنك لا تستطيع مغالبة نفسك؛ فليس لديك المهارة الكافية لتفعل ذلك. إنك حتى لا تستطيع حتى البقاء دون عمل، كما فعلت أنا، لمدة ثلاثة أسابيع! ما قلته عن لايل أسعدني سعادة بالغة؛ فلم أستنتج مطلقا من خطاباته أنه قد غير آراءه كثيرا. أتذكر أنني كنت أعتقد، منذ أكثر من عام مضى، أنني إن امتدت بي الحياة حتى أراك أنت ولايل وهكسلي تغيرون آراءكم، جزئيا بسبب كتابي، وجزئيا بسبب تأملاتكم، فسوف أشعر أن الموضوع في أمان، وربما يهجو العالم بأسره نظرية الانتقاء الطبيعي، لكنها في النهاية (وإن كانت، بلا شك، ليست كاملة في حالتها الراهنة، وتضم أخطاء عديدة) سوف تسود؛ فلن يقنعني شيء أبدا أن ثلاثة رجال مثل هؤلاء، على قدر وافر من المعارف المتنوعة، ومتمرسين جيدا في البحث عن الحقيقة، قد يرتكبون خطأ فادحا. لقد تحدثت عنك هنا بصفتك شخصا أقنعته بالنظرية؛ لكنني أعلم كم ساهم تأملك الذاتي بنصيب أكبر كثيرا في هذا. يحدوني فضول شديد لمعرفة رأي هكسلي في كتابي. أخشى أن نقاشي الطويل حول التصنيف سيثير ازدراءه؛ فهو متعارض بشدة مع ما قاله لي ذات مرة.
كم أطلت عليك في الحديث! الآن، رأيت كم أنا متعطل؛ لكنني استمتعت كثيرا بخطابك؛ لذا لا بد أن تسامحني. فيما يتعلق بالهجرة أثناء العصر الجليدي، أعتقد أن لايل يعي الأمر تماما؛ إذ ذكر لي حقيقة تدعمه. لكنه ربما يبغض النظرية دون وعي (أرجو ألا تخبره بهذا) لأنها تصيبه قليلا بالحيرة بشأن نظريته المفضلة التي تنسب كل تغيرات المناخ إلى تغيرات في الموضع النسبي لليابسة والماء.
سوف أرسل نسخا من كتابي لكل الرجال الذين حددتهم ... هلا تفضلت بإضافة ألقاب، مثل الدكتور أو البروفيسور أو السيد أو النبيل والحروف الأولى من الاسم (عند الحاجة) وتحديد عناوين الأسماء التي في القائمة المرفقة، وترسلها لي «في أسرع وقت»؛ إذ قال موراي إنه قرب نهاية هذا الأسبوع ستكون النسخ التي سترسل للخارج جاهزة. إنني متلهف للتعريف بوجهة نظري على نطاق واسع، لكن ليس من أجل الزهو الشخصي، على ما أرجو وأعتقد.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، يوركشاير، 25 أكتوبر [1859] ... اختلافنا حول «مبدأ التحسين» و«قوة التأقلم» أعمق من أن يناقش في خطاب. إن كنت مخطئا، فإنني لا أرى على الإطلاق أي سبب لخطئي. وإن كنت على صواب، فسوف نجتاز اختلافنا بأن تعيد قراءة فصولي الأربعة الأولى بعناية وتتمعن فيها. أرجوك أن تقرأها مرة أخرى بانتباه. ما يسمى التحسين فيما يتعلق بماشيتنا القصيرة القرون وحمامنا وغيرهما لا يستلزم أو يتطلب أي «مبدأ تحسين» أو «قوة تأقلم» أصلية؛ إنما يتطلب فقط قابلية متنوعة للتباين وإنسانا لانتقاء التعديلات المفيدة له أو الاستفادة منها؛ إذن في الطبيعة، أي تعديل بسيط «يتصادف» حدوثه، ويكون مفيدا لأي كائن، ينتقى ويبقى عليه في الصراع من أجل البقاء؛ وأي تعديل ضار يفنى أو يرفض؛ وأي تعديل ليس مفيدا ولا ضارا سيترك دون أن يقبل أو يرفض. وعند المقارنة بين الانتقاء و«التحسين» الطبيعي، يبدو أنك دائما ما تغفل (إذ لا أدري كيف تستطيع أن تنكر) أن كل خطوة في الانتقاء الطبيعي لكل نوع تتضمن تحسينا في ذلك النوع فيما يتعلق بظروف معيشته. ولا يمكن انتقاء تعديل دون أن يكون فيه تحسين أو ميزة. وأفترض أن التحسين يعني أن كل شكل يحصل على عدة أجزاء أو أعضاء، كلها متكيفة تماما من أجل وظائفها؛ وحيث إن كل نوع يتحسن، وحيث إن عدد الأشكال يزيد، فإن نظرنا على مدى الزمان كله، فسنجد أن الحالة الحيوية للحياة للأشكال الأخرى ستصير أكثر تعقيدا، وأنه ستكون ثمة ضرورة لأن تصير الأشكال الأخرى محسنة، وإلا فستفنى؛ ولا أستطيع رؤية حد لعملية التحسين هذه، دون تدخل من أي مبدأ تحسين آخر ومباشر. يبدو لي كل هذا متسقا تماما مع كون أشكال محددة متكيفة مع ظروف بسيطة، دون أن تتبدل أو يدركها التدهور.
إن تسنى لي طبعة ثانية، فسوف أؤكد أكثر على عملية «الانتقاء الطبيعي»، وبالتبعية العامة، عملية «التحسين الطبيعي».
حين وصلت للدرجة التي أنت عليها فيما يتعلق بالاقتناع بالنظرية، بدأ شعور قوي يساورني، قياسا على نفسي، أنك ستذهب أبعد من ذلك كثيرا. فكم تمهل علماء الجيولوجيا الأكبر سنا في الإقرار بوجهات نظرك العظيمة حول الأسباب الجيولوجية السائدة حاليا للتغير!
إن ارتأيت في أي وقت أنك تريد مني الإجابة على أي سؤال، فسيسرني بحق أن أكتب إليك موضحا إياها.
مع حبي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه موراي
إلكلي، يوركشاير [1859]
سيدي العزيز
لقد تلقيت خطابك الكريم والنسخة؛ وإنني سعيد وفخور لأقصى درجة بمظهر عملي الوليد.
أوافق تماما على كل ما تقترحه بشأن السعر. لكنك شديد الكرم بحق بشأن التصويبات الكثيرة لدرجة مخزية بالنسبة لي. أليس في تصرفك هذا إجحافا في حق نفسك؟ ألن يكون من الأفضل تقاسم الاثنين وسبعين جنيها إسترلينيا والثمانية شلنات على الأقل؟ لا بد أن أكون في حالة رضا تام؛ فلم يكن من شأني إرسال تلك المخطوطة الرديئة الإعداد، وإن كان هذا دون قصد ودون توقع، إلى المطبعة.
أشكرك على عرضك الكريم بتوزيع النسخ على أصدقائي ومساعدي بأسرع ما يمكن. لا تشغل نفسك كثيرا بالأجانب؛ فقد تفضل السيدان ويليامز ونورجيت وعرضا بذل قصارى جهدهما في هذا الشأن، وهما لديهما خبرة في إرسال الكتب لكل أنحاء العالم.
سوف أسدد ثمن نسخي متى أردت. إنني في غاية السعادة أنك تفضلت وتوليت نشر كتابي.
لك مني كل الإخلاص يا سيدي العزيز
تشارلز داروين
ملحوظة:
أرجو ألا تنسى تبليغي قبل توزيع النسخ بيومين تقريبا.
لا أعلم متى سأغادر هذا المكان، لكن من المؤكد أنه ليس قبل عدة أسابيع. ومتى ذهبت إلى لندن، فسوف أزورك.
الفصل الرابع عشر
بقلم البروفيسور هكسلي
حول استقبال كتاب «أصل الأنواع»
بالنسبة للجيل الحالي؛ أي الناس القلائل الذين أشرفوا على سن الثلاثين أو تعدوه بقليل، يقف اسم تشارلز داروين على قدم المساواة مع اسمي إسحاق نيوتن ومايكل فاراداي؛ وهو مثلهم، يعد المثل الأعلى للباحث عن الحقيقة ومفسر الطبيعة. إنهم يرون أنه شخص تحلى بمزيج نادر من العبقرية والمهارة والأمانة الشديدة، ونال عن استحقاق مكانته بين أشهر رجال العصر بقدراته الفطرية وحدها، رغم أنف عاصفة من التحامل العام، ودون تشجيع برضا أو تقدير من جانب جهات التكريم الرسمية؛ إنهم يرونه شخصا، رغم حساسيته المفرطة للمدح والذم، ورغم المضايقات التي قد تبرر أي انفعال، نأى بنفسه بعيدا عن كل أشكال الحقد والكراهية والخبث، بل لم يتعامل إلا بالحق والعدل مع التحيز والظلم اللذين انهالا عليه؛ وظل حتى آخر أيامه مستعدا للإنصات بصبر واحترام إلى أقل معارضيه الموضوعيين قدرا.
وفيما يتعلق بالنظرية الخاصة بأصل أشكال الحياة التي تسكن كوكبنا، التي ارتبط بها اسم داروين ارتباطا وثيقا كما ارتبط اسم نيوتن بنظرية الجاذبية، فلا يبدو شيء أبعد عن ذهن الجيل الحالي من محاولة وأدها بالتهكم أو قمعها بالاستغراق في شجبها. لقد صار «الصراع من أجل البقاء» و«الانتقاء الطبيعي» من الكلمات المألوفة والمفاهيم العادية. ولم تعد صحة العمليات الطبيعية التي يقيم عليها داروين استنتاجاته وأهميتها يرقى إليهما الشك أكثر من تلك الخاصة بالنمو والتكاثر؛ وسواء أقر بكل الإمكانيات المنسوبة إلى تلك العمليات أم لا، فلا يشك أحد في أهميتها الهائلة وتأثيرها الكبير. وأينما درست العلوم البيولوجية، أضاء كتاب «أصل الأنواع» طريق الباحث؛ وأينما درست، تسلل عبر جميع جوانب مسار التدريس. كذلك، ليس تأثير الأفكار الداروينية أقل عمقا، خارج حدود العلوم البيولوجية. إن فلسفة التطور، التي تعد الأقدم بين كل الفلسفات، كانت مكبلة اليدين والقدمين وملقاة في ظلام دامس خلال ألفية من الفلسفة المدرسية اللاهوتية. لكن داروين ضخ دماء جديدة في الإطار الفكري القديم؛ فانكسرت القيود، وأثبت فكر اليونان القديمة الذي بعث من جديد أنه تعبير مناسب أكثر عن النظام العام للأشياء من أي من الأنظمة التي تقبلتها سذاجة سبعين جيلا تاليا من البشر ورحبت بها خرافاتهم.
إن بزوغ فلسفة التطور، في موقف المطالب بعرش عالم الفكر، بعد الخروج من سجن الأشياء المكروهة، وكما تمنى كثيرون، المنسية، لهو لأي شخص يدرس أحداث الزمن، الحدث الأهم في القرن التاسع عشر. لكن كان داروين من صنع أجدى أسلحة أبطال التطور المعاصرين؛ وجند كتاب «أصل الأنواع» مجموعة رائعة من المقاتلين، المدربين في المدرسة الصارمة للعلوم الطبيعية، الذين ربما ظلت آذانهم صماء طويلا عن سماع تأملات الفلاسفة السابقين.
لا أعتقد أن ثمة شخصا أمينا أو مثقفا قد ينكر صحة ذلك الذي ذكر للتو. ربما يكره مجرد ذكر نظرية التطور، وربما ينكر مزاعمها بشدة كما أنكر أنصار جيمس الثاني مزاعم جورج الثاني. لكن هذا هو واقع الحال - فلم تكن مكانته في رسوخ أسرة هانوفر الحاكمة فقط، لكنه كذلك كان بعيدا لحسن الحظ عن سلطة البرلمان - وقد انتهى أغبى المناهضين له لإدراك أن عليهم التعامل مع عدو لا تتهشم عظامه بأي سيل من الكلمات الجارحة.
حتى علماء اللاهوت توقفوا تقريبا عن مقارعة المغزى الواضح لسفر التكوين بمغزى الطبيعة الذي لا يقل عنه جلاء. إن ممثليهم الأكثر صراحة، أو الأكثر حذرا، توقفوا عن التطرق للتطور كما لو كان هرطقة ملعونة، ولجئوا لواحد من نهجين؛ فهم إما أن ينكروا أن سفر التكوين كان يهدف لتقديم حقائق علمية، وبهذا يحافظون على صحة المصدر على حساب مرجعيته العلمية؛ وإما يستنفدوا طاقاتهم في تصوير البراعة الشديدة لمفسري النصوص التي يعذبونها دون جدوى على رجاء جعلها تقر بمبادئ العلم. لكن حين تنتهي عملية التعذيب دون جدوى، دائما ما يعود الصدق القديم للمعذب المبجل لتأكيد نفسه. إن سفر التكوين صادق حتى النخاع، ولا يدعي أنه أكثر مما هو عليه في الواقع؛ فهو مجموعة من التعاليم الجليلة المجهولة المصدر، التي لا تزعم أي مرجعية علمية ولا تحوز أيا منها.
بينما ينتهي قلمي من هذه الفقرات، لا يسعني سوى التعجب عند تأمل مدى فظاعة الضجة التي كانت ستثور (بل ثارت في الواقع) إزاء أي تعبيرات مشابهة عن الرأي منذ ربع قرن مضى. في الواقع، إن التناقض بين الحالة الراهنة للرأي العام بشأن المسألة الداروينية، والتقدير الذي تلقاه آراء داروين في المجتمع العلمي، وإذعان علماء اللاهوت من الطبقة الموقرة في الوقت الحالي لأفكاره، أو صمتهم عنها على الأقل من جهة ، واندلاع العداء على كافة الأصعدة فيما بين عامي 1858 و1859 من جهة أخرى حين صارت النظرية الجديدة المتعلقة بأصل الأنواع معروفة لأول مرة لدى الجيل الأقدم، الذي أنتمي إليه، لهو تناقض مدهش جدا حتى إنني، لولا الأدلة الوثائقية، كنت سأنزع للاعتقاد بأن ذكرياتي في هذا الشأن أحلام. أنا نفسي أكن احتراما كبيرا للجيل الأصغر (فهم يستطيعون كتابة قصص حياتنا، واكتشاف كل حماقاتنا، إن اختاروا، يوما ما، تجشم هذا العناء)، وسيسرني الاطمئنان إلى أن الشعور متبادل، لكنني أخشى أن قصة مواجهاتنا مع داروين قد تصبح عائقا كبيرا أمام ذلك الإجلال لحكمتنا التي أود أن يظهروه. ليس لدينا حتى عذر أن السيد داروين كان منذ ثلاثين عاما عالما مبتدئا مجهولا، ليس لديه حق أن ننتبه إليه. بل على النقيض، كانت أبحاثه المميزة في علم الحيوان والجيولوجيا قد وضعته منذ زمن في مكانة ثابتة بين أبرز باحثي العصر وأكثرهم أصالة؛ وفي الوقت نفسه، أكسبه عمله الساحر «يوميات الأبحاث» عن جدارة صيتا واسعا بين العامة. أشك أن أي رجل ممن عاشوا آنذاك كان لا يتوقع أن يلقى أي شيء قد يختار داروين قوله حول مسألة مثل أصل الأنواع الإنصات باهتمام بالغ، والمناقشة بتوقير؛ وبالتأكيد لم يكن ثمة رجل يمكن أن تمنحه طبيعته الشخصية وقاية أفضل منه ضد محاولات الهجوم، المشبعة بالحقد والممزوجة بالوقاحات المجردة من الحياء.
لكن ذلك كان قدر أحد أطيب وأصدق الرجال على الإطلاق الذين أكرمني الحظ بمعرفتهم؛ وكان يجب أن تنقضي سنوات قبل أن يكف التحريف والاستهزاء والتنديد عن كونها أبرز مكونات غالبية الانتقادات الهائلة لعمله التي ظهرت بكثرة في الأعمال المطبوعة. إنني أعف عن إخراج أي من هذه الفضائح القديمة من طي الكتمان الذي تستحقه، لكن يجب أن أصحح بيانا قد يبدو مبالغا فيه للجيل الحالي، ولا يوجد شيء أنسب لهذا الغرض، أو أكثر استحقاقا لهذا الخزي، من مقال في دورية «ذا كورترلي ريفيو» في يوليو 1860. [لم أكن أعلم حين كتبت هذه الفقرات أن اسم كاتب المقال قد صرح به على الملأ . غير أن الاعتراف غير المصحوب بالندم لا يسوغ تخفيف الحكم، والطريقة الدمثة التي يتحدث بها السيد داروين عن مهاجمه، الأسقف ويلبرفورس، إنما هي مثال واضح على لطفه وتواضعه الفريدين، حتى إنها لتزيد احتقارنا لادعاء ناقده.] منذ هاجم اللورد بروام الدكتور يانج، لم يشهد العالم مثالا لتطاول مدع ضحل على خبير في العلوم مثل هذا العمل الغريب، الذي تعرض فيه أحد أدق الملاحظين وأحرص المفكرين وأصدق الشارحين، في هذا العصر أو أي عصر آخر، للتحقير باعتباره شخصا «طائشا»، يحاول «غزل نسيج حزره وتخمينه المهلهل تماما» والذي استهجن «أسلوب تناوله للطبيعة» باعتباره «شائنا تماما للعلوم الطبيعية». وكل هذا الحديث المتغطرس، الذي كان ليصبح غير لائق من شخص مساو للسيد داروين، جاء من كاتب يعوزه الذكاء أو الضمير أو كلاهما لدرجة كبيرة، حتى إنه يسأل، على سبيل الاعتراض على آراء السيد داروين، قائلا: «هل من المعقول أن كل ضروب اللفت المفضلة في طريقها لتصير بشرا؟» وهو على جهل كبير بعلم الحفريات، حتى إنه تسول له نفسه الحديث عن «زهور وثمار» نباتات العصر الكربوني؛ وبالتشريح المقارن، حتى إنه يؤكد بقوة أن جهاز السم في الثعابين السامة «منفصل كلية عن القوانين العادية لعالم الحيوان، وخاص بالثعابين فقط»؛ وبالأعضاء الأثرية في علم وظائف الأعضاء، حتى إنه يسأل: «بم يفيد الحياة أن يتغير شكل الكريات التي يمكن أن يتبخر إليها الدم؟» ولا يتوانى الناقد عن تنكيه هذا الفيض من الخلل المنافي للعقل بقليل من إثارة الكراهية الدينية. وتؤدي به المعرفة السطحية بتاريخ الصراعات بين علوم الفلك والجيولوجيا واللاهوت إلى الإبقاء على باب التراجع مفتوحا بقوله إنه لن يستطيع «السماح باختبار صحة العلوم الطبيعية وفقا لكلمات الوحي»؛ لكنه، رغم كل ذلك، يكرس صفحات ليبدي اقتناعه بأن نظرية السيد داروين «تناقض العلاقة الموحى بها بين المخلوق وخالقه» وأنها «غير متسقة مع تمام مجد الرب».
إن اقتصرت ذكريات استقبال كتاب «أصل الأنواع» على اثني عشر شهرا، أو نحو ذلك، منذ وقت نشره، فلن أتذكر شيئا شديد الحماقة والفظاظة مثل مقال «ذا كورترلي ريفيو»، ربما إلا إن دخل خطاب لأحد الأساتذة الجامعيين الكهنة أمام جمعية دبلين الجيولوجية في منافسة معه. لكن عددا كبيرا من منتقدي السيد داروين كانوا مشابهين على نحو مؤسف لناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو»، من حيث انعدام الإرادة أو الفطنة لدراسة نظريته على الوجه الأكمل؛ وبالكاد امتلك أي منهم المعرفة اللازمة لتتبعه في عالم العلوم البيولوجية والجيولوجية المترامي الأطراف الذي أحاط به كتاب «أصل الأنواع»؛ وفي الوقت نفسه، وعلى نحو شائع جدا، كانوا يتحاملون على المسألة على أسس لاهوتية، واحتالوا على انعدام المنطق في حججهم بالإفراط في القدح، وذلك كأمر محتوم على ما يبدو حين يحدث هذا.
لكنه سيكون أمتع وأكثر فائدة أن نتفكر في الانتقادات التي قال بها كتاب ذوو مرجعية علمية، أو التي حملت أدلة على كفاءة كتابها، سواء زادت أو قلت، وعلى حسن نيتهم في كثير من الحالات. إن اقتصار تناولي على اثني عشر شهرا أو نحو ذلك، بعد نشر كتاب «أصل الأنواع»، يجعلني أجد أن من بين هؤلاء المنتقدين لوي أجاسي؛ وموراي، عالم الحشرات المتميز؛ وهارفي، عالم النباتات واسع الشهرة؛ وكاتب مقال معاد بشدة لداروين في مجلة «ذي إدنبرة ريفيو». ويتطرق بيكتيه، عالم الحفريات الجنيفي المعروف وواسع العلم، لعمل السيد داروين باحترام مما يتناقض بشدة مع نبرة بعض من الكتاب السابقين، لكنه يتفق معه بقدر قليل فقط. من ناحية أخرى، لايل، الذي كان حتى ذلك الوقت من أهم مرجعيات مناهضي نظرية التطافر (الذين ظلوا ينظرون إليه، فيما بعد، بالطريقة نفسها التي ربما نظرت بها أثينا إلى ديانا، بعد علاقتها مع إنديميون)، أعلن أنه دارويني، وإن كان لم يفعل ذلك دون وضع بعض الحدود. بيد أنه كان حصنا منيعا، وزاده موقفه الشجاع من أجل الحق في مواجهة التوافق شرفا لا حد له. وفيما يتعلق بأنصار نظرية التطور، دون أن أضيف المزيد من التفاصيل، لا أتذكر بين علماء الأحياء أحدا سوى آسا جراي، الذي خاض المعركة على نحو رائع في الولايات المتحدة؛ وهوكر الذي لم يكن أقل منه حماسا هنا؛ والسير جون لاباك وأنا. أما والاس، فقد كان بعيدا في أرخبيل الملايو، لكن بغض النظر عن إسهامه المباشر في الترويج لنظرية الانتقاء الطبيعي، فلن يكتمل حصر العوامل المؤثرة في الزمن الذي أتحدث عنه دون ذكر مقاله الرائع «عن القانون المنظم لاستقدام أنواع جديدة» الذي نشر عام 1855. لقد انتابتني الدهشة عند قراءته مجددا، حين تذكرت كم كان قليلا التأثير الذي أحدثه!
أما في فرنسا، فقد أدى نفوذ إيلي دي بومون وفلورانس - يقال إن الأول قد «جر على نفسه سمعة سيئة أزلية» بابتداع مسمى «العلم الرغوي [أي التافه]» لمذهب التطور - ناهيك عن سوء نية أعضاء آخرين من ذوي النفوذ في المعهد، للتعتيم على النظرية لفترة طويلة؛ ومرت سنوات عدة قبل أن تكفر الأكاديمية عن خطئها بعدم إدراج اسم داروين في قائمة أعضائها. غير أن أحد الكتاب البارعين، البعيدين عن مجال المؤثرات الأكاديمية، وهو إم لاجال، كتب مقالا رائعا ومعبرا عن التقدير عن كتاب «أصل الأنواع» في مجلة «ريفو دي دو موند». واحتاجت ألمانيا بعض الوقت لتدبر الأمر؛ لقد أخرج برون ترجمة حذفت أجزاء صغيرة منها لكتاب «أصل الأنواع»؛ وأوقفت مجلة «كلاديراداتش» عباراتها الساخرة حول مسألة أن القرد هو أصل الإنسان، لكنني لا أتذكر أن أيا من الشخصيات العلمية البارزة قد أعلن عن موقفه على الملأ عام 1860 [فيما عدا كيه إي فون بار، العالم الذي يأتي بعد داروين في تأثيره على علماء الأحياء المعاصرين، الذي كاتبني في أغسطس 1860، معبرا عن اتفاقه العام مع الآراء التطورية.] لم يتخيل أحد منا أن قوة «النظرية الداروينية»، (وربما يجوز لي أن أضيف ضعفها) سيكون لها تجلياتها الشديدة الانتشار والشديدة العبقرية في ألمانيا، أرض العلم، خلال سنوات قليلة. وإن أقدم شخص أجنبي على تخمين سبب هذه الفترة الغريبة من الصمت، فيخيل لي أنه يرجع إلى أن شطرا من علماء الأحياء الألمان كان تقليديا مهما تكلف الأمر، بينما كان الشطر الآخر مخالفا بالقدر نفسه بنحو ملحوظ. وكانت المجموعة الثانية من أنصار نظرية التطور من قبل بالفعل، ولا بد أنهم شعروا بالاحتقار الطبيعي الذي يتكون لدى الفلاسفة الاستنباطيين حين يعرض عليهم أساس استقرائي وتجريبي لاعتقاد بلغوه عن طريق أقصر. لا شك أنها محاولة إدراك أنه رغم أن استنتاجاتك قد تكون صحيحة تماما، فإن أسبابك التي قادتك إليها خاطئة كلية، أو غير كافية على أي حال.
بوجه عام، كان مؤيدو آراء السيد داروين آنذاك، عام 1860، قليلين عدديا لأقصى حد. ولا شك على الإطلاق أنه لو كان عقد مجلس علمي عام للكنيسة في ذلك الوقت، لكان أداننا بأغلبية كاسحة. ولا شك على نحو مماثل أنه إن عقد الآن، فسيكون الحكم معاكسا تماما. لكنه سيكون من غير المعقول، وكذلك من غير اللائق، أن ننسب لرجال ذلك الجيل جدارة أو أمانة أقل مما لدى خلفائهم. إذن، ما الأسباب التي أدت برجال عالمين ومنصفين في أحكامهم في ذلك الوقت للوصول إلى حكم مختلف تماما عن ذلك الذي يبدو عادلا ومنصفا لأولئك الذين جاءوا بعدهم؟ ذاك بحق واحد من أكثر الأسئلة إثارة للاهتمام بين جميع الأسئلة المتعلقة بتاريخ العلم، وسوف أحاول الإجابة عليه. أخشى أنه حتى أفعل هذا يجب أن أجازف بأن أبدو مغرورا. غير أنني إن سأحكي قصتي، فذلك فقط لأن علمي بها أفضل من علمي بقصص الآخرين.
أعتقد أنني لا بد أن أكون قد قرأت كتاب «بقايا» قبل أن أغادر إنجلترا عام 1846؛ لكن إن كنت قد فعلت ذلك، فقد كان تأثري به قليلا جدا، ولم أحتك بمسألة الأنواع جديا إلا بعد عام 1850. في ذلك الوقت، كنت قد نبذت منذ زمن بعيد المذهب الموسوي الذي يفسر نشأة الكون وفقا لأسفار موسى الخمسة، الذي انطبع في وعيي الطفولي باعتباره حقيقة ربانية، في ظل كل التوجيه من جانب الوالدين والمعلمين، وهو ما كلفني صراعات كثيرة حتى أتحرر منه. لكن عقلي لم يكن متحيزا لأي مذهب مطروح في هذا الشأن، ما دام يثبت أنه مبني على استدلال فلسفي وعلمي بحت. وكان يبدو لي حينذاك (كما هو الحال الآن) أن «الخلق»، بالمعنى المألوف للكلمة، يمكن تماما تصوره. وأنا لا أجد صعوبة في تخيل أنه، في عصر ما سابق، لم يكن هذا الكون موجودا؛ وأنه ظهر في ستة أيام (أو على الفور، إن كان هذا الرأي مفضلا)، نتيجة لإرادة كيان موجود مسبقا. كان حينذاك، كما هو الآن، ما يدعى الحجج البديهية ضد الألوهية وضد احتمالية وجود أفعال الخلق، مع وضع وجود إله في الاعتبار، تبدو لي خالية من الأساس المنطقي. لم يكن لدي آنذاك، وليس لدي الآن، أقل اعتراض مسبق على إثارة قصة خلق الحيوانات والنباتات المذكورة في «الفردوس المفقود»، التي يجسد فيها ميلتون تجسيدا حيا المعنى الطبيعي لسفر التكوين. لا يحق لي أن أقول إنها غير صحيحة لأنها مستحيلة. إنما أقتصر على ما يجب اعتباره طلبا متواضعا ومعقولا لبعض الدليل على أن أنواع الحيوانات والنباتات الحالية نشأت بحق بتلك الطريقة، كشرط لإيماني بمسألة تبدو لي غير محتملة للغاية.
كذلك، وحتى أكون منصفا تماما، كان لدي الرد نفسه لأنصار التطور فيما بين عامي 1851 و1858. إنني لم ألتق بأحد من علماء الأحياء، في ذلك الوقت، إلا الدكتور جرانت، من جامعة يونيفرستي كوليدج، الذي كان يدعم التطور، ولم يقصد بمناصرته الترويج للنظرية. الشخص الوحيد، خارج مجتمع علماء الأحياء، الذي أعرفه والذي كانت معرفته وكفاءته تجبران على الاحترام، والذي كان، في الوقت نفسه، مناصرا تماما للتطور، هو السيد هيربرت سبنسر، الذي تعرفت عليه، حسبما أعتقد، عام 1852، ثم ربطتنا أواصر الصداقة، التي يسعدني الاعتقاد بأنها لم تشهد أي انقطاع. لقد كانت المعارك التي خضناها حول هذا الموضوع متعددة وممتدة. لكن حتى مهارة صديقي في المجادلة وغزارة الأمثلة التوضيحية المناسبة لديه لم يستطيعا أن يزحزحاني عن موقفي المتشكك. وكنت أستند في موقفي إلى سببين: أولا: أنه حتى ذلك الوقت، كانت الأدلة الداعمة للتطافر غير كافية على الإطلاق. ثانيا: أن أيا من الاقتراحات المتعلقة بأسباب التطافر المفترض، التي طرحت، لم يكن مناسبا بالمرة لشرح الظاهرة. وبالنظر لحالة المعرفة في ذلك الوقت، لا أرى حقا أن أي استنتاج آخر كان من الممكن تبريره.
في تلك الأيام، لم أكن حتى قد سمعت قط بكتاب «علم الأحياء» لتريفيرانوس. إلا أنني كنت قد درست آراء لامارك وقرأت كتاب «بقايا» باهتمام؛ لكن لم يقدم لي أي منهما أي أسباب جيدة لتغيير موقفي السلبي والناقد. أما كتاب «بقايا»، فأعترف أنه أثار حفيظتي ببساطة بسبب الجهل الشديد وطبيعة التفكير غير العلمية مطلقا اللذين أبداهما الكاتب. وإن كان له أي تأثير علي على الإطلاق، فهو أنه جعلني ضد التطور؛ والمراجعة النقدية الوحيدة التي أشعر نحوها بوخز الضمير، بسبب الهجوم الضاري غير الضروري، هي التي كتبتها عن كتاب «بقايا» بينما كنت تحت ذلك التأثير.
أما فيما يتعلق بكتاب «فلسفة علم الحيوان»، فليس من قبيل الهجوم على لامارك أن أقول إن مناقشة مسألة الأنواع فيه، أيا ما كان يمكن أن يقال لدعمها في عام 1809، كانت أدنى لدرجة بائسة من المستوى الذي وصلت إليه المعرفة بعد نصف قرن. في تلك الفترة الزمنية، نتج عن معرفة بنية الحيوانات والنباتات الدنيا مفاهيم جديدة تماما عن علاقاتها؛ وظهر علم الأنسجة وعلم الأجنة بمعناهما الحديث؛ وأعيد بناء علم وظائف الأعضاء؛ وتضاعفت حقائق التوزيع، الجيولوجي والجغرافي، وجرى تنظيمها. كانت نصف حجج لامارك لأي عالم أحياء جعلته دراساته يتجاوز مسألة اكتشاف الأنواع فقط ليضاف اسمه إليها في عام 1850 بالية، أما النصف الآخر، فكانت خاطئة أو معيبة، بسبب إغفالها التطرق للفئات المتعددة من الأدلة التي سلط عليها الضوء منذ عصره. علاوة على ذلك، كان اقتراحه عن سبب التعديل التدريجي في الأنواع - العمل الذي أثاره تغير الظروف - في ظاهره غير قابل للتطبيق على عالم النبات بالكامل. لا أعتقد أن أي حكم محايد يقرأ كتاب «فلسفة علم الحيوان» الآن، ويقرأ فيما بعد نقد لايل اللاذع والمؤثر (الذي نشر في عام 1830)، سيكون ميالا لأن ينسب إلى لامارك دورا في تشكيل فكرة التطور البيولوجي يزيد كثيرا عن ذلك الذي حدده بيكون لنفسه فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية بوجه عام؛ إنه بمنزلة «نافخ البوق» فقط.
لكن في إحدى مفارقات القدر الغريبة، التأثير نفسه الذي جعل ثقتي في التخمينات الحديثة بشأن هذا الموضوع قليلة، كما هو الحال بالنسبة للتعاليم الجليلة المدونة في أول إصحاحين من سفر التكوين، كان أقدر من أي تأثير آخر في وجود نوع من الاقتناع التواق بداخلي بأنه سيتضح في النهاية أن فكرة التطور صحيحة. أعدت مؤخرا قراءة الطبعة الأولى من «مبادئ الجيولوجيا»؛ وحين أتأمل أن هذا الكتاب المميز ظل بين يدي الجميع منذ ثلاثين عاما تقريبا، وأنه أوضح لأي قارئ متوسط الذكاء مبدأ هاما وحقيقة هامة - مبدأ أن الماضي لا بد أن يفسره الحاضر، إلا إن اتضح سبب وجيه بما يفيد العكس؛ وحقيقة أنه على قدر معرفتنا بالتاريخ الماضي لحياتنا على كوكبنا، لا يمكن لمثل هذا السبب أن يظهر - لا أملك سوى الاعتقاد بأن لايل كان العامل الرئيسي، لي وللآخرين، في تمهيد الطريق لأفكار داروين. إن مبدأ الاتساقية يفترض التطور في العالم الحيوي كما في العالم غير الحيوي. ونشأة نوع جديد بأي شيء آخر غير العوامل العادية ستكون «كارثة» أكبر كثيرا من تلك التي أقصاها لايل بنجاح من التفكير الجيولوجي الرزين.
في الواقع، لم يكن أحد أكثر إدراكا لهذا من لايل نفسه. إن قرأ أحد أيا من الطبعات الأولى من كتاب «مبادئ الجيولوجيا» بعناية (لا سيما في ضوء سلسلة الخطابات المثيرة للاهتمام التي نشرها مؤخرا كاتب سيرة السير تشارلز لايل الذاتية)، فسيرى بسهولة أن لايل، مع كل معارضته النشطة للامارك، من ناحية، وفكر أجاسي فيما يتعلق بالتطور الموجه، من ناحية أخرى، كان، في ذهنه، ميالا بشدة لأن يرجع نشأة كل الأنواع السابقة والحالية من الكائنات الحية لأسباب طبيعية. لكنه كان يفضل، في الوقت نفسه، أن يرجع عملية الخلق لعملية طبيعية تخيل أنها مستعصية الفهم.
في خطاب موجه إلى مانتيل (بتاريخ 2 مارس، 1827)، يتحدث لايل عن قراءته للامارك للتو، ويعبر عن سعادته بنظريات لامارك، وتحرره الشخصي من أي اعتراض قائم على أسس لاهوتية. ورغم أنه منزعج بوضوح من أن فكر لامارك يرى أن الإنسان ينحدر من أحد أشباه القرود، فإنه يقول ملاحظا:
لكن، على أي حال ، ما التغيرات التي قد تخضع لها الأنواع حقا؟ كم سيكون مستحيلا تمييز ووضع الخط الذي لم يجتزه قط بعض مما يسمى الأنواع المنقرضة إلى الأنواع الحالية!
مرة أخرى، ترد الفقرة التالية الجديرة بالملاحظة في حاشية خطاب موجه إلى السير جون هيرشيل عام 1836: «فيما يتعلق بنشأة أنواع جديدة، يسرني جدا أن أعلم باعتقادك أنه من المرجح استمرارها من خلال تدخل أسباب وسيطة. وقد تركت هذا الأمر للاستنباط، معتقدا أنه ليس من المجدي إثارة سخط فئة معينة من الأشخاص بوضع شيء لا يعدو كونه تخمينا في كلمات.» ويستمر في حديثه مشيرا إلى الانتقادات التي وجهت ضده على أساس أنه إن سمح للأنواع بأن تنشأ بمعجزة، يكون غير متسق مع مذهبه، مذهب الاتساقية؛ ويترك الأمر ليفهم أنه لم يحدد رأيه، على أساس اعتراضه العام على الجدل.
كان معاصرو لايل لديهم بعض المعرفة بمذهبه الخفي. وأيا كانت القيمة الفلسفية لكتاب هيول «تاريخ العلوم الاستقرائية»، فهو دائما يستحق القراءة ودائما مثير للاهتمام، إن كان فقط في إطار أنه دليل على الحدود النظرية التي كان يجوز لعالم لاهوت رفيع المستوى أن يتجول فيها إن أراد، في ذلك الوقت. وفي سياق مناقشته مذهب الاتساقية، يقول هيول، عميد كلية ترينيتي الموسوعي، ملاحظا:
لقد تحدث السيد لايل، بالطبع، عن الفرضية القائلة بأن «خلق الأنواع المتتابع قد يشكل جزءا منتظما من منظومة الطبيعة»، لكنه لم يصف في أي موضع، على ما أعتقد، هذه العملية حتى يبين لنا في أي من أفرع العلوم نضع فرضيته. هل تخلق هذه الأنواع الجديدة، على فترات طويلة، بإنتاج ذرية مختلفة في النوع عن آبائها؟ أم هل تنتج الأنواع التي خلقت هكذا دون آباء؟ وهل تتطور تدريجيا من مادة جنينية ما؟ أم تخرج من الأرض فجأة، كما هو الحال في حالة الشاعر المبدع؟
إن اختيار أحد أشكال الفرضية هذه، دون الأخرى، مع وجود برهان على الاختيار، ضروري ليمنحنا حق وضعها من ضمن أسباب التغير المعروفة، التي نتناولها في هذا الفصل. إن مجرد الاعتقاد بأن عملية خلق الأنواع قد وقعت، سواء مرة أو عدة مرات، ما دام ذلك غير مرتبط بعلومنا الحيوية، يجعلها تندرج تحت اللاهوت الطبيعي لا الفلسفة الطبيعية.
1
يبدو الجزء الأول من هذا النقد منصفا وملائما تماما، لكن، من الفقرة الختامية، يبدو واضحا أن هيول يتخيل أن لايل يقصد ب «الخلق» تدخلا خارقا للطبيعة من الرب؛ بينما يكشف الخطاب إلى هيرشيل أن لايل، في ذهنه، قصد سببية طبيعية؛ وأنا لا أرى سببا للشك أنه إن كان السير تشارلز يستطيع تحاشي اللازمة الطبيعية الحتمية للأصل القردي للإنسان - التي ظل حتى نهاية حياته يرفضها بشدة - لكان أيد الأسباب الفاعلة الآن والتي تمخضت عنها حالة العالم الحيوي، كما أيد بقوة ذلك المذهب فيما يتعلق بالطبيعة غير الحيوية.
إن كون إحدى العيون الثاقبة قد رأت أن شكلا ما من
سميث حقيقة أن الطبقات المتعاقبة تمتاز بأنواع مختلفة من بقايا الحفريات، قد جعل التطافر قانونا راسخا من قوانين الطبيعة. ولم يعبر أحد عن العواقب التخمينية لهذا التعميم أفضل من مؤرخ «العلوم الاستقرائية»:
لكن تكشف لنا دراسة الجيولوجيا عن مشهد يضم مجموعات عديدة من الأنواع تعاقبت على فترات زمنية هائلة، على مدى تاريخ الأرض؛ إذ تختفي مجموعة من الحيوانات والنباتات، كما يبدو، من على كوكبنا، وتصير أخرى غيرها، والتي لم تكن موجودة من قبل، الساكن الوحيد للأرض. وهكذا تكشف لنا المعضلة عن وجهها من جديد؛ فإما أن نتقبل مذهب تطافر الأنواع، ويصير علينا افتراض تطافر الأنواع المنظمة التابعة لأحد العصور الجيولوجية لأنواع عصر آخر عن طريق تدخل مستمر لأسباب طبيعية، أو نؤمن بتعدد وتعاقب عمليات خلق الأنواع وانقراضها، خارج مسار الطبيعة الشائع؛ وبناء على ذلك، يجوز لنا أن نسمي هذه العمليات بحق معجزات.
2
يؤيد دكتور هيول الاستنتاج الثاني. ولو كان أي أحد ألح عليه بالأسئلة الأربعة التي طرحها على لايل في الفقرة المذكورة آنفا ، فكل ما يمكن قوله الآن أنه كان بالطبع سيرفض الاستنتاج الأول. لكن هل كان حقا لديه الشجاعة ليقول إن وحيد القرن الصوفي مثلا، «نتج دون أبوين»: أو «تطور من مادة جنينية»؛ أو نشأ فجأة من الأرض مثل أسد ميلتون «ضاربا بمخالبه ليحرر أجزاءه الخلفية.» أسمح لنفسي بالشك فيما إن كانت حتى شجاعة عميد كلية ترينيتي المحنكة - على المستوى المادي والفكري والأخلاقي - كانت مستعدة لهذه الخطوة. لا شك أن اجتماع نصف طن من الجزيئات غير الحيوية في جسد وحيد قرن حي فجأة من الأشياء التي يمكن تصورها؛ ومن ثم قد يكون ممكنا. لكن هل يقع هذا الحدث في حدود الممكن بالقدر الكافي ليبرر تصديق حدوثه بناء على أي دليل يجوز إدراكه أو بالطبع تخيله؟
وفيما يتعلق بالزعم (الذي ردد كثيرا في بداية معارضة داروين) بأنه لم يضف شيئا إلى كلام لامارك، فسيكون من المثير جدا للاهتمام أن نلاحظ أن احتمالية وجود بديل خامس، بالإضافة إلى الأربعة التي جرى ذكرها، لم تخطر على بال الدكتور هيول. إن الاقتراح القائل بأن أنواعا جديدة قد تنتج عن انتقاء ظروف خارجية لتباينات عن النمط المحدد الذي يمثله الأفراد - وهو ما نقول إنه فعل «تلقائي» لأننا نجهل سببه - لهو أمر مجهول تماما لمؤرخ الأفكار العلمية كما كان للمتخصصين في علم الأحياء قبل عام 1858. لكن ذلك الاقتراح هو الفكرة المحورية في كتاب «أصل الأنواع» ويمثل جوهر الداروينية.
لذا، عند النظر في الماضي، يبدو لي أن موقفي النقدي المترقب كان عادلا ومنطقيا، وكان يجب أن يتخذه كثيرون آخرون، للأسباب نفسها. حين أخبرني أجاسي أن أشكال الحياة التي سكنت الأرض على نحو متعاقب كانت تجسيدات لأفكار الإله المتعاقبة، وأنه محا مجموعة من هذه التجسيدات بكارثة جيولوجية مروعة بمجرد أن اتخذت أفكاره شكلا أكثر تطورا، وجدت نفسي لست فقط غير قادر على أن أقر بدقة استنتاجاته من حقائق علم الحفريات، التي قامت عليها هذه النظرية العجيبة، ولكن كان يجب كذلك أن أقر بحاجتي لأي وسائل لاختبار صحة تفسيره لها. وعلاوة على ذلك، كنت لا أستطيع إدراك ما الذي فسره التفسير. كذلك لم يساعدني إخبار أحد علماء التشريح البارزين إياي أن الأنواع تعاقبت الواحد تلو الآخر في الزمن، بسبب «قانون خلق مستمر العمل». لم يبد هذا لي أكثر من القول بأن الأنواع تلت بعضها الآخر، في شكل يسعى لإرضاء كل الأطراف؛ فهناك «قانون» لإرضاء رجل العلم، و«خلق» لجذب المتشددين. هكذا لجأت إلى «التشكك النشط»، الذي أحسن جوته تعريفه للغاية، وناقضت المبدأ الديني القائل بضرورة السعي لإرضاء الجميع؛ فدأبت على الدفاع عن التمسك بالمذاهب المسلم بها، حين كان يتوجب علي ذلك مع مناصري التطافر، ودافعت عن إمكانية التطافر بين المتشددين؛ مما عمق، لا ريب، الانطباع، الذي كان بالفعل سائدا، وإن لم يكن مستحقا على الإطلاق، بعدوانيتي التي لا ضرورة لها.
أتذكر أنني، أثناء لقائي الأول مع السيد داروين، عبرت عن إيماني بحدة الخطوط الفاصلة بين المجموعات الطبيعية وعدم وجود أشكال انتقالية، بكل ما للشباب من ثقة ومعرفة غير مكتملة. لم أكن مدركا حينذاك أنه قد ظل لسنوات عديدة مشغولا بالتفكير في مسألة الأنواع، وقد ظلت ابتسامته المرحة التي رافقت رده الدمث، بأن تلك لم تكن وجهة نظره البتة، تراودني وتحيرني طويلا. لكن يبدو أن أربع أو خمس سنوات من العمل الشاق قد جعلتني قادرا على فهم ما كانت ترمي إليه؛ إذ يقول لايل،
3
في خطابه إلى السير تشارلز بانبري (بتاريخ 30 أبريل، 1856):
حين كان هكسلي وهوكر ووولستن في منزل داروين الأسبوع الماضي، أيد (الأربعة جميعهم) مسألة الأنواع، ذاهبين في ذلك إلى حد ليسوا على استعداد له، حسبما أعتقد.
لا أذكر من هذا سوى مقابلة السيد وولستن؛ وبعيدا عن تأكيد السير تشارلز الواضح بقوله «الأربعة جميعهم»، أعتقد أن «تجرئي» كان ردا على تحفظ وولستن. أما هوكر، فقد كان بالفعل «على استعداد لفعل أي شيء»، مثل حبقوق في وصف فولتير له، في سبيل الترويج لنظرية التطور.
وكما قلت بالفعل، يخيل لي أن أغلب هؤلاء المعاصرين لي الذين فكروا في المسألة بجدية، كانت لديهم الحالة الذهنية نفسها إلى حد كبير - فهم يميلون لأن يقولوا لكل من مناصري الفكر التقليدي ومناصري التطور : «عليكما اللعنة أنتما الاثنين!» وينزعون للانصراف عن نقاش لا نهاية له ويبدو عقيما، ليعملوا في الحقول الرحبة للحقائق التي يمكن التثبت منها. وبناء على ذلك، يجوز لي أن أفترض أيضا أن نشر أبحاث داروين ووالاس عام 1858، وكتاب «أصل الأنواع» عام 1859 بدرجة أكبر، قد أثر عليهم أثر بصيص الضوء، الذي يكشف الطريق فجأة لمن ضل في ليل بهيم، والذي، سواء أرشده لمنزله مباشرة أم لا، سيوجه خطاه بالتأكيد. إن ما كنا نبحث عنه ولم نستطع العثور عليه، كان نظرية تتعلق بنشأة أشكال حيوية معروفة، والتي لا تدعي تأثير أسباب غير التي يمكن إثبات أنها عاملة بالفعل. نحن لم نكن نريد أن نركن إلى هذا التخمين أو ذاك، وإنما أن نحصل على مفاهيم واضحة ومحددة يمكن مواجهتها بالحقائق واختبار صحتها. وقد أمدنا كتاب «أصل الأنواع» بالنظرية المقبولة التي كنا نبحث عنها. كما أنه قدم خدمة عظيمة بتحريرنا للأبد من المعضلة التالية: فلترفض قبول نظرية الخلق، لكن ماذا لديك لتطرحه يمكن أن يقبله أي مفكر حذر؟ في عام 1857، لم يكن لدي رد جاهز، ولا أعتقد أنه كان لدى أي أحد. وبعد ذلك بعام، وبخنا أنفسنا على بلادتنا لوقوعنا في حيرة إزاء هذا السؤال. لقد كان انطباعي، حين أصبحت ملما لأول مرة بالفكرة المحورية لكتاب «أصل الأنواع»، هو: «كم كنت شديد الغباء لعدم التفكير في ذلك!» وأعتقد أن رفاق كولومبوس قالوا الشيء نفسه تقريبا حين جعل البيضة تقف على طرفها. كانت حقائق القابلية للتباين والصراع من أجل البقاء والتأقلم مع الظروف، ذات سمعة سيئة تماما، لكن لم يساور أيا منا الشك أن الطريق للب مشكلة الأنواع يمر خلالها، إلى أن بدد داروين ووالاس الظلام، وأرشدت منارة كتاب «أصل الأنواع» من غيبهم الظلام والجهل.
ما إن كان الشكل المحدد الذي اتخذته نظرية التطور، فيما يتعلق بالعالم الحيوي، على يد داروين، سيصبح نهائيا أم لا، لم يكن من الأمور التي آبه لها. في انتقاداتي الأولى لكتاب «أصل الأنواع»، أشرت إلى أن أساسه المنطقي كان متقلقلا ما دامت تجارب الاستيلاد الانتقائي لم تنتج ضروبا عقيمة بنحو أو بآخر؛ ولا يزال هذا التقلقل قائما حتى الوقت الحاضر. غير أنه، مع كل الشكوك النقدية التي استطاعت مهارتي في التشكيك أن تطرحها، تظل النظرية الداروينية أكثر ترجيحا على نحو لا يقارن من نظرية الخلق. وما دام لم يستطع أي منا أن يميز المغزى الأهم لبعض الحقائق الطبيعية الأكثر وضوحا وشهرة، حتى وضعت أمامنا مباشرة، إن جاز القول، فما القوة الباقية في المعضلة - الخلق أم لا شيء؟ كان جليا أنه فيما بعد، سيصير احتمال أن روابط السببية الطبيعية كانت مخفية عن أعيننا الضعيفة البصر أكبر كثيرا من احتمال أن السببية الطبيعية لا بد أن يكون بها قصور لإنتاج كل ظواهر الطبيعة. وكان المسار المنطقي الوحيد لأولئك الذين لم يكن لديهم هدف سوى بلوغ الحقيقة، هو قبول «الداروينية» باعتبارها نظرية مقبولة، ورؤية ما يمكن عمله بها. إنها إما أن تثبت قدرتها على إبانة حقائق الحياة الحيوية، وإما أن تنهار تحت الضغط. لا شك أن هذا كان ما يمليه المنطق؛ ولأول مرة انتصر المنطق. وكانت النتيجة انقلاب عالم العلم بأسره «رأسا على عقب»، وهو ما لا بد أن يبدو مدهشا جدا للجيل الحالي. أنا لا أقصد أن كل رواد علم الأحياء قد أعلنوا أنهم داروينيون؛ غير أنني لا أعتقد أن ثمة عالم حيوان أو نبات أو حفريات واحد، بين حشد العاملين بنشاط في هذا الجيل، إلا وصار من أنصار التطور وتأثر تأثرا عميقا بآراء داروين. ومهما يكن المصير النهائي للنظرية الخاصة التي طرحها داروين، فسأجازف وأؤكد، على قدر معرفتي، أن كل مهارة وعلم النقاد المعاندين لم تمكنهم من إثبات حقيقة واحدة، يمكن القول بأنها متعارضة مع النظرية الداروينية. لكن في التنوع والتعقيد الهائلين للطبيعة الحيوية يوجد الكثير من الظواهر التي لا يمكن استخلاصها من التعميمات التي توصلنا إليها حتى الآن. لكن يمكن قول الشيء نفسه عن كل فئات الأشياء الطبيعية الأخرى؛ إذ أعتقد أن علماء الفلك لم يستطيعوا حتى الآن التوفيق تماما بين حركة القمر ونظرية الجاذبية.
لن يكون من المناسب، حتى لو كان ممكنا، أن نناقش الصعوبات والمشكلات العالقة التي قابلت أنصار التطور حتى الآن، والتي ربما ستظل تحيرهم في الأجيال القادمة، في سياق هذا السرد التاريخي الموجز عن استقبال عمل السيد داروين العظيم. لكن ثمة اعتراضين أو ثلاثة ذات طبيعة عامة أكثر، أو يفترض أنها قائمة على أسس فلسفية ولاهوتية، والتي عبر عنها بقوة في أوائل أيام الجدل الدارويني، والتي رغم الرد عليها مرارا وتكرارا، ما زالت تطل برأسها من حين لآخر حتى الوقت الحاضر.
الأغرب من بين كل هذه المغالطات، الأبدية ربما، التي ما زالت باقية كأنها تيثونوس، في حين أن العقل والمنطق قد أعرضا عنها من زمن بعيد، هي التي تتهم السيد داروين بمحاولة إعادة فكرة ربة الحظ الوثنية القديمة [التي ينسب فيها كل ما يحدث للإنسان إلى ما يصادفه من حظ جيد أو سيئ.] يقال إنه يفترض أن التباينات تحدث ب «الصدفة»، وأن الأصلح ينجو من صدف الصراع من أجل البقاء، وهكذا تحل «الصدفة» مكان التدبير الإلهي.
من الغريب أن يوجه مثل ذلك الاتهام إلى كاتب ظل مرارا وتكرارا ينبه قراءه إلى أنه حين يستخدم كلمة «تلقائي»، لا يقصد سوى أنه يجهل سبب الشيء الذي وصفه بها؛ والذي ستنهار نظريته بالكامل إن أنكر اتساق السببية الطبيعية واطرادها على مدى عصور ماضية لا متناهية. لكن ربما أفضل رد على أولئك الذين يتحدثون عن الداروينية باعتبارها نظرية عن سيطرة «الصدفة»، أن نسألهم عن مفهومهم عن «الصدفة». هل يعتقدون أن أي شيء في هذا الكون يحدث دون سبب أو دون علة؟ هل يتصورون حقا أنه ليس لأي حدث من الأحداث سبب، ولا يمكن لأي شخص لديه بصيرة كافية بنظام الطبيعة أن يتنبأ به؟ إن كانوا كذلك، فهم ورثة الخرافات القديمة والجهل، ولم يضئ عقولهم أي شعاع من التفكير العلمي قط. التصرف الوحيد لإثبات جدية الإيمان عند اعتناق المذهب العلمي هو الإقرار بشمولية النظام والصحة المطلقة لقانون السببية في كل الأزمان وفي جميع الظروف. هذا الإقرار يثبت جدية الإيمان لأن صحة تلك الافتراضات ليست، نظرا لطبيعة الحالة، قابلة للإثبات. غير أن هذا الإيمان ليس أعمى، وإنما منطقي؛ لأنه يتأكد دائما بالتجربة، ويشكل الأساس الوحيد الجدير بالثقة لكل الأفعال.
إن كان أحد هؤلاء الناس، الذين ما زالوا، على نحو غريب، باقين على عبادة الصدفة مثل أسلافنا القدامى جدا، على مقربة من البحر أثناء هبوب عاصفة عاتية، فلتدعه يتجه للشاطئ ويشاهد المنظر. اجعله يدون التنوع اللانهائي في شكل الأمواج المتلاطمة في البحر وحجمها؛ أو منحنيات تكسرها على الصخور المكلل بالزبد؛ ودعه ينصت لهدير الحصى وصخبه وهو يلقى على الشاطئ ويقتلع منه؛ أو ينظر إلى كتل الزبد وهي تترامى هنا وهناك أمام الرياح؛ أو يلاحظ تنوع الألوان، الذي يحدث عند سقوط شعاع من ضوء الشمس على آلاف الفقاعات. لا شك أنه سيقول في هذا الموقف على وجه الخصوص، إن الصدفة عظيمة، ويركع كمن دخل في حرم ربه. لكن رجل العلم يعلم أن النظام المثالي هو ما يتجلى هنا، كما في كل مكان؛ وأنه ليس ثمة منحنى في الموجات، أو نغمة في النشيد المدوي، أو ومضة قوس قزح في فقاعة، إلا وكانت نتيجة حتمية للقوانين المحكمة للطبيعة؛ وأنه مع معرفة كافية بالظروف، يستطيع من لديه إلمام بالرياضيات والفيزياء تفسير كل من هذه الأحداث «العارضة»، والتنبؤ بها بالطبع.
هناك اعتراض ثان شائع جدا على آراء السيد داروين، وهو الذي كان (ولا يزال) يقول إنها تلغي مبدأ الغائية، وتنتزع الحجة من مسألة التصميم. مضى عشرون عاما تقريبا منذ أقدمت على تقديم بعض الملحوظات حول هذا الموضوع، وبما أن حججي لم تلق تفنيدا حتى الآن، أرجو المعذرة في إعادة نشرها. لاحظت أن «مذهب التطور هو ألد أعداء كل أشكال مبدأ الغائية الأكثر انتشارا وابتذالا. لكن ربما أبرز خدمة قدمها السيد داروين لفلسفة علم الأحياء هي المواءمة بين مبدأ الغائية وعلم التشكل، وتفسير حقائق كل منهما، الذي تقدمه آراؤه. لا شك أن الغائية التي تفترض أن العين، مثل التي نراها لدى الإنسان، أو أحد الفقاريات العليا، قد خلقت بالتكوين المحدد الذي تظهر به، من أجل تمكين الحيوان الذي يملكها من الرؤية، قد تلقت الضربة القاضية. غير أنه من الضروري تذكر أن ثمة تصورا أوسع للغائية لم يمسه مذهب التطور، بل إنه في الواقع قائم على فرضية التطور الأساسية؛ هذه الفرضية هي أن العالم بأسره، الحي وغير الحي، هو نتاج تفاعل متبادل، وفقا لقوانين محددة، بين القوى الخاصة بالجزيئات التي تكون منها السديم الأولي للكون. إن صح هذا، فمن المؤكد أن العالم الحالي ربما يقبع في البخار الكوني، وأنه يمكن لعقل يمتلك قدرا كافيا من الذكاء، لديه معرفة بخواص جزيئات هذا البخار، التنبؤ مثلا بحال الحيوانات في بريطانيا عام 1869، بنفس اليقين الذي يستطيع به أحدهم أن يقول ما سيحدث لبخار النفس في يوم شتوي بارد. ... الرؤيتان الغائية والآلية للطبيعة ليستا متعارضتين بالضرورة، بل على العكس، كلما كان المنظر مؤمنا تماما بالرؤية الآلية، كان أكثر حسما في افتراض وجود تنظيم جزيئي أولي، تنبع منه كل ظواهر الكون، وكان تماما تحت رحمة المؤمن بالرؤية الغائية، الذي يمكنه دائما أن يتحداه لإنكار أن هذا التنظيم الجزيئي الأولي لم يقصد به إنتاج ظواهر الكون.»
4
لم ير بيلي، مناصر الغائية الكبير، أي صعوبة في إقرار أن «تكون الأشياء» قد يكون نتيجة سلاسل من التدابير الآلية التي أعدت مسبقا باختيار ذكي وظلت تعمل بسبب قوة مركزية؛
5
أي إنه مستشرفا المستقبل تبنى المذهب الحديث للتطور؛ وربما يحسن خلفاؤه باتباعه في ذلك، أو على الأقل بالانتباه إلى استدلالاته الهامة، قبل الاندفاع إلى عداء ليس له أساس منطقي.
والآن وقد انتهينا من مغالطتي الإيمان بدور الصدفة وإنكار التصميم، لعدم ارتباطهما بمذهب التطور على أي نحو، يمكننا أن نترك الطعن الثالث في حق هذا المذهب؛ أي معارضته الإيمان بوجود إله، ليدحض من تلقاء نفسه. لكن إصرار كثير من الناس على رفض استنباط أوضح العواقب من الفرضيات التي يدعون قبولها يجعل من المستحسن الإشارة إلى أن مذهب التطور ليس معارضا للألوهية ولا مؤيدا لها. إن علاقته بالإيمان بوجود إله ببساطة لا تتعدى علاقة كتاب إقليدس الأول به. من المؤكد تماما ألا تحتوي البيضة العادية التي وضعتها دجاجة الآن على ديك أو دجاجة؛ كذلك من المؤكد مثل أي فرضية في الفيزياء أو الأخلاق، أن يوجد فرخ ديك أو دجاج بداخلها عند وضع تلك البيضة في ظروف مناسبة لمدة ثلاثة أسابيع؛ من المؤكد تماما أيضا أنه لو كانت القشرة شفافة، لكنا سنستطيع مشاهدة تكون الطير الصغير، يوما بعد يوم، من خلال عملية تطور، بدءا من جنين خلوي مجهري حتى يبلغ حجمه الكامل وتكوينه المعقد؛ ومن ثم، يجري التطور بالفعل، بمعناه الدقيق، في هذه الحالة وملايين الملايين من الحالات المماثلة، متى وجدت كائنات حية؛ بناء على ذلك، وباستعارة إحدى حجج باتلر، مثلما يجب أن يتسق ما يحدث الآن مع سمات الرب، إن كان ذلك الكيان موجودا، لا بد أن يتسق التطور مع هذه السمات. وإن كان الأمر كذلك، فلا بد أن يكون تطور الكون، الذي يشبه تطور فرخ الطير في قابليته للتفسير، متسقا معها. إذن، لا يمس مذهب التطور الألوهية، باعتبارها مذهبا فلسفيا. أما ما يصطدم به بحق، ولا يتسق معه بتاتا، فهو مفهوم الخلق، الذي وضعه منظرون لاهوتيون على أساس التاريخ المروي في بداية سفر التكوين.
ثمة الكثير من النقاش وقدر غير ضئيل من الأسى على ما يسمى بالصعوبات الدينية التي أحدثتها العلوم الطبيعية. لكنها، في واقع الأمر، لم تحدث أية مشكلة في العلوم اللاهوتية؛ فلم تظهر مشكلة واحدة للمؤمنين بالألوهية باعتبارها مذهبا فلسفيا، في الزمن الحاضر، إلا وكانت موجودة منذ الزمن الذي بدأ فيه الفلاسفة التفكير في الأسس والعواقب المنطقية للألوهية. إن كل الصعوبات، سواء كانت حقيقية أو وهمية، التي تنبع من تصور الكون كنظام آلي حتمي، موجودة بنفس القدر في افتراض وجود إله أبدي وقدير وعليم. إن المكافئ اللاهوتي للتصور العلمي للنظام هو العناية الإلهية؛ وكما ينتج مذهب الحتمية قطعا عن سمات المعرفة المسبقة التي يفترضها عالم اللاهوت، ينتج أيضا عن شمولية السببية الطبيعية التي يدعيها رجل العلم. إن الملائكة في «الفردوس المفقود» ما كانت لتجد مهمة تعريف آدم بألغاز «القدر والمعرفة المسبقة وحرية الإرادة» صعبة على الإطلاق، لو كان تلميذهم قد تعلم في مدرسة ثانوية، وتدرب في معمل جامعة حديثة. وفيما يتعلق بمشكلات الفلسفة الكبرى، فإن جيل ما بعد الداروينية، من ناحية، يقف منها موقف أجيال ما قبل الداروينية نفسها بالضبط. إنها ما زالت غير قابلة للحل. إلا أن الجيل الحالي لديه ميزة توفر وسائل أفضل لتحرير نفسه من سلطان بعض الحلول الزائفة.
ما نعرفه محدود، وما نجهله لا محدود؛ فما زلنا على المستوى الفكري واقفين على جزيرة وسط محيط لا متناه من الأشياء غير القابلة للتفسير. ومهمتنا في كل جيل أن نستكشف القليل من اليابسة، ليزيد اتساع أملاكنا ورسوخها. وتكفي نظرة خاطفة على تاريخ العلوم البيولوجية خلال ربع القرن الأخير لتأكيد الزعم بأن أقوى وسيلة توصل إليها البشر لتوسيع مجال المعرفة الطبيعية، منذ نشر كتاب نيوتن «المبادئ الرياضية»، هي كتاب «أصل الأنواع» لداروين.
لقد لاقى الكتاب استقبالا سيئا من الجيل الذي كان موجها له في البداية، وإنه مما يبعث على الحزن التفكير فيما أسفر عنه من فيض من الترهات الغاضبة. إلا أن الجيل الحالي ربما يتصرف على النحو السيئ نفسه إن جاء داروين آخر، وطالبهم بأكثر ما يكرهه عموم البشر؛ ألا وهو ضرورة مراجعة قناعاتهم. إذن فليترفقوا بنا، نحن الجيل القديم؛ وإن لم يتعاملوا على نحو أفضل مما فعل رجال عصري مع أي رجل مبدع جديد، فليتذكروا أن سخطنا لم يكن بالغا، ونفس عن نفسه على نحو أساسي من خلال استخدام اللغة البذيئة في توبيخ لا يخلو من ادعاء التقوى. وليقوموا بسرعة بمراجعة ذاتية استراتيجية، ويتبعوا الحقيقة أينما تأخذهم. سيكتشف معارضو الحقيقة الجديدة، كما يكتشف الآن معارضو داروين، أن النظريات لا تبدل الوقائع، وأن الكون لا يتأثر حتى مع انهيار النصوص؛ أو، حيث إن التاريخ يعيد نفسه، ربما يكتشفون أيضا بما حظوا به من براعة أن النبيذ الجديد من غلة كرم النبيذ القديم نفسها، وأن الزجاجات القديمة (عند النظر إليها بمنظار صحيح) ما هي إلا أشياء صنعت فقط للاحتفاظ بها.
ملاحظات
الفصل
الفصل
الفصل
الخطابات
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
ناپیژندل شوی مخ