وضاعف من ثقل تلك الأيام العصيبة التي استغلها كل طامع في الهلالية انقطاع المطر وحلول الجفاف الذي امتص كل رحيق لخضرة وحياة من الزرع والبهائم، بل والناس أنفسهم على مختلف فئاتهم وطبقاتهم.
وهكذا لم يعد بإمكان الجميع سوى التذرع بالانتظار الثقيل، طالبا للعافية ومعاودة الجهاد وركوب المصاعب للخروج من واقع هذا المأزق القاتل لكل حياة.
فحتى ابنها الأكبر ذاته الأمير حسن بن سرحان سلطان التحالف الهلالي، وأخته وريثتها في القيادة والانفراد بثلث المشورة الأميرة «نور بارق» التي عرفت ب «الجازية»؛ حط عليهما ذلك الانتظار الثقيل عاما إثر عام دون تملك القدرة على الإتيان بقرار أو فعل جماعي، بسبب مرض الأميرة الأم وجفاف الصحراء الذي وصل بالهلاليين إلى حد العطش. - ما العمل؟
منذ البداية حاولت الجازية التبشير بمشورة أمها المريضة الغائبة عن كل وعي المثقلة بجراحها الغائرة ... التي لم يسلم منها عضو في جسدها الناحل نتيجة ما خاضته من معارك تركت آثارها وبصماتها عليه.
لكن كان ذلك كله دون جدوى، بل من يسمع ويعي والجميع تعودوا على تلقي القرار مشهرا من فمها الشريف، ساريا على كل رءوس القبائل والأمراء والشيوخ وملوك الجزيرة: شماء الأم القائدة.
بل حتى فارس التحالف الهلالي ذاته، أبو زيد الهلالي، الذي أعلن لجموع بني هلال خبر موت الأميرة الأم شماء الفاجع من أعلى الجبال المطلة على ساحات المدينة؛ لم يسلم من السب والتجريح والتطاول من الجماهير الغاضبة غير المصدقة الهائجة، المطالبة بإشهار الجثمان لتتيقن منه كل عين ترى وتبصر. - كذب، كذب! - تدليس! - اخرس يا شؤم - أين الجثمان؟ - الشهود، أين الشهود؟
وهكذا تدافعت الأجساد كيوم الحشر، باتجاه مضارب الأميرة «شماء» لا يوقفها حرس أو فرسان دون التفاته إلى الخلف، مطالبة بالدليل واليقين.
وتكسرت كل محاولات السلطان حسن ابنها ووريثها وابنتها الجازية و«أبو زيد الهلالي سلامة»، في رد الوفود الثائرة وإعادتها إلى صوابها، وهي التي صدمها النبأ الفاجع حتى العظم. - الجثمان، الجثمان.
ورغم التطاول على أبي زيد الهلالي من جانب بعض الأفواه التي أعماها الغضب، فإنه كان الأسرع بالمبادرة إلى إقناع السلطان حسن بإخراج الجثمان وتسجيته على أعلى سلالم قصر الأميرة الأم الرخامي؛ لتهدئة ثائرة الجماهير المنذهلة غير المصدقة: - إنا لله وإنا إليه راجعون!
وهكذا حط الهدوء على هامات الرءوس الثائرة والغاضبة والفزعة، وتدافعت الوفود في ثباتها تلهج بالرحمة والغفران للموتى والأحياء معا، وهي ترقب الجثمان الطاهر المسجى في حالة من الاطمئنان والصفاء الذي فعل مسراه في الأعصاب والمشاعر التي أغرقها الحزن.
ناپیژندل شوی مخ