هذا العالم الخفي لم يكن ليكشف عن نفسه هكذا ببساطة للموظف الجديد، فما بالك والجديد موظفة وأنثى، والأسرار أسرار تتكشف ببطء شديد وبالقطارة، ولا تتكشف من تلقاء نفسها ... لا بد من بذل جهود وعقد صداقات وشحذ ذكاء.
وهكذا كان لا بد - طال الوقت أم قصر - أن تدرك سناء أن ثمة عملية أخرى يقوم بها المكتب الذي تعمل فيه ... استخراج التراخيص، ذلك هو العمل الرسمي للمكتب، أهون العملين وأقلهما شأنا واهتماما وأبطؤهما سرعة إنجاز، بل هو في الواقع لم يكن أكثر من مجرد لافتة رسمية معلقة لتدل الزبائن على المكان الذي باستطاعتهم أن يتوجهوا إليه لنهو العمل الثاني، العمل الحقيقي الدائب ... بيع التراخيص، بيعها بأثمان لم تحددها المصلحة ولا الوزارة وإنما حددتها تقاليد ورثها الموظفون جيلا عن جيل وباشكاتبا عن باشكاتب، أسعار تخضع لكل ما يطرأ على حياتنا من تغيير، ارتفعت في أثناء الحرب مع ارتفاع الأسعار، وكلما زاد الغلاء ازداد ارتفاعها، والشيء نفسه ينطبق على نسبة التوزيع ... الباشكاتب 30 في المائة، بقية الموظفين من مرءوسيه 30 في المائة، والأربعون في المائة الباقية تذهب إلى رأس كبير في المصلحة، ويقال إن معظمها يذهب إلى رءوس مماثلة في الوزارة نفسها، عملية تجري مجرى اللوائح والقوانين تتم سرا معظم الأحيان، وبحرص شديد من الزبون وبجرأة غريبة من الموظفين، والطريق إليها معروف، والواسطة خفاجي ذلك الساعي ذو الشارب الكث وسحب الدخان الغزيرة، الواقف على باب المكتب «ليفنط» الزبائن و«يوزع» غير المرغوب فيهم، ويفتح الباب «للسالكين».
ورغم كل ذكائها لم تكن سناء قد أدركت طبعا، ولا كان لها أن تدرك، ذلك الاجتماع الخفي الذي تم بين الباشكاتب وزملائها يوم تعيينها، ولا ما دار فيه من نقاش، وكيف كان رأي الباشكاتب أكبرهم نصيبا وأكثرهم خوفا أن يتوقف العمل الثاني في ذلك اليوم إلى أن يجسوا نبض هذه القادمة الخام الجديدة، وكيف كان من رأي الجندي أن يستمر العمل وكأن شيئا لم يحدث، فلا يمكن لبنت مثلها لا تزال مغلقة العينين كالقطط المولودة أن تستنتج أمورا لا يستطيع الجن الأحمر نفسه إدراكها إلا إذا اشترك فيها، ولم يكن غريبا أن ينتصر رأي الجندي، ففي ذلك العمل الثاني كان هو الذي يقبض، وهو الذي يتولى التوزيع، وأهم من ذلك كان هو الصلة الوحيدة بين المكتب وبين الرءوس الكبيرة يخصم لها النسبة ويتولى إيصالها، ويحتفظ وحده بأسمائها لا يعرفها سواه، ومن هنا كان نفوذه لا في المكتب وحده ولكن في الوزارة كلها، ذلك النفوذ الذي استطاع به أن يمنع نفسه من النقل أو حتى الترقية أو ترك المكتب بأية وسيلة لخمسة عشر عاما متواصلة قضاها ينظم ذلك العمل ويشرف عليه.
صحيح أن انشغاله بأمر سناء قد جعل اضطرابا ما يحدث للعمل ولكنه ظل يواصله، وصحيح أنه تساءل مرة أو مرتين - ونادرا جدا ما كان يسأل نفسه عن أمر - ماذا يحدث لو عرفت سناء ما يقوم به، هي التي يبدو أنها نقية مثالية كالقماش الأبيض، بالتأكيد يمرضها بل يحتمل أن يقتلها معرفة أشياء كهذه؟ ولكنها أيضا مجرد تساؤلات متباعدة تدق دقا خافتا جدا على إحساس جامد متصلب ولا تتوقف عنده طويلا.
في ذلك اليوم وقد جاءت سناء متحفزة لقرار التجاهل التام، أحست حين دخلت الحجرة أنها تدخل على جو مريب، كان زبون بادي الثراء والأناقة من زبائن المكتب يجلس أمام الباشكاتب، وثمة كوكاكولا قد انتهى من شربها وقهوة في الطريق إليه، وحديث كان يبدو أن دخولها السبب الوحيد في قطعه، لم تلق بالا كثيرا أول الأمر إذ كانت لا تزال تحيا وتتشبث بقرارها الخاص، ولكن الصمت ... الصمت الذي تتخلله كلمات مقتضبة أشد ريبة من الصمت نفسه، والوجوه، الوجوه المستديرة عنها والموجهة بارتباك إليها والمندسة في الأوراق، والاستغاثات الملحة بالسؤال عن صحتها ومزاجها وكيف تبدو الدنيا في الخارج، بجماع هذا كله، أو في الحقيقة بالفراغ الكامن بين هذا كله، استطاعت أن تخمن مخلوعة القلب شبه مرتجفة أن هناك شيئا آخر غير العمل يحدث في المكتب، ويحدث باتفاق الجميع وباشتراك الجميع، وأن الجميع يبذلون جهدهم كي يغلقوا عينيها عن أن ترى وحواسها عن أن تشم وتسمع.
وكان طبيعيا أن يفوتها وهي فيما هي فيه من وجل وارتباك أن تدرك أن بعض العيون الثماني التي تزاملها قد استوقفتها حالتها، وكفتها لمحة لتتأكد - العيون - أنها، سناء، قد عرفت.
وتلاقت العيون حينئذ تسترق التشاور، وبدا أن ومضاتها ما لبثت أن اتفقت على رأي لم يكن قد بقي على تنفيذه إلا اجتماع عاجل يعقد وطريقة تختار.
وفي المقهى - في المساء - وتحت ظليلة من دخان الحشيش ورشفات أكواب الشاي، استقر الرأي على أنها ما دامت قد عرفت أو خمنت فلا بد من إشراكها، وتطوع الجندي وأخذ على عاتقه مهمة جر رجلها وتوظيفها - وأمره إلى الله - في العمل الثاني على شرط أن يكون هذا مقابل أبخس نسبة ممكنة، ورغم أن الآخرين لم يبدوا حماسا للفكرة ... فكرة أن يكون الجندي بالذات هو رسولهم إليها، إلا أنه أصر وأقسم لهم وأكد وتمسك بطريقة لم يجدوا معها بدا من الرضوخ، كان بينه وبين نفسه، وقد سدت في وجهه كل الأبواب الأخرى، يطمح أن يتقرب إليها من هذا الباب، وأن يجرب معها هذا المفتاح السحري، وقد وضع في اعتباره ما تعانيه هي وأسرتها من أزمة وحاجة إلى المصاريف.
من هنا وبهذا السلاح قرر أن يأكلها. •••
كانت خطة الجندي رغم عبطه الظاهر ماكرة خبيثة، فقد ظل يرتب الأمر بحيث خلت الحجرة إلا منه ومن نفس «الزبون» البادي الثراء، بينما وقف خفاجي على الباب يمنع الدخول بحجة أن هناك لجنة، وإن كانت شياطين الشغف تستبد به أحيانا حتى ليكاد ينحني ليختلس النظر أو يلصق أذنه بالباب علها تلتقط كلمة، جلس الزبون محرجا أول الأمر يرد على تحيات الجندي المتعاقبة بجهد وتكلف، وبين الحين والحين ينظر ناحية سناء ويعود ينظر إليه متسائلا متشككا، وتركه الجندي في حيرته وظل يراقب سناء من طرف خفي إلى أن لمحها تترك انهماكها المتعمد فيما أمامها من عمل، وتبدأ من طرف خفي أيضا تدرك وجود الزبون أمام الجندي، وتدرك وهذا هو المهم ارتباكه وحيرته، بمعنى أوضح تدرك أن هناك أمرا يتحرج الزبون من الخوض فيه أمامها، وأن الجندي لا يريد إنقاذه من هذه الحيرة، كان مفروضا حينئذ أن تعاودها إحدى نوبات الاشمئزاز الحادة التي تنتابها كلما بدر من الجندي ما يبعث على الاشمئزاز، فتنتفض في الحال واقفة وتغادر الحجرة، ولكنها هذه المرة وجدت نفسها واقعة تحت تأثير ما هو أقوى من الاشمئزاز ... حب استطلاع الأنثى، أقوى أنواع حب الاستطلاع، القادر وحده على أن يكبت - إذا استبد بها - كل رغباتها وما يدور بأعماقها من انفعالات، وجدت نفسها تريد بأي ثمن أن تعرف إن كان ما قدرته صحيحا أم هو من قبيل التخمينات ... أم لعل سبب بقائها هو الارتباك العنيف الذي اجتاحها وفصد العرق من كل جسدها وسمرها في مكانها، وكأنها بسبيلها إلى حضور أمر مخجل مجهول لا تعلم مدى بشاعته، أعيب عيب، لعل هذا هو ما دفعها إلى ابتلاع اشمئزازها والبقاء، بل ما هو أكثر من البقاء، ادعاء الانهماك الشديد في العمل، كي تترك أمامهم المجال واسعا رحبا حتى يتسنى لها أن تسمع وترى رأي العين.
ناپیژندل شوی مخ