ولا تعرف ماذا كان يلجم لسانها، أكثر من هذا يلجم حواسها كلها وعقلها عن أن تثور أو تنفجر صائحة غاضبة، أهو الخجل؟ ربما كان هذا صحيحا في المرات الأولى، أو هو الاشمئزاز؟ ربما كان في الشهر الأول، أهو الغثيان الذي كان يطفح من أعماقها حتى ليعميها أن ترى أو تسمع؟ أم هو كل ذلك معا؟ جائز، ولكن الواقع أنها كانت تسكت، وللإنصاف أيضا كان يتبدى على ملامحها الساكتة كل ما لم تكن تنطق به أو تقول ، ولكن الوضع أصبح لا يطاق حين تعدى صاحبنا حدود الغزل ودخل في عروض الزواج، أجل عروض الزواج! خلف الدوسيه سالت كلماته: هو أنا لا سمح الله نيتي وحشة؟ ... أنا هدفي شريف ... أنا راجل بتاع سنة الله ورسوله ... ومستعد من دلوقتي وبالشروط التي تطلبيها ... أصلي بصراحة دايب ... وواقع ... ومش لاقي اللي يسمي علي ... •••
حين أصبح الأمر وكأنه كل مشكلتها ... أمر لا تستطيع عرضه على عمها أو مصارحة أمها أو إحدى زميلاتها به، فكرت سناء لفرط ما وجدت نفسها محاصرة ومخنوقة أن تترك العمل وتستقيل، ولكن فكرة أخرى عنت لها ...
لماذا تيأس هكذا من أول عقبة؟
ولماذا تسلم بالهزيمة أمام إنسان تشمئز منه وتحتقره؟ لماذا لا توقفه عند حده؟ لماذا لا تتصرف التصرف اللائق بوضعها وقد أصبحت موظفة وتشكوه؟
وليلة بطولها قضتها إلى الثانية عشرة تكتب وتمزق وتفشل وتبكي وينتابها الغيظ، وأخيرا بدا وكأنها استقرت على الصيغة المناسبة للشكوى، وفي الصباح لم تذهب بالعريضة إلى الباشكاتب رئيسهم وإنما مباشرة إلى مدير الإدارة، دقت على الباب ودخلت وحيته وقدمت له «البوستة» ليوقعها وكانت قد وضعت الشكوى في آخرها، وحين انتهى المدير من التأشير على بقية الخطابات ورأت خطها يطل من العريضة والمدير يهم بتوقيعها هي الأخرى اقتربت منه، وترددت، ورجته أن يقرأها فهي شكوى منها، وخيل إليها بعد دهشة الرجل الأولى أنه قد أخذ وقتا أكثر من اللازم في قراءتها، وأن قهقهته حين انتهى كانت سخرية منها، واشتدت سمرة وجهها فجأة ووجدت نفسها تبكي، حينئذ فقط كف المدير عن الضحك واتخذت ملامحه طابعا أبويا مصطنعا وإن حاول أن يطليه بطبقة حزم حادة، وسمح لنفسه أن يهدهد على كتفها مؤكدا لها أنه لا بد أن يوقف الجندي عند حده، غير أن هذا لم يمنعه أن يعود للابتسام وهو يطلب منها أن تحاول في المرات القادمة أن تتعلم أساليب الشكاوى الرسمية، إذ ليس فيها محل لعبارات كثيرة جاءت بشكواها من أمثال «كلام تحمر له خدود العذارى»، و«موظفة مثلي ذات أصل وحسب»، ثم بلهجة شبه حادة هذه المرة أفهمها ألا توقع الشكاوى الرسمية أو المكاتبات بتعبير مثل «المخلصة» سناء عبد الله، فللرسميات لغتها الأخرى.
ورغم كل هذا الدرس الجانبي فقد عاد المدير يؤكد لها أنه سيوقف الجندي عند حده، تأكيدا دفعها لأن تعود إلى الحجرة وفي نظراتها رضاء سافر، وحين جلست كان في جلستها تماسك من أن له في النهاية أن ينتصر ويستريح، وهي التي ابتسمت هذه المرة ابتسامة حقيقية حين لم تكد تمضي دقيقة حتى جاء ساعي مدير الإدارة يستدعي الجندي، وبعد أكثر من ربع ساعة عاد مصفر الوجه بطريقة جعلت لجلده لون عينيه وأكسبته بشاعة، ولكنه يضحك أو على الأقل كان فكه الأسفل قد تهاوى في سقطة مهددة ضاحكة ... ومن خلف الدوسيه جاءتها كلماته: بتشكيني؟ ... هو أنا من بتوع الكلام ده؟ ... طيب ... بكره نشوف.
وقبل أن ينتهي كانت هي في انفعال حقيقي غاضب قد شرعت تكتب شكوى عاجلة أخرى تثبت فيها ما قاله، وتجري حاملة إياها إلى المدير الذي ما كاد يعرف محتواها حتى استدعى الجندي وقد تملكته شياطين الرئاسة والإحساس المضاعف بالهيبة المخدوشة، وجاء الجندي ويا لدناءته! يا للاستنكار الكاذب الهائل الذي قابل به شكواها! وقسمه وتأكيده لقسمه وأيمان الطلاق التي توالت من فمه، وهو يؤكد أن شيئا مما قالته لم يحدث، وأنها تتبلى عليه، وأنها هي التي تتمحك فيه وتناوشه على أمل أن تتزوج منه، وأنه مظلوم ... أي والله مظلوم لا يدري ما يفعل في هذه البلاوي التي تتساقط من حيث لا يعلم فوق رأسه: يا بيه عيب ... أنا راجل متجوز وعندي تسع عيال ... ما تخليها تشوف حد تاني تتلقح عليه، يا سعادة البيه ده أنا ... أنا ...
وبلغ الاشمئزاز بسناء حدا جعلها تتمنى أن ينتهي هذا المشهد بسرعة وعلى أي وجه، حتى لو جاءت النهاية ضدها وفصلوها من المصلحة أو أرسلوها إلى السجن. إنها لم تر أبدا في حياتها منذ وعت أناسا كهذا الجندي يكذبون عيني عينك بلا خجل أو حياء أو ارتباك، مجرمين في كذبهم إلى حد ممكن فعلا أن يقلب الباطل حقا والحق باطلا.
ولكن الأمر لم ينته تلك النهاية ... فالمدير حتى لم يكلف نفسه عناء النظر إلى سناء أو سؤالها عما لديها من أقوال، ظل طوال الوقت يحدق بنظرة غير مفهومة إلى الجندي، وهو يقسم ويتفتف ويرفع عقيرته بالخطب والأقوال - على الأقل لم تفهمها سناء - وحين انتهى أمره بصوت حاسم خفيض ألا يتعرض مرة أخرى لها أو يحادثها حتى في العمل ... لهجة حيرت سناء، فقد كان واضحا أن المدير يدرك خطأه ويعلم سفالته، ولكن لهجته في أمره لم تكن تتناسب أبدا مع هذا الإدراك، والأغرب من هذا أن يمتثل الجندي ويتعهد أن يقوم بكل ما يريده المدير أن يقوم به.
ولقد نفذ الجندي تعهده، ولكن التنفيذ لم يدم إلا ليوم واحد، أو على وجه الدقة بقية ذلك اليوم الذي بدأته سناء بشكواها، في اليوم التالي مباشرة صبحها بنظراته، وبعده بيوم - بأقل من يوم - عادت ابتساماته، وما لبث أن أردفها بتعليقاته الهامسة التي كان يلقيها ثم يعود ليبتلعها ويخفيها، وأخيرا وجدته سناء يوما يرفع الدوسيه، وفي الحال قررت أن تذهب إلى المدير وتشكوه، ولكنها ترددت فماذا فعل بشكواها الأولى لتلجأ إليه ثانية؟ ثم أليس من المحتمل أن تبدو في نظر المدير بكثرة لجوئها إلى الشكوى طفلة أو تلميذة؟ بل أليس من الممكن أن يصدق أنها بشكواها الكثيرة تناوش الجندي كما ادعى؟ لقد جربت عمها ونصيحته وجربت المدير، فلماذا لا تجرب نفسها؟ لماذا لا تواجه الجندي، أو على وجه أصح لماذا لا تكف عن مواجهته والاهتمام بأمره وبكلامه؟ لماذا حتى تشمئز منه وتحتقره؟ إن انفعالها به هو اعتراف بوجوده، لماذا لا تهبط في احتقارها له درجة أخرى، وتلغيه كلية من تفكيرها ووعيها؟ •••
ناپیژندل شوی مخ