استدرن إليها متسائلات، إذ كن بدأن يعين أن نجاة دأبت منذ بدء الجلسة على الدفاع بعطف ولباقة عن عالم الرجال المزعوم ذاك.
ورمقتها نور بنظرة ماكرة مستكشفة قائلة: سيبيكي إنتي تلقيهم غمزوكي بحاجة.
قالتها نور شبه هازلة، وبهزل أيضا ضحكن عليها، نجاة وحدها هي التي أخذتها - لدهشتهن - جدا، وما إن راحت تدافع عن نفسها وتستنكر وتبالغ في إبداء علامات النفي والاستنكار حتى بدأن يخمن شبه مروعات أنها تكذب، وأن عالم الرجال والأخلاق وأكل العيش من الواضح أنه قد نجح في ابتلاع واحدة منهن، على الأقل واحدة.
خسارة يا نجاة. •••
كان المفروض أن نتتبع سناء بعد خروجها من الحفلة وهي محملة بمزيج متباين من الانفعالات، إذ كانت رغم كل شيء قد سعدت بالحفلة واجتماعها بزميلاتها وكسر الروتين الذي يخطط حياتها تخطيطا صارما غير مسموح لها أن تخرج عليه فتاة من المدرسة للبيت، ومن البيت للمدرسة، وحين انتهت أيام الدراسة وجاءت أيام الوظيفة استمرت الحلقة المفرغة أيضا مع استبدال المدرسة بالمصلة، وكل ما تسمح به ظروفها من ترفيه أن تدخل السينما مرة كل أسبوع أو أسبوعين مستصحبة أخاها الصغير أو إحدى قريباتها، وحياتها العاطفية لم تزد كالعادة عن غرام صامت مع ابن الجيران أيام أن كانوا يسكنون شبرا، ثم تلك المغامرة الفاشلة الأخرى أيام المعهد ... أيام أن كانت صديقتها الصدوقة كوثر تحب، وكانت تستصحبها معها للقاء حبيبها الطالب في كلية الطب البيطري، حين وجد الحبيب أن خير حل للانفراد بكوثر أن يأتي معه بصديقه عمر الطالب بكلية دار العلوم، الذي يشبه - رغم أنه من ميت غمر - مشهور السينما مارلون براندو، أو على الأقل هكذا كانت تصر العزيزة كوثر، ويشبهه أو لا يشبهه فقد أحبت فيه خجله الشديد إلى درجة أنهما قضيا ثلاثة أشهر يلتقيان ويقطعان شوارع القاهرة الجانبية سيرا دون أن يلمس يدها، بل حتى دون أن يذكر كلمة واحدة تدل على شعوره ناحيتها، ورغم هذا فالصخرة التي تحطم عليها حبهما كانت الحب، ليس ممارسة ولكن كنقاش، إذ ظل هذا الخجول الطالب بدار العلوم شبيه مارلون براندو الذي لم يجد في نفسه الشجاعة يوما لأن يزحزح حدود النصف متر الذي كان قائما كحد أدنى لأي مسافة بينهما، ظل يناقشها ليقنعها «بحب الجسد» باعتباره النوع المثالي للحب، بينما ظلت تصر هي على «حب الروح» وتتمسك به، وانتهى النقاش وقد انقطع كل ما بينهما من علاقات كانت بينهما.
وهناك تلك الحادثة الغريبة التي جرت لها مع زوج خالتها الشاب حين جاء لزيارتهم فوجدها وحيدة في البيت، ودون أن تدري وجدت القرصات والضغطات والكلمات الهامسة التي كان يخصها بها كلما أتيحت له الفرصة في أثناء زيارة عائلية أو من تحت طرابيزة سفرة ... وتأخذها هي على محمل يمكن التغاضي عن براءته لزوج الخالة، حين وجدت هذه فجأة تتحول من علامات مبهمة قابلة للشك وغفران الشك إلى واقع فاجر سافر، وهي فيه بين ذراعيه القويتين اللتين أطبقتا عليها غدرا، ولكن لا المفاجأة ولا الإطباقة ولا السرعة التي حدثت بها الحادثة كانت السبب في رعبها، الرعب الذي اجتاحها وشل إرادتها وجعلها تناضله مناضلة النائم في كابوس لا يخرج عن حلقه صوت ولا يملك رفع أصبع ... هذا الرعب كان لسبب أكبر وأخطر، إنه زوج خالتها المحرم عليها، والمحرمة هي كأمه كأخته كخالته، الرعب أن يسجل رجل لنفسه - أي رجل - مهما كان سيئ السمعة والأخلاق مثله، أن يفكر مجرد تفكير في الشيء الذي لم يفكر فيه لحظتها، وإنما كان يفعله.
وصحيح أن ما حدث، وبالطريقة المجنونة الشاذة التي حدث بها لم يكن قد أفقدها - عدا الإهانة - شيئا يذكر، إلا أن الحادث كان أبشع وأضخم حدث مر بها إلى تلك السن في حياتها، لقد ظنت أنها أبدا لن تعود سناء التي كانتها، وإن تلك العاصفة الآثمة الهوجاء سوف تجعلها تكفن نفسها إلى آخر الزمن في ثياب حداد تام.
ولكن، وهذا هو الغريب، لم تتوقف الحياة بسناء كما كانت تظن عند هذا الحدث، ولا تكونت لها، مثلما يحلو لبعض الكتاب والخبراء المزعومين في النفس البشرية، عقدة، فلا هي خافت من الرجال ودفعها الخوف إلى الانطواء ونبذ الدنيا ومتعها والتقوقع، ولا هي أصيبت بالعقدة الأخرى واندفعت تحت تأثير هذا الاتصال العيب المحرم في طريق الانحلال ونبذ القيم، لا شيء من هذا قد حدث، فهناك عامل نسيته سناء يومها وينساه بعض الكتاب وخبراء علم النفس في معظم الأحيان ... الزمن! ليس الزمن المجرد ولكن الزمن والإنسان، والأيام وهي تقبل بيضاء وتغادرنا ماضيا ممتلئا بالأحداث والذكريات، ونستقبلها في مرحلة ونغادرها وقد أضيف إلينا الزمن وتكون من خليطنا - منا ومنه - مزيج حي كائن جديد آخر غير الذي خاض التجربة.
الحدث الهائل كان حدثا هائلا بالأمس لأننا كنا نحياه ونواجهه، أما وقد مر بنا فقد أصبحنا جزءا من تاريخه كما أصبح هو جزءا منا، نتوءا هنا أو أثرا لجرح هناك ... أثرا لا يختلف عن بقية كياننا وجسدنا إلا في اختلاف لونه وبروز سطحه، والألم الذي يصدر عنه إذا نحن بوعي لمسناه.
أو قد يحول إلى شيء آخر بوظيفة أخرى، مثلما حدث لسناء، فرغم نوبات الضيق الشديد والاستنكار والتقزز التي كانت تنتابها كلما رأت زوج خالتها أو جاءت سيرته - وأحيانا بغير أن تراه أو تأتي سيرته - رغم هذا فلن تستطيع أن تنكر على نفسها أن شيئا فيها قد استجاب ووافق وارتعش لتلك التجربة الأولى التي صممت أن تكون الأخيرة، والتي في أحيان قليلة جدا، خاصة في ليالي الصيف، كانت تجد نفسها رغما عنها تفكر فيها وبطريقة تزعجها للغاية، إذ تفكر وكأنها تتمنى أن تعود التجربة بشرط أن يتغير البطل، وبشرط أساسي ثان ... أن يحدث كل شيء كما حدث في المرة الأولى، بغير إرادة منها ... هكذا ... عنوة واغتصابا.
ناپیژندل شوی مخ