Caution Against Revering Unlawful Artifacts
التحذير من تعظيم الآثار غير المشروعة
خپرندوی
الدار الحديثة مصر
د ایډیشن شمېره
الأولى ١٤٢٥هـ
د چاپ کال
٢٠٠٤م
ژانرونه
التحذير من تعظيم الآثار غير المشروعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالَمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد اطَّلعتُ على المقال المنشور في (صحيفة المدينة - ملحق الرسالة)، الصادرة الجمعة ١٨ المحرم ١٤٢٤هـ، للدكتور: عمر كامل، بعنوان: "لا خوف على بلاد الحرمين من الشرك والوثنية، وهل في إحياء آثار النبوة ومواطئ الرسالة ما يدعو إلى التخوف من الشرك؟ وهل الاهتمام بتلك الآثار يؤدِّي بالضرورة إلى عبادتها من دون الله؟ "
وتعقيبًا على هذا المقال أقول:
اشتمل مقالُه على تقرير أنَّ الشركَ لا يعود إلى مهد الإسلام، وأنَّ الإسلامَ يأرز إلى المدينة
1 / 3
والحجاز، وتتبعِ ابن عمر لآثار الرسول ﷺ، وذِكرِ آثار فيها إباحة التبرك بقبر النَّبيِّ ﷺ ومنبره.
أمَّا ما قرَّره من أنَّ الشركَ لا يعود إلى مهد الإسلام، فقد قال: "بعد أن انتشر الدينُ الإسلامي في أرجاء المعمورة ودخل الناس في دين الله أفواجًا، تكفَّل الله بحفظ مهد رسالة الإسلام من عودة الكفر والوثنية والشرك إليها، وبشرنا بذلك على لسان مبلِّغ الرسالة سيدنا محمد ﷺ، عن جابر قال: سمعت النَّبيَّ ﷺ يقول: "إنَّ الشيطان قد أيِسَ من أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم" [صحيح مسلم ٤/٢١٦٦: ٢٨١٢] "، ثم ذكر حديثًا عند الترمذي (٢١٥٩) في خطبة النَّبيِّ ﷺ يوم الحج الأكبر، وفيه: "ألا وإنَّ الشيطانَ قد أيس من أن يُعبد في بلادكم هذه أبدًا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من
1 / 4
أعمالكم، فسيرضى به"، ثم قال بعد ذلك: "ومع ذلك فبين الفينة والأخرى يخرج علينا خارجٌ يدَّعي الغيرة على دين الله والخوف على بلاد الحرمين من عودة الشرك إليها!!! ولعلَّ أمثال هؤلاء قد غفلوا عن حديث رسول الله ﷺ الذي أوضح لنا مصدر الخوف الذي كان يخافه على أمته، عن عبادة بن نسي قال: دخلت على شدَّاد بن أوس ﵁ في مصلاه وهو يبكي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ما الذي أبكاك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله ﷺ، فقلت: وما هو؟ قال: بينما أنا عند رسول الله ﷺ إذ رأيت بوجهه أمرًا ساءني، فقلت: بأبي وأمِّي يا رسول الله، ما الذي أرى بوجهك؟ قال: أمر أتخوَّفه على أمتي من بعدي، قلت: وما هو؟ قال: الشرك وشهوة خفية، قال: قلت: يا رسول الله، أتشرك أمَّتُك من بعدك؟ قال: يا شدَّاد، أما
1 / 5
إنَّهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا ولا وثنًا ولا حجرًا، ولكن يُراؤون الناسَ بأعمالهم، قلت: يا رسول الله، الرياء شرك هو؟ قال: نعم، قلت: فما الشهوة الخفية؟ قال: يصبح أحدُكم صائمًا فتعرض له شهوة من شهوات الدنيا فيفطر. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. [المستدرك على الصحيحين ٤/٣٦٦ - ٧٩٤٠]، فهل هناك أوضح من هذا البيان؟ فقد نفى رسول الله ﷺ وقوع الشرك وعبادة الأوثان والأحجار من بعده، وكلُّ ما خاف منه هو الرياء، فهل نصدِّق رسول الله أم نركن إلى إرجاف المرجفين وأوهام المتنطعين؟! "
والجواب: أنَّ حديث شدَّاد بن أوس ﵁ غيرُ صحيح؛ لأنَّ في إسناده عبد الواحد بن زيد، وقد قال فيه الذهبي في تلخيص المستدرك متعقِّبًا تصحيح الحاكم: "عبد الواحد متروك"، والمتروك
1 / 6
لا يُحتجُّ بروايته، وقال الذهبي في ترجمته في الميزان: "روى عباس عن يحيى: ليس بشيء، وقال البخاري: عبد الواحد صاحب الحسن: تركوه، وقال الجوزجاني: سيِّء المذهب، ليس من معادن الصدق"
وأمَّا حديث جابر الذي أخرجه مسلم في صحيحه في إياس الشيطان من أن يُعبَد في جزيرة العرب، فليس فيه دليل على عدم عودة الكفر والشرك إلى الجزيرة، وذلك لثبوت الأحاديث عن رسول الله ﷺ في ذلك، ومنها حديث أبي هريرة في صحيح مسلم (٢٩٠٦) قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة"، وكانت صنَمًا تعبدُها دوسٌ في الجاهلية بتبالة، ومنها حديث عائشة في صحيح مسلم (٢٩٠٧) قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "لا يذهبُ الليل والنهار حتى تُعبَد
1 / 7
اللاَّت والعُزَّى" الحديث، ومنها حديث أنس، عن النَّبيِّ ﷺ قال: "ليس من بلد إلاَّ سيطؤه الدَّجَّال إلاَّ مكة والمدينة، ليس له من نقابها نقبٌ إلاَّ عليه الملائكة صافِّين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رَجَفات، فيخرج الله كلَّ كافر ومنافق" رواه البخاري (١٨٨١)، ومسلم (٢٩٤٣)، فهذه أحاديث صحيحة محكمة تدلُّ على عودة الشرك والكفر إلى الجزيرة بعد النَّبيِّ ﷺ، ومِمَّا يوضح ذلك أنَّ بعضَ العرب ارتدُّوا بعد وفاة النَّبيِّ ﷺ، فقاتلهم أبو بكر الصديق ﵁، فرجع أكثرُهم، وقتل بعضهم على ردَّته، وهؤلاء هم الذين عُنوا في حديث الذيادة عن الحوض، وقال عنهم النَّبيُّ ﷺ: "أصحابي"، فقيل له: "إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أخرجه البخاري (٦٥٨٢) .
ويُجمع بين هذه الأحاديث وحديث جابر في
1 / 8
إياس الشيطان من أن يُعبد في جزيرة العرب من وجهين:
أحدهما: بحمل حديث جابر على نفي عودة الجميع إلى الشرك دون البعض، فإنَّه يقع منهم.
الثاني: أنَّ إياس الشيطان من عبادته في جزيرة العرب هو ظنٌّ من الشيطان، وهو لا يعلم الغيب، كما أخبر الله عن الجنِّ في قوله: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾، وقال تعالى: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾، وقد ذكر هذه الأجوبة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين في إجابته على سؤال عن ثلاثة أحاديث، هذا أحدها (ص:٣٥ - ٣٦) .
وأمَّا أحاديث كون الإيمان يأرز إلى المدينة وإلى
1 / 9
الحجاز، فهي لا تنافي الأحاديث الصحيحة الدَّالَّة عل عودة الشرك إلى الجزيرة.
وأمَّا الآثار التي أوردها الكاتب في تتبُّع آثار النَّبيِّ ﷺ المكانية، فهي عن ابن عمر ﵁، وهذا مشهور عنه، والمشهور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم خلاف ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (٢/٢٧٨ - ٢٧٩):
"فأمَّا قصدُ الصلاة في تلك البقاع التي صلَّى فيها اتفاقًا، فهذا لم يُنقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حُجَّاجًا وعُمَّارًا ومسافرين، ولَم يُنقل عن أحد منهم أنَّه تحرَّى الصلاة في مصلَّيات النَّبيِّ ﷺ، ومعلوم أنَّ هذا لو كان عندهم مستحبًّا لكانوا إليه أسبقَ؛ فإنَّهم أعلمُ بسنَّته وأتبعُ لها من
1 / 10
غيرهم، وقد قال ﷺ: "عليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"، وتَحرِّي هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مِمَّا ابتُدع، وقول الصحابي إذا خالفه نظيره ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟! أيضًا فإنَّ تحرِّي الصلاة فيها ذريعةٌ إلى اتِّخاذها مساجد، والتشبُّه بأهل الكتاب مِمَّا نُهينا عن التشبه بهم فيه، وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارعُ قد حسَم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، فإذا كان قد نهي عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان سدًّا للذريعة، فكيف يُستحبُّ قصد الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه، أو صلاتهم فيه
1 / 11
، من غير أن يكونوا قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه؟! "
أقول: بل إنَّ عمر ﵁ نهى عن ذلك، فعن المعرور بن سويد قال: "كنت مع عمر بين مكة والمدينة، فصلى بنا الفجر فقرأ ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ و﴿لِإِيلافِ قُرَيْشٍ﴾، ثمَّ رأى قومًا ينزلون فيُصلُّون في مسجد فسأل عنهم، فقالوا: مسجد صلَّى فيه النَّبيُّ ﷺ، فقال: إنَّما هلك مَن كان قبلكم أنَّهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيَعا، مَن مرَّ بشيء من المساجد فحضرت الصلاة فليُصلِّ، وإلاَّ فليمض" رواه عبد الرزاق (٢/١١٨ - ١١٩) وابن أبي شيبة (٢/٣٧٦ - ٣٧٧) بإسناد صحيح، قال شيخ الإسلام معلِّقًا على هذا الأثر: "فلمَّا كان النَّبيُّ ﷺ لم يقصد تخصيصَه بالصلاة فيه، بل صلَّى فيه لأنَّه موضع نزوله، رأى عمر أنَّ
1 / 12
مشاركتَه في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبِّه بالنَبيِّ ﷺ في الصورة، ومتشبِّه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب" مجموع الفتاوى (١/٢٨١) () .
وأمَّا الآثار في التبرُّك بالقبر والمنبر، فإنَّ ما جاء من آثار في التبرُّك بالمنبر إنَّما كان في منبره الذي كان يجلس عليه، والرمانة التي يضع يده عليها، وهو تبرُّك بما لاَمَسَه جسدُه ﷺ، وهذا سائغ؛ فإنَّ الصحابةَ ﵃ كانوا يتبرَّكون بشعره وعرقه ومخاطه وبصاقه وغير ذلك مِمَّا ثبت في
1 / 13
الأحاديث الصحيحة، وهذا من خصائصه ﷺ، وعلى ذلك يُحمل ما جاء عن الإمام أحمد في ذلك، وفي التبرُّك بشعرة النَّبيِّ ﷺ وقصعته إن صحَّ ذلك عنه، وكذلك ما جاء عن غيره في منبره ﷺ، وقد احترق المنبر، فلم يكن هناك مجال للتبرُّك بشيء مسَّه رسول الله ﷺ، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء (٢/٢٤٤ - ٢٤٥)، وقال: "فقد رخَّص أحمد وغيرُه في التمسح بالمنبر والرمانة، التي هي موضع مقعد النَّبيِّ ﷺ ويده، ولَم يرخِّصوا في التمسح بقبره"، وقال الإمام النووي في المجموع شرح المهذب (٨/٢٠٦): "لا يجوز أن يُطاف بقبره ﷺ، ويُكره إلصاق الظَّهر والبطن بجدار القبر، قاله أبو عبيد الله الحليمي وغيره، قالوا: ويُكره مسحُه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يَبعد منه كما يَبعد منه لو حضره في حياته ﷺ، هذا
1 / 14
هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ولا يغتر بمخالفة كثير من العوام وفعلهم ذلك؛ فإنَّ الاقتداءَ والعملَ إنَّما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء، ولا يُلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ﵂ أنَّ رسول الله ﷺ قال: "مَن أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية لمسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، وعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تجعلوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقال الفضيل بن عياض ﵀ ما معناه: "اتبع طريق الهدى ولا يضرك قلَّة السالكين، وإيَّاك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين"، ومَن خطر بباله أنَّ المسحَ باليد ونحوه أبلغ في البركة، فهو من
1 / 15
جهالته وغفلته؛ لأنَّ البركة فيما وافق الشرع، وكيف يُبتغى الفضل في مخالفة الصواب".
وآثار النَّبيِّ ﷺ تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الآثار المروية، وهي حديثه وسنَّتُه ﷺ، فهذا القسم تجب المحافظة عليه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ وقوله ﷺ: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي" الحديث، وقوله ﷺ: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" الحديث، رواه البخاري ومسلم.
الثاني: الآثار المكانية، وهذا القسم يؤخذ منه بما ثبتت به السنَّة، كالصلاة في مسجده ﷺ وفي مسجد قباء؛ لقوله ﷺ: "لا تُشدُّ الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى" رواه البخاري (١١٨٩) ومسلم
1 / 16
(١٣٩٧)، واللفظ له عن أبي هريرة ﵁، وقوله ﷺ: "صلاة في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلاَّ المسجد الحرام" رواه البخاري (١١٩٠) ومسلم (١٣٩٤) عن أبي هريرة ﵁، ولقوله ﷺ: "الصلاة في مسجد قباء كعمرة" رواه الترمذي (٣٢٤) وابن ماجه (١٤١١) عن أسيد بن ظهير ﵁، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وقوله صلي الله عليه وسلم: "من تطهَّر في بيته، ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاةً، كان له كأجر عمرة" رواه ابن ماجه (١٤١٢) عن سهل بن حنيف ﵁، و"كان النَّبيُّ ﷺ يأتي مسجد قباء كلَّ سبت ماشيًا وراكبًا فيصلي فيه ركعتين" رواه البخاري (١١٩٣) ومسلم (١٣٩٩) عن ابن عمر ﵄.
وأمَّا المساجد والأماكن التي لَم ترِد فيها سُنَّةٌ
1 / 17
عن الرسول ﷺ فتُترك ولا تُقصَد، وهو الذي يُفيده نهيُ عمر ﵁ عن قصد الصلاة في المسجد الذي بين مكة والمدينة، كما في الأثر الذي ذكرته عنه قريبًا، وإنَّما جاء النهي عن التعلق بالآثار المكانية غير الشرعية؛ لأنَّه وسيلة إلى الشرك، كما هو واضح من كلام ابن تيمية الذي تقدَّم قريبًا، وسدُّ الذرائع التي تؤدِّي إلى محذور أصلٌ من أصول الشريعة، ومقصَدٌ من مقاصدها، وقد أورد ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين (٣/١٤٧) وما بعدها تسعة وتسعين دليلًا من أدلَّة سدِّ الذرائع، ومنها قوله في (ص:١٥١): "الوجه الثالث عشر: أنَّ النَّبيَّ ﷺ نهى عن بناء المساجد على القبور، ولَعَن مَن فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأَمَرَ بتسويتها، ونهى عن
1 / 18
اتخاذها عيدًا، وعن شدِّ الرحال إليها؛ لئلاَّ يكون ذلك ذريعةً إلى اتخاذها أوثانًا والإشراك بها، وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافَه سدًّا للذريعة"
الثالث: الآثار الجسدية، والمراد بها ما مسَّه جسدُه ﷺ، فهذه التبرُّك بها سائغ، وقد تقدَّم الكلام فيها قريبًا، وقد ظفر بذلك الصحابة ﵃، ومَن وصلَه شيءٌ منها من التابعين ومَن بعدهم، وبعد ذلك انقرضت، ولَم يكن لها وجود على الحقيقة، ولا مجال للتعلق بها.
وتقدَّم أيضًا أنَّ هذا من خصائصه؛ لِمَا جعل الله فيه من البركة، وغيرُه ﷺ لا يُقاس عليه، ولهذا لَم يفعل الصحابة ﵃ مثلَ ذلك مع خيارهم، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ﵃، لا في حياته ولا بعد وفاته ﷺ، وقد أشار
1 / 19
إلى هذا الإمام البخاري ﵀، حيث عقد "باب صبِّ النَّبيِّ ﷺ وَضوءَه على مغمى عليه"، وساق الحديث (١٩٤) عن جابر ﵁ قال: "جاء رسول الله يعودني وأنا مريض لا ﷺ أعقل، فتوضَّأ وصبَّ عليَّ من وَضوئه، فعقلت، فقلت: يا رسول الله! لِمَن الميراث، إنَّما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض"
فتعبيره ﵀ في الترجمة بـ "صبِّ النَّبيِّ ﷺ وَضوءه على مغمى عليه" إشارة إلى أنَّه من خصائصه ﷺ، ولهذا لم يقل: باب صبِّ الإمام أو العالِم أو الكبير أو الزائر وَضوءه على مغمى عليه.
وقد ذكر الشاطبي في كتاب الاعتصام (٢/٦): "أنَّه ثبت في الصحاح عن الصحابة ﵃ أنَّهم يتبرَّكون بأشياء من رسول الله ﷺ، ففي البخاري عن أبي جُحيفة ﵁ قال: خَرَج علينا
1 / 20
رسول الله ﷺ بالهاجرة، فأُتي بوَضوئه فتوضَّأ، فجعل الناسُ يأخذون من فضل وَضوئه فيتمسَّحون به، الحديث، وفيه: كان إذا توضَّأ يقتتلون على وَضوئه، وعن المِسْوَر ﵁ في حديث الحديبية: "وما انتخم النَّبيُّ صلى الع عليه وسلم نخامة إلاَّ وقعت في كفِّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلدَه""، ثم قال: "فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعاُ في حقِّ مَن ثبتت ولايته واتِّباعه لسنَّة رسول الله ﷺ، وأن يتبرَّك بفضل وَضوئه، ويتدلَّك بنخامته، ويُستشفى بآثاره كلِّها، ويُرجى نحو مِمَّا كان في آثار المتبوع الأصل ﷺ"
ثم ذكر أنَّ هذا الاحتمال لقياس غيره ﷺ عليه في التبرُّك به عارضه أصلٌ مقطوع به، فقال: "إلاَّ أنَّه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه، مشكل في تنزيله، وهو أنَّ الصحابة ﵃
1 / 21
بعد موته ﵇ لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى مَن خَلفَه؛ إذ لَم يترك النَّبيُّ ﷺ بعده في أمَّته أفضلَ من أبي بكر الصديق ﵁، فهو كان خليفتَه، ولَم يُفعل به شيء من ذلك ولا عمر ﵄، وهو كان أفضل الأمَّة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمَّة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أنَّ متبرِّكًا تبرَّك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النَّبيَّ ﷺ، فهذا إذًا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء.
وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يعتقدوا فيه الاختصاص، وأنَّ
1 / 22