كان الشعر خفيفا وكأن شعر ذراعيه وصدره قد بدأ يصاب بالصلع.
وكشف عن ساقيه وبطنه. خفيف جدا كان الشعر، لكأنه عاد إلى سن الرابعة عشرة.
سكت تماما عن التفكير والتأمل، وإن كانت ذاكرته لم تسكت. بوابل من نخزات صغيرة بدأت تنهال عليه، وينحيها، وتنهال. قام إلى المرآة، حدق مليا في وجهه. اللحية كما هي، أو تبدو كما هي، فتلك النخزات تبدو يقينية.
أغمض عينيه كما يرغم نصف النائم نفسه إذا أحس أنه في كابوس ليختفي الكابوس أو يرحل. رغما عنه فتح العينين، وفي مزيج من الحيرة والضباب، ضباب أملس ينزلق ويتوالى والأشياء تمتزج وتتباعد وتقترب؛ لتصبح واضحة تماما. صورة الرجل يراها واضحة تماما، إذ تلك هي صورته التي يعرف نفسه عليها تنزلق، يمر فوقها الضباب كأنه السحاب يخفي وجه القمر، ولا يبقى سوى ضوء لمجرى لا يستطيع به أن يميز شيئا. نعومة، أجل، نعومة أنثوية مرعبة كأنها نعومة حية رقطاء تبتسم قبل أن تطبق فاها في عضة سم كعضة الموت. شيء داخله يرتخي وينفتح، يأمره أن ينقبض، وباستخفاف يعصي وينفتح، ومعها يحس أنه يهوي في بئر أو من فوق جبل. يشهق طاردا كل شيء كالغريق يدفع الماء برأسه ليلتقط النفس ورغما عنه يعود يهوي، ولكنه لا يختنق، ولا يحس أنه سيموت، ولا أن شيئا محددا واضحا سيحدث. كل ما يحدث أملس. كل ما يتشبث به ينزلق، الضباب ونور الفجر الشاحب والإحساس بالانزلاق واللايقين.
ماذا يحدث لي؟ بالضبط ماذا حدث لي؟ وكيف حدث؟ ومتى حدث؟ ولماذا يحدث ما يحدث؟ في الخمسين أنا، أنا رجل في الخمسين، بالضبط واحد وخمسون وثلاثة شهور. عندي أولاد؟ عنده أولاد أجل. وزوجة؟ يسائل نفسه، ويتحدث عنها وكأنها إنسان آخر، فمن فرط ما أصبح فيه من شك قرر أن ينظر إلى نفسه، وكأنه إنسان آخر. رجل آخر، نعم هو رجل، أو ... أو ... أو ماذا؟ إنه ليس رجلا فقط، إنه أبو رجال أيضا. إنك يا سلطان زعيم، زعيم عصابة، ولكنها عصابة من العصاة المتمردين قتالي القتلة وسفاكي دماء وأولاد ليل، تنظر إلى الواحد فيهم فتحس أنه أمام عينيك، يتلاشى الرجل فيه والإنسان، ويتحول إلى أرنب يبول على نفسه. بنفسك رأيت البلل مرة يغرق ثياب أبو شنب.
اكتشف، وكأنما فجأة أيضا، أنه لا يزال بملابسه الداخلية، تجول بعينيه في أنحاء جسده، اشمأز لنتوءات تكونت لا يعرف متى. استنكر جسده شبه العاري، أحس به غريبا عنه، لا يمت إليه، تحسس شاربه. أدرك أنه حلقه، وأنه يتحسسه بحكم العادة، لا وجود للشنب، ازدادت غربة جسده عنه، وغربته عن جسده.
قام، بثورة قام، أو كأنما يقوم ليصنع ثورة. لا، لن يرتدي البدلة، سيرتدي جلبابه البلدي الصوفي الخشن ذلك الذي يحلو له ارتداؤه حين يركب الكارتة المفتوحة، ويسوقها بنفسه، ويعبر بها شوارع البندر، حيث يتأكد أن العيون الناعسة من خلف النوافذ، وأحيانا من الشرفات، تراقبه، وتشهق لرجولته، وجلبابه، وكارتته، وتاريخه المرعب المجيد، وغناه، وسمعته.
أرجل رجل في المحافظة، بل في مصر. في الدنيا كلها يا ولد، رجل وأب لرجال، ولد ولا كل الأولاد، وسعيدة محسودة تلك التي يضمها بذراعيه زوجة كانت أو عشيقة.
جلبابه ارتداه، امتدت يده وهو لا يزال ينظر إلى مرآة الحمام يتناول زجاجة الكولونيا. عدل، ابتسم في شبه ثقة، ركن شفته العليا فعلا ارتجف، وكأنما الابتسامة تخونه. - يا ولد.
زعق.
ناپیژندل شوی مخ