227

11

هذه النسبة إلى طائفة من الباطنية يقال لهم الخرمدينية، قوم يدينون بما يريدون ويشتهون، وإنما لقبوا بذلك لإباحتهم المحرمات من الخمر وسائر اللذات ونكاح ذوات المحارم وفعل ما يتلذذون به، فلما شابهوا في هذه الإباحة المزدكية من المجوس الذين خرجوا في أيام قباذ وأباحوا النساء كلهن وأباحوا سائر المحرمات إلى أن قتلهم أنوشروان بن قباذ، قيل لهم بهذه المشابهة خرمدينية كما قيل للمزدكية.

وقبل أن نخوض في تفصيل حوادث هذا الرجل وما بذله المأمون ثم المعتصم في قتاله، ثم ما كان من مصيره بعد ذلك على يد الأفشين قائد المعتصم التركي سنة 221ه، قبل كل هذا نحب أن نورد لك ما ذكره ابن النديم في فهرسته عن مذهب الخرمية البابكية وما يتعلق به؛ لتكون على بصيرة من مذهب الرجل وما كان يدعو إليه من نحلة وبدعة.

قال محمد بن إسحاق: «الخرمية صنفان: الخرمية الأولون ويسمون المحمرة، وهم منتشرون بنواحي الجبال فيما بين أذربيجان وأرمينية، وبلاد الديلم وهمذان ودينور، وفيما بين أصفهان وبلاد الأهواز، وهؤلاء أهل مجوس في الأصل ثم حدث مذهبهم، وهم ممن يعرف باللقطة، وصاحبهم مزدك القديم أمرهم بتناول اللذات والانعكاف على بلوغ الشهوات، والأكل والشرب والمواساة والاختلاط، وترك الاستبداد بعضهم على بعض، ولهم مشاركة في الحرم والأهل لا يمتنع الواحد منهم من حرمة الآخر ولا يمنعه، ومع هذه الحال فيرون أفعال الخير وترك القتل وإدخال الآلام على النفوس، ولهم مذهب في الضيافات ليس هو لأحد من الأمم؛ إذا أضافوا الإنسان لم يمنعوه من شيء يلتمسه كائنا ما كان، وعلى هذا المذهب مزدك الأخير الذي ظهر في أيام قباذ بن فيروز وقتله أنوشروان وقتل أصحابه، وخبره مشهور معروف. وقد استقصى البلخي أخبار الخرمية ومذاهبهم وأفعالهم في شربهم ولذاتهم وعبادتهم في كتاب «عيون المسائل والجوابات» ولا حاجة بنا إلى ذكر ما قد سبقنا إليه غيرنا». «فأما الخرمية البابكية فإن صاحبهم بابك الخرمي، وكان يقول لمن استغواه: إنه إله، وأحدث في مذاهب الخرمية القتل والغصب والحروب والمثلة، ولم يكن الخرمية يعرفون ذلك.»

ثم ذكر صاحب الفهرست بعد ذلك نشأته وما وقع له في بدء أمره حتى صار إمام هذه النحلة التي تنسب إليه، نقلا عن واقد بن عمرو التميمي الذي عمل أخبار بابك، فقال: وكان أبوه رجلا من أهل المدائن دهانا، نزع إلى ثغر أذربيجان فسكن قرية تدعى «بلال أباد» من رستاق «ميمند»، وكان يحمل دهنه في وعاء على ظهره ويطوف في قرى الرستاق، فهوى امرأة عوراء، وهي أم بابك، وكان يفجر بها برهة من دهره، فبينما هي وهو منتبذان عن القرية متوحدان في غيضة ومعهم شراب يعتكفان عليه، إذ خرج من القرية نسوة يستقين الماء من عين في الغيضة، فسمعن صوتا نبطيا يترنم به فقصدن إليه، فهجمن عليهما فهرب عبد الله وأخذن بشعر أم بابك، وجئن بها إلى القرية وفضحنها فيها، قال واقد: ثم إن ذلك الدهان رغب إلى أبيها فزوجه منها فأولدها «بابكا»، ثم خرج في بعض سفراته إلى جبل سيلان واعتراضه من استقفاه وجرحه فقتله، فمات بعد مديدة، وأقبلت أم بابك ترضع للناس بأجرة إلى أن صار لبابك عشر سنين، فيقال: إنها خرجت في يوم من الأيام تلتمس بابكا وكان يرعى بقرا لقوم، فوجدته تحت شجرة قائلا وهو عريان، وإنها رأت تحت كل شعرة من صدره ورأسه دما، فانتبه من نومه فاستوى قائما وحال ما رأت من الدم فلم تجده، قالت: فعلمت أنه سيكون لابني نبأ جليل.

قال واقد: وكان أيضا بابك مع الشبل بن المنقى الأزدي برستاق سراة يعمل في سياسة دوابه، وتعلم ضرب الطنبور من غلمانه ثم صار إلى تبريز من عمل أذربيجان، فاشتغل مع محمد بن الرواد الأزدي نحو سنتين ثم رجع إلى أمه وله ثمان عشرة سنة، فأقام عندها، قال واقد بن عمرو: وكان بجبل البذ وما يليه من جباله رجلان من العلوج متحرمين ولهما جدة وثروة، وكان متشاجرين في التملك على من بجبال البذ من الخرمية ليتوحد أحدهما بالرياسة، يقال لأحدهما: «جاويدان بن سهرك»، والآخر غلبت عليه الكنية يعرف ب «أبي عمران»، وكانت تقوم بينهما الحرب في الصيف وتحول بينهما الثلوج في الشتاء لانسداد العقاب، فإن جاويدان، وهو أستاذ بابك، خرج من مدينته بألف شاة يريد بها مدينة رنجان من مدائن ثغور قزوين، فدخلها وباع غنمه وانصرف إلى جبل البذ، فأدركه الثلج والليل برستاق ميمند، فعاج إلى قرية «بلال أباد» فسأل جريرها إنزاله، فمضى به بالاستخفاف منه بجاويدان فأنزله على أم بابك وما تستبيت من ضنك وعدم، فقامت إلى نار فأججتها ولم تقدر على غيرها، وقام بابك إلى غلمانه ودوابه فخدمهم وأسقى لهم الماء، وبعث به جاويدان فابتاع له طعاما وشرابا وعلفا وأتاه به، وخاطبه وناطقه فوجده على رداءة حاله وتعقد لسانه بالأعجمية فهما، ورآه خبيثا شهما، فقال لأمه: أيتها المرأة، أنا رجل من جبل البذ ولي به حال ويسار، وأنا محتاج إلى ابنك هذا؛ فادفعيه إلي لأمضي به معي فأوكله بضياعي وأموالي وأبعث بأجرته إليك في كل شهر خمسين درهما، فقالت له: إنك لشبيه بالخير، وإن آثار السعة عليك ظاهرة، وقد سكن قلبي إليك، فأنهضه معك إذا نهضت. ثم إن أبا عمران نهض من جبله إلى جاويدان فحاربه فهزم، فقتل جاويدان أبا عمران ورجع إلى جبله وبه طعنة أخافته، فأقام في منزله ثلاثة أيام ثم مات - وكانت امرأة جاويدان تتعشق بابكا، وكان يفجر بها - فلما مات جاويدان قالت له: إنك جلد شهم! وقد مات ولم أرفع بذلك صوتي إلى أحد من أصحابه، فتهيأ لغد، فإني جامعتهم إليك، ومعلمتهم أن جاويدان قال: إني أريد أن أموت في هذه الليلة، وإن روحي تخرج من بدني وتدخل في بدن بابك وتشترك مع روحه، وإنه سيبلغ بنفسه وبكم أمرا لم يبلغه أحد ولا يبلغه بعده أحد، وإنه يملك الأرض ويقتل الجبابرة ويرد المزدكية، ويعز به ذليلكم ويرتفع به وضيعكم، فطمع بابك فيما قالت له واستبشر به وتهيأ له.

فلما أصبحت تجمع إليها جيش جاويدان فقالوا: كيف لم يدع بنا ويوص إلينا؟! قالت: ما منعه من ذلك إلا أنكم كنتم متفرقين في منازلكم من القرى، وأنه إن بعث وجمعكم انتشر خبره، فلم يأمن عليكم شرة العرب، فعهد إلي بما أنا أؤديه إليكم إن قبلتموه وعملتم به، فقالوا لها: قولي ما عهد إليك؛ فإنه لم تكن منا مخالفة لأمره أيام حياته، وليس منا مخالفة له بعد موته ، قالت: قال لي: إني أموت في ليلتي هذه، وإن روحي تخرج من جسدي وتدخل بدن هذا الغلام خادمي، وقد رأيت أن أملكه على أصحابي، فإذا مت فأعلميهم ذلك، وإنه لا دين لمن خالفني فيه واختار لنفسه خلاف اختياري، قالوا: قد قبلنا عهده إليك في هذا الغلام! فدعت ببقرة فأمرت بقتلها وسلخها وبسط جلدها، وصيرت على الجلد طستا مملوءا خمرا وكسرت فيه خبزا، فصيرته حوالي الطست، ثم دعت برجل رجل فقالت: طأ الجلد برجلك، وخذ كسرة واغمسها في الخمر وكلها وقل: آمنت بك يا روح بابك كما آمنت بروح جاويدان، ثم خذ بيد بابك فكفر عليها وقبلها، ففعلوا ذلك إلى وقت ما تهيأ لها فيه طعام، ثم أحضرتهم الطعام والشراب وأقعدته على فراشها، وقعدت معه ظاهرة لهم، فلما شربوا ثلاثا ثلاثا أخذت طاقة ريحان فدفعتها إلى بابك، فتناولها من يدها، وذلك تزويجهم، فنهضوا وكفروا لهما رضا بالتزويج، والمسلمون غريبهم ومواليهم. •••

وبعد، فإنا نستطيع أن نقول مستندين إلى ما ذكره ابن النديم وغيره عن نشأة بابك ومذهبه وتعاليمه: إن الباعث الذي دفعه إلى الخروج غير البواعث التي دفعت نصر بن شبث في الشام، وإبراهيم بن المهدي في بغداد، ومحمد بن إبراهيم المعروف بابن طباطبا في الكوفة، وغيرهم ممن كانوا منقادين بفكرة سياسية أو عامل جنسي، وإنما كان خارجا على النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ذلك العصر، وكذلك كانت وجهة نظر بغداد في قتاله ومطاردته.

أجل! لم تكن الغاية في نظر بغداد من قتاله إخضاعه لسلطان الخلافة، حتى إذا أتيح لها إخضاعه رضيت عنه وكفت القتال دونه، وإنما كانت الغاية التي ترمي إليها القضاء على مذهبه وتعاليمه الضارة بنظم الحياة والاجتماع.

وربما جاز لنا أن نقول: إن موقفه من الخلافة الإسلامية في ذلك العصر أشبه شيء بموقف البلاشفة من الأمم المتحضرة في عصرنا الحاضر.

ناپیژندل شوی مخ