221

ثم لم يلبث طاهر بعد أن تولى شئون خراسان وأدارها بحزم وسداد رأي حتى ظهر منه ما كان يخشاه المأمون من خروج وعصيان، فقد أسقط اسم المأمون من خطبة الجمعة، وذكر دعاء مبهما لنصرة الدين، فأنفذ عين المأمون عامل البريد فورا بكتاب إلى المأمون يخبره فيه بما وقع من طاهر، ثم نرى المأمون يتوقع مجيء كتاب آخر وينتظره بفارغ الصبر في اليوم التالي لورود الكتاب الأول، وقد جاءه هذا الكتاب فعلا ينعى طاهرا الذي وجد ميتا في فراشه.

ونحن نرى بعد أن ذكرنا ما ذكرنا أنه لم يبق شيء من الغموض في هذه الناحية من عصر المأمون، وأن تصرفات المأمون مع طاهر ثم خروج طاهر عليه ثم موت طاهر بعد ذلك كلها حوادث واضحة الأسباب معقولة النتائج، ولا نستطيع أن نماشي الأستاذ «ميور» الذي يرى أن على هذه الحوادث جميعها غشاء من الغموض كثيفا.

ثم رأى المأمون بعد موت طاهر أن يولي مكانة ابنه طلحة، وأن يستبقي ابنه عبد الله واليا على الجانب الغربي من الخلافة، ليقمع ما فيه من ثورات ويسكن ما به من اضطراب، ثم أرسل وزيره مع طلحة ليقوي دعائم سلطانه في ولايته، فشخص الوزير إلى ما وراء النهر وقام بحملة موفقة على بعض العصاة ثم قفل راجعا إلى بغداد مزودا، فيما يقول الرواة، بهدية نفيسة له من طلحة مقدارها ثلاث آلاف ألف درهم، ولكاتبه بأخرى مقدارها خمسمائة ألف درهم.

أما طاهر الذي توفي في فراشه، وربما كان الذي يعلم سر وفاته قبل سواه هو المأمون وبطانته؛ فقد قدمنا لك شيئا في كلمتنا عن النزاع بين الأخوين عن عظيم خطره، وحسن بلائه وخبرته بالحروب، ولا يقل خطره في تدبير الحكم وشئون السياسة عن خطره في الحرب، وكان مع ذلك مشغوفا بالعلم والأدب مشجعا لأربابهما، حاثا على تعلمهما، وليس أدل على تبريزه في العلم والأدب وخبرته بشئون السياسة وبصره بتصرف الأيام من عهده الذي كتبه إلى ابنه عبد الله. ولسنا نرى ما نقدم به إليك هذا العهد خيرا من وصف المأمون له حين بلغه، وتقديره له واحتفائه به واستنساخه ثم إرساله إلى عماله في الولايات، قال ابن طيفور: لما عهد طاهر بن الحسين إلى عبد الله ابنه هذا العهد تنازعه الناس وكتبوه وتدارسوه، وشاع أمره حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه وقال: ما بقى أبو الطيب شيئا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة، وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيعة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا أحكمه وأوصى به وتقدم فيه. وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال.

وكانت كتابة هذا العهد من طاهر لابنه عبد الله حين اختار المأمون عبد الله لولاية مصر ولمحاربة نصر بن شبث؛ لما رآه فيه من حزم وفطنة وكفاية وحسن بلاء، وكان عهد أبيه إليه قانونا يطبقه على نفسه أحزم تطبيق، وكان لا يورد شيئا في شأن من شئونه أو يصدره إلا على منهجه وفي حدود إرشاداته.

ولما كان هذا العهد من الوثائق التاريخية التي لها قيمتها العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية آثرنا ذكره، وقد أثبتناه في باب المنثور من الكتاب الثالث في المجلد الثالث فراجعه.

ثورة نصر بن شبث

أما نصر بن شبث الذي وجه عبد الله بن طاهر لمحاربته بعد أن وجه إليه أبوه، فقد كان ممن خرجوا حين اضطرب نظام الدولة وكثرت الأراجيف ونشط أعداء المأمون خاصة والعباسيين عامة؛ لبقاء المأمون في مرو بعيدا عن عاصمة الملك وحاضرة الخلافة.

وكان من الممكن أن يكون مصير ثورة نصر مصير غيرها من الثورات التي خمدت بسرعة لولا أن طاهرا لم يجد في محاربته، وقد ذكر أنه قال للحسن بن سهل حينما ندبه للخروج إلى محاربة نصر بن شبث: حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة، وأؤمر بمثل هذا! وإنما كان ينبغي أن توجه لهذا قائدا من قوادي! وذكر بعض المؤرخين أن طاهرا فر كالمنهزم أمام نصر بعد معارك حامية بين جنديهما ، ولكنه حرص بعد ذلك على ما بقي في يده من البلاد أن يغير نصر عليها.

ويظهر أن ما يقوله بعض المؤرخين من أن فتور طاهر في محاربة نصر بن شبث يرجع إلى الصدمة التي صدمه بها آل سهل حين حرموه من ثمار فتوحه في العراق له حظ كبير من الحق؛ فإننا لا نسيغ عجز طاهر عن مناهدة نصر وإخضاعه مع ما هو معروف عنه من الدهاء والبصر بالحرب وحسن تعبئته للجيوش، ووضع أدق الخطط لحملاتها، ومع أن وراءه الدولة تمده بما يحتاج إليه من جند وسلاح ومال.

ناپیژندل شوی مخ