193

اعرف! فعل الله بك!»

وإنه ليجوز لنا أن نرجع هذا الميل لا إلى ما ذكره المأمون وحده، بل إلى التربية وأثر البيئة الفارسية في نفسه، وإلى مقابلة حسن الصنيع بمثله، فأم المأمون فارسية، والذين كفلوه وقاموا بتثقيفه فارسيون، والذين أحاطوا به ونصروه فارسيون، ومن هنا نستطيع أن نفهم الرأي الذي يقول به بعض المؤرخين الفرنجة: إن انتصار المأمون على الأمين كان أيضا انتصارا للفرس على العرب، كما كان انتصارا للفرس على العرب انتصار العباسيين على الأمويين، ومن هنا نستطيع أن نعلل أيضا ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن المأمون كان شيعيا وهو عباسي؛ لأن البيئة الفارسية التي نشأ فيها كانت إلى حد غير قليل مهد التشيع للعلويين، فيجوز أن تكون قد صبغت المأمون بشيء من ألوانها، وقد كان لذلك آثاره لا في السياسة ونظام الملك فحسب، بل في الآراء والمذاهب مما سنذكره حين نعرض للكلام على الخليفة المأمون.

ولعلنا نكون بما قدمناه لك عن نشأة المأمون وصباه قد رسمنا لك صورة واضحة لهذا الأمير الذي سيكافح كفاحا شديدا في سبيل الملك، والذي كان له أكبر أثر في الحضارة الإسلامية.

أما شتى مواهب المأمون وآراؤه، وما اشتهر به من الحلم والعفو والكرم والبصر بالسياسة، وجودة الحدس، وكفاية البطانة، وشغفه بالعلم والأدب والجدال، وما كان لهذا الشغف من ثورة علمية وفكرية وكلامية في عصره، فسنرجئ الكلام فيها إلى موضعها من كتابنا، وهو الكلام على الخليفة المأمون بعد أن استقر له الأمر في بغداد، وحين نضجت فيه هذه الخلال وآتت كل ما لها من ثمرات.

هوامش

الفصل الثالث

النزاع بين الأمين والمأمون

(1) توطئة

عرفت مما ذكرناه لك في مجمل كلامنا عن الرشيد والأمين، أن الرشيد أعلن ولاية العهد للأمين في سنة 175 هجرية، وسن الأمين فيما قيل وقتئذ خمس سنين، ثم أشرك معه المأمون في ولاية العهد سنة 183 هجرية، ثم استوثق لكليهما من أخيه سنة 186 هجرية، وهو عام حج الرشيد، بأن استكتب كلا منهما عهدا بما عليه وله قبل الآخر، وعلق العهدين بالكعبة، كما قدمنا.

ويؤخذ من نصوص العهدين وما تبودل بعد ذلك من الرسائل بين الأمين والمأمون، مما سنورد لك بعضه لما تضمنته من «الديبلوماطيقية العباسية»؛ وهي: لين في حزم، وتيئيس في تأميل طويل الأجل، ويؤخذ منها أن خراسان ونواحيها إلى الري كانت تحت إمرة المأمون يتصرف في جميع شئونها من سياسية وحربية واقتصادية وقضائية تصرفا تاما، لا تربطه بحاضرة الخلافة إلا رابطة الدعاء للخليفة، وقد صارت إليه إمرة هذه النواحي في عهد الرشيد، وهي من الأمور التي أخذ الأمين بالوفاء بها فيما أخذ به من عهود ومواثيق.

ناپیژندل شوی مخ