وقد اعترف «ميور» نفسه بأن «ويل» كان بالغا في قسوته على هارون مبلغا عظيما، على نقيض ما عهد فيه من الحيدة والهدوء في أحكامه، فقد اعتبره من الظلم في الذروة، ولم يكن الرشيد من الرداءة بمبلغ من سبقه ومن أتى بعده. ويظهر أن الفاجعة البرمكية هي التي أعطته هذه الأسبقية التي لا يغبط عليها في حكاية الشرق وتاريخه.
وسنرى مع محاولة الأستاذ «ميور» الرد على الأستاذ «ويل» في حاشية كتابه، أن كتابته عن الرشيد مع حظها العظيم من المتانة والإنصاف لا تزال عليها غلالة من صرامة «ويل» وقواذع نقده.
نترجم لك رأي «ميور» لأنه يكاد يكون صورة صحيحة للرأي العلمي الأخير في الرشيد، فهو لا يعدو الرأي الذي أبداه الأستاذ ك. ف. «زتوستين»، في العدد الثاني والعشرين من دائرة المعارف الإسلامية، ونحن جد عالمين بخطر المراجع العديدة التي استند عليها «زتوستين» في رأيه في الرشيد. فلننقل لك الآن كلمة «ميور»؛ فهي مثل الأخرى إن لم تكن أوسع وأبلغ.
قال الأستاذ «ميور» في كتابه عن الخلافة: «إن مكانة هارون الرشيد وابنه المأمون في التاريخ لهى أسمى مكانة بلغها الخلفاء العباسيون، وإن هارون لقمين بأن يكون في الذروة مع الخيرة مع أفاضل ملوك أسرة بني أمية، لولا شائبة القساوة المنطوية على الختل التي وصمت سيرته جمعاء.»
لقد كان الرشيد في قصوره محوطا بضروب الرفاهية والرغد، وكان ملكا في مكارمه وجوده، ومع ذلك قد ترك في أقبائه خزائن عامرة بلغت تسعمائة مليون جمعت بوسائل العسف وعدم التدقيق، وإذا استثنينا ما ذكرناه؛ فإن إرادته كانت عادلة موفقة.
ولما كان الرشيد قد اعتاد منذ ميعة شبابه الحياة الحربية، فإنه كثيرا ما شاطر جنده ميدان القتال، وقد كان من جراء انتصاراته العديدة، لا سيما على اليونان (الروم) أن طبع عصره بطابع المجد والصيت.
ولم يظهر خليفة، من قبل أو بعد، ما أظهره الرشيد من الهمة والنشاط في مختلف حركاته، سواء أكانت في سبيل الحج أم الإدارة أم الحرب.
على أن أصل شهرة هذا الخليفة ومصدر صيته راجع إلى أن حكمه عجل بدخول عصر الآداب، فقد كان قصره المثابة التي يهرع إليها الحكماء والعلماء من أنحاء العالم، وكانت سوق البلاغة والشعر والتاريخ والفقه والطب والموسيقى والفنون نافقة، إذ يقابلها الخليفة مقابلة من في سجيته النبل والكرم، كل ذلك مما آتى أكله وثمره الناضج في العصور الآتية.
لقد كان الرشيد يجيز العلماء في كل فن جائزات ملكية نبيلة، على أن الشعراء كانوا موضع كرمه الخاص، وهاك مثلا ما أجاز به مروان بن أبي حفصة حين مدحه بمدحته فيه، فرفده الرشيد بكيس فيه خمسة آلاف دينار، وكساه خلعته تشريفا له، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاص مراكبه. ا.ه. (4) الدولة البرمكية والنكبة البرمكية
صدق الفخري إذ يقول: إن دولة البرامكة كانت غرة في جبهة الدهر، وتاجا على مفرق العصر، ضربت بمكارمها الأمثال، وشدت إليها الرحال، ونيطت بها الآمال، وبذلت لها الدنيا أفلاذ أكبادها، ومنحتها أوفر إسعادها، فكان يحيى وبنوه كالنجوم زاهرة، والبحور زاخرة، والسيول دافعة، والغيوث ماطرة، أسواق الآداب عندهم نافقة، ومراتب ذوي الحرمات عندهم عالية، والدنيا في أيامهم عامرة، وأبهة المملكة ظاهرة، وهم ملجأ اللهيف، ومعتصم الطريد، ولهم يقول أبو نواس:
ناپیژندل شوی مخ