وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يقتفي آثار المنصور ويطلب العمل بها إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، ثم المأمون من بعده، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه، وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، وبكره المراء في الدين ويقول: هو شيء لا نتيجة له، وبالحري ألا يكون فيه ثواب، وكان يحب المديح ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي.
ولقد كانت دولة الرشيد - كما يقول الفخري - دولة من أحسن الدول، وأكثرها وقارا ورونقا وخيرا، وأوسعها رقعة مملكة، جبا الرشيد معظم الدنيا، ولم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشعراء والفقهاء والقراء والقضاة والكتاب والندماء والمغنين من اجتمعوا على باب الرشيد، وكان يصل كل واحد منهم أجزل صلة، ويرفعه أعلى درجة، وكان فاضلا شاعرا راوية للأخبار والآثار والأشعار، صحيح الذوق والتمييز، مهيبا عند الخاصة والعامة. •••
ولقد حاول الهادي أن يرغم الرشيد على خلع نفسه من الخلافة بعده، وأن يكتب بولاية العهد لابنه جعفر، وقد تم له شيء من ذلك. وإنا لنجد في حوادث سنة سبعين ومائة هجرية الشيء الكثير من إخلاص آل برمك للرشيد، لا سيما شدة محافظة يحيى البرمكي على حقوق الرشيد في ولاية العهد، فعذب وحبس وأوذي في هذا السبيل إيذاء شديدا.
ولقد أظهر الرشيد - وهو ولي عهد - من الجرأة ومتانة الأخلاق والصراحة ما هو حقيق بالإعجاب، ولسنا نرى مندوحة من ذكر الرواية التي ذكرها محمد بن عمر الرومي، فهي تعطينا صورة دقيقة لما نحن بسبيله، فقد حدث عن أبيه قال: جلس موسى الهادي بعدما ملك في أول خلافته جلوسا خاصا، ودعا إبراهيم بن جعفر بن أبي جعفر وإبراهيم بن سلم بن قتيبة والحراني، فجلسوا عن يساره ومعهم خادم له أسود يقال له: أسلم ويكنى أبا سليمان - وكان يثق به ويقدمه - فبينا هو كذلك إذ دخل صالح صاحب المصلى فقال: هارون بن المهدي، فقال: ائذن له. فدخل فسلم عليه وقبل يديه وجلس عن يمينه بعيدا من ناحية، فأطرق موسى ينظر إليه، وأدمن ذلك ثم التفت إليه فقال: يا هارون، كأني بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا، وتؤمل ما أنت منه بعيد، ودون ذلك خرط القتاد؛ تؤمل الخلافة! قال: فبرك هارون على ركبتيه وقال: يا موسى، إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت ختلت، وإني لأرجو أن يفضي الأمر إلي فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت، وأصير أولادك أعلى من أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما يجب من حق الإمام المهدي، قال: فقال له موسى: ذلك الظن بك يا أبا جعفر، ادن مني. فدنا منه فقبل يديه ثم ذهب يعود إلى مجلسه، فقال له: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل؛ أعني أباك المنصور، لا جلست إلى معي. وأجلسه في صدر المجلس معه، ثم قال: يا حراني، احمل إلى أخي ألف ألف دينار، وإذا افتتح الخراج فاحمل إليه النصف منه، واعرض عليه ما في الخزائن من مالنا، وما أخذ من أهل بيت اللعنة، فيأخذ جميع ما أراد، قال: ففعل ذلك. ولما قام قال لصالح: ادن دابته إلى البساط.
قال عمرو الرومي: وكان هارون يأنس بي، فقمت إليه فقلت: يا سيدي، ما الرؤيا التي قال لك أمير المؤمنين؟ قال: قال المهدي: أريت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيبا وإلى هارون قضيبا، فأورق من قضيب موسى أعلاه قليلا، فأما هارون فأورق قضيبه من أوله إلى آخره، فدعا المهدي الحكم بن موسى الضمري، وكان يكنى أبا سفيان، فقال له: عبر هذه الرؤيا، فقال: يملكان جميعا، فأما موسى فتقل أيامه، وأما هارون فيبلغ مدى ما عاش خليفة، وتكون أيامه أحسن أيام، ودهره أحسن دهر، قال : ولم يلبث إلا أياما يسيرة ثم اعتل موسى ومات، وكانت علته ثلاثة أيام.
قال عمرو الرومي: أفضت الخلافة إلى هارون فزوج حمدونة من جعفر بن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى، ووفى بكل ما قال، وكان دهره أحسن الدهور. •••
ولقد كان الرشيد مشغوفا بالفنون والعلوم، وكان قصره الزاهي الزاهر مركزا لمختلف الثقافات، وأما ولعه بالشعر وضروب الآداب وإجازته الشعراء بسخاء، فالحديث في ذلك طويل المناحي.
وكان الرشيد مع استمتاعه بمرافه الحياة ومناعمها تزوج ست زوجات، وتسرى عشرين أمة ذكر أسماءهن الطبري، وأسماء أولاده منهن، وكان - مع تبرج المدنية في أيامه، ومع إحيائه أندية اللغة والآداب والمنادمة - ورعا متأثرا بالمواعظ والزهديات. وسنذكر لك طرفا من مواقفه الدالة على خشيته لله وأدبه وورعه وتواضعه.
أما خشيته لله وأدبه؛ فقد ذكر بعضهم أنه كان من صحابة الرشيد بالرقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج معه يوما إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بن عثمان بن بهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف. فلما رجع دعا بغدائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل وشرب دعا به فقال: يا هذا، أنصفني في المخاطبة والمساءلة! قال: ذاك أقل مما يجب لك، قال: فأخبرني أنا شر وأخبث أم فرعون؟ قال: بل فرعون؛ قال:
أنا ربكم الأعلى
ناپیژندل شوی مخ