2
بدايتنا متواضعة جدا، لم أكن أتصور أبدا أن باستطاعتي أن أصل منها إلى سر ما، خطير أو غير خطير. البداية مكتب حكيمباشي المحافظة في بناية المحافظة القديمة التي تهدمت الآن، كنت كلما وجدت نفسي في ميدان باب الخلق، بساعته المعهودة، وواجهة دار الكتب ومئذنة الجامع القائم في وسطه كالنافورة العالية التي جف ماؤها، تذكرت «شوقي»، وكلما تذكرته وجدت نفسي مدفوعا بشكل تلقائي للذهاب إليه، خاصة إذا كان الوقت بعد الظهر؛ إذ إن «شوقي» كان يعمل في المكتب الطبي للمحافظة، وكان لأسباب ليس هناك مجال تقصيها قد اختار فترة بعد الظهر ليكون النوبتجي فيها، أسباب لعل أحدها وأهمها أن الطبيب حين يعمل في تلك الفترة كان ينفرد بالعمل في المكتب، ويصبح هو رئيسه؛ فالحكيمباشي لا يعمل إلا في الصباح، ورئاسة المكتب الطبي والجلوس على كرسي الحكيمباشي وتلقي تحيات المراسلة والمستخدمين متعة لا بد أن ترضي غرور أي طبيب شاب، أما حين يعمل في الصباح فلا يصبح أكثر من مجرد مرءوس واحد بين أربعة أو خمسة زملاء.
ونفس هذا المكتب هو الذي كان يضمنا حين ألقى عبد الله التومرجي بتلك الجملة التي قلبت جلستنا، بل علاقتنا كلها رأسا على عقب، قال: ده خلاص يا بيه، الراجل بقى يهبهب زي الكلاب ويعوي زي الديابة.
حسبتها أول الأمر إحدى مبالغاته، ومبالغات عبد الله التومرجي كانت شيئا مشهورا في المكتب، خاصة في تقدير أثمان القهوة والشاي وحساب السندوتشات، وعبد الله لم يكن تومرجيا أصلا، كان عسكريا في القسم الطبي بالجيش، وحين دخل البوليس جعلوه مراسلة للمكتب الطبي، ولكنهم وجدوه أكثر لحلحة وذكاء من التومرجي الأصلي فأعطوه دوره وأصبح بجلبابه «الدمور» الميري، وطاقيته ذات الحائط العالي، وجبهته العريضة اللامعة المائلة في خجل خبيث دائم، وبالذات حين يخفضها ويقول بلهجة خضوع عسكري ظاهر: أفندم! كلمة ذات وقع على آذان الأطباء المدنيين تتيح لهم بعض متع العسكرية ودفء سطوتها، أصبح عبد الله بهذا وبقبقابه الذي كان لا يتناسب أبدا مع حركته الكثيرة علامة من علامات المكتب الرئيسية، كما أصبحت وقفته أمام باب الحكيمباشي نصف المغلق، وشخطه في الرواد القادمين متأخرين والتحايل لإبعادهم علامة رئيسية من علامات جلستي مع «شوقي».
ولولا رنة دخيلة صادقة في جملته، ما التفت «شوقي» أو التفت إليها؛ كنت قد تعودت إذا بدأ «شوقي» يتحدث في العمل مع عبد الله أو غيره، أو يزاوله أن أنصرف كلية لأفكاري وتأملاتي. الجملة استخرجتني منها وجعلتني أسأل عن هذا الذي يعوي كالذئاب ويهبهب كالكلاب! وأجد أنه «دوسيه»، أو على وجه أصح صاحب الدوسيه الضخم الذي كان موضوعا فوق مكتب «شوقي». كانت الساعة تقترب من الرابعة والنصف، وكنا في الصيف، والحجرة قد خلت من روادها، ورواد الحجرة معظمهم من مجتمع القاهرة السفلى؛ متسولون، ومتشردون، ومجاذيب، وذوو عاهات، ومدعون، ومتشاجرون، فرادى وجماعات، في سلاسل وكلابشات، وأحيانا مربطو الجلابيب حتى لا يغافل أحدهم العساكر وينسل هاربا، رواد بمحاضر وخطابات من الأقسام لتوقيع الكشف الطبي عليهم لتقدير أعمارهم وعاهاتهم، تمهيدا لسلسلة الإجراءات الطويلة التي تتخذ معهم، ولا يخلو الأمر من متشاجر أنيق، أو تهمة بهتك عرض، أو بنت ذوات، هذا عدا العساكر طالبي الإجازات، وأحيانا شاويشية وضباط، عدد ضخم كان طابوره يبدأ من باب المحافظة ويملأ فناءها الواسع، وينتهي عند ذراع عبد الله الممتدة تسد باب المكتب الطبي المفتوح، وعند صوته المبحوح المطالب عبثا باحترام الدور. العجيب أن «شوقي» كان ينتهي من طابور بعد الظهر كله فيما لا يزيد على الساعة، ولكن أي ساعة! حتى حين تخلو الحجرة بعدهم، ويوصد عبد الله الباب يبقى الجو مشبعا بأشباح تكاد تتدخل في الحديث الدائر بيني وبينه، أشباح أشخاصهم ومآسيهم، وأشباح روائحهم أيضا روائح خاصة ليست مقززة كما يتبادر إلى الذهن، ولكنها مختلفة بالتأكيد عن رائحة الأفندية مثلا، أو جموع الفلاحين، رائحة لا تصبح مقززة إلا حين تختلط برائحة الفنيك الذي ترش به الأرض، وال «د. د. ت»، وعرق المبنى العتيق، والأثاث الذي بقرت مسانده ... وتتجمع هذه كلها، ويأتي عليها ظهر يوم صيف كيوم الصيف ذاك وما بعده، فيحولها إلى بواخ يملأ الحجرة، وينعقد حتى سقفها العالي، بواخ يخنقنا ويكاد يدفعنا لمغادرة المكان، ولكنا لم نكن نفعل، بالعكس كان إحساسنا بالاختناق الخارجي ذاك يوفر علينا الكثير من إحساسنا بالاختناق الداخلي.
كنت و«شوقي» شابين من شباب الجيل الذي اصطلحوا على تسميته بالجيل الحائر، صديقين بلا سبب يدعونا للصداقة أو حتى الانتساب إلى جيل واحد، تفتقت عنا الحرب العالمية الثانية لنجد أنفسنا هكذا زملاء في كلية أو جامعة واحدة، بنزعات سياسية وآراء في الناس والحياة لا يمكن أن يربط بينها رابط، ومع هذا فكنا أصدقاء؛ لا لأننا كنا هازلين في خلافاتنا؛ إذ الحقيقة أننا كنا فيها أكثر من جادين، وتمسك كل منا برأيه ووجهة نظره كان يصل أحيانا إلى حد ارتكاب الجريمة، ربما السبب في الصداقة المهيمنة الكبيرة التي جمعتنا أننا كنا جميعا نؤمن - رغم اختلاف طرقنا ووسائلنا - أن لنا رسالة واحدة نحن مبعوثو العناية لتحقيقها؛ إنقاذ بلادنا وتغيير مصير شعبنا تغييرا جذريا وإلى الأبد، وهكذا بدأت واستمرت علاقتي بشوقي.
كان تعارفنا في مؤتمر للطلبة عقدناه في الكلية، ونتيجة تشاتم في الرأي، ولا أقول خلافا، تشاتم كاد يصل إلى حد التشابك، ولكنا حين خرجنا من المؤتمر كنا قد نسينا الخلاف، وكنا نتعازم على الشاي، وصرح لي ونحن جلوس على المقهى أنه - بينه وبيني - كان يوافقني في الرأي، لولا الموقف الذي كان عليه فيه أن يناصر زملاءه أعضاء الجماعة التي كان ينتمي إليها، ولكنها نقطة واحدة هي التي كنا متفقين فيها، فقد كان استنكاره لما أومن به لا يقل عن استنكاري لآرائه ومعتقداته، ولم تفعل الأيام التي تلت أكثر من أن تزيد كلا منا استنكارا لآراء الآخر، ولا أعرف مع هذا لماذا كانت في نفس الوقت تزيد من علاقة كل منا بالآخر؟ الجيل واحد صحيح، ولكنه شيع واهتمامات، أناس منا كانوا يمرحون ويقضون الليالي حول موائد البوكر الذي يلعب بقروش ويسمونه قمارا، وشلل أخرى «تزوغ» من المحاضرات، وتدمن حفلات السينما الصباحية، وفرق همها الرياضة والجري بالفانلات حول الملاعب، وجماعات للاغتيال والإرهاب، ونحن المهتمون بالسياسة والمؤتمرات والخطب ... نحن الذين نبادل الآخرين الرياضيين وأصحاب النزوات الاحتقار، ونرد على اتهامهم لنا بأننا مهاويس باتهامنا لهم بأنهم منحلون، وفيما بيننا أيضا نتبادل التهم، التعصب يرد عليه بالإلحاد، والفاشية يرد عليها بالشيوعية، ومع ذلك - وربما من أجل ذلك - يظل يجمعنا ذلك القوس العريض الذي كنا نطلق عليه برهبة وتقديس: السياسة. «شوقي» بالذات كنت شديد الضيق منه قبل أن أعرفه، يذكرني إذا ما قام ليخطب بباعة «الشرب» وخالعي الأسنان في الأسواق! بل حتى شكله لم أكن أستلطفه، كان شاحب الوجه لسبب غير معلوم وبطريقة يبدو معها شاربه الغزير أكثر سوادا من حقيقته، شاربه الذي ما هضمت أبدا أسباب وجوده، ولا استطعت أن أفسر هذا التناقض الواقع بينه وبين ذقنه؛ فهو غزير، وذقنه ملساء ناعمة نادرة الشعر كذقون المراهقين، كان نحيفا، متوسط القامة، جاد الملامح إلى درجة لا تملك معها إلا الاستخفاف بجده، كان أحد زعماء الكلية وأحد زعماء مذهبه، ولكنه أبدا لم يكن ذلك المتهوس الأحمق الذي لا يفلح معه تفاهم أو نقاش، كان دائما على استعداد لمناقشة أكثر الآراء بعدا عن رأيه، يرحب بالجدل بابتسامة واثقة، ولا يثور، وكثيرا ما كنت أتحسر وأعتبر أن عيبه الأكبر أنه في المعسكر الآخر، وأحلم بأني يوما استطعت إقناعه، وبأننا يوما ما اتفقنا على رأي، ولكنها أحلام، مجرد أحلام! فقد كان «شوقي» يتمتع بطاقة إرادة هائلة، وكأنه ولد وهو يعرف بالضبط ما يريد، ومتأكد أنه واصل إليه لا محالة، وكان يبدو وكأن إرادته تلك ترسب إيمانه في قلبه طبقة فوقها طبقة، وكل يوم تزيده عمقا وتشبعا بطريقة محال معها من أن يتزلزل إيمانه ذلك بإيمان جديد.
إلى أن حدث ذلك الحادث السياسي الذي هز البلاد كلها، وقبض على «شوقي»، وأدخل السجن تمهيدا لمحاكمته، وربما لفرط إيماني به كزعيم من زعماء جيلنا وتقديري له، عجبت للأسف القليل الذي أعقب اختفاءه من الكلية، حتى بين البقية الباقية من أفراد جماعته، وكنت كلما سألت عنه ظفرت بإجابات غامضة عن مصيره - بل، ولكي أسجل الحقيقة؛ تنصلا من الإجابات الحقيقية - عن مصيره ومصير المقبوض عليهم من زملائه وغير زملائه.
ولا أعرف إذا كنتم ما زلتم تذكرون تلك الفترة من تاريخنا القريب، ولكني متأكد أن جيلنا أبدا لن ينساها، جيلنا الحائر وعامي 47 و48 والأحكام العرفية، وعهود الإرهاب البشع المخيف.
تلك الفترة كانت أول ضربة جدية تلقاها جيلنا، خرجنا من الحرب لنجد جيوش الاحتلال ترتع في أرضنا، ثرنا فحاولوا الضحك علينا والجلاء الصوري إلى القنال وفايد، ثرنا مرة أخرى مطالبين بالجلاء الكامل والكفاح المسلح، وهذه المرة ضربونا، جاءوا بدولة الباشا وضربنا علقة كوبري عباس، وحاول أن يضرب أكثر فقتل، فجاءوا بدولة باشا آخر ليكمل العلقة، وأكملها، فتح السجون على آخرها، سلط الإرهاب بكل أشكاله، كمم الأفواه، أخمد الأصوات، أطلق العملاء، وبعد أن كانت كليتنا تموج بالمؤتمرات والخطب والثوار، أصبحت تموج بالبوليس السياسي، والإشاعات، والخوف، وحرب الأعصاب، وتشتت شمل الجيل، دخل السجن بعضه، والبعض اختفى وهرب في الأرياف والمدن البعيدة، وأحيانا داخل نفسه، حفر حفرة عميقة في صدره دفن فيها ثورته ومعتقداته وردم عليها، وأصبح همه الوحيد أن يردم عليها أكثر وأكثر، ويدعي عكس ما يعتقد، في تلك الأثناء شاعت قصص التعذيب، وطار صيت العسكري الأسود، وما يفعله بالمساجين المعتقلين، وأصبح رمزا لكل ما يناله جيلنا من ضربات، وأصبح هو مبعث رعب الجيل، ذلك العسكري الذي كان يرقد «دوسيهه» بعد سنوات كثيرة وسنوات على مكتب «شوقي»، والذي كان مقدرا لنا أن نراه بعد هذه المدة الطويلة، وبطريقة لم نحلم بها أبدا.
ناپیژندل شوی مخ