فإنه لم يحدث في تاريخ أمة ولا في تاريخ العالم أن أجمع الناس على رأي واحد؛ ولذلك لم يكن عجبا أن يسخر الساخرون من التسعات المتلاحقة التي كانت تظهر في نتائج الاستفتاءات التي كانت تجرى في مصر.
فإنه لا بد أن يكون كل إنسان صاحب رأي، فإن حاول أن يموه في هذا الرأي ويخادع الناس عنه أدرك الناس بحسهم الملهم الموهوب أن المتحدث إليهم لا يحادثهم من قلبه، وإنما يحاورهم بمنفعته ولسانه في وهم منه ساذج، أنه قادر على أن يدخل في روع الناس أنه صادق ولكن هيهات.
الرحاب الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يرضيه هو رحاب الله، وفي هذه الساحة القدسية لا يستطيع إنسان ما مهما يكن يظن نفسه عبقريا أن يميل عن الحق قيد شعرة؛ فهناك الذي يعرف خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وكلما كان الإنسان غبيا ظن أنه يستطيع أن يماكر رب الناس، ملك الناس، إله الناس، الذي خلقهم وملكهم بكل خلجة من خلجاتهم، وكان معبودهم الذي لا معبود لهم غيره.
وهكذا إذا كان الإنسان جديرا بأن يكون إنسانا تحتم عليه أن يصدق الله فيما يقول أو يفعل، وهو لن يكون صادقا مع ربه إلا إذا كان صادقا مع نفسه، يقول رأيه الذي يعتقد ثم يتوكل بعد ذلك على الله. وليكن على ثقة أن رأيه هذا سيغضب قوما ويرضي قوما آخرين. ومن لا رأى له قيمة له. وما دام صاحب رأي فلا بد أن يكون هناك رأي آخر يعارضه.
لعلك سائل نفسك فيم هذه المقدمة الطويلة، ولعلك أدركت فيم أسوقها.
لقد تم تعديل في الوزارة وهي الهيئة التنفيذية للدولة، فإذا حاول الوزراء الكثيرون الذين بقوا أو الوزراء القليلون الذين وفدوا على المنصب أن يرضوا الشعب جميعه على حساب الشعب فإنهم بهذا يكونون أشد خصومة لأنفسهم من المعارضين. إنما ينبغي أن يراعوا الله في كل ما يصدرون عنه، وأن تكون أعينهم مثبتة على المصلحة العليا للبلاد. وقد يؤدي هذا بهم إلى إغضاب بعض فئات، ولكنهم إذا توخوا الرأي السديد واستشاروا أصحاب الضمائر النقية والعلم الثابت والرأي النزيه فإنهم لا شك سيرضون الأغلبية، والأغلبية هي مصر، ولن تكون الأغلبية في يوم من الأيام قلة هنا أو جماعة ضئيلة هناك.
فكم يحز في نفوسنا نحن المصريين أن نجد الحمير تسير وهي تحمل أبشع ما تراه العين، ونسأل، وإذا الجواب أن أصحاب الحمير سيغضبون، وكم يحز في النفس أن نسمع أن العامل المصري لا يعمل أكثر من ساعتين أو ثلاث ساعات، وعمال العالم الغني يعملون ثماني ساعات. وكم يحز في نفوسنا أن نرضي القلة على حساب الكثرة، لا لشيء إلا لأن أصحاب السلطة التنفيذية ينظرون إلى الأفراد ولا ينظرون إلى المجموع. وهيهات لمن كان هذا شأنه أن يصل إلى ما ينشده من نجاح أو فلاح.
وإنه ليملأ النفس حسرة مريرة قاتلة أن نجد الحكومة تدعم السجائر وتيسر للناس أن يشربوا السجائر بمعونة من الشعب الذي لا يشرب، وتكون النتيجة العجيبة المحزنة المخزية أن يقدم العاقل الذي لا يدخن عونا للمستهتر الذي يدخن - وعلى فكرة أنا للأسف أدخن وإن كنت قليل التدخين - ولكن لا أستطيع على أي عرف وتحت أي مذهب ولا بأي منطق مهما يكن معوجا أن أتصور أن يشرب الإنسان سما تعينه الدولة على شربه وتكون الحجة أن في هذا تخفيفا عن الناس! على أي ناس يقع هذا التخفيف؟ على قوم يقتطعون من أقوات عيالهم ليحرقوا صدورهم. ويا ليتهم يفعلون ذلك من حر مالهم أو من مال الوزير، وإنما هو من مال الشعب الكادح الذي يتعب ليأكل أطفاله، وإذا الأمر يتضح أنه يتعب لكي يدخن الآخرون كدحه وكده وشقاءه وتعبه.
ولما كانت بعض المصائب تدعو للضحك بل يقولون إن شر المصائب هي تلك التي تضحك، فإننا نجد السجائر مكتوبا عليها أن ضررها وبيل وخطير.
ومضحكة أخرى أنهم منعوا الإعلان عن السجائر في التليفزيون، وهكذا أصبح الأمر مجموعة من المتناقضات كلها يضحك وكلها يبكي في وقت معا.
ناپیژندل شوی مخ