أما الشيخ فهو أجدر الثلاثة بما يفعل؛ فإنه يقال إن الشيخ إذا قرأ دون كيشوت يبكي. وحق له البكاء؛ فإن الشيخ حين يصير شيخا، ويصل إلى سن النضج، وينظر إلى ما مر من أيامه وإلى طول حياته ما يلبث أن يتبين عبث الحياة جميعا، ويصبح ولا أمل له إلا الحياة الأخرى تتعلق بها آماله وتهفو إليها روحه. وعندما تنعقد المقارنة بين دنيا الخلود عند ملك لا يمنع الظل لائذا والصفح توابا ولا العفو راجيا، وبين دنيا يسود فيها البطش والجبروت والانتقام والخسة. وحين تنعقد المقارنة بين خشية الله وخشية الناس، وبين الورع والنفاق وبين العليا والدنيا وبين الخالدة والفانية تهمي دموع الشيخ؛ فإنه سرعان ما يتبين له أن حياته كلها كانت مثل حياة دون كيشوت، وأنه حارب ما حارب ولم يخرج من الدنيا إلا بحطام وأوهام وآلام وسقم. ونذكر رواية العجوز والبحر لهمنجواي فنجدها إعادة بارعة عملاقة لبدايات الرواية العالمية المتمثلة في دون كيشوت لسرفانتس.
والعجوز في خالدة همنجواي خرج من جهاده كله بنظام، ودون كيشوت عند سرفانتس لم يخرج بشيء. والرجل العجوز حين يقرأ هذه أو تلك لا بد له أن يبكي؛ فإنه سرعان ما يتبين له أنه ظل طوال حياته يحارب طواحين الهواء، وأنه عاد من الحرب بهيكله هذا الفاني، وأنه مسافر إلى الناحية الأخرى، وليس له من زاد إلا وجه ربه، وهو سبحانه العدل المطلق، وويل للإنسان من العدل المطلق، وما أضيع الإنسان إن لم يدركه سبحانه برحمته إلى جانب عدله وبغفرانه يكسو به محكم أحكامه!
الصعود ببطء
ألم أقل لك إن الحديث في غير السياسة أجدى علي وعليك، أو هو لا شك أمتع لي ولك؟ وما البأس بنا نطرح السياسة أويقات من حياتنا، بدلا من أن تظل ناشبة فينا أظافرها حتى لا نفكر إذا فكرنا إلا فيها، ولا نكتب مقالاتنا إلا داخل إطارها، بل إنها في حين من الدهر سيطرت حتى على الروايات التي نكتبها والفن الذي نعيش في ظلاله.
في ذلك العهد كانت الكلمة الحرة ميتة لا نستطيع إحياءها إلا إذا لفقناها بتلافيف الرمز والرواية، فظهرت روايات كثيرة سياسية في ذلك الحين. ويبدو أن فرحة الانطلاقة قد سيطرت على أقلامنا حتى أصبحت لا تريد أن تكتب في غير السياسة، فهونا هونا أيها القلم؛ فإن الاندفاع بك لا يليق وقد شاب صاحبك وابيض فوداه، والصمت به أليق، والعودة إلى الفن أحمد، فإذا عزنا أن نقول المقالة السياسية، فما البأس في قصة، وإن لم فحدوتة مما يرويه الرفاق في جلسات التسلية والترفيه؛ فالسياسة بقدر ما هي هامة وبقدر ما هي خطيرة، فإن الترفيه أيضا هام وخطير. ولعلك بعد أن تستمتع بقصة مما يرويه الناس في جلسات الترفيه تستطيع أن تعود إلى السياسة تعمل فيها قلمك، فإن استعصى عليك الأمر فلتعمل فيها فكرك. وليس من الحتم أن تقول كل فكر؛ فبعضه يكفي.
حديثي إليك اليوم عن قصة رويت لي، وما أظن شأن الراوي يعنيك؛ فإني أحسب أن القصة نفسها هي التي تعنيك. وإنما لعلك تريد أن تثق أنها وقعت، أم تراك أيضا في غنى عن هذا الوثوق؟ إنما شأنك معها أن تقرأها، فإن أعجبتك فبها ونعمت، وقد بلغت من نفسك ما أريد أن أبلغ. وإن لم تعجبك فالأمران عندك يستويان، ولا يهمك من بعد إن كانت قد وقعت أو هي محض خيال.
ولكنني على أية حال مبادر فمطمئنك أنها وقعت، وأني عرفتها ممن أثق فيه أنا، وممن لو عرفته معرفتي به لوثقت به أنت أيضا.
وإني أرويها لك كما وقعت تماما، لا أهذبها بخيال لي أو بتحريف. ولو كنت أشاء أن أقدمها كقصة فنية لكان شأني في روايتها لك غير هذا الشأن ولكان لي في كتابتها لك طريقا آخر غير هذا الطريق. والذين يكتبون القصة ويقرءونها يعرفون أن هذا الذي أفعله الآن أبعد ما يكون عن القصة المبتدعة في فنها الحديث، وإن كان قريبا غاية القرب من أسلوب لبسته القصة في عهودها الأولى، ثم اندثر هذا الأسلوب مع الزمان وتغيرت به الأيام إلى غير هذا، بل ما يناقض هذا كل التناقض، ويختلف عنه كل الاختلاف.
القصة تروى عن زوج وزوجة تزوجا في بواكير الشباب الأولى، ومر على زواجهما خمسة وعشرون عاما. أما الزوج فأصبح يحوم حول الخمسين من عمره، وأما الزوجة فتصغره بسنوات ثلاث، ولكنها فتية المظهر، شابة التجاعيد جميلة الملامح، على الرغم من أولادها الأربعة الذين تخرج منهم من تخرج. وبقي منهم من بقي في الجامعة أو على مشارفها.
أصيب الأب بذبحة صدرية مفاجئة، لحسن حظه أصابه المرض وهو في بيته، واستدعى له الأطباء، ولكن - لسوء الحظ - تقطن العائلة في الدور السادس من عمارة ليس بها مصعد، ولم يستطع الصعود إلى المريض إلا الشباب من الأطباء.
ناپیژندل شوی مخ