وعمل قاهيا بالجريدة. وما هي إلا أيام حتى أتاحت له مهارته أن يمارس صنعته وصنعة أبيه. وما هي إلا شهور حتى فرض نفسه كاتبا بعد أن أصبح يملك في يديه أسرار كثير من المحررين والمحررات أيضا. وما هي إلا شهور أخرى حتى أصبح على صلة بسلاطين العصر، ومارس معهم الصنعة التي يجيدها. وكبر شأنه وطغى وتجبر وأصبح هو وحده من يتحكم في الجريدة. وكان أول شيء صنعه أن طرد البواب الذي مكنه من الدخول إلى الجريدة. •••
وتغير العهد. ووجد حكام العهد الجديد مخزيات تدور حوله، تتصل بالأمانة أول ما تتصل، ووجدوه أيضا قد تآمر على سلامة الدولة، وقبضوا عليه ومثل أمام المحققين، فكان أول شيء قاله: ماذا يأخذ الريح من البلاط؟ - أنت أمام النيابة ولست في كباريه. - أنا لم أقل شيئا. - فما هذا الريح والبلاط؟ - يا بك، أنا أسفل إنسان في الدنيا، وليس يهمني أي شيء ممكن أن تحكموا به. المؤكد أنني لن أشنق لأنني لم أقتل أحدا. - بل قتلت. - أنا؟
قتلت كرامة مهنة المفروض أن تكون أشرف مهنة. - هذا الكلام لو كان عندي شرف. ومن أين؟! أنا يا بك مهنتي هي قتل الشرف. ولما كان الشرف معنى وليس شخصا، فلا يمكن أن تكون العقوبة هي الإعدام، وما دمتم لن تطالبوا بإعدامي فافعلوا بي ما شئتم، ليس شيء في الوجود يستطيع أن ينال مني.
لم تجد النيابة شيئا تستطيع أن تفعله؛ فوكيل النيابة الذي كان يحقق معه قديم. ومر به من المتهمين أنواع وأنواع، ولكنه لم ير في حياته مثل هذا الشيء الذي يقف أمامه.
في قرف شديد وجه التهمة. وصدر الحكم، وسجن حنفي العزوني، وخرج من السجن كأنه لم يدخله، فإن يكن السجن تأديبا وتهذيبا وإصلاحا فهو كذلك لبني آدم الذين مر الشرف ببيوتهم، أو عرفوا الكرامة في يوم من الأيام، أما حنفي العزوني فبلاط. وهيهات لرياح العالم جميعا أن تنال من البلاط شيئا ملحوظا، ولكن في يوم من الأيام ومع كثرة مرور الرياح لا بد أن يصبح البلاط رمادا هشا عدما من العدم؛ فمهما يكن البلاط قويا بحقارته فإن الحياة أقوى بسموقها.
ملحق البهلوان
لعل القارئ لا يعرف من هو هذا المداح وكيف كان شكله. والحقيقة أنه نموذج بشري قديم مغرق في القدم، شهدته أنا في طفولتي الباكرة، وكان في ذلك الحين بقية من فئة أوشكت على الاندثار.
وكان دأب هذه الفئة أن تمر وفي يدها طبلة تدقها على منازل الأعيان في الريف، تنشئ في مديحه القصائد المرتجلة الهزيلة التي تتغنى بكرمه وجوده وأصله وعراقته. وطبعا ليس يهم المداح أن يكون قريبا من الحقيقة أي قرب، أو بعيدا عنها غاية البعد. إنما المهم فقط أن يمدح ويبالغ في المديح ثم ينال بعد ذلك ما قدر له أن يناله، ثم ينصرف مادحا على أية حال. سواء كان ما أصابه وفرا وغدقا، أم كان صبابة هينة لا تساوي ما بذل من جهد ومن نفاق. كان هكذا شأن المداحين. وأحسب أن بعض الناس أسموهم في دارج الحديث المطيباتية. وأصبحت هذه اللفظة تطلق على كل منافق في الجلسة أو في الحياة. وهكذا فإنه إن تكن جماعة المداحين قد اندثرت على شكل جماعة فقد انتشرت أفرادا تجوب بنفاقها المجتمعات، وتجوب أيضا الأجيال والأزمان.
وربما تسألني ما الذي ذكرك بهؤلاء جماعات كانوا أو أفرادا. وربما لا تسألني وإنما أسأل أنا نفسي ولا أبحث عن الإجابة؛ فهذه نماذج من الناس تذكرك بنفسها في إلحاح وإصرار مهما تحاول أن تنشغل عنها، ولكن قد يكون الباعث لي إلى الكتابة عنها اليوم شخصا بذاته، كلما طالعني اسمه ذكرت فئته وأصولها وفروعها، شاهت أصولا وذلت فروعا.
مسكين هو؛ فقد كان في زاوية هينة من زوايا الجهل لا يعرفه أحد، وإن كان يسعى إلى معرفة كل أحد. وكان يبذل في سبيل تعرفه بالناس ماء وجهه الذي سرعان ما نضب؛ فما هي إلا شخصية أو شخصيتان حتى أصبح بلا ماء وجه على الإطلاق.
ناپیژندل شوی مخ