قال: «ولكن مثل هذا السفر لا يتأتى إلا بعد التأهب الكافي، ولا بد لنا من صحبة قافلة؛ لأن الطريق وعر وطويل.»
قالت: «دبر ما تراه وليكن في القريب العاجل.»
فأبرقت أسرة سامان وهو إنما بدأ بتلك المقدمة ليسمع هذه الخاتمة لحاجة في نفسه طالما سعى في قضائها، ولولا رغبة جهان في السفر فرارا من الأفشين لانكشف لها غرض أخيها، ولكنها تعامت وتجاهلت رغبة في النجاة، والإنسان كثيرا ما يطغى غرضه على تعقله، فعهدت إلى سامان بتدبير أمر السفر وأخذت هي وخيزران تستعدان في الخفاء.» •••
وكان المعتصم قد ترك بغداد وبنى مدينة «سر من رأى» أو «سامرا» على مسافة خمسين ميلا شمالها، ليقيم بها رجاله الأتراك وغيرهم، فكانت المدينة الثانية من مدن بني العباس، وقسمها إلى قطائع أقطعها لرجاله وهم فرق تنتسب كل فرقة منهم إلى مواطنها التي حملت منها، فقد حمل بعضهم من سمرقند وهم الأتراك، وبعضهم من فرغانة، وبعضهم من أشروسنة أو غيرها، وجعل على كل جماعة قائدا. وأشهر قواده الأفشين وأصله من أشروسنة، وأشناس وكان في الأصل مملوكا لبعض قواد المعتصم فابتاعه ورقاه، وأيتاخ، وسما، وكانا مملوكين أيضا.
ولما استقر رأيه على بناء «سامرا» أحضر المهندسين والفعلة والبنائين وأصحاب المهن من النجارين والحدادين، وأمر بحمل الساج والخشب والجذوع من البصرة وبغداد وسائر السواد، ومن أنطاكية وسائر سواحل الشام، وأحضر الرخام من اللاذقية.
وأقام قصره وسط المدينة وبجانبه المسجد الجامع، واختط الأسواق حول المسجد، وجعل كل تجارة منفردة في سوق على نحو ما فعل المنصور في بغداد، وأفرد لقواده قطائع أبعدها عن قصره وعن منازل الناس وأهل الأسواق، فأقام أشناس في محلة بأقصى شمال المدينة على بضعة أميال من قصره سماها الكرخ على اسم كرخ بغداد. وأقام الأفشين في الطرف الجنوبي في مكان يسمى المطيرة على نحو تلك المسافة من قصره. وأنشأ للفراغنة قطائع أقرب إليه من سواهم. وكذلك الأتراك والخراسانية والمغاربة. وأمر قواده أن يبنوا المساجد والأسواق في قطائعهم لرجالهم. وجعل لسامرا شوارع موازية لمجرى دجلة تقطعها دروب وأزقة أكبرها الشارع الأعظم يمتد من المطيرة شمالا على موازاة دجلة إلى الكرخ، وتمتد قطائع الناس يمنة ويسرة على هذا الشارع وتتصل إليه بدروب وأزقة تنفذ إلى دجلة. وفي هذا الشارع كان ديوان الخراج وقصر المعتصم والمسجد وسوق الرقيق. ويلي الشارع الأعظم شارع آخر على موازاته يعرف بشارع أبي حمد.
وبنى على دجلة جسرا يوصل الشاطئ الشرقي بالغربي، وأقام في هذا الجانب العمارات وغرس البساتين وحفر الآبار واستقدم من كل بلد أصحاب الأعمال اللازمة للعمارة، فاستقدم مهندسي الماء وصناع القراطيس من مصر، وصناع الزجاج والخزف من البصرة، وأنزل أهل كل مهنة وصناعة مع عيالهم، وجعل الأبنية قصورا حولها البساتين وبينها الميادين. ولما تسامع الناس ببناء هذه المدينة تقاطروا إليها للبيع والشراء، وزاد فيها الواثق والمتوكل وغيرهما ممن خلف المعتصم كثيرا من الأبنية الفخمة.
وكان في جملة أبنية الفراغنة بقرب قصر المعتصم بيت متوسط الحجم قائم في حديقة حولها سور، له باب مطل على دجلة وعنده نخلتان. ولم يكن أهل سامرا يعرفون شيئا عن أهل هذا البيت؛ إذ قلما كانوا يرون فيه أحدا غير الخدم الذين يخرجون إلى السوق في حوائجه، على أن القواد كانوا يعرفون أنه منزل القائد ضرغام وكانوا يعجبون لرغبته عن زخارف الحياة خلافا لسائر القواد أو الأمراء الذين كانوا يستكثرون من الحاشية والموالي والمماليك. وكان أكثرهم يظنونه وحيدا فيه، وربما زاره بعضهم أثناء إقامته بسامرا. أما بعد سفره الأخير فإنهم انقطعوا عنه إذ لم يبق في البيت أحد إلا امرأة مكفوفة البصر هي أمه ومعها جارية عجوز تخدمها اسمها مسعودة.
الفصل الحادي عشر
أم ضرغام
ناپیژندل شوی مخ