في تلك الأثناء، وفي منزل حجري صغير رمادي اللون بالقرب من قمة إيست هيل، اشتدت آلام المخاض بليئة كوهين، وفاحت غرفة المعيشة برائحة خلاصة أزهار الويتشهازل والكحول والعرق. وكان صندوق البياضات مفتوحا، وعلى الطاولة كومة من أغطية الأسرة الملطخة باليود. ولما كان الطبيب المدرب الوحيد في المدينة مشغولا في مهمة أخرى، تولى رعاية ليئة قابلتان تتاريتان تقطنان قرية مجاورة. لقد أحضرتهما العناية الإلهية إلى عتبة منزل كوهين في اللحظة التي كانت ليئة في أمس الاحتياج إليهما؛ فقد قرأتا العلامات وقالتا في ذلك: بحر من الجياد؛ ومحفل من الطيور؛ والنجم الشمالي بمحاذاة القمر. وذكرتا أن هذه كانت نبوءة تنبأ بها ملكهم الأخير وهو يحتضر، لكن لم يكن أمامهما وقت للشرح. طلبت القابلتان أن يصطحبهما أحد إلى غرفة النوم، ثم طلبتا أغطية أسرة نظيفة وكحولا ومياها مغلية، ثم أغلقتا الباب وراءهما؛ وكل عشرين دقيقة تقريبا تهرول صغراهما مندفعة خارج الغرفة حاملة وعاء فارغا أو كومة ملء الذراعين من الأغطية المستعملة. وبخلاف هذه الرحلات القصيرة الخاطفة، ظل الباب مغلقا.
ولما لم يكن بيد يعقوب زوج ليئة ما يفعله، أو شيء آخر يشغله، فقد استسلم للقلق. وشغل يعقوب - الذي كان ضخم البنية أزرق العينين، ذا شعر أشعث فاحم السواد - نفسه بنتف أطراف لحيته، وخلط إيصالاته، وتعبئة غليونه. وبين الحين والآخر تتناهى إلى مسامعه صرخة، أو بعض الكلمات المكتومة التي تحث على الدفع، أو صوت إطلاق النار والجياد الآتي من بعيد. ولم يكن يعقوب رجلا متدينا بدرجة خاصة أو مؤمنا بالخرافات، ومع ذلك همهم بما استطاع أن يتذكره من صلوات خاصة بولادة الأطفال، وقرع ثلاث مرات على الخشب كي يطرد العين الشريرة. وقد حاول قصارى جهده ألا يستسلم للقلق، لكن ماذا عسى أب ينتظر قدوم مولوده الجديد أن يفعل غير ذلك؟
وبعد الغسق مباشرة، في تلك الساعة البالغة الرقة التي تتحول فيها السماء من اللون البنفسجي إلى الظلام، صمتت الهداهد، وتوقف إطلاق النار، وخف وقع حوافر الجياد حتى توقف تماما؛ وكأنما العالم بأسره توقف ليلتقط أنفاسه. في تلك اللحظة خرج من غرفة النوم صوت تنهيدة متعبة، عقبها صوت صفعة على جسد ثم صرخة المولود الجديد. عندئذ ظهرت القابلة الأكبر سنا، السيدة داماكان، حاملة صرة تحت ذراعها. وباستثناء صوت الرضيع الخافت، غرقت الغرفة في الصمت.
همس يعقوب: «حمدا لله!» ثم مال ليقبل ابنته في جبهتها. كانت الطفلة رائعة، غريرة، تتقد بالحياة الجديدة، ثم مد يده ليحملها بين ذراعيه، ولكن القابلة منعته.
قالت القابلة : «أيها السيد كوهين.»
رفع كوهين عينيه إلى خط فمها الدقيق. «ثمة بعض المتاعب.»
لم يتوقف نزيف ليئة، وكانت واهنة بدرجة خطيرة. وبعد ساعات قلائل فحسب من الولادة أسلمت الروح. وكانت الكلمة الأخيرة التي تفوهت بها هي اسم مولودتها، وما إن نطقت بها حتى انفتحت السماء.
كان هطول المطر كما لم يشهده أحد من قبل في كونستانتسا؛ وابلا لا نهائيا من الأمطار والرعد. تدفقت الأمطار في صورة سيول وأمواج وصفحات من المياه، فأخمدت النيران، وطمست معالم الطرق، وغلفت ساحة المدينة بغطاء من الدخان الرطب. وعندما بلغت العاصفة أشدها، أوت الهداهد إلى فتحات الأشجار اليابسة وتجاويفها. أما الفرقة الثالثة فشدت الرحال جنوبا صوب بلفن، حاملين غنائمهم تتدلى مثل أعشاش العناكب على ظهور جيادهم. أمطرت السماء طوال أربعة أيام اعتنت فيها السيدة داماكان وابنة أخيها بالمولودة الجديدة. ودفنت ليئة في قبر جماعي يضم اثني عشر رجلا تقريبا قتلوا أثناء محاولاتهم الدفاع عن ممتلكاتهم، وملأ يعقوب المنزل عويلا. وبنهاية الأسبوع، كانت النفايات قد سدت المرفأ، واكتسى ميدان المدينة برماد رطب.
لكن الحياة لا بد أن تمضي، فعندما انقشعت السحب أخيرا، استقل يعقوب كوهين عربة إلى تولتشيا، وبعث ببرقيتين؛ إحداهما إلى أخت ليئة في بوخارست، والأخرى إلى صديقه وشريك أعماله في إسطنبول، وهو رجل تركي يدعى منصف باركوس الذي حصل مؤخرا على لقب البكوية. وفي البرقية الأولى أخبر شقيقة زوجته بالمأساة، وطلب منها أن تقدم له ما في استطاعتها من مساعدة. أما البرقية الثانية فقد بعثها بناء على طلب من السيدة داماكان يوصي فيها بتعيينها هي وابنة أخيها في أي وظيفة شاغرة ربما تكون متاحة في منزل منصف بك؛ إذ نوت السيدة داماكان وابنة أخيها - كما الحال مع معظم التتار الذين يقطنون القرى المحيطة بكونستانتسا - الرحيل عما قريب والتطلع إلى حياة جديدة في إسطنبول؛ حيث يلقى المسلمون المزيد من الحفاوة والترحاب. وحتى يأتي ذلك الحين، وافقتا على المكوث مع يعقوب ومساعدته بأقصى استطاعتهما.
بعد بضعة أيام وصل الرد من منصف بك، الذي أشار فيه إلى أنه يسعده استقبال السيدة داماكان، وأنه كان في الواقع يبحث عن خادمة جديدة.
ناپیژندل شوی مخ