فرمش عبد الحميد بعينيه. لم يكن ارتياب والدته في اليهود سرا؛ فقد نمت بذرة خلافها مع موسى بك على مدار السنين حتى تحولت إلى شك في ولائه بالكامل. وبالنظر بعين الاعتبار إلى شعورها نحو الأمر عموما، كان عبد الحميد يميل إلى رفض النظرية تماما، ولكن طبقا لقانون النظريات فهي تنطوي على قدر من التميز.
فقالت وهي تضع ما كتبته بخط يدها على المائدة: «فكر في الأمر .» ثم غادرت المكان.
وقف عبد الحميد في مدخل مخدع والدته الخاص يراقب مجرى لا نهائيا من المياه يتدفق من أعلى نافورة. قرقرت معدته مرة أخرى، وشعر بوخز ألم حاد في كليته، فأمسك بجانبه وشعر بموجة أخرى من الألم تجتاح أحشاءه، فحاول أن يتذكر الشروط التي تبيح الإفطار في رمضان. لم يكن عاجزا أو مسافرا أو امرأة حاملا، ولكن ماذا لو كان الصيام يعوق قدرته على الحكم الصحيح على الأمور؟ ماذا لو هدد قدرته على الاضطلاع بواجباته باعتباره سلطانا؟ يلزم الإفطار في رمضان إذا كان الإفطار سينقذ حياة شخص، وبالطبع فإن القرارات الخطيرة التي يتخذها كل يوم تؤثر على حياة الكثير من الأشخاص. وبهذا التبرير، نظر إلى الساحة الخالية وتسلل إلى المطبخ المجاور لجناح والدته.
كانت الغرفة خالية، والقدور والمقليات مخزنة في الخزانات، وألواح التقطيع نظيفة. كانت وجبة الإفطار تعد في مطبخ القصر الرئيس، مما جعل المطابخ الإضافية كمطبخ والدته غير مستخدمة طوال الشهر، ولكن لا بد أن ثمة أي نوع من الطعام في خزانة حفظ المؤن. ربما لا تكون دجاجة، بل مجرد كسرات من الخبز أو ثمرة مشمش جافة أو ثمرة بلح، أي شيء يمكنه من أداء واجباته على نحو صحيح حتى يأتي وقت الغروب. نظر مرة أخرى إلى الخزانة الخالية، وفتح أبواب خزانة حفظ المؤن، وأخذ يقلب في التوابل وعلبة من السردين وقطعة قديمة من الخبز المسطح. كان على وشك أن يتناول الخبز عندما اكتشف في مؤخرة الخزانة صندوقا من البقلاوة التي تلمع بالشراب على سطحها ويغطيها الفستق الأخضر المطحون. كان لدى والدته ولع بالحلوى، ولا يفاجئه أنها قد أخفت الصندوق خصيصى كي يستهلك في رمضان. لم تكن شابة صغيرة، وكان مرض السكر قد أصابها منذ فترة، ولكن على أي حال فلن تعلم أبدا أنه هو من وجده. نظر خلفه، ثم طوح إحدى القطع في فمه ومضغها مرتين فحسب قبل أن يبتلعها، أما القطعة الثانية فقد استغرق وقته فيها وهو يتلذذ بطعم العجين الحلو المقرمش والنكهة المميزة للفستق المطحون .
لعق عبد الحميد أصابعه، ثم تسلل عائدا إلى مخدع والدته، حيث وجد الصدر الأعظم جمال الدين باشا منحنيا فوق بيت الشعر الذي كتبته والدة السلطان بخط يدها. ونظر كل منهما إلى الآخر في صمت للحظة، وكل منهما يدرك تماما ما الذي يفعله الآخر.
قال الصدر الأعظم: «فخامة السلطان، كنت أبحث عنك.»
قال السلطان وهو يشير إلى ما كتبته والدته: «إنه عمل فني بديع، أليس كذلك؟» «بلى يا فخامة السلطان. طالما تمتعت والدة فخامتكم بخط كوفي رائع، حتى إن المرء قد يظن أنها ولدت في فاس.»
ثم توقف كي يفحص البيت بمزيد من الدقة. «رغم أنني كنت سأختار بيتا آخر من الشعر.»
لم يعبأ عبد الحميد بما عمد إليه جمال الدين باشا من الحض على انتقاد والدته، واستمر في وجهته الأصلية، فعدل الصدر الأعظم من وقفته وأمسك برسغيه خلف ظهره. «وصلتنا تقارير هذا الصباح أن سنجق بك نوفي بازار تمكن من قمع تمرد ضريبي آخر، وللأسف فإن القرية التي جعلها عبرة لباقي القرى تتكون في المقام الأول من المسيحيين الأرثوذكس، ولك أن تتخيل يا فخامة السلطان ما سيستغله الروسيون في ذلك الموقف. فمنذ ثلاثة أيام فحسب أخبر سفيرهم هشام باشا أن القيصر عازم على الدفاع عن الرعايا الأرثوذكس في إمبراطوريتنا كما لو كانوا رعاياه.»
فقال السلطان وهو يمرر ظفر إبهامه على حافة المدخل: «هذا توقيت سيئ. هل ثمة أي شيء يمكننا فعله لتهدئة القيصر؟»
ناپیژندل شوی مخ