ساد صمت طويل، وشعرت إلينورا بقلبها يخفق بين ضلوعها، وكان إحساس القبض عليها له مذاق المعدن في حلقها.
قال الرجل الأول وهو يستدير راحلا: «لا أرى شيئا؛ فالمكان شديد الظلام هنا.»
عندما خرجت إلينورا من خلف الأنابيب كانت ترتجف، فلو كان هذان الرجلان قد لاحظاها فلا أحد يعلم المتاعب التي كانت ستحدث لها. واستغرقت بضع لحظات كي تنتظم ضربات قلبها، ثم عدت حتى الرقم ثلاثين وتقدمت عبر الباب الذي خرج منه الرجلان، مفترضة أنهما سوف يعودان إلى الجزء الأساسي من السفينة. مرت عبر غابة من الأنابيب التي تقطر ماء والمصابيح التي لطخها سواد الفحم، حتى وجدت نفسها أخيرا في ممر أكثر إضاءة. وكان هذا الممر الجديد مبطنا بالسجاد والألواح الخشبية، وبه صف من الأبواب، كل منها تزينه نافذة دائرية ولوحة نحاسية تحمل رقما. كانت الأبواب من 16 إلى 30 مغلقة جميعها، ولكنها بينما كانت تشق طريقها أسفل الممر استطاعت أن تسمع سلسلة من الأصوات الخافتة المصاحبة للنوم ؛ الهمهمة والغطيط والتقلب في الفراش، تلك الأصوات التي تميز رحلاتنا المتقطعة في عالم الأحلام. وفي نهاية الممر، تسلقت درجا معدنيا وخرجت منه إلى مدخل المطعم.
رفعت خصلة من شعرها خلف أذنها وألقت نظرة على الغرفة الخالية. كانت الموائد مطوية ومكدسة في انتظار دخول السفينة إلى المرفأ، ومجموعة من أصص النباتات مكدسة في الزاوية، والبيانو يقف مستندا إلى الحائط كما لو كان تلميذا مشاغبا. سال لعاب إلينورا لدى تخيل الطعام. وأملا في أن تقودها تلك الأبواب الجلدية المزدوجة عند البيانو إلى المطبخ، عبرت إلى الناحية الأخرى من الغرفة كي تستطلع الأمر. وعندما اقتربت، استطاعت أن تسمع أصواتا قادمة من استراحة التدخين كما تؤكد اللوحة النحاسية المعلقة على الحائط. وعندما اقتربت أكثر، شعرت بآثار دخان غليون والدها. ربما يكون غليون أي شخص آخر في حقيقة الأمر، ولكن إلينورا لم تكن في موقف يسمح لها بالمراوغة. نحت ترددها جانبا واقتحمت الأبواب، وها هو كما تخيلت. كان والدها يرتدي السترة نفسها التي كان يرتديها ليلة رحيله، جالسا في مقعد ضيق يحتسي زجاجة من النبيذ بصحبة رجل متورد البشرة يرتدي حلة زرقاء داكنة. «بابا!»
في فترة الصمت الطويلة التي أعقبت ذلك، لاحظت إلينورا انعكاسها في المرآة المجاورة لرأس والدها. كان ثوبها ملطخا بالطعام، وقد تمزق جورباها عند الركبتين، ووجهها متسخ بغبار الفحم، وقد تدلت خصلة من الشعر الأشعث على عينيها. بدت مثل كيوبيد (إله الحب عند الإغريق) وقد عاد إلى منزله عقب معركة، مهزوما مسحوبا عبر الأوحال وذقنه للأرض وجناحاه متلاصقان بالطين. فتحت فمها كي تشرح الأمر، ولكن كل ما تدربت عليه وكل تبريراتها ودوافعها ذهبت أدراج الرياح. وبدلا من ذلك، اندفعت عبر الغرفة وألقت بنفسها بين ذراعي والدها، متسببة في سقوط زجاجته وانسكاب الخمر على السجادة.
قال وصوته يفصح عن شعوره بالدهشة وقدر لا يستهان به من الاستياء: «إيلي، ماذا تفعلين هنا بحق السماء؟!»
الفصل السابع
في الصباح التالي جلست إلينورا ووالدها على السطح الأمامي للسفينة يشاهدان إسطنبول وهي تظهر للعيان من البحر. بدت المدينة ضبابية للوهلة الأولى، لا تتجسد إلا كشبح ينام تحت الضباب، ولكن عندما اقتربت السفينة استطاعت أن ترى الخطوط العريضة للمدينة ومصابيح شوارعها تومض كما لو كانت جمهرة من النيازك. لم يكن الفجر قد حل بعد، وتدثرت إلينورا ببطانية من الصوف الخشن وهي جالسة على ساق والدها. كان لا يزال غاضبا منها، ففيما عدا تحية الصباح واقتراح الصعود إلى السطح الأمامي للسفينة، لم يتبادل معها يعقوب أكثر من بضع كلمات منذ أن أفصحت عن وجودها. شعرت بغضبه متجسدا في الوضع المشدود لساعده والشهيق المنتظم الذي كان يستخدمه لتهدئة أفكاره. لم تستطع أن تستشف كنه تلك الأفكار، ولم تعلم هل كان يخطط لإرسالها إلى كونستانتسا أم ينوي السماح لها بالبقاء معه في إسطنبول. لم تكن على دراية بحدود غضب والدها، ولم تكن لديها أدوات تمكنها من تقدير حجم هذا الغضب، ولكنها أدركت أنه من الأفضل ألا تخرق هذا الصمت.
أشرقت الشمس في موعدها من زاوية بعيدة في السماء، ومع شروقها انحسر الضباب. كان البوسفور مزدحما بالفعل، مكدسا بمراكب الصيد وقوارب التجديف والسفن البخارية المتثاقلة التي تمر بين حين وآخر. وعلى الشاطئ تحت ظلال أشجار السرو، أخذ أشخاص ضئيلو الجسم ينادون على بضاعتهم محدثين هرجا ومرجا، يساومون في الأسعار ويعقدون الصفقات ويتوسلون. تلألأت ثلاثة مساجد عملاقة ذات قباب على شكل السلحفاة في الشمس المشرقة ومآذنها تخترق السماء كالحراب، وعند المصب كان يقبع أعظم مبنى شاهدته إلينورا في حياتها؛ حدائق تعلوها حدائق، وقناطر، وأسوار، وجدران عالية يطوقها حائط من الرخام الأبيض اللامع، وتطل عليها وحدة من الأبراج الزجاجية. إنه قصر توب كابي مقر جلالة السلطان عبد الحميد الثاني، الذي يقبع على حافة القرن الذهبي دليلا على الثروة والسلطة اللتين تفوقان الخيال.
بينما كانت السفينة تدخل المرفأ، دوى نفير القبطان، وانطلقت مجموعة من الصيحات في آن واحد على سطح السفينة. شرع فريق من العمال في ربط الحبال، وانفتح بدن السفينة بصعوبة، وتقدم حشد من عمال السفن إلى السفينة محكمين تثبيت الصناديق والأقفاص والبراميل إلى ظهورهم كما لو كانوا بغالا. وقبالة محطة القطار الجديدة كانت أحواض السفن تضم حشدا هائجا من البشر، مزيجا من الطرابيش والعمائم والسترات والمعاطف. تزاحم المتسولون الحفاة مع الباعة الجائلين الذين يلوحون ببضائعهم فوق رءوسهم، وفي أطراف الحشد أخذت سيارات الأجرة تناور الجمال والكلاب الضالة محاولة الحصول على مكان. كان ذلك ما تعنيه الآنسة يونسكو عندما أطلقت على محطة القطار في بوخارست «حشد سوقي من الرجال يخمشون ويزعجون بعضهم بعضا تنافسا على وضع أكثر تميزا إلى حد ما في الحشد.» وبينما لمحت إلينورا ما يبدو مؤخرة فيل يختفي في الزاوية، نشب شجار بين عاملين، واستطاعت أن تشعر بذراعي والدها وهو يضمها بشدة كي يحميها. غاصت في حجره أكثر، واستنشقت الرائحة المألوفة للكركديه ودخان الغليون قبل أن تجرؤ على توجيه سؤال.
ناپیژندل شوی مخ