قال بعد أن هبط باحتراس وانحنى: «فخامة السلطان! يا لها من مفاجأة سارة! كيف يمكنني أن أساعدك؟» «لدي طلب بحاجة إلى أن يتم في سرية تامة.» «بالطبع يا فخامة السلطان، تفضل.» «أولا أريد منك أن تجمع لي كل الفرمانات والمراسلات المتعلقة بعلاقتنا مع القوى العظمى، وخاصة الروس والألمان، ثم تصنع منها نسخا وترسلها إلى الآنسة إلينورا كوهين في منزل منصف باركوس بك.»
توقف السلطان متيحا الفرصة لأمين المكتبة كي يدون تلك التفاصيل. «عندما تنتهي من جمع المواد المطلوبة احضر إلي وسوف أعطيك خطابا ترفقه معها كغلاف. هل هذا الأمر واضح؟» «نعم يا فخامة السلطان، ولكن المشكلة الوحيدة أن حجم المواد التي تطلبها قد يزيد عن سعة عربة كاملة.» «ضع حدا أقصى لها ستة صناديق شحن، وأعط الأولوية للمستندات الأكثر أهمية.» «نعم يا فخامة السلطان، على الفور.»
وفي فجر اليوم التالي انطلق السلطان في رحلته السنوية لمشاهدة الطيور عند بحيرة مانياس. استغرقت الرحلة عبر بحر مرمرة معظم اليوم الأول، وفي ذلك المساء نصبوا مخيما بالقرب من إحدى قرى الصيادين القوزاق عند الجهة الشمالية من البحيرة، وفي صباح اليوم التالي انطلقوا إلى الشاطئ الشمالي ونصبوا مخيما لفترة أطول على مسافة بضعة كيلومترات من إحدى قرى اللاجئين التتار. أرسل كل من القوزاق والتتار هدايا ترحيبا بزيارة السلطان، ولكن بصفة عامة لم يهتم عبد الحميد وجماعته بسكان المنطقة، فبعد أن نصبوا المخيم قضوا معظم الوقت مرتدين المنظار الميداني. لم يكن الصيف هو الوقت المثالي من العام لمشاهدة الطيور في المنطقة، ولكن د. بينديكت عالم الطيور البريطاني المرموق الذي دعي كي يقود الرحلة كان جدول أعماله مزدحما للغاية.
رغم أن هجرة الربيع كانت قد انتهت منذ بضعة أسابيع ، تمكنوا من ملاحظة عدد من الفصائل وهي تصنع أعشاشها وتتكاثر. وبينما كانت مياه البحيرة تتراجع صنعت طيور الصداح والبلشون الأبيض والبجع أعشاشها في الرقعة الشاسعة المكشوفة من نباتات الخيزران والزهور البرية. أشار د. بينديكت وهو يقود جماعة السلطان بمحاذاة الشاطئ إلى عش عصفور الرميزية، وهو عش متقن الصنع غريب الشكل على هيئة الكمثرى يتدلى من أفرع شجرة صنوبر، نسج من خيوط العنكبوت المهملة وشعر الحيوانات والنباتات، وبه مدخل زائف وفتحة خفية لإرباك الحيوانات المفترسة المحتملة. وعلى مدار الرحلة رأى السلطان أكثر من خمسين فصيلة من الطيور: الإوز الأبيض الجبهة، وطائر الصفارية الذهبي، ومالك الليل الحزين، وأبو منجل المصقول، وحشد من طيور أبو ملعقة وثلاثة أزواج من البجع الدلماسي ذي المنقار البرتقالي الزاهي. وفي الليلة الخامسة والأخيرة من الرحلة قبيل الغسق، هاجم خنزير بري المخيم. وقبل أن يفكر أي من المرشدين والمترجمين في التصرف، أطلق عليه د. بينديكت النار ببندقيته فأرداه قتيلا. وأمر السلطان بسلخ الخنزير وشوائه تكريما لدكتور بينديكت، رغم أن السلطان لم يشاركهم تناول الطعام. كان ختاما رائعا للرحلة، فبالإضافة إلى الخنزير دعيت جماعة السلطان إلى السفرجل المحشو ولحم الضأن المشوي وحساء الشعير اللذيذ.
عندما عاد عبد الحميد إلى القصر متأخرا في ذلك المساء، أدرك على الفور أن ثمة شيئا ما خطأ. ولكن لما كان الوقت قد تأخر كثيرا فقد خلد للنوم مباشرة، وعندما استيقظ وجد أن حدسه كان صحيحا؛ وذلك لأن والدته كانت تجلس في صبر على مقعد بجوار باب مخدعه. «صباح الخير يا أمي.»
قالت وهي تنهض كي تنحني: «سمعت أن رحلتك حققت نجاحا.»
فابتسم قائلا: «نعم، حققت نجاحا كبيرا. لقد رأيت ثلاثة أزواج من البجع الدلماسي وعش عصفور الرميزية.»
رددت قائلة: «الرميزية، هذا رائع.» «ولكنني لا أعتقد أنك جلست بجوار فراشي طوال الصباح كي تسأليني عن أخبار رحلتي.» «أجل يا فخامة السلطان، علي أن أعترف بذلك.» «ماذا يزعجك يا أمي؟» «لا أود أن أفسد صباحك الأول بعد العودة بهمومي.»
فقال وهو يعتدل جالسا في الفراش: «إذا كنت مهمومة فأنا أيضا كذلك.»
فجلست في مقعدها مرة أخرى ووجهته نحوه. «لقد سمعت إشاعة بالأمس أزعجتني كثيرا، وشعرت بالحاجة لأن أوقظ ابني الأكبر الحبيب من نومه.» «أخبريني يا أمي، ما الأمر؟» «يقول الناس إنك طلبت النصيحة من تلك الفتاة المدعوة كوهين فيما يتعلق بأمر عسكري دقيق، وإنك تخطط لإرسال مواد سرية إليها كي تقرأها.»
ناپیژندل شوی مخ