بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم (1).
الحمد لله الذى جعل البيت الحرام مثابة (2) للناس وأمنا، وكساه الإجلال والإعظام (3) تفضلا منه ومنا، والصلاة على سيدنا محمد الممنون علينا به، حيث ابتعثه الله تعالى منا [وعلى] (4) آله وأصحابه فأعطى، فجمع رسوله ما تمنى.
وبعد: فإن كتابنا هذا: «عرف الطيب من أخبار مكة ومدينة الحبيب» يشتمل على خلاصة كتاب أبى الوليد الأزرقى، وجامع الأصول لمجد الدين المبارك ابن الأثير الجزرى، من أحوال البيت الحرام، والمشاعر (5) العظام، ومدينة محمد عليه أفضل [الصلاة و] (6) السلام.
يحتوى على ثلاثة أبواب، منزه عن الإطناب والإسهاب.
وأما كتاب الأزرقى فإنه روايتنا عن جماعة منهم الشيخ [العلامة] (7) عز الدين محمد (8) بن عبد الله الشافعى، عن مسند الدنيا فخر الدين أبى الحسن على بن أحمد بن عبد الواحد المقدسى، عن أبى الفرج عبد الرحمن بن على الجوزى، عن القاضى أبى بكر محمد بن عبد الباقى الأنصارى، عن أبى طالب محمد بن على بن أبى الفتح الحربى (9) العشارى، عن أبى بكر أحمد بن أبى
مخ ۱۵
موسى (1) بن عبد الصمد الهاشمى، عن أبى إسحاق إبراهيم بن محمد الهاشمى، عن أبى الوليد محمد بن عبد الله بن أحى بن الوليد [بن الأزرق] (2) الأزرقى الغسانى المؤلف.
وأما كتاب «جامع الأصول» (3) فإن روايتنا عن جماعة منهم: الشيخ عز الدين الحسين بن محمد الشافعى، عن شيخه فخر الدين أبى الفضل عبد الله بن أبى الثناء محمود بن داود بن بلدجى، عن مجد الدين المبارك بن محمد بن عبد الكريم الجزرى (4) المؤلف، وبالله تعالى العون والتوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
مخ ۱۶
الباب الأول فى ذكر ما كانت الكعبة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض وما جاء فى ذلك
مخ ۱۷
عن سعيد بن المسيب قال: قال كعب الأحبار: كانت الكعبة غثاء على الماء قبل أن يخلق الله عز وجل السموات والأرض (1).
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض بعث الله ريحا هفافة فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة فى موضع [هذا] البيت كأنها قبة فدحا الله تعالى الأرضين من تحتها فمادت ثم مادت فأوتدها الله تعالى بالجبال فكان أول جبل وضع فيها أبو قبيس فلذلك سميت [مكة] أم القرى (2).
عن ليث بن معاذ قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): هذا البيت خامس خمسة عشر بيتا [سبعة] منها فى السماء إلى العرش، وسبعة منها إلى تخوم الأرض السفلى، وأعلاها الذى يلى العرش، البيت المعمور، لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت، لو سقط منها لسقط بعضها على بعض إلى تخوم الأرض السفلى، ولكل بيت من أهل السماء ومن أهل الأرض من يعمره كما يعمر هذا البيت (3).
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما أهبط الله عز وجل آدم (عليه السلام) إلى الأرض من الجنة كان رأسه فى السماء ورجلاه فى الأرض وهو مثل الفلك من رعدته، قال فطأطأ الله عز وجل منه إلى ستين ذراعا فقال: يا رب ما لى لا أسمع أصوات الملائكة ولا أحسهم؟ قال خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابن لى بيتا فطف به واذكرنى حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع (4) حول عرشى، قال:
فأقبل آدم (عليه السلام) يتخطى فطويت له الأرض وقبضت له المفاوز فصارت كل مفازة يمر بها خطوة وقبض له ما كان من مخاض ماء أو بحر فجعل له خطوة ولم تقع
مخ ۱۹
قدمه فى شىء من الأرض إلا صار عمرانا [وبركة] حتى انتهى إلى مكة فبنى البيت الحرام، وإن جبرئيل (عليه السلام) ضرب بجناحه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السفلى فقذفت فيه الملائكة الصخر ما لا يطيق [حمل] الصخرة منها ثلاثون رجلا، وأنه بناه من خمسة أجبل، من لبنان، وطور زيتا، وطور سينا، والجودى، وحراء حتى استوى على وجه الأرض (1).
عن عبد الله بن أبى زياد [أنه] قال: لما أهبط الله تعالى آدم (عليه السلام) من الجنة قال: يا آدم ابن لى بيتا بحذاء بيتى الذى فى السماء تتعبد فيه أنت وولدك كما تتعبد ملائكتى حول عرشى، فهبطت عليه الملائكة فحفر حتى بلغ الأرض السابعة فقذفت فيها الملائكة الصخر حتى أشرف على وجه الأرض، وهبط آدم (عليه السلام) بياقوتة حمراء مجوفة لها أربعة أركان بيض فوضعها على الأساس، فلم تزل الياقوتة كذلك حتى كان زمن الغرق فرفعها الله سبحانه وتعالى (2).
ذكر البيت المعمور
عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) فى حديث به قال: سمى البيت المعمور لأنه (3) يصلى فيه كل يوم سبعون ألف ملك ثم ينزلون إذا أمسوا فيطوفون بالكعبة يسلمون على النبى (صلى الله عليه وسلم) ثم ينصرفون فلا تنالهم النوبة حتى تقوم الساعة (4).
ذكر حج آدم (عليه السلام) ودعائه لذريته
عن أبى المليح [أنه] قال: كان أبو هريرة يقول حج آدم (عليه السلام) فقضى المناسك، فلما حج قال (5) أى رب إن لكل عامل جزاء، قال الله تعالى: أما أنت يا آدم فقد
مخ ۲۰
غفرت [لك] وأما ذريتك فمن جاء منهم [هذا] البيت فباء بذنبه غفرت له، فحج آدم فاستقبلته الملائكة بالردم، فقالت: بر حجك يا آدم، قد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام، قال فماذا كنتم تقولون حوله؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فكان آدم إذا طاف يقول هؤلاء الكلمات، وكان طواف آدم (عليه السلام) سبعة أسابيع بالليل وخمسة أسابيع بالنهار (1).
قال نافع: كان ابن عمر (عليه السلام) يفعل ذلك (2).
عن عثمان بن ساج قال أخبرنى سعيد أن آدم (عليه السلام) حج على رجليه سبعين حجة ماشيا وأن الملائكة لقيته بالمأزمين فقالوا: بر حجك يا آدم، أما إنه حججنا قبلك بألفى عام (3).
ذكر بناء ولد آدم (عليه السلام) البيت بعد آدم (عليه السلام)
عن وهب بن منبه قال: لما رفعت الخيمة التى عزى الله بها آدم (عليه السلام) من حلية الجنة حين وضعت له بمكة فى موضع البيت، ومات آدم (عليه السلام) فبنى بنو آدم من بعده مكانها بيتا بالطين والحجارة فلم يزل معمورا يعمرونه [هم] ومن بعدهم حتى كان زمن نوح (عليه السلام) فنسفه الغرق وغير مكانه حتى بوئ لإبراهيم (عليه السلام) (4).
عن عثمان بن ساج قال: بلغنا- والله تعالى أعلم- أن إبراهيم خليل الله تعالى عرج به إلى السماء، فنظر إلى الأرض مشارقها ومغاربها فاختار موضع الكعبة، فقالت له الملائكة: يا خليل الله، اخترت حرم الله فى الأرض، قال: فنباه من حجارة سبعة أجبل، قال: ويقولون خمسة، وكانت الملائكة تأتى بالحجارة إلى إبراهيم (عليه السلام) من تلك الجبال (5).
مخ ۲۱
عن مجاهد [أنه] قال: كان موضع الكعبة قد خفى ودرس فى زمن الغرق فيما بين نوح وإبراهيم (عليهما السلام)، قال: فكان موضعه أكمة حمراء مدرة لا تعلوها السيول، غير أن الناس يعلمون أن موضع البيت فيما هنالك ولا يثبت موضعه، وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض، ويدعو (1) عنده المكروب، فقل من دعا (2) هنالك إلا استجيب له، وكان الناس يحجون إلى موضع البيت حتى بوأ الله مكانه لإبراهيم (عليه السلام)، لما (3) أراد من عمارة بيته وإظهار دينه وشرايعه (4).
عن محمد بن إسحاق قال: لما أمر إبراهيم خليل الله تعالى أن يبنى البيت الحرام أقبل من أرمينية على البراق معه السكينة لها وجه يتكلم وهى بعد ريح هفافة، ومعه ملك يدله على موضع البيت، حتى انتهى إلى مكة وبها إسماعيل، وهو يومئذ ابن عشرين سنة، وقد توفيت أمه قبل ذلك ودفنت فى موضع الحجر، فقال:
يا إسماعيل، إن الله عز وجل أمرنى أن أبنى له بيتا، فقال له إسماعيل: وأين موضعه؟
قال: فأشار الملك إلى موضع البيت، قال: فقاما يحفران عن القواعد ليس معهما غيرهما فبلغ إبراهيم الأساس- أساس آدم (عليه السلام) الأول- فحفر عن ربض فى البيت فوجد حجارة عظاما ما يطيق الحجر منها ثلاثون رجلا، ثم بنى على أساس آدم الأول وتطوقت السكينة كأنها حية على الأساس الأول، وقالت (5):
يا إبراهيم، ابن على فبنى عليها، فلذلك لا يطوف بالبيت أعرابى نافر ولا جبار إلا رأيت عليه السكينة، فبنى البيت وجعل طوله فى السماء سبعة أذرع وعرضه فى الأرض اثنين وثلاثين ذراعا من الركن الأسود إلى الركن الشامى الذى عند الحجر من وجهه، وجعل عرض ما بين الركن الشامى إلى الركن الغربى الذى فيه الحجر اثنين وعشرين ذراعا وجعل طول ظهرها من الركن الغربى إلى الركن اليمانى
مخ ۲۲
أحد (1) وثلاثين ذراعا، وجعل عرض شقها اليمانى من الركن الأسود إلى الركن اليمانى عشرين ذراعا لذلك سميت الكعبة لأنها على خلقة الكعب (2).
قال وكذلك بنيان أساس آدم (عليه السلام)، وجعل بابها بالأرض غير مبوب حتى كان تبع [أسعد] الحميرى هو الذى جعل لها بابا وغلقا فارسيا وكساها كسوة تامة، ونحر عندها (3).
قال: وجعل إبراهيم (عليه السلام) الحجر إلى جنب البيت عريشا من أراك تقتحمه العنز فكان زربا لغنم إسماعيل (عليه السلام) (4).
قال: وحفر إبراهيم (عليه السلام) جبا فى بطن البيت على يمين من دخله يكون خزانة للبيت يلقى فيه ما يهدى للكعبة وهو الجب الذى نصب عليه عمرو بن لحى، هبل، الصنم الذى كانت قريش تعبده وتستقسم (5) عنده بالأزلام حين جاء به من هيت من أرض الجزيرة (6).
قال: وكان إبراهيم يبنى وينقل له إسماعيل الحجارة على رقبته، فلما ارتفع البنيان قرب له المقام فكان يقوم عليه ويبنى ويحوله إسماعيل فى نواحى البيت حتى انتهى إلى موضع الركن الأسود (7).
قال إبراهيم لإسماعيل (عليهما السلام) يا إسماعيل أبغنى حجرا أضعه هاهنا يكون للناس علما يبتدئون منه الطواف، فذهب إسماعيل يطلب له حجرا ورجع وقد جاءه جبريل (عليه السلام) بالحجر الأسود، وكان الله تعالى استودع الركن أبا قبيس حين غرق الله تعالى الأرض زمن نوح (عليه السلام)، وقال: إذا رأيت خليلى يبنى بيتى فأخرجه له، قال: فجاءه إسماعيل فقال له: يا أبت من أين لك [هذا]؟ قال: جاءنى
مخ ۲۳
به من لم يكلنى (1) إلى حجرك، جاء به جبريل (عليه السلام)، فلما وضع جبريل الحجر فى مكانه وبنى عليه إبراهيم (عليه السلام) وهو حينئذ يتلألأ بالأنوار من شدة بياضه فأضاء نوره شرقا وغربا ويمينا وشاما، قال فكان نوره يضىء إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية من نواحى الحرم، قال: وإنما شدة سواده لأنه أصابه الحريق مرة بعد مرة فى الجاهلية والإسلام (2).
فأما حريقه فى الجاهلية فإنه ذهبت امرأة فى زمن قريش تجمر الكعبة فطارت شرارة فى أستار الكعبة فاحترقت الكعبة فاحترق الركن الأسود، واسود، وتوهنت الكعبة وكان الذى هاج قريشا على هدمها وبنائها (3).
وأما حريقه فى الإسلام ففى عصر ابن الزبير أيام حاصره الحصين بن نمير الكندى، احترقت الكعبة فاحترق الركن فتفلق ثلاث فلق حتى شد شعبه ابن الزبير بالفضة فسواده لذلك (4).
قال: ولولا ما مس الركن من أنجاس الجاهلية وأرجاسها ما مسه ذو عاهة إلا شفى (5).
عن على رضى الله عنه، قال: السكينة لها رأس كرأس الإنسان ثم هى بعد ريح هفافة (6).
مخ ۲۴
ذكر حج إبراهيم (عليه السلام) وأذانه بالحج وحج الأنبياء (عليهم السلام)
عن محمد بن إسحاق قال: لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) من بناء البيت الحرام جاءه جبريل (عليه السلام) فقال له: طف به سبعا فطاف به سبعا هو وإسماعيل، يستلمان الأركان فى كل طواف فلما أكملا سبعا [هو وإسماعيل] صليا خلف المقام ركعتين، قال: فقام معه جبريل فأراه المناسك كلها: الصفا والمروة ومنى ومزدلفة وعرفة، قال: فلما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس عند جمرة العقبة، فقال له جبريل: ارمه فرماه إبراهيم بسبع حصيات مثل حصى الخذف فغاب عنه إبليس (1).
ثم مضى إبراهيم [فى] حجه وجبريل (عليه السلام) يوقفه على المواقف ويعلمه المناسك حتى انتهى إلى عرفة، فلما انتهى إليها قال له جبريل: أعرفت مناسكك؟ قال إبراهيم: نعم [قال]: فسميت عرفات بذلك (2).
قال: ثم أمر إبراهيم أن يؤذن فى الناس بالحج، قال: فقال له إبراهيم: يا رب وما يبلغ صوتى؟ قال الله سبحانه: «أذن وعلى البلاغ» قال: فعلا على المقام فأشرف به حتى صار أرفع الجبال وأطولها فجمعت له الأرض يومئذ سهلها وجبلها وبرها وبحرها وإنسها وجنها حتى أسمعهم جميعا [قال] فأدخل أصبعيه فى أذنيه وأقبل بوجهه يمينا وشاما وشرقا وغربا وبدأ بشق اليمن فقال: أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم، فأجابوه من تحت التخوم السبعة ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أقطار الأرض كلها، لبيك اللهم لبيك قال: وكانت الحجارة على ما هى عليه اليوم إلا أن الله أراد أن يجعل المقام آية فكان أثر قدميه فى المقام إلى اليوم، قال: أفلا تراهم اليوم يقولون: لبيك
مخ ۲۵
اللهم لبيك، قال: فكل من حج إلى اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم، وإنما حجهم على قدر إجابتهم يومئذ، فمن حج حجتين فقد كان أجاب مرتين، أو ثلاثا فثلاثا، على هذا، قال: وأثر قدمى إبراهيم (عليه السلام) فى المقام آية، وذلك قوله تعالى:
فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا (1) (سورة آل عمران: آية 97) الآية.
قال ابن إسحاق: وبلغنى أن آدم (عليه السلام) كان استلم الأركان كلها قبل إبراهيم وحجه إسحاق وسارة من الشام، قال: وكان إبراهيم يحجه كل سنة على البراق، قال وحج بعده الأنبياء [والأمم] (2).
عن مجاهد قال: حج إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ماشيين (3).
عن عبد الله بن ضمرة السلولى يقول: ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيا جاءوا حجاجا فقبروا هنالك (4).
عن محمد بن سابط (5) عن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: كان النبى من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة فيتعبد فيها النبى ومن معه حتى يموت [فيها] فمات بها نوح وهود وشعيب وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر (6).
عن عروة بن الزبير قال: بلغنى أن البيت وضع لآدم (عليه السلام) يطوف به ويعبد [الله] عنده وأن نوحا قد حجه، وجاءه وعظمه قبل الغرق فلما أصاب الأرض حين أهلك الله قوم نوح أصاب البيت ما أصاب الأرض من الغرق فكانت ربوة حمراء معروف مكانه، فبعث الله هودا إلى عاد فتشاغل بأمر قومه حتى هلك ولم يحجه، ثم بعث الله صالحا إلى ثمود فتشاغل حتى هلك ولم يحجه، ثم بوأه الله تعالى
مخ ۲۶
لإبراهيم فحجه، وعلم مناسكه، ودعا إلى زيارته، ثم لم يبعث الله تعالى نبيا بعد إبراهيم إلا حجه (1).
عن مجاهد قال: حج موسى النبى (عليه السلام) على جمل أحمر فمر بالروحاء عليه عباءتان قطوانيتان مئتزر بإحداهما مرتدى بالأخرى، فطاف بالبيت ثم طاف بين الصفا والمروة، فبينما هو يلبى بين الصفا والمروة إذ سمع صوتا من السماء، وهو يقول: لبيك عبدى أنا معك، فخر موسى ساجدا (2).
عن عثمان بن ساج قال: أخبرنى صادق أنه بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: لقد مر بفج الروحاء، أو قال: لقد مر بهذا الفج سبعون نبا على نوق حمر خطمها الليف، ولبوسهم العباء وتلبيتهم شتى منهم يونس بن متى، فكان يونس يقول:
لبيك فراج الكرب لبيك، وكان موسى يقول: لبيك أنا عبد لبيك [لبيك] قال:
وتلبية عيسى لبيك أنا عبدك، ابن أمتك، بنت عبديك لبيك (3).
عن عطاء بن السائب: أن إبراهيم (عليه السلام) رأى رجلا يطوف بالبيت فأنكره فسأله ممن أنت؟ فقال: من أصحاب ذى القرنين، قال وأين هو؟ قال هو:
بالأبطح، فتلقاه إبراهيم (عليه السلام) فاعتنقه، فقيل لذى القرنين: لم لا تركب؟ قال: ما كنت لأركب وهذا يمشى فحج (4) ماشيا.
ذكر بناء قريش الكعبة فى الجاهلية
عن أبى الطفيل قال: قلت: يا خال حدثنى عن بنيان الكعبة قبل أن تبنيها (5) قريش قال: كانت برضم يابس ليس بمدر تنزوه العناق وتوضع الكسوة على الجدر ثم تدلى [ثم] إن سفينة للروم أقبلت حتى إذا كانت بالشعيبة، وهى يومئذ
مخ ۲۷
بساحل مكة، قبل جدة فانكسرت فسمعت [بها] قريش فركبوا إليها وأخذوا خشبها وروميا [كان فيها] يقال له باقوم، نجارا بناء، فلما قدموا به مكة قالوا: لو بنينا بيت ربنا فاجتمعوا لذلك ونقلوا الحجارة [من] الضواحى فبينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينقلها معهم إذ انكشفت نمرته، فنودى يا محمد، عورتك، فذلك (1) أول ما (2) نودى، والله تعالى أعلم، فما رئيت له عورة بعدها، فلما جمعوا الحجارة وهموا بنقضها خرجت لهم حية سوداء الظهر، بيضاء البطن لها رأس مثل رأس الجدى تمنعهم كلما أرادوا هدمها، فلما رأوا ذلك اعتزلوا عند المقام، وهو يومئذ فى مكانه اليوم، ثم قالوا: ربنا أردنا عمارة بيتك، فرأوا طائرا أسود ظهره أبيض بطنه، أصفر الرجلين، أخذها فجرها حتى أدخلها أجياد، ثم هدموها وبنوها عشرين ذراعا طولها، قال أبو الطفيل: فاستقصرت قريش لقصر الخشب فتركوا منها فى الحجر ستة أذرع وشبرا (3).
عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: لما احترقت الكعبة فى الجاهلية هدمتها قريش لتبنيها فكشفت عن ركن من أركانها الأساس فإذا حجر فيه مكتوب: أنا يعفر لى عبد قرا (4)، أقرأ على ربى السلام من رأس ثلاثة آلاف سنة (5).
ذكر الجب الذى كان فى الكعبة ومال الكعبة
عن مجاهد قال: كان فى الكعبة على يمين من دخلها جب عميق حفره إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل (صلوات الله عليهما) حين رفعا (6) القواعد وكان يكون فيه ما يهدى للكعبة [من] حلى أو ذهب أو فضة أو طيب أو غير ذلك، وكانت الكعبة ليس لها سقف فسرق منها على عهد جرهم مال مرة بعد مرة، وكانت
مخ ۲۸
جرهم ترتضى (1) لذلك رجلا يكون عليه يحرسه، فبينا رجل ممن ارتضوا به عندها إذ سولت له نفسه فنظر حتى إذا انتصف النهار وقامت الظلال وقامت المجالس وانقطعت الطرق، ومكة إذ ذاك شديدة الحر، بسط رداءه ثم نزل فى البئر فأخرج ما فيها فجعله فى ثوبه، فأرسل الله حجرا من البئر فحبسه حتى راح الناس فوجدوه، فأخرجوه وأعادوا ما وجدوا فى ثوبه فى البئر فسميت تلك البئر الأخسف [فلما أن خسف] بالجرهمى وحبسه الله عز وجل، بعث الله تعالى عند ذلك ثعبانا فأسكنه فى ذلك الجب فى بطن الكعبة أكثر من خمسمائة سنة يحرس ما فيه فلا يدخله أحد إلا رفع رأسه وفتح فاه، فلا يراه أحد إلا ذعر منه، وكان ربما يشرف على جدار الكعبة، فأقام على ذلك فى زمن جرهم وزمن خزاعة وصدرا من عصر قريش، حتى اجتمعت قريش فى الجاهلية على هدم البيت وعمارته، فحال بينهم وبين هدمه حتى دعت قريش عند المقام عليه والنبى (صلى الله عليه وسلم) معهم [وهو] يومئذ غلام لم ينزل عليه الوحى بعد، فجاء عقاب فاختطفه ثم طار به نحو أجياد الصغير (2).
عن عمرة بن عبيد عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: لقد هممت أن لا أدع فى الكعبة صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها، فقال له أبى بن كعب: والله ما ذلك لك، فقال عمر: لم؟ فقال إن الله عز وجل قد بين موضع كل مال وأقره رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال عمر: صدقت (3).
عن الواقدى قال: وذكروا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) وجد فى الجب الذى كان فى الكعبة سبعين ألف أوقية من ذهب مما كان يهدى إلى البيت، وأن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: يا رسول الله، لو استعنت بهذا المال على حربك فلم يحركه، ثم ذكر لأبى بكر فلم يحركه (4).
مخ ۲۹
قال أبو الوليد الأزرقى حدثنى جدى وغيره من مشيخة (1) أهل مكة وبعض الحجبة: أن الحسين بن الحسن العلوى عمد إلى خزانة الكعبة فى سنة مائتين فى الفتنة حين أخذ الطالبيون مكة فأخذ مما فيها مالا عظيما وانتقله إليه، وقال ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعا لا تنتفع به، نحن أحق به نستعين به على حربنا (2).
عن عبيد الله بن زرارة قال: إن مال الكعبة كان يدعى الأبرق، ولم يخالط مالا قط إلا محقه، ولم يرزأ منه أحد قط من أصحابنا إلا بان النقص من ماله، وأدنى ما يصيب (3) صاحبه أن يشدد عليه الموت (4).
عن ابن عمر رضى الله عنه أنه كان فى دار خالد بن أسيد بمكة فجاءه رجل فقال:
أرسل معى بحلى إلى الكعبة، فقال: له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: ما أحمقكم يا أهل العراق، أما فيكم مسكين؟ أما فيكم يتيم؟ أما فيكم فقير؟ إن كعبة الله لغنية عن الذهب والفضة ولو شاء الله لجعلها ذهبا وفضة (5).
ذكر من كسا الكعبة فى الجاهلية
عن أبى هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى عن سب أسعد الحميرى، وهو تبع، وكان هو أول من كسا الكعبة (6).
عن محمد بن إسحاق قال: بلغنى عن غير واحد من أهل العلم أن أول من كسا الكعبة كسوة كاملة تبع، وهو أسعد، أرى فى النوم أنه يكسوها فكساها الأنطاع ثم أرى أن يكسوها فكساها الوصايل [ثياب] حبرة من عصب اليمن وجعل لها بابا يغلق (7).
مخ ۳۰
عن ابن أبى مليكة قال: كانت قريش فى الجاهلية (1) ترافد فى كسوة الكعبة، فيضربون ذلك على القبائل بقدر احتمالها، من عهد قصى بن كلاب حتى نشأ أبو ربيعة (2) بن المغيرة بن عبد الله بن عمر (3) بن مخزوم، وكان يختلف إلى اليمن يتجر بها فأثرى فى المال فقال لقريش: أنا أكسو وحدى الكعبة سنة وجميع قريش سنة، فكان يفعل ذلك حتى مات (4).
ذكر كسوة الكعبة فى الإسلام وطيبها
عن ابن المهاجر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) خطب الناس يوم عاشوراء فقال (صلى الله عليه وسلم): هذا يوم عاشوراء يوم تنقضى (5) فيه السنة، وتستر فيه الكعبة، وترفع فيه الأعمال، ولم يكتب عليكم صيامه وأنا صائم، فمن أحب منكم أن يصوم فليصم (6).
عن ابن جريج قال: كانت الكعبة فيما مضى إنما تكسى يوم عاشوراء إذا ذهب آخر الحاج حتى كانت بنو هاشم، فكانوا يعلقون عليها القمص يوم التروية من الديباج لأن يرى الناس ذلك عليها بهاء وجمالا، فإذا كان يوم عاشوراء علقوا عليها الإزار (7).
عن ابن عمر رضى الله عنه أنه كان يكسو بدنه إذا أراد أن يحرم، القباطى والحبرة، فإذا كان يوم عرفة ألبسها إياها، فإذا كان يوم النحر نزعها ثم أرسل بها إلى شيبة بن عثمان فناطها على الكعبة (8).
مخ ۳۱
عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبى حبيبة عن أبيه قال: كسى البيت فى الجاهلية الأنطاع، ثم كساه النبى (صلى الله عليه وسلم) الثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان رضى الله عنهما القباطى، ثم كساه الحجاج الديباج، ويقال: أول من كساه الديباج يزيد بن معاوية، ويقال: ابن الزبير رضى الله عنهما، ويقال: عبد الملك بن مروان، وأول (1) من خلق جوف الكعبة ابن الزبير (2).
عن حبيب بن أبى ثابت (3) قال كسا النبى (صلى الله عليه وسلم) الكعبة وكساها أبو بكر وعمر رضى الله عنهما (4).
عن عائشة رضى الله عنها قالت: كسوة البيت على الأمراء (5).
عن عائشة رضى الله عنها قالت: طيبوا البيت فإن ذلك من تطهيره (6).
ذكر تجريد الكعبة
عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان ينزع كسوة البيت فى كل سنة فيقسمها على الحجاج فيستظلون بها على السمر بمكة (7).
عن عبد الله بن إسحاق الحجبى (8) عن جدته فاطمة بنت عبد الله قالت حج المهدى فجرد الكعبة وطلا جدرانها من خارج بالغالية والمسك والعنبر، قالت:
فأخبرنى جدك- تعنى زوجها محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الحجبى- قال:
صعدنا على ظهر الكعبة بقوارير من الغالية فجعلنا نفرغها على جدران الكعبة من خارج من جوانبها كلها وعبيد الكعبة قد خرطوا فى البكار التى يخاط عليها ثياب الكعبة يطلون بالغالية جدارنها من أسفلها إلى أعلاها (9).
مخ ۳۲
عن أبى الوليد قال: حدثنى جدى قال: حج المهدى أمير المؤمنين سنة ستين ومائة فرفع إليه أنه قد اجتمع على الكعبة كسوة كثيرة حتى إنها قد أثقلتها (1) ويخاف على جدرانها من ثقل الكسوة فجردها حتى لم يبق عليها من كسوتها شيئا ثم ضمخها (2) من خارجها بالغالية والمسك والعنبر وطلا جدرانها كلها من أسفلها إلى أعلاها من جوانبها كلها، ثم أفرغ عليها ثلاث كسى من قباطى وخز وديباج، والمهدى قاعد على ظهر المسجد مما يلى دار الندوة وينظر إليها وهى تطلى بالغالية وحين كسيت ثم لم يحرك ولم يخفف عنها من كسوتها شىء حتى كان سنة المائتين فكثرت الكسوة أيضا عليها جدا، فجردها حسين بن حسن الطالبى فى الفتنة وهو يومئذ قد أخذ مكة ليالى دعت المبيضة إلى أنفسها وأخذوا مكة، فجردها حتى لم يبق عليها من كسوتها شيئا، وكان تجريد الحسين بن الحسن إياها أول يوم من المحرم يوم السبت سنة مائتين، ثم كساها حسين بن الحسن كسوتين من قز، إحداهما صفراء والأخرى بيضاء، مكتوب بينهما: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد النبى وعلى أهل بيته الطيبين [الطاهرين] الأخيار، أمر أبو السرايا الأصفر بن الأصفر داعية آل (3) محمد (صلى الله عليه وسلم) بعمل هذه الكسوة لبيت الله الحرام (4).
ذكر ذرع البيت الحرام من خارج
طولها فى السماء سبعة وعشرون ذراعا، وذرع طول وجه الكعبة من الركن الأسود إلى الركن الشامى خمسة وعشرون ذراعا، وذرع دبرها من الركن اليمانى إلى الركن الغربى خمسة وعشرون ذراعا، وذرع شقها اليمانى من الركن الأسود إلى الركن اليمانى عشرون ذراعا، وذرع شقها الذى فيه الحجر من الركن الشامى إلى الركن الغربى واحد وعشرون ذراعا، وذرع جميع الكعبة مكسرا من أربعمائة
مخ ۳۳
ذراع وثمانية عشر ذراعا، وذرع بعد (1) جدار الكعبة ذراعان، والذراع أربعة وعشرون إصبعا، والكعبة لها سقفان أحدهما فوق الآخر (2).
ذرع الكعبة من داخل
قال أبو الوليد: ذرع طول الكعبة فى السماء من داخلها إلى السقف الأسفل مما يلى الكعبة ثمانية عشر ذراعا ونصف، وطول الكعبة فى السماء إلى السقف (3) الأعلى عشرون ذراعا، وفى سقف الكعبة أربع روازن نافذة من السقف الأعلى إلى السقف الأسفل للضوء، وعلى الروازن رخام، كان ابن الزبير رضى الله عنه أتى به من اليمن من صنعاء، وبين السقفين فرجة، وذرع التحجير الذى فوق ظهر سطح الكعبة ذراعان ونصف، وذرع عرض جدر التحجير كما يدور ذراع، وفى التحجير ملبن مربع من ساج فى جدرات سطح الكعبة كما يدور، وفيه حلق حديد تشد فيها ثياب الكعبة، وكانت أرض سطح الكعبة بالفسيفساء ثم كانت تكف- عليهم إذا جاء المطر فقلعته الحجبة بعد سنة المائتين وشيدوه بالمرمر المطبوخ والجص، شيدته تشييدا (4).
وميزاب الكعبة فى وسط الجدر الذى يلى الحجر بين الركن الشامى والركن الغربى يسكب فى بطن الحجر، وذرع طول الميزاب أربعة أذرع وسعته ثمانية أصابع فى ارتفاع مثلها، والميزاب ملبس صفائح ذهب داخله وخارجه، وكان الذى جعل الذهب الوليد بن عبد الملك (5).
وذرع مسيل الماء فى الجدر ذراع وسبعة عشر إصبعا، وذرع داخل الكعبة من وجهها من الركن الذى فيه الحجر الأسود إلى الركن الشامى وفيه باب الكعبة تسعة عشر ذراعا وعشر أصابع، وذرع ما بين الركن الشامى إلى الركن الغربى،
مخ ۳۴
وهو الشق الذى يلى الحجر خمسة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا، وذراع ما بين الركن الغربى إلى الركن اليمانى وهو ظهر الكعبة عشرون ذراعا وستة أصابع، وذرع ما بين الركن اليمانى إلى الركن الأسود ستة عشر ذراعا وستة أصابع (1).
وفى الكعبة ثلاثة كراسى من ساج، طول كل كرسى فى السماء ذراع ونصف، وعرض كل كرسى منها ذراع وثمانية أصابع فى مثلها، والكراسى ملبسة صفائح ذهب، وفوق الذهب ديباج، وتحت الكراسى رخام أحمر بقدر سعة الكراسى، وطول الرخام فى السماء سبعة أصابع، وعلى الكراسى أساطين متفرقة ملبسة.
الأسطوانة الأولى التى على باب الكعبة ثلثها ملبس صفائح ذهب وفضة وبقيتها مموهة، وذرع غلظها ثلاثة أذرع.
والأسطوانة الثانية وهى الوسطى من الأساطين ملبسة صفايح ذهب وفضة، وذرع غلظها (2) ثلاثة أذرع، والأسطوانة الثالثة وهى التى تلى الحجر ثلثها ملبس صفايح الذهب وبقيتها مموهة وذرع غلظها ذراعان ونصف وفوق الأساطين كراسى ساج مربعة منقوشة بالذهب والزخرف، وعلى الكراسى ثلاث جوايز ساج أطرافها على الجدر الذى فيه باب الكعبة، وأطرافها الأخرى على الجدر الذى يستقبل باب الكعبة والجوايز منقوشة بالذهب والزخرف، ويدور تحت السقف إفريز منقوش بالذهب والزخرف، وتحت الإفريز طوق من فسيفساء (3).
وذرع ما بين الأسطوانة الأولى إلى الأسطوانة الثانية أربعة أذرع ونصف، وذرع ما بين الأسطوانة [الثانية إلى الأسطوانة الثالثة أربعة أذرع ونصف، وذرع ما بين الأسطوانة] (4) الثالثة إلى الجدر الذى يلى الحجر ذراعان وثمانية أصابع،
مخ ۳۵