عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم - محمد السيد جبريل
عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم - محمد السيد جبريل
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
ژانرونه
مقدمة البحث
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، ورحمة الله للعالمين محمد بن عبد الله النبي الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..؟
وبعد فلقد بعث الله تعالى رسله صلوات الله عليهم جميعًا - إلى خلقه بدعوة واحدة، أصول الاعتقاد فيها: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وإليوم الآخر، وشرع لهم شرائع أساسها: الطهارة والعفاف في الأخلاق، والاستقامة والقصد في السلوك، والعدل والنصفة في المعاملات، والنصح للأمة في الولايات: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ...﴾ (الشورى: ١٣) .
وبقيام رسل الله بدعوتهم على أكمل وجه وأتمه، وبثباتهم عليها كما أمرهم الله تعالى استجلبوا عداوة الطواغيت، وأثاروا أنصار الشر ممن أضلهم الشيطان، وزين لهم سبيل الغيّ فاتخذوه سبيلا، وهؤلاء هم المجرمون الذين أخبر الله خبرهم في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ (الفرقان:٣١) ولقد دفعت العداوة هؤلاء المجرمين إلى محاولة الإتيان على بنيان دعوة الرسل من القواعد، فانطلق كفار كل أمة في جحود ظاهر- للحق -يكذبون رسولهم، ويتهمونه بشتى التهم.
﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور﴾ (فاطر:٤)
فكان من نصر الله تعالى لهؤلاء الرسل الكرام أن أيدهم -في مواجهة تكذيب الكفار- بالمعجزات، وهي الآيات الخوارق التي تفحم المعاندين،
1 / 1
وتثبت المؤمنين، ولقد شاءت حكمة الله تعالى أن تكون معجزات الأنبياء السابقين في أممهم حسية يراها المشاهدون، ويعاينها الحاضرون: كناقة صالح، وبرد النار وسلامها على إبراهيم، وعصا موسى، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله لعيسى صلوات الله عليهم جميعا، وأكثر ما كانت المعجزات الحسية في بني إسرائيل، وما كان ذلك إلا لفرط بلادتهم، وغلظ حسهم ثم ختم الله تعالى رسله إلى خلقه بمحمد ﷺ، وكما أيد من قبله بتلك المعجزات الحسية أيده كذلك بكثير منها، كتلك التي كان يطلبها المشركون تعنتًا، فيجابون إلى بعضها ولا يؤمنون (١) . ولا يجابون إلى أكثرها، رحمة من الله تعالى أن ينزل بهم العذاب عند تكذيبهم بها،كما جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ (الإسراء:٥٩)
كما كان الكثير من هذه المعجزات الحسية (٢) يحدث ابتداء على مرأى من المؤمنين،فيكون ذلك مواساة لهم، وتثبيتا لقلوبهم، وتعميقا ليقينهم.
لكن المعجزة الكبرى لهذا النبي الخاتم ﷺ كانت من نوع آخر، إنها المعجزة العقلية الباقية، التي تخاطب الأجيال في كل عصر، يراها ويقرؤها الناس
_________
(١) كما حدث في معجزة انشقاق القمر، وحديثها عند البخاري في الصحيح: كتاب التفسير، باب (...وانشق القمر) .
(٢) قد استفاضت الأخبار الصحيحة بالعديد من هذه المعجزات لرسول الله صلي الله عليه وسلم،كتكثير الطعام بين يديه، ونبع الماء وفورانه من بين أصابعه حتى يتطهر ويرتوي الجمع الكثير من أصحابه من الماء القليل، وكذلك سماع تسبيح الطعام وهو يؤكل أمامه، وحنين الجذع إليه عند انتقاله صلي الله عليه وسلم إلى منبر صنع له ليخطب الناس علىه، وكل ذلك عند البخاري ﵀ في صحيحه،يرجع في ذلك إلى: كتاب المناقب، باب علامات النبوة.
1 / 2
في كل حين، إنها القرآن الكريم، الذي أعجز الفصحاء، وانقطع أمامة البلغاء في الأمة العربية، التي سما بيانها، ولمع ذكاؤها،فكان المعجزة الباقية للرسالة الخاتمة.
إن اختصاص النبي الخاتم ﷺ بمعجزة القرآن الباقية خلافا للرسالات السابقة يأتي إيضاحه وتعليله كذلك في حديثه صلوات الله وسلامه عليه:
"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى،فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" (١) .
وفي معنى الحديث أقوال تصح في مجملها، ولعل أوضحها أن المراد: أن معجزات الأنبياء السابقين انتهت بانتهاء عصورهم،فلم يعاينها إلا من حضرها، أما معجزة القرآن فهي باقية إلى يوم الدين فهو في كل عصر خارق للعادة في أسلوبه وبلاغته وسائر وجوه إعجازه ومنها إخباره بالمغيبات،فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه، وكذلك فالمعجزات الماضية كانت حية تشاهد بالأبصار، وأما القرآن فمعجزة عقلية تشاهد بالبصيرة،فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول (٢) .
ولهذا رد الله تعالى على المشركين طلبهم لخوارق الآيات، وسؤالهم المعجزات بكفاية القرآن وعدم الحاجة إلى غيره من الآيات، وذلك في قوله سبحانه: ﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا
_________
(١) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل
(٢) يراجع في ذلك ما قاله ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري):٩/٧
1 / 3
أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (العنكبوت:٥٠،٥١)
ولقد عرف المسلمون منذ عصر نزول القرآن شأن معجزته، فأكبروه، وبذل علماؤهم جهودهم، ووقفوا الكثير من أعمارهم على إبراز وجوه إعجاز هذا الكتاب الكريم، واستمرت هذه الجهود المباركة موفورة إلى يوم الناس هذا،فسجلت القرون المباركة وما بعدها من تاريخ المسلمين كتابات في هذا المجال لم ينقطع مددها، ولم يتوقف تتابعها.
ولقد أولت المملكة العربية السعودية-فيما نهضت به من أعباء خدمة الإسلام في شتى مجالاته-كتاب الله تعالى مزيد حياطة ورعاية، تمثلت في هذا الصرح الإسلامى الشامخ، وهو مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الذي قام ويقوم بفضل من الله تعالى بخدمة كتابه الكريم طباعة المصحف، وتفسيرًا للقرآن، وترجمة لمعانيه، وإثراء للدراسات القرآنية في شتى مجالاتها، وأخيرًا وليس بآخر كان من معالم هذه الجهود المباركة دعوة المجمع إلى ندوة علمية عن (عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه) شملت عدة محاور تضمنت موضوعات شتى تصب كلها في هذا الهدف النبيل، هدف خدمة القرآن الكريم.
وتلبية لدعوة كريمة من أمانة المجمع يأتي هذا البحث في (عناية المسلمين بإبراز وجوه الإعجاز في القرآن الكريم) مشاركة متواضعة في هذا العمل الكبير.
وصلب الموضوع في هذا البحث يتناول قضيتين الأولى: قضية التأصيل التاريخي لموضوع الإعجاز، وذلك من خلال المصنفات التي تناولته عبر قرون
1 / 4
الإسلام، وأقوال أصحابها في أوجه الإعجاز المعتبرة، والثانية: بيان أوجه الإعجاز التى دارت حولها أقوال العلماء.
ولكن يسبق ذلك لتمام الفائدة، ولحاجة البحث مسائل تتعلق ببيان المراد بمصطلح إعجاز القرآن، وأهمية علم الإعجاز، وحاجة المفسرين إليه، ومناط الإعجاز المتفق عليه عند علماء الأمة، ورد ما يخالف ذلك.
أسأل الله العلي القدير أن يوفق لإتمامه على النحو الذي يرضيه سبحانه، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به، ويثيبني بما هو أهله ﷿ وأن يتجاوز عما يكون فيه من تقصير هو من لوازم البشر، والله من وراء القصد وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمدصلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.
بيان المراد بـ (إعجاز القرآن) مصطلح "إعجاز القرآن" –كما يبدو من صياغته-مركب إضافي، طرفاه كلمتا: (إعجاز) و(القرآن) ولمعرفة المراد بهذا المركب يلزم تحديد معنى طرفه الأول وهو كلمة "الإعجاز" ثم معرفة المراد بالمصطلح كله عند إضافة هذه الكلمة إلى (القرآن) فما معنى الإعجاز؟؟ الإعجاز: مصدر أعجز، ومادة الكلمة هي العجز، وكلام أهل اللغة في معناها يدور حول الضعف، وعدم القدرة على النهوض بالأمر، وكذلك القعود عما يجب فعله. قال ابن منظور: (العجز: نقيض الحزم والعجز: الضعف، والمعجزة بفتح الجيم وكسرها: مفعلة من العجز: عدم القدرة، وفي الحديث- كل
بيان المراد بـ (إعجاز القرآن) مصطلح "إعجاز القرآن" –كما يبدو من صياغته-مركب إضافي، طرفاه كلمتا: (إعجاز) و(القرآن) ولمعرفة المراد بهذا المركب يلزم تحديد معنى طرفه الأول وهو كلمة "الإعجاز" ثم معرفة المراد بالمصطلح كله عند إضافة هذه الكلمة إلى (القرآن) فما معنى الإعجاز؟؟ الإعجاز: مصدر أعجز، ومادة الكلمة هي العجز، وكلام أهل اللغة في معناها يدور حول الضعف، وعدم القدرة على النهوض بالأمر، وكذلك القعود عما يجب فعله. قال ابن منظور: (العجز: نقيض الحزم والعجز: الضعف، والمعجزة بفتح الجيم وكسرها: مفعلة من العجز: عدم القدرة، وفي الحديث- كل
1 / 5
شيء بقدر حتى العجز والكيس (١) .- وقيل أراد بالعجز: ترك ما يجب فعله بالتسويف) (٢) .
ومقتضى آخر الكلام فيما ساقه صاحب اللسان أن العجز أعم من أن يكون ضعفا وانعدام قدرة،وإنما يمكن أن يعني ترك الأمر تسويفا، مما يفهم منه أن ما ترك في حيز القدرة عليه، لكن الباعث على تركه هو الكسل الحامل على التأجيل والتسويف.
لكن لنا في أصالة معنى العجز في الدلالة على عدم القدرة، وأن ترك الفعل عجزًا إنما يكون لعدم القدرة عليه في الأصل.
أقول: لنا في ذلك حديث رسول الله ﷺ: "اللهم إني أعوذبك من الهم والحزن، والعجز والكسل.." (٣) .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (إن الهم:لما يتصوره العقل من المكروه في الحال، والحزن لما وقع في الماضي، والعجز ضد الاقتدار، والكسل ضد النشاط) (٤) .
فالجمع في الحديث بين الاستعاذة من كل من العجز والكسل فيه دلالة على تغاير المعنى فيهما، فالأول عدم القدرة والثاني عدم النشاط والنهوض للأمر.
_________
(١) الحديث أخرجة مسلم في صحيحه: كتاب القدر، باب كل شئ بقدر
(٢) لسان العرب: مادة (عجز)
(٣) صحيح البخاري: كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من الجبن والكسل
(٤) فتح البارى١١/١٧٨
1 / 6
وعليه فالإعجاز: هو جعل من يقع عليه أمر التحدي بالشيء عاجزًا عن الإتيان به، ونسبته إلى العجز، وإثباته له، فالإعجاز بالنسبة للمعجز هو الفوت والسبق، يقال أعجزني فلان أي: فاتني،وبالنسبة للعاجز عدم القدرة على الطلب والإدراك (وقال الليث: أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه) (١) .
إذا كان هذا معنى الإعجاز، فبإضافته إلى القرآن، ومنهما يكون مصطلح: (إعجاز القرآن) كما سبق بيانه يكون المراد: إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به، وهو أن يأتوا بمثله أو بشيء من مثله، فهو من إضافة المصدر إلى فاعله، والمفعول محذوف للدلالة على عموم من تحداهم القرآن، وهم الإنس والجن، وكذلك ما تعلق به الفعل محذوف للعلم به، وهو القرآن أو بعضه كما ثبت في كثير من آيات التحدي.
ويكتمل بيان المراد بهذا المصطلح إذا عرفنا أن إعجاز القرآن مَن تحداهم عن الإتيان بمثله أو بشيء من مثله ليس أمرًا مقصودًا لذاته، وليس هو الغاية في نفسه، ولكن المقصود هو اللازم الناتج عن هذا الإعجاز، وهو إظهار وإثبات أن هذا الكتاب حق، ووحي من عند الله تعالى، ومقتضى ذلك كله إثبات صدق الرسول ﷺ فيما جاء به قومه من الرسالة، ودعاهم إليه من الإسلام، وعليه فإن حقيقة الإعجاز وهى إثبات العجز لمن وقع عليه التحدى استلزمت إظهار هذا العجز، وهذا الإظهار بدوره استلزم إظهار صدق رسول الله ﷺ وهو المقصود الأول من الإعجاز.
_________
(١) لسان العرب:مادة (عجز)
1 / 7
أهمية علم الإعجاز والضرورة الداعية إليه
من بداهة القول أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم على رسوله ﷺ هداية للناس في شتى مناحي حياتهم إلى أقوم طريق وأهدى سبيل، وذلك مما ينبئ عنه حذف متعلق الهداية في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء:٩)
بل إن هذا الهدف الأعظم هو أول ما يطالع القارئ لكتاب الله تعالى مفتتح المصحف في أول سورة منه بعد الفاتحة ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة:١،٢)
ومن المعلوم أن الاهتداء بالقرآن فرع عن معرفة وفهم معانيه، وطريق ذلك علم التفسير، ذلك العلم الذي نبتت نابتته الأولى في عهد رسول الله ﷺ عندما كان يسأله أصحابه رضوان الله عليهم عما يشكل عليهم فهمه من القرآن، فيجيبهم، وكذلك عندما كان ﷺ يعلمهم ابتداء ما يعلم أنهم في حاجة إلى تعلمه، ولا سبيل لهم إليه إلا ببيانه ﷺ، كانت تلك البذور الأولى، ثم نما علم التفسير، وتطور عبر قرون الإسلام، من الرواية إلى التدوين والتصنيف مما لا مجال لتفصيله هنا.
أقول: إن هدى القرآن، وهو مقصود نزوله إنما يكون بتفسيره، ومعرفه ما فيه من الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمحكم والمتشابه، والحلال والحرام وغير ذلك، ولذلك كان من تعريف العلماء لعلم التفسير ما قاله بدر الدين الزركشي: (هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها، والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها
1 / 8
ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها.. وزاد فيها قوم فقالوا: علم حلالها وحرامها ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها) (١) .
وحول هذا المعني جاء تعريف الزرقاني رحمه الله تعالى لعلم التفسير في عبارة أجمل فيها تفصيل الزركشي،مبينا الغرض النهائي لهذا العلم فقال: (والتفسير في الاصطلاح:علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية) (٢) .
ولما كان الهدف النهائي من ذلك كله هو الاهتداء بالقرآن المترتب على فهم معانيه التى يتوصل إليها بتفسيره فإنا نستبيح لأنفسنا أن نقول في تعريف التفسير: (إنه علم يتوصل به إلى معرفة كيفية الانقياد لأمر الله تعالى فيما أنزله على رسوله ﷺ،وذلك أن ما سبق من التعريفات إنما يؤدى إلى نفس الغاية.
ولما كان القرآن قد أنزله الله تعالى بلسان عربى مبين فإن القيام على تفسيره لابد أن ينبني على معرفة باللغة العربية وخصائصها، ودلالات ألفاظها، وأوجه بلاغتها.
ولذلك يذهب الشيخ الطاهر بن عاشور إلى: (أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعانى القرآن بالغًا حدّ الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملا على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آيه المفسَّرة، بمقدار ما تسمو إليه الهمة من تطويل واختصار، فالمفسر بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربى، وخصائص بلاغته)
_________
(١) البرهان في علوم القرآن:٢/١٦٣،١٦٤
(٢) مناهل العرفان في علوم القرآن:٢/٣
1 / 9
ثم نراه ينحي باللائمة على من لم يجعل ذلك في التفسير له غرضا، فيقول (فمن أعجب ما نراه خلو معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الأسمى إلا عيون التفاسير، فمن مقل مثل معانى القرآن لأبى إسحاق الزجاج، والمحرر الوجيز للشيخ عبد الحق بن عطية الأندلسي، ومن مكثر مثل الكشاف، ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التى نحت ناحية خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن، على أن بعض أهل الهمم العالية من أصحاب هذه التفاسير لم يهمل هذا العلق النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب أحكام القرآن لإسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي البغدادي، وكما نراه في مواضع من أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي.
(ثم إن العناية بما نحن بصدده من بيان وجوه إعجاز القرآن إنما نبعت من مختزن أصل كبير من أصول الإسلام، وهو كونه المعجزة الكبرى للنبي ﷺ وكونه المعجزة الباقية) (١) .
وإذا كان كلام صاحب التحرير مبنيًا على رؤية التلازم بين معرفة علوم العربية وفهم معانى القرآن الذي يعيّن طريقًا للاهتداء به، فإن هذا الاهتداء فرع آخر بل ونتيجة لتلك الدراسة التي تؤكد على إعجاز القرآن، ذلك أنا نرى أن هناك ترابطًا لا ينفك بين النص المعجز والمعنى الشامل لسبل الهداية كلها، هذا الترابط يمكن وصفه إن صح التعبير-بأنه ترابط ما بين المقدمات والنتائج، فغرض الإعجاز مقدمة نتيجته الهداية، أو إن شئت فقل إن غرض الإعجاز أمر يسبق في التقرير غرض الهداية، لأن الناس إذا دعوا إلى العمل بمنهج ما فلا بد من قناعتهم بسلامة مصدر هذا المنهج حتى ينقادوا له عن طمأنينة، والإعجاز- في هذا المجال-قد أدى الغرض فأوفى، فبه عرف أن
_________
(١) التحرير والتنوير:١/١٠٢
1 / 10
القرآن كلام رب الناس وخالقهم، والأعلم بما يصلح لهم ويُصلحهم، ناهيك عن إعجاز ما تضمنه القرآن في مجال الهداية كذلك من سمو تشريعه، وعلو دعوته.
وهذا وما سبق يؤكد على أن العناية بعلم (إعجاز القرآن) إجمالا وتفصيلا من أكثر الأمور ضرورة، وهو ما نبه إليه العلماء قديما وحديثا.
قال القاضي أبو بكر الباقلانى رحمه الله تعالى. (ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لأصل دينهم قواما، ولقاعدة توحيدهم عمادًا ونظامًا، وعلى صدق نبيهم ﷺ برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة، لا سيما والجهل ممدود الرواق، شديد النفاق، مستول على الآفاق، والعلم إلى عفاء ودروس) .
ثم يقول: (وقد كان يجوز ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن، وتكلم في فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام أن يبسطوا القول في الإبانة عن وجه معجزته والدلالة على مكانه، فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه: من القول في الجزء، ودقيق الكلام في الأغراض، وكثير من بديع الإعراب، وغامض النحو، فالحاجة إلى هذا أمس والاشتغال به أوجب) (١) .
لقد منَّ الله تعالى على علماء الأمة بحفظ هذا العلم، فأولت إعجاز القرآن وبيانه للناس جل اهتمامها، وتتابعت في ذلك المصنفات –كما سيأتى بيانه- وظلت ترى- مع ذلك- أن الكلام في إعجاز القرآن واجب لا يسع الأمة في مجملها تركه.
_________
(١) إعجاز القرآن للباقلاني:٢٢، ٢٣
1 / 11
قال السيد محمد رشيد رضا في تقديمه لكتاب (إعجاز القرآن) لمصطفى صادق الرافعي:
(فالكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعًا، وهو من فروض الكفاية، وقد تكلم فيه المفسرون، وبلغاء الأدباء والمتأنقون) (١) .
وما زال العلماء والأدباء من بعد رشيد رضا والرافعى يعنون بالقرآن الكريم من جهة إعجازه، وسيظلون على ذلك بعون الله تعالى خدمة لهذا الكتاب الكريم، الذى شرفنا الله تعالى بالانتساب إليه، ومنّ علينا بالاهتداء به: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ﴾ (الزخرف:٤٤)
_________
(١) إعجاز القرآن للرافعي:٢٠
1 / 12
مناط الإعجاز في القرآن الكريم
إجماع أهل العلم المعتد بإجماعهم، والذى ارتضته الأمة منهم منعقد على أن القرآن الكريم معجز بذاته، أى بلفظه الذى نزل به جبريل على رسول الله ﷺ وهو ما يتعلق- من بين أوجه الإعجاز-بالناحية البلاغية ابتداءً، مع ما تضمنه القرآن من أوجه أخرى ترجع إلى ذاته لفظًا ومعنى، وهو ما سيأتى تفصيل له في ثنايا البحث إن شاء الله تعالى عند الكلام على تأصيل قضية الإعجاز تاريخيا في كتابات العلماء قديما وحديثا، وكذلك عند الكلام على هذه الأوجه تفصيلا فيما تمخضت عنه هذه المصنفات.
ولكن يحسن قبل- ذلك- حتى يصفو ذهن القارئ وعقله لتدبر ما يمكنه من أوجه الإعجاز في القرآن الكريم-أن ننبه إلى دفع قول في مضمار الكلام على الإعجاز شاع في ساحة التناول لهذا الموضوع على الرغم من فقدانه لأى دليل معتبر يسنده من عقل صحيح، أو واقع تاريخى، بل تتظاهر الأدلة كلها ضده، مما يحكم ببطلانه.
وقد كان بالإمكان- بل وكنانميل- أن نضرب عن ذكره صفحًا إلا أن تردد صداه في مصنفات الإعجاز قديما وحديثا وإن كان مقرونا ببيان بطلانه –جعلنا نرى أن الإشارة إليه مع رده ولو بإجمال أمر لازم، حتى لا يجيء البحث خلوا من ذلك فيقع في وهم القارئ ولو احتمالا أن هذا القول له حظ من القبول، وأعنى بهذا القول ما شاع بين البعض من أن أساس الإعجاز في القرآن هو الصرفه، فما شأن القول بالصرفة هذا؟؟
القول بالصرفة يقوم أساسًا على اعتبار أن القرآن في ذاته، أى بلفظة وأسلوبه غير معجز، وأن عدم إتيان العرب بمثله ليس علته عدم قدرتهم على
1 / 13
ذلك، فهم البلغاء الفصحاء، ولكن العلة في ذلك راجعة إلى أن الله تعالى قد صرفهم عن المحاولة، وسلب علمهم الذى كان يمكن به- في نظر القائل بذلك-أن يأتوا بمثل القرآن، فهم كانوا قادرين، لكنهم لم ينشطوا لهذا الأمر، أو لم تتوفر الدواعى لديهم للمعارضة ابتداءً.
وقد ورد هذا التفسير للقول بالصرفة في عبارات العلماء من قديم:
قال الخطابى: (وذهب قوم إلى أن العلة في إعجازه الصرفة، أى صرف الهمم عن المعارضة، وإن كانت مقدورًا عليها، إلا أن العائق من حيث كان أمرًا خارجًا عن مجاري العادات صار كسائر المعجزات) (١) .
أي أن الصرف أو المنع الذى سماه الخطابي عائقا لما كان أمرًا خارجًا عن العادة صار هو المعجز لا القرآن.
وقال الرماني: (وأما الصرفة، فهى صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التى دلت على النبوة. وما قاله الرمانى قريب مما قاله الخطابى إلا أنه زاد فقال (وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التى يظهر منها للعقول) (٢) . مما بشى بنوع قبول لهذا القول.
وقال الباقلانى ﵀: (فإن قيل: فلِمَ زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات، وتصرفهم في أجناس الفصاحات؟ وهلا قلتم: إنَّ مَن قدر على هذه الوجوه البديعة، وتوجه من هذه الطرق الغريبة كان على مثل نظم القرآن قادرًا، وإنما يصرفه الله عنه ضربًا
_________
(١) "بيان إعجاز القرآن" ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص٢٢
(٢) "النكت في إعجاز القرآن" ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص ١١٠
1 / 14
من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضربًا من المنع، أو يقصر دواعيه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله من الدلالة ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة، لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلهما، وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر السورة، فالجواب:..) (١) .
وظاهر مما قاله العلماء-على هذا الرأى –أن إعجاز القرآن لم ينشأ من أنه قد بلغ في بلاغته حد الإعجاز الذى لا تطيقه قدرة البشر، بل لصرف من وقع عليهم التحدي عن التوجه للمعارضة، وأن أسباب هذا الصرف ترجع إلى:
أ-انعدام الدواعى الباعثة على هذه المعارضة
ب- عدم النشاط والانبعاث إلى المعارضة، وبالتالي عدم تعلق الإرادة بها مع وجود الدواعي إليها.
جـ- تعطيل المواهب البيانية، وتعويق القدرة البلاغية، وسلب الأسباب العادية إلى المعارضة، وذلك على نحو مفاجئ عند المحاولة، رغم تعلق الإرادة بها، وتوجه الهمة إليها.
وظاهر كذلك مما سبق أن هذا القول بما بني عليه يسلب القرآن الكريم خاصة إعجازه الذاتية، وهو من الخطورة بالقدر الذى يترتب عليه فقد أهم دلائل صدق رسالة النبي ﷺ، ولذلك فإنه قول ساقط بذاته عند أدنى فكر وتأمل، ولا يحتاج في إبطاله إلى عناء، وسوف نشير بإيجاز إلى أوجه بطلانه تحقيقا لما أشرنا إليه من عدم الإطالة، وتوفيرًا للجهد وادخارًا له لبيان الأوجه المعتبرة عند العلماء في إعجاز القرآن.
_________
(١) إعجاز القرآن للباقلانى: ٥٥،٥٦
1 / 15
وسنشير أولًا إلى ما يبطل تلك الأسباب التى ظهر من كلام العلماء أن الصرفة كانت من أجلها، ثم نعقب بذكر شواهد أخرى تدل على بطلان القول بالصرفة وسقوطه.
أما أول الأسباب التى ساقوها: وهو انعدام دواعي العرب إلى معارضة القرآن، وأنهم لو توفرت تلك الدواعى عندهم فلربما عارضوه، فيرده ما سجله تاريخ هؤلاء العرب مع القرآن، وما أثبته تواتر النقل من توفر تلك الدواعي التى من بينها أن القرآن تحداهم في أكثر من موضع منه بأن يأتوا بمثله، أو بعشر سور أو بسورة من مثله، وقطع بأنهم لن يفعلوا ذلك ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾؟ (البقرة:٢٣،٢٤) ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء:٨٨)
كما أن القرآن قد أثار حميتهم- وهم مضرب المثل في الأنفة وإباء الضيم-بما شنه عليهم من حرب شعواء على معتقداتهم التى توارثوها، وسفه عقولهم، وعقول آبائهم، ونعى عليهم الشرك والجهل، وهم مع ذلك قوم صناعتهم البيان، وفخرهم في التنافس في ميدان الكلام، فكيف مع سكوتهم على هذا الضيم الذي لو وجدوا سبيلا إلى دفعه لسلكوه مسرعين،كيف يقال بعدم توفر الدواعى لديهم.
أما ثاني هذه الأسباب: وهو عدم انبعاثهم ونشاطهم، وعدم تعلق إرادتهم بالمعارضة مع وجود الدواعى فينقضه كذلك التاريخ والواقع، فقد سجل هذا التاريخ محاولاتهم الدؤوبة في الكيد للإسلام، حتى وصل الأمر إلى
1 / 16
تآمرهم على قتل رسول الله ﷺ، وتبع ذلك ما كان بعد الهجرة وإقامة دولة الإسلام في المدينة من خوضهم الحروب ضد الإسلام، وإقدامهم على بذل أموالهم وإراقة دمائهم، وسبي ذراريهم في هذه السبيل، فكيف يقال بعد ذلك إنهم لم ينشطوا إلى المعارضة، وقد بذلوا في بديلها أضعاف أضعاف ما كانوا يبذلونه فيها من جهد لو كانت في مقدورهم.
وأما ثالث هذه الأسباب: وهو تعطيل مواهبهم وسلب قدراتهم فجأة مع توفر الدواعي، وانبعاث النشاط فيرده أنه: لو كان الأمر كذلك لأثر عنهم الاعتذار بهذا التفاوت العلمي بين ما في القرآن وبين ما عندهم، وذلك ليقللوا من شأن القرآن في ذاته، وأنه ما كان إعجازه إلا لصرفهم عنه، ولكن ذلك لم يذكر عنهم أبدًا.
فإذا أضفنا إلى ذلك:
١- أن القرآن الكريم بلفظه وعبارته قد راع العرب بتفوق بيانه، وأثار أسلوبه وعبارته إعجابهم، وأعلنوا أنهم ما رأوا مثله شعرًا ولا نثرًا، ومقتضى ذلك أن إعجاز القرآن لذاته لا لشيء خارج عنه، وإلا لو كان كلامًا كسائر الكلام ما لفت أنظارهم، ولا أخذ بألبابهم.
قال عبد القاهر الجرجانى: (إنه لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن وعن أن يأتوا بمثله لأنه معجز في نفسه، لكن لأن أدخل عليهم العجز عنه، وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله، وكان حالهم على الجملة حال من أعدم العلم بشيء قد كان يعلمه، وحيل بينه وبين أمر قد كان يتسع له لكان ينبغي أن لا يتعاظمهم، ولا يكون منهم ما يدل على إكبارهم
1 / 17
أمره، وتعجبهم منه، وعلى أنه قد بهرهم، وعظم كل العظم عندهم، بل كان ينبغي أن يكون الإكبار منهم والتعجب للذى دخل عليهم من العجز) (١) .
١- لو كان القول بالصرفة صحيحا لما كان القرآن معجزًا، قال الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى: (لو قلنا إن الذى منع العرب عن الإتيان بمثله هو الصرفة ما كان القرآن هو المعجز، وإنما يكون العجز منهم، ولم يكونوا عاجزين، وإنما يكون قد أعجزهم الله، ولم يعجزهم القرآن ذاته، وقد كان القرآن هو معجزة النبي ﷺ والقول بالصرفة ينفي عنه خواص الإعجاز) (٢) .
٢- ثم إن القول بالصرفة يرده قول الله تعالى ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء:٨٨) .
قال السيوطي رحمه الله تعالى بعد ذكره الآية الكريمة (فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم يبق لهم فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره، هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز! بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله) (٣) .
هذا هو القول بالصرفة قد بيناه، وبينا ما يترتب عليه، كما بينا بطلانه! أما عن نشأته فبإيجاز نقول:
_________
(١) دلائل الإعجاز:٣٩٠،٣٩١
(٢) المعجزة الكبرى:٦١
(٣) الإتقان في علوم القرآن:٢/١٠٠٦.
1 / 18
قد شاعت في كتابات المؤلفين نسبة هذا القول بعامة إلى المعتزلة، وأن أول من جاهر به منهم هو أبو إسحاق إبراهيم بن يسار الشهير بالنظام (ت سنة ٢٢٤هـ) فقد ذهب إلى أن القرآن حق، ولكن تأليفه ونظمه ليس بحجة، لكن من الإنصاف أن نبين أن هذا الكلام عنه يعبر عن شطر رأيه في قضية الإعجاز، وأما الشطر الآخر فعنده أن إعجاز القرآن راجع إلى مافيه من الإخبار بالمغيبات.
قال الشهرستانى يعدد المسائل التى انفرد بها النظام عن أصحابه (التاسعة: قوله في إعجاز القرآن إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية، ومن جهة صرف الدواعى عن المعارضة، ومنع العرب من الاهتمام به جبرًا وتعجيزا، حتى لوخلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما) (١) .
هذه المقولة للنظام وإن لم يكتب لها حظ من القبول عند جماهير العلماء، بل كانوا على خلافها، وعملوا جهدهم في ردها، إلا أنها أثرت عن البعض في فترات لاحقة مختلفة، فقد نسبت كذلك إلى الشريف المرتضى الذى عاش في القرن الرابع الهجرى، والذى فسر الصرفة بأن الله سلب العرب العلوم التى يحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن، يذكر ذلك الرافعي عنه ثم يقول (فكأنه يقول:إنهم بلغاء يقدرون على مثل النظم والأسلوب، ولا يستطيعون ما وراء ذلك مما لبسته ألفاظ القرآن من المعانى، إذ لم يكونوا أهل علم، ولا كان العلم في زمنهم، وهذا رأى بين الخلط) (٢) .
_________
(١) الملل والنحل:١/٥٦،٥٧
(٢) إعجاز القرآن للرافعي:١٤٤
1 / 19
وممن حكى عنه القول بالصرفة كذلك ابن حزم الظاهري (ت سنة ٤٥٦هـ) الذى قال في سبب الإعجاز (لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز، لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاّما له أصاره معجزًا ومنع من مماثلته) (١) .
وقد رأينا فيما سبق كيف حمل العلماء على هذا القول وفَنَّدوه كالباقلانى وعبد القاهر وغيرهم، ومع هذا فقد تردد صدى هذا القول فيما بعد، وترك آثاره في فكر بعض المفسرين- من المتكلمين- عن الإعجاز كأبى عبد الله فخر الدين الرازى (ت سنة٦٠٤هـ) الذى قال في معرض تفسيره لقول الله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء:٨٨) ما نصه:
(اعلم أنا في سورة البقرة في تفسيره قوله تعالى ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ﴾ بالغنا في بيان إعجاز القرآن، وللناس فيه قولان: منهم من قال: القرآن معجز في نفسه، ومنهم من قال: إنه ليس في نفسه معجزًا إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته مع أن تلك الدواعى كانت قوية كانت هذه الصرفة معجزة، والمختار عندنا في هذا الباب أن نقول: القرآن في نفسه إما أن يكون معجزًا أو لا يكون، فإن كان معجزًا فقد حصل المطلوب، وإن لم يكن معجزا بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته، وكانت الدواعى متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة، وما كان لهم عنها صارف ومانع، وعلى هذا التقدير كان الإتيان بمعارضته واجبًا
_________
(١) الفصل في الملل والأهواء والنجل:٣/١٩
1 / 20