Care of Muslims for the Waqf in Service of the Holy Quran
عناية المسلمين بالوقف خدمة للقرآن الكريم
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
ژانرونه
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن الاهتمام بتعليم القرآن الكريم ونشره هو مفتاح التعرف على مبادئ الإسلام وشرائعه من مصدره الأول، كتاب الوحي المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين، المنقول إلى الأجيال اللاحقة بطريق التواتر، فمن ثمّ كان هاجس القادة الفاتحين والخلفاء، والملوك، والسلاطين، والأمراء المسلمين، تعليم القرآن الكريم، ونشره بين أبناء البلاد الذين كتب الله لهم الهداية، فكان الشأن المهم الذي يبادرون إليه قبل كل شيء؛ ذلك أن رسالتهم هي هداية الأمة وإنقاذ شعوبها من الضلال، وما ترسف فيه من أغلال الظلم، وتحريرها من الاستعباد، اقتداء بسنة رسول الله ﷺ في تفقيه حديثي الإسلام وتعليمهم القرآن. " روى الرقيق (١) - مؤرخ القيروان أن موسى بن نصير أمر العرب أن يعلموا البربر القرآن، وأن يفقهوهم في الدين. ونقل غيره:
أن موسى بن نصير ترك سبعين رجلًا من العرب يعلمون البربر القرآن، وشرائع الإسلام، وكان عقبة بن نافع ترك فيهم قبله بعض أصحابه يعلمونهم القرآن منهم تابعه (شاكر)، وغيرهم.
وهنا تجدر الإشارة إلى البعثة الدينية المؤلفة من عشرة من وجوه التابعين
_________
(١) اسمه إبراهيم بن القاسم، المعروف بالرقيق القيرواني، كاتب، شاعر، مؤرخ، عاش في القرنين الرابع والخامس الهجري، انظر ترجمته في: تراجم المؤلفين التونسيين لمحمد محفوظ، الطبعة الأولى، (بيروت: دار الغرب الإسلامي سنة ١٩٨٢م)، ج٢ ص: ٣٧٩.
1 / 1
التي أرسلها الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى القيروان بقصد تفقيه البربر، وإرشادهم إلى شرائع الإسلام، وتعاليمه العالية، فما كان من هؤلاء المرشدين إلا أن اختطَّ كل واحد منهم دارًا لسكناه، وبنى بحذائها مسجدًا لعبادته ومجالسه، واتخذ بقربه كُتَّابًا لتحفيظ القرآن، وتلقين مبادئ العربية لصغار أطفال البلد (١) .
وقد ظهرت في وقت مبكر من التاريخ الإسلامي الحاجة إلى موارد تكفل للقائمين على تعليم القرآن ونشره، موارد رزقهم، وتكفيهم حاجاتهم، لينصرفوا بكليتهم لتعليم القرآن الكريم، فأصبح رصد الأوقاف، وتحبيس العقارات على المساجد وحلقات القرآن سنة لدى المسلمين على اختلاف حالاتهم الاجتماعية والمادية.
يسجل التاريخ " أن الوليد بن عبد الملك في سنة ٨٨هـ وقف بعض القرى والمزارع لمسجد أمية بالشام، ويقال: إن هذا كان أول وقف من نوعه، لأن غلة هذه القرى، والمزارع كانت تصرف للمسجد، ثمّ توسعت مجالات الأوقاف، وشملت مرافق الحياة كلها.
وفي أيام الدولة العثمانية اتسعت مساحة الأوقاف كثيرًا، وكانت المدارس، والزوايا، والمساجد، وخدمات البلدية، والمستشفيات، وما إلى ذلك، كل هذه كانت تدار بالأوقاف، ويصرف عليها منها" (٢) .
_________
(١) عبد الوهاب، حسن حسني، كتاب العمر في المصنفات والمؤلفين التونسيين، الطبعة الأولى، مراجعة محمد العمروسي المطوي، وبشير البكوش، (تونس: بيت الحكمة، سنة ١٩٩٠م) ج١، ص ٤٦.
(٢) أوزاك، علي، بحث (إدارة الأوقاف الإسلامية في المجتمع المعاصر في تركيا)، (أهمية الأوقاف الإسلامية في عالم اليوم)، (الأردن: مآب مؤسسة آل البيت، سنة ١٤١٧هـ، ١٩٩٦م)، ص:٣٣٩.
1 / 2
تركز الدراسة هنا على جانب خاص هو خدمة الأوقاف للقرآن الكريم، وهو موضوع جدير بالدراسة، فقد كان تجربة ناجحة ورفيعة في تاريخ الأمة الإسلامية، ومن الصعب، بل من المستحيل الإحاطة الشاملة بهذا الموضوع عبر القرون في البلاد الإسلامية المترامية الأطراف؛ ذلك أن الاهتمام بالقرآن الكريم هو ما دأبت عليه الأمة الإسلامية حتى في أقصى الظروف وأحلكها، فمن ثمّ يكتفي البحث بتقديم نماذج منها، بقدر ما يوضح الصورة. وقد أدى الوقف خلال القرون الطويلة نتائج فاعلة في الحفاظ على القرآن، وتخريج أجيال من القراء والحفاظ، والمفسرين في شرق بلاد الإسلام وغربها، في جميع القرون منذ بدء عصر النبوة المبارك.
وإذا كان للماضي تجاربه الناجحة في هذا المجال فمن الواجب إنصاف الحاضر الذي لم يفتقد مَنْ يعمل على هدى وبصيرة من العلماء والمخلصين من أبناء الأمة الإسلامية في النهوض بتعليم القرآن وحفظه في شتى بقاع العالم الإسلامي على مستوى العصر إدارةً، وتنظيمًا، وتخطيطًا، فمن ثمّ تخيَّر البحث من بين النماذج للعصر الحاضر الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمكة المكرمة.
1 / 3
خطة البحث
جاءت موضوعات البحث بعد هذه المقدمة على النسق التالي:
الفصل الأول: تطوير العناية بالقرآن الكريم ومؤسساته.
الفصل الثاني: مشروعية الوقف على القرآن الكريم.
مقاصد الواقفين على القرآن الكريم:
أولًا: الوقف على المدارس القرآنية.
ثانيًا: الوقف على القراء.
ثالثًا: الوقف على تدريس القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، أو المذاهب الفقهية.
رابعًا: الوقف على خدمة القرآن تلاوةً، وتأسيس مرافق اجتماعية.
خامسًا: الوقف على قراءة القرآن لهبة ثوابها للآخرين.
أ - الوقف على قراءة الربعات بالمسجد الحرام على نظام (الخصفة) .
ب - الوقف على قراءة القرآن على الترب (المقابر) .
سادسًا: الوقف على الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في مكة المكرمة الوقت الحاضر.
تمام البحث: خاتمة تلخص أهم النقاط.
كما تضمن بعض التوصيات، يليها ملحق بقائمة دور القرآن في دمشق والقاهرة، ثم قائمة المصادر، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وصلى الله وسلم على من نزل عليه الوحي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
1 / 4
الفصل الأول: تطور العناية بالقرآن الكريم ومؤسساته
أولا: جمعه منذ نزوله
...
الفصل الأول: تطور العناية بالقرآن الكريم ومؤسساته
حظي القرآن الكريم وعلومه باهتمام المسلمين وعنايتهم بما لم يحظ به كتاب سماوي، حفظًا، ودرسًا، وشرحًا وتدوينًا، ورواية بالتواتر، وقد تجلت هذه المظاهر من العناية الفائقة والإجلال والتعظيم له في مظاهر عديدة، من أهمها:
أولًا: جمعه منذ نزوله:
تخصص لهذا نفر كريم أمين من أصحاب رسول الله ﷺ لرصد كل ما ينزل به من الوحي. ثبت في الصحيحين عن أنس ﵁ قال: "جمع القرآن على عهد النبي ﷺ أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، فقيل له: "مَنْ أبو زيد؟ " قال: "أحد عمومتي".
وفي لفظ للبخاري عن أنس قال: "مات النبي ﷺ ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ونحن ورثناه" (١) .
"وحكى القرطبي في أوائل تفسيره عن القاضي أبي بكر الباقلاني أنه قال، بعد ذكر حديث أنس بن مالك هذا،"فقد ثبت بالطريق المتواترة أنه جمع
(١) ابن كثير، إسماعيل بن عمر، كتاب فضائل القرآن، الطبعة الأولى، تحقيق محمد إبراهيم البنا، جدة: دار القبلة للثقافة الإسلامية، بيروت: مؤسسة علوم القرآن، سنة ١٤٠٨هـ/١٩٨٨م، ص٢٢.
1 / 5
القرآن: عثمان، وعلي، وتميم الداري، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو ابن العاص.
فقول أنس: لم يجمعه غير أربعة يحتمل أنه لم يأخذه تلقيًا مِنْ في رسول الله ﷺ غير هؤلاء الأربعة، وأن بعضهم تلقى بعضه عن بعض.
وقال:"وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي ﷺ لأجل سبقهم إلى الإسلام، وإعظام الرسول لهم".
قال القرطبي:"لم يذكر القاضي ابن مسعود، وسالمًا مولى أبي حذيفة، وهما ممن جمع القرآن" (١) .
وقد عدّ العلماء أنَّ من أحسن، وأجلّ، وأعظم ما فعله أبو بكر الصديق جمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القارئ من حفظه كله (٢) .
يقول العلامة ابن كثير تعليقًا على ما تقدم:
"فجمع الصديق الخير، وكشف الشر ﵁، ولهذا روى غير واحد من الأئمة...عن علي بن أبي طالب ﵁ قال:
"أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين" (٣) .
_________
(١) ابن كثير، كتاب فضائل القرآن، ص٢٥.
(٢) ابن كثير، كتاب فضائل القرآن، ص٢٥.
(٣) ابن كثير، كتاب فضائل القرآن، ص٢٥.
1 / 6
ثانيًا: حفظ القرآن الكريم واستنباط علومه:
منذ تلك الآونة عكف المسلمون على القرآن تعبدًا وتعلمًا، ودراسة، فاستنبط منه العلماء علومًا عديدة، واشتقوا منه فنونًا رفيعة على مدى القرون، فألفت فيه المؤلفات الواسعة، ولا يزال العلماء في المجال العلمي الشرعي يستخرجون أسراره، ويكتشفون دقائقه، دون توقف لتياره المعرفي، ومعجزاته التي لا تنتهي.
ثالثًا: دور المساجد في العناية بالقرآن الكريم المساجد هي ساحات الدرس والتعليم، والمكان المناسب لتعليم القرآن ودراسة علومه، ومدارسته. وقد شهدت الأمصار الإسلامية عبر العصور الإسلامية المختلفة نهضة علمية بالعلوم الإسلامية، وبخاصة القرآن وعلومه، وكان من وراء هذا بعد توفيق الله علماء صدقوا ما عاهدوا الله عليه من الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، ومن بعدهم من علماء الأمة في كل عصر وجيل حتى وقتنا الحاضر. إن الرمز الأول الذي حقق المعنى وجَسَّده دروس حبر الأمة عبد الله بن العباس ﵄ في ساحات المسجد الحرام، فقد تخصص في العناية بالقرآن الكريم تفسيرًا، وتأويلًا، وكان المرجع لعلماء الأمة، تحقيقًا للدعوة النبوية المباركة: "اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل" (١)،فقد كان ﵄ يعقد حلقة درسه في التفسير والحديث، والأدب والمغازي والسير، وأيام (١) هو التفسير، وهو اصطلاح ابن جرير في تفسيره، حيث يقول:" القول في تأويل قوله تعالى، ثمّ يذكر تفسير الآية.
ثالثًا: دور المساجد في العناية بالقرآن الكريم المساجد هي ساحات الدرس والتعليم، والمكان المناسب لتعليم القرآن ودراسة علومه، ومدارسته. وقد شهدت الأمصار الإسلامية عبر العصور الإسلامية المختلفة نهضة علمية بالعلوم الإسلامية، وبخاصة القرآن وعلومه، وكان من وراء هذا بعد توفيق الله علماء صدقوا ما عاهدوا الله عليه من الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، ومن بعدهم من علماء الأمة في كل عصر وجيل حتى وقتنا الحاضر. إن الرمز الأول الذي حقق المعنى وجَسَّده دروس حبر الأمة عبد الله بن العباس ﵄ في ساحات المسجد الحرام، فقد تخصص في العناية بالقرآن الكريم تفسيرًا، وتأويلًا، وكان المرجع لعلماء الأمة، تحقيقًا للدعوة النبوية المباركة: "اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل" (١)،فقد كان ﵄ يعقد حلقة درسه في التفسير والحديث، والأدب والمغازي والسير، وأيام (١) هو التفسير، وهو اصطلاح ابن جرير في تفسيره، حيث يقول:" القول في تأويل قوله تعالى، ثمّ يذكر تفسير الآية.
1 / 7
العرب وأشعارهم بالمسجد الحرام.
وكان لحلقته بالمسجد الحرام الفضل في تأسيس مدرسة في علم التفسير لها خصائصها وأعلامها من كبار التابعين مثل عطاء بن أبي رباح الذي خلفه في حلقة العلم تفسيرًا، وفقهًا وفتيا، ثمّ صارت هذه الحلقة لابن جريج، وقد تخرج فيها كثيرون، وبرغم وفاة ابن عباس سنة ٧٨هـ ظلت مدرسة مكة قائمة يتلقى أبناؤها العلم طبقة بعد طبقة (١) .
ولئن صح هذا عن المسجد الحرام وأثر حلقات العلماء فيه على تطور النهضة العلمية بالقرآن الكريم وعلومه، وهو المحور الأساس في التعليم الإسلامي، إنه لصحيح أيضًا وصادق في حق كافة الأمصار والمدن الإسلامية التي انتشر فيها الصحابة رضوان الله عليهم، فورَّثوا القرآن وعلومه إلى أجيال التابعين وتابعي التابعين وإلى مَنْ بعدهم، حتى وصل إلينا القرآن الكريم محفوظًا من التغيير والتبديل، تقرؤه أجيالنا كيوم نزوله على نبينا محمد ﷺ.
وتُبرز الدراسات العلمية الموثقة فيما يخص أثر المساجد في المحافظة على القرآن الكريم والعناية بعلومه، أنه لم يتوقف بنشوء المدارس وتأسيسها فيما بعد، والمسجد الحرام بحلقاته العلمية أنموذج صادق على أهمية هذه الحلقات العلمية في القرنين السابع والثامن للهجرة، بل ظل على مدى القرون الإسلامية، يزدحم برجال الحديث والقراء وأصحاب الفتيا، وظلت حلقاتهم تتدبر تفسير آيات الذكر الحكيم، وأخذ اتساع الحلقات يتضاعف في مواسم
_________
(١) انظر: العبيكان، طرفة عبد العزيز، الحياة العلمية الاجتماعية في مكة في القرنين السابع والثامن للهجرة، (الرياض: مطبوعات مكتبة الملك فهد الوطنية، سنة ١٤١٦هـ/١٩٩٦م)، ص٥٤.٥٥.
1 / 8
الحج، ولا يخفى أن المقصود بالحلقات هنا، ذلك هو النظام التعليمي القائم على إحاطة الطلاب بشيخهم، وهو نظام يعود إلى العصر النبوي. وقد استمر هذا الشكل بعد إنشاء المدارس الإسلامية" (١) .
وكان إلى جانب هذا النوع من التعليم الحر في مناهجه، وأوقاته، المدارس والمؤسسات العلمية المنتشرة بمكة المكرمة، والتي كان من أعظم اهتماماتها تعليم القرآن حفظًا وتجويدًا وتفسيرًا، إذ هو القاعدة العلمية المتينة التي تكوِّن العالم الشرعي على أسس ثابتة.
_________
(١) العبيكان، طرفة عبد العزيز، الحياة العلمية والاجتماعية في مكة في القرنين السابع والثامن للهجرة، ص٥٣ خصصت الباحثة دراستها بالقرنين السابع والثامن كما هو ظاهر من العنوان.
رابعًا: الزوايا جمع زاوية، وزاوية البيت ركنه، وتزوي صارفيها (١) . وأصبحت تطلق عرفًا على المسجد الصغير الذي يخلو فيه الناس للعبادة كما كان الحال في الماضي في مكة المكرمة، وكان لكل زاوية شيخ يقوم بشؤونها، وتعليم القرآن فيها (٢) . أما في الغرب الإسلامي بلاد المغرب والأندلس فإنه: "يطلق على مجموعة البنايات المستخدمة لأغراض دينية، وتعليمية، واجتماعية، وذلك منذ القرن الخامس للهجرة/الحادي عشر للميلاد" (٣) . _________ (١) ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد، لسان العرب، الطبعة الثالثة، (بيروت: دار صادر، عام ١٤١٤هـ/١٩٩٤م)،ج١٤،ص٣٦٥. (مادة زوى) . (٢) انظر لهذا: العجيمي، محمد حسن الصوفي، خبايا الزوايا. مصور، خاص. (٣) سعيدوني، ناصر الدين، مؤسسة الزوايا في الجزائر العثمانية بحث في المؤتمر الدولي حول العلم والمعرفة في العالم العثماني بمناسبة الذكرى السبعمائة على قيام الدولة العثمانية عام ١٩٩٩م (إستانبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، ٢٠٠٠)، ص٤٨.
رابعًا: الزوايا جمع زاوية، وزاوية البيت ركنه، وتزوي صارفيها (١) . وأصبحت تطلق عرفًا على المسجد الصغير الذي يخلو فيه الناس للعبادة كما كان الحال في الماضي في مكة المكرمة، وكان لكل زاوية شيخ يقوم بشؤونها، وتعليم القرآن فيها (٢) . أما في الغرب الإسلامي بلاد المغرب والأندلس فإنه: "يطلق على مجموعة البنايات المستخدمة لأغراض دينية، وتعليمية، واجتماعية، وذلك منذ القرن الخامس للهجرة/الحادي عشر للميلاد" (٣) . _________ (١) ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد، لسان العرب، الطبعة الثالثة، (بيروت: دار صادر، عام ١٤١٤هـ/١٩٩٤م)،ج١٤،ص٣٦٥. (مادة زوى) . (٢) انظر لهذا: العجيمي، محمد حسن الصوفي، خبايا الزوايا. مصور، خاص. (٣) سعيدوني، ناصر الدين، مؤسسة الزوايا في الجزائر العثمانية بحث في المؤتمر الدولي حول العلم والمعرفة في العالم العثماني بمناسبة الذكرى السبعمائة على قيام الدولة العثمانية عام ١٩٩٩م (إستانبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، ٢٠٠٠)، ص٤٨.
1 / 9
وقد أدَّتْ الزوايا في البلاد الإسلامية وظائف تعليمية، ودينية جليلة، وأسهمت إسهامًا كبيرًا في نشر القرآن تعليمًا، وحفظًا ومدارسة، وقامت بآثار جليلة في تربية الناشئة.
إن تخطيط هذه الزوايا ومكوناتها يعطي تصورًا كاملًا عن الوظائف التي تؤديها، وهي وإن اختلفت من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر فإنها تجتمع كلها في الأهداف التي بنيت من أجلها.
يتحدث الأستاذ الدكتور ناصر الدين سعيدوني عن طبيعة تنظيم الزوايا ببلاد القبائل بالجزائر فيقول:
"وتشتمل الزوايا بالبلاد الجزائرية، وخاصة بمنطقة القبائل على مجموعة بناءات تتوزع على المرافق الضرورية للزاوية، فهناك مكان مخصص لحفظ القرآن وتلاوته (قراءة الحزب)، وأداء فريضة الصلاة، وهو بمثابة مسجد الزاوية، ومكان آخر للدراسة يعرف عادة بالعمرة، وقد تقتصر الزاوية عليه فتعرف بالعمرة، وبالإضافة إلى دار للضيافة، وغرف لإيواء الطلبة، وبناء لاستقبال الزوار والضيوف، وملحق لإقامة أهل الزاوية، أو لسكن القائمين عليها، وغير بعيد عنهم المصالح الضرورية من مطبخ وإسطبل، ومخازن لحفظ المؤونة، ورحى لطحن الحب، ومعصرة لعصر الزيت وغيرها
إن الزاوية بهذه المواصفات أصبحت بمثابة مجمع متعدد الخدمات، فهي المسجد، والمدرسة، والملجأ، والمأوى، والمزار، الأمر الذي جعلها محور الحياة الروحية، والثقافية وحتى الاجتماعية في الوسط الريفي ببلاد القبائل" (١) .
_________
(١) مؤسسة الزوايا بالجزائر العثمانية، ص ٤٩.٤٨.
1 / 10
القرآن الكريم هو الأساس الذي يقوم عليه التعليم بالزوايا في كل حواضر الإسلام وقراه، والكثير من العلوم والمعارف الدينية (١) .
هذه هي الصورة العامة للزوايا في معظم البلاد الإسلامية، وبخاصة في عهد الخلافة العثمانية، وهو ما لاحظه الباحثون من خلال استقراء النشاط العلمي للزوايا في عهد العثمانيين فقد "كثر عدد الزوايا في القيروان خلال العصر العثماني، ولقي بناؤها تشجيعًا من الحكام، بل إن بعضهم ساهم في إنشاء العديد منها، ووقفوا عليها العقارات الكثيرة، وأعفوا بعضها من أداء العشر، وخصصوا لها جرايات دورية" (٢) .
كان للحرمين الشريفين منها نصيب كبير، ومما يؤكد هذا أن العلامة المحدث الشيخ محمد حسين العجيمي المكي المتوفى عام ١١١٣هـ خصَّها بمؤلف مستقل بعنوان (خبايا الزوايا)،وكان لها وظائفها التعليمية والدينية، والأوقاف الجليلة التي تسد احتياجاتها، وتغني القائمين عليها ليتفرغوا للوظائف التعليمية والدينية المنوطة بهم.
_________
(١) انظر: سعيدوني، ناصر الدين محمد، (مؤسسة الزوايا في الجزائر العثمانية، بحوث المؤتمر الدولي حول العلم والمعرفة في العالم العثماني)، ص٦٩.
(٢) عثمان، نجوى، (الزوايا والمدارس العثمانية بالقيروان)، بحوث المؤتمر الدولي حول العلم والمعرفة في العالم العثماني، (إستانبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، سنة ٢٠٠٠م)، ص١٣٧.
خامسًا: الكتاتيب: عادة ما تكون في زوايا وأماكن خاصة، وتلحق أحيانًا ببعض المساجد، ولهذا النوع من المؤسسات التعليمية أثر كبير في تعليم القرآن ونشره في القرى والمدن، وبين طبقات المجتمع المختلفة، يعود لها الفضل الكبير في تعليم
خامسًا: الكتاتيب: عادة ما تكون في زوايا وأماكن خاصة، وتلحق أحيانًا ببعض المساجد، ولهذا النوع من المؤسسات التعليمية أثر كبير في تعليم القرآن ونشره في القرى والمدن، وبين طبقات المجتمع المختلفة، يعود لها الفضل الكبير في تعليم
1 / 11
الصبيان، وتحفيظهم للقرآن الكريم في البلاد والقرون الإسلامية كافة.
لها أثر مشهود، ودور كبير مهم لا ينكر في تعليم الصبيان، وتلقينهم القرآن، فهي أول ما يستقبل الصبي المسلم، وهي أول ما تنقش على صفحات صدره البيضاء النقية آيات الذكر الحكيم التي تظل راسخة في ذاكرته مدى الحياة.
سادسًا: تأسيس المدارس القرآنية في الأمصار الإسلامية: تطورت مظاهر الاهتمام بالقرآن الكريم مع تطور الحياة في المجتمع الإسلامي، فبدأت تستقل بدورها، وأصبح للوقف الإسلامي أثر كبير في نشاطها، والقيام بما ينبغي لاستمرار أداء إرسالها، وإغناء القائمين عليها بما يكفل لهم حياة معيشية رخية، وتطوير مرافقها، وتشجيع الطلاب المنتسبين إليها. وقد أسهم في تأسيس هذه المدارس، ورصد الأوقاف عليها طبقات المجتمع كافة من الملوك، والسلاطين، والأمراء، والأثرياء، ومتوسطي الحال على مدى التاريخ الإسلامي حتى وقتنا الحاضر، فكان من ثمار هذا الاهتمام والإسهام إنشاء مدارس لتدريس العلوم الإسلامية، وفي مقدمتها القرآن وعلومه، وأنشئت دور ومدارس للقرآن بخصوصه. يؤرخ لهذا الظاهرة العلمية الحضارية العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي بن عبد القادر العبيدي المقريزي قائلًا: "والمدارس مما حدث في الإسلام، ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين، وإنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سني الهجرة، وأول من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور، فبُنيت بها
سادسًا: تأسيس المدارس القرآنية في الأمصار الإسلامية: تطورت مظاهر الاهتمام بالقرآن الكريم مع تطور الحياة في المجتمع الإسلامي، فبدأت تستقل بدورها، وأصبح للوقف الإسلامي أثر كبير في نشاطها، والقيام بما ينبغي لاستمرار أداء إرسالها، وإغناء القائمين عليها بما يكفل لهم حياة معيشية رخية، وتطوير مرافقها، وتشجيع الطلاب المنتسبين إليها. وقد أسهم في تأسيس هذه المدارس، ورصد الأوقاف عليها طبقات المجتمع كافة من الملوك، والسلاطين، والأمراء، والأثرياء، ومتوسطي الحال على مدى التاريخ الإسلامي حتى وقتنا الحاضر، فكان من ثمار هذا الاهتمام والإسهام إنشاء مدارس لتدريس العلوم الإسلامية، وفي مقدمتها القرآن وعلومه، وأنشئت دور ومدارس للقرآن بخصوصه. يؤرخ لهذا الظاهرة العلمية الحضارية العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي بن عبد القادر العبيدي المقريزي قائلًا: "والمدارس مما حدث في الإسلام، ولم تكن تعرف في زمن الصحابة ولا التابعين، وإنما حدث عملها بعد الأربعمائة من سني الهجرة، وأول من حفظ عنه أنه بنى مدرسة في الإسلام أهل نيسابور، فبُنيت بها
1 / 12
مدرسة البيهقية
وأشهر ما بني في القديم المدرسة النظامية ببغداد، لأنها أول مدرسة قرر بها للفقهاء معاليم، وهي منسوبة إلى الوزير نظام الملك أبي علي الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الطوسي وزير ملك شاه بن ألب أرسلان في مدينة بغداد، وشرع في بنائها في سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وفرغت في ذي القعدة سنة تسع وخمسين وأربعمائة" (١) .
فمن ثم انتشرت المدارس في جميع أصقاع العالم الإسلامي متطورة في تخطيطها، وتنظيمها، ومناهجها حتى عصرنا الحاضر.
_________
(١) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، الطبعة الأولى، وضع حواشيه خليل المنصور، (بيروت: دار الكتب العلمية، سنة ١٤١٨هـ/١٩٩٨م)، ج٤، ص ١٩٩.
سابعًا: تأسيس جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في العصر الحديث: تطور الاهتمام بالقرآن الكريم والعناية به في العصر الحديث من النشاط المحدود الذي يقتصر على تأسيس مدرسة محدودة المكان، محدودة الإمكانات والموارد، محدودة الطلاب والأساتذة، إلى نشاط أوسع من حيث أماكن التدريس، وبإمكانات مادية، ووقفية من مصادر متعددة، وأعداد متزايدة للطلاب، والمدرسين، والمشرفين، وبأجهزة إدارية كاملة تعليمية، ومحاسبية، وإشراف، لها أنظمتها وقوانينها، وبأهداف وطموحات غير مسبوقة في مناهج المدارس القرآنية القديمة. هذا التطور في الكم والكيف هو الصورة السائدة التي يحظى بها القرآن
سابعًا: تأسيس جمعيات تحفيظ القرآن الكريم في العصر الحديث: تطور الاهتمام بالقرآن الكريم والعناية به في العصر الحديث من النشاط المحدود الذي يقتصر على تأسيس مدرسة محدودة المكان، محدودة الإمكانات والموارد، محدودة الطلاب والأساتذة، إلى نشاط أوسع من حيث أماكن التدريس، وبإمكانات مادية، ووقفية من مصادر متعددة، وأعداد متزايدة للطلاب، والمدرسين، والمشرفين، وبأجهزة إدارية كاملة تعليمية، ومحاسبية، وإشراف، لها أنظمتها وقوانينها، وبأهداف وطموحات غير مسبوقة في مناهج المدارس القرآنية القديمة. هذا التطور في الكم والكيف هو الصورة السائدة التي يحظى بها القرآن
1 / 13
الكريم في المملكة العربية السعودية التي انبثقت فكرتها من مكة المكرمة عام ١٣٨٢هـ، وإخاله كذلك في جميع البلاد الإسلامية في الوقت الحاضر. "إن فكرة إنشاء الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمكة المكرمة كانت في شهر شعبان سنة ١٣٨٢هـ عندما وصل من الباكستان فضيلة الشيخ محمد يوسف سيتي الباكستاني ﵀، حيث طرح هذه الفكرة على أعيان مكة المكرمة وعلمائها فلقيت منهم ارتياحًا واستحسانًا ثم رفعوا هذه الفكرة إلى المسؤولين في هذه البلاد المباركة، فشجعوا العمل النبيل، والمشروع الحسن، وكان على رأسهم معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ وزير المعارف آنذاك ﵀، ومعالي الشيخ محمد سرور الصبان، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي آنذاك ﵀، ومعالي الشيخ محمد سيتي الذي كان يتحمل ثلث رواتب المدرسين بالجمعية.
وكان من أعضائها وممن تولى رئاستها بعد وفاة الشيخ محمد يوسف سيتي الباكستاني ﵀ عدد من علماء مكة المكرمة الذين بذلوا جهودًا طيبة في العناية بالقرآن الكريم" (١)، وللجمعية عدة فروع: فرع محافظة جدة، فرع محافظة الطائف، فرع وادي ليه، فرع محافظة رنية، فرع محافظة تربة. تتابعت بعد هذا جمعيات تحفيظ القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية متبعة في هذا المنهج السوي الذي خطته لنفسها الجمعية الأولى الرائدة جمعية تحفيظ القرآن الكريم في مكة المكرمة، وهي في المناطق التي سميت بها كالتالي:
أولًا: الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة المدينة المنورة، وتأسست
_________
(١) التقرير السنوي التاسع والعشرين من العام ١٤١٩هـ للجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمكة المكرمة، ص ٨-٩.
1 / 14
عام ١٣٨٣هـ ويتبع الجمعية فرعان أحدهما في العلا، والآخر في محافظة ينبع.
ثانيًا: الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة الرياض، أسست عام ١٣٨٦هـ، ولهذه الجمعية فرعان:
١- فرع محافظة المجمعة.
٢- فرع تمير وتوابعها.
ثالثًا: الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة القصيم.
رابعًا: الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة عسير.
خامسًا: الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بالمنطقة الشرقية.
سادسًا: الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة تبوك.
سابعًا: الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة حائل.
ثامنًا: الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بمنطقة الحدود الشمالية.
شملت نشاطات هذه الجمعيات الاهتمام بالبنين والبنات، سواء في بنايات مدرسية خاصة بالجمعيات، أو في المساجد بعد صلاة العصر بعد خلو المسجد من المصلين (١)، معتمدة في تمويل نفقاتها ونشاطاتها على الأوقاف والتبرعات من ولاة الأمر والمواطنين.
_________
(١) انظر: الكتاب الوثائقي (جهود المملكة العربية السعودية في الاعتناء بالقرآن الكريم) الطبعة الأولى إعداد لجنة برنامج تحفيظ القرآن الكريم بهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، إشراف عبد الله بن علي بصفر (جدة: الشركة الخليجية للطباعة والتغليف، عام ١٤١٩هـ/١٩٩٩م) ص٩٩-١٠٥
1 / 15
الفصل الثاني: مشروعية الوقف خدمة للقرآن الكريم ومقاصد الواقفين
مدخل
...
الفصل الثاني:
مشروعية الوقف خدمة للقرآن الكريم
ومقاصد الواقفين (١)
يعد الوقف الخيري والأهلي من الصدقة الجارية التي يستمر أجر صاحبها حيًا وميتًا، بل في أوليات ما حثّ النبي ﷺ عليه في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ﵁: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم، وأصحاب السنن.
يعظم الأجر والثواب بعظم المقصود وإذاعته ونشره، ويتضاعف الأجر على قدر من ينتفع به، إن تعليم أبناء المسلمين لأمور الدين، وفي مقدمة ذلك القرآن الكريم من أعظم المقاصد الشرعية، بل هو أعظمها، وتعليمه للصغار يطفئ غضب الرب ﷿ وعلا.
يقول العلامة الفقيه أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني ﵀ في شأن تعليم الأطفال، وترسيخ المعاني الفاضلة وأثرها في نفوسهم بدءًا بالقرآن الكريم العظيم: "اعلم أن خير القلوب أوعاها للخير، وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه، وأوله ما عُني به الناصحون، ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين، ليرسخ فيها، وتنبيههم على معالم الديانة، وحدود الشريعة ليراضوا عليها، وما عليه أن تعتقده من الدين قلوبهم،
_________
(١) انظر أدلة مشروعية الوقف في البحوث المقدمة لندوة المكتبات الوقفية (الوقف مفهومه ومقاصده) لعبد الوهاب أبو سليمان، المنشور ضمن بحوث الندوة بعناية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بالمملكة العربية السعودية، عام ١٤٢٠هــ.
1 / 16
وتعمل به جوارحهم، فإنه روي أن تعليم الصغار لكتاب الله يطفئ غضب الرب، وأن تعليم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر" (١) .
لتعليم الصغار العلمَ ثواب، ولتعليمهم القرآن مضاعفة الثواب بقدر الحروف المقروءة منه، فقد روي عنه ﷺ قوله: " اتلوا هذا القرآن فإن الله يأجركم بالحرف منه عشر حسنات، أما إني لا أقول (ألم) حرف، ولكن الألف حرف، واللام حرف، والميم حرف" (٢) . وغير هذا من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي فيها فضل العناية بالقرآن الكريم وقد ظلَّ هذا الحافز الأكبر للمسلمين في غابر الزمان، وحاضره، ومستقبله ليصبح الإنفاق على خدمة القرآن أعظم الأعمال أجرًا، وتقربًا إلى المولى جل وعلا.
إن التاريخ الإسلامي يحتفظ بصفحات مشرقة من سخاء الخلفاء، والملوك، والسلاطين، وأثرياء المسلمين بما رصدوه من الأموال والعقارات على التعليم بعامة، وعلى تعليم القرآن ونشره بخاصة فـ "منه يتشعب علم الأولين والآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر الأحمر أنهارها، وجبولها..." (٣) .
فهو الأحق بالعناية والاهتمام، وأجدر أن يسخو الموسرون بأموالهم لتعليمه، ونشره بين المسلمين، خدمة له، وإذاعة لهديه وفضائله، ليستقيم أمر الأمة، ويعلو شأنها بين الأمم، هديه سبيل إسعادهم في الدنيا والآخرة، هم بهذا يحققون قول الله تعالى ﴿إنا نحن نَزَّلنا الذكر، وإنا له لحافظون﴾ .
_________
(١) الرسالة مع حاشية العلامة العدوي على شرح أبي الحسن، (مصر: مطبعة الاستقامة، عام ١٣٦٩هـ)، ج١، ص٢٩.
(٢) ابن عطية، أبو محمد عبد الحق، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، الطبعة الأولى، تحقيق المجلس العلمي، بفاس (المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية سنة ١٣٩٥هـ/١٩٧٥م)،ج١،ص٧.
(٣) الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، جواهر القرآن ودرره، الطبعة الأولى، (بيروت: درا الكتب العلمية (١٤٠٩هـ/١٩٨٨م)، ص١٠.
1 / 17
مقاصد الواقفين على القرآن الكريم
أولا: الوقف على المدارس القرآنية
...
مقاصد الواقفين على القرآن الكريم
أدرك المسلمون في وقت مبكر من تاريخهم أهمية الأوقاف لاستمرار أعمال البر وديمومتها، خصوصًا في المرافق التعليمية والدينية كالمدارس، والمساجد والاجتماعية كالملاجئ والمستشفيات.
هذه الأوقاف على تلك المرافق تكفل لها الاستمرار تبعًا لرغبات الواقفين ومقاصدهم المشروعة، يقول الأستاذ محمد بن عبد العزيز بن عبد الله في دراسته القيمة عن (الوقف في الفكر الإسلامي) بأنه: "أهم مورد مالي رصد لحياة المسجد ليستمر بكل ما يتعلق بالشؤون الإسلامية، ودور تحفيظ القرآن الكريم. فهذه كمؤسسة (الوقف) كانت وما تزال أهم مورد لشؤون الدين، وللتعليم الإسلامي على الإطلاق، وأكثرها دخلًا وإدرارًا، وإليها يرجع الفضل في بقائه واستمراره أحقابًا وقرونًا، وفي انتظام الحياة العلمية والدراسية في جامعات الإسلام وكلياته" (١) ومؤسساته.
يثبت الاستقراء التاريخي أن مقاصد الواقفين على خدمة القرآن الكريم متنوعة ومتعددة، لا تخلو أن تكون واحدًا من المقاصد التالية:
أولًا: الوقف على المدارس القرآنية.
ثانيًا: الوقف على القراء.
ثالثًا: الوقف على مدارس تضم إلى تعليم القرآن تدريس الحديث النبوي الشريف أو المذاهب الفقهية، أو بعض العلوم الأخرى.
_________
(١) الوقف في الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى، (المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سنة ١٤١٦/١٩٩٦)، ج٢، ص٥٧.
1 / 18
رابعًا: خدمة القرآن تلاوة، وتأسيس مرافق اجتماعية.
خامسًا: الوقف على قراءة القرآن لهبة الثواب للآخرين أحياء، أو أمواتًا. (قراءة الربعات بالمسجد الحرام)، الوقف على قراءة القرآن على المقابر والحكم الشرعي في هذا.
هذا معظم ما كان شائعًا من الأوقاف في خدمة القرآن الكريم في جميع أقطار البلاد الإسلامية.
أما وقد تغيرت الأمور في العصر الحديث فأصبحت للعصر تنظيماته وخططه التي تتباين عما كانت عليه في الماضي، فإن الاهتمام بالأوقاف في خدمة القرآن الكريم أخذ اتجاهًا آخر في معظم البلاد الإسلامية، وهو طريق التنظيم، والتخطيط، والعمل الجماعي، وقد توجه الغُيُر من الأمة الإسلامية نحو هذا فنتج عنه:
سادسًا: إنشاء الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم.
وفيما يلي نماذج تفصيلية عن كل مقصد من هذه المقاصد.
أولًا: الوقف على المدارس القرآنية
الهدف الأساس من إنشاء المدارس القرآنية هو تعليم أبناء المسلمين للقرآن الكريم حفظًا، وتلاوة وتجويدًا، وفهمًا لمعانيه. يكاد يكون هذا المقصد الوحيد والأمل المنشود من قبل المؤسسين لهذه المدارس طمعًا في الأجر والثواب من الله عزوجل.
انتشر هذا النوع من المدارس المتخصصة بالقرآن الكريم، وأسهم في تأسيسها القادرون من أبناء المجتمع الإسلامي، كل على قدر استطاعته
1 / 19
وإمكاناته، وكان للعواصم العلمية الإسلامية: مكة، والمدينة، ودمشق، وبغداد، وقرطبة، والقاهرة، وفاس، وتونس وغيرها الحظ الأوفر من هذه المدارس، وقد خصصت لها أوقاف من العقارات والضياع والقرى بما يغني القائمين عليها، والدارسين فيها عن الحاجة، والانشغال بأمور المعاش.
في صدر الحديث عن هذا الجانب بالنسبة للحرمين الشريفين مكة والمدينة يتملك المرء الإعجاب والتقدير لعظم الأموال الثابتة والمنقولة والموقوفة المخصصة لهذه المدارس في بلاد الحرمين الشريفين، وخارجها في البلاد الإسلامية الأخرى.
يقول العلامة المؤرخ الأستاذ محمد عمر رفيع المكي، وشهادته في هذا الصدد عن رؤية ومشاهدة قائلًا: "ولنعد الآن نذكر ما وفق الله إليه المسلمين وملوكهم، وأولي الثراء منهم من بناء المدارس، والمساكن لطلبة العلم، والمجاورين بمكة، بل ولمن يَفِدُ من ممالكهم ليسكنوها زمن أدائهم للفريضة مجانًا، ولو أردنا استيعاب ذلك كله لطال بنا القول، ولكن سأذكر بعض ما شهدته قائمًا من دور شيدت لطلبة العلم، ونزلٍ للحجاج، والمجاورين، وغير ذلك من أعمال البر والرعاية، وإني لأعتقد جازمًا أن جميع ما كان ملتفًا حول المسجد من مبانٍ ودور كانت كلها أو جلها من الأوقاف التي خصصت للعناية بالعلم وطلبته" (١) .
وهذه الصورة من صور الاهتمام بالمدارس القرآنية في مكة المكرمة تماثلها تمامًا بقية البلاد الإسلامية، ويمكن الاستشهاد على صحة هذا بما كتبه
(١) مكة المكرمة في القرن الرابع عشر الهجري، الطبعة الأولى، (مكة المكرمة: نادي مكة الثقافي، ١٤٠٤هـ/١٩٨٤م)، ص٩٩.
1 / 20