Care of Muslims for the Arabic Language in Service of the Holy Quran - Suleiman bin Ibrahim bin Muhammad Al-Ayed
عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن الكريم - سليمان بن إبراهيم بن محمد العايد
خپرندوی
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
ژانرونه
عناية المسلمين باللغة العربية خدمة للقرآن الكريم
تأليف: أ. د. سليمان إبراهيم العايد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد، فتلقيت دعوة كريمة، من مقامٍ كريم، لغاية نبيلة، ومقصدٍ جليل، للمشاركة في ندوةٍ مُحِضَتْ للوحي الرَّبَّانيّ، وما استنبته من علومٍ، وأحاط به من فنون، وتُعرِّفُ الجاهلَ، وتذكِّر النَّاسيَ جهودًا بُذِلَتْ في خدمة القرآن، وإن كان ذلك غير خافٍ على من أنزل القرآن، ولا غائبٍ عمّن لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، بغرضِ إبراز عملٍ رائد، وجهد ظاهر، الحديثُ عنه يشحذ الهمم، ويحفز العاملين، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وقد نصّت الدعوة على موضوع المشاركة، فلم يكن لي خيار فيه، وحدّد زمن تقديمه، كان زمنًا تزاحمت عليَّ فيه الأعمال والأشغال، وكُلُّ يقول: أنا الأولى بالتقديم، وما وقفت عن تمييل النظر، وسبر غور الموضوع، حتّى شرعْتُ فيه، ولمّا تتَضح لي فكرته، قد التبست معالمه، وخفيت منائره، وعَسُر مسلكه، والتوى دَرْبُه. وهو عملٌ - في نظري - لا ينهض به بحث في ندوة، ولا تأتي عليه مقالةٌ في مجلّة؛ لاتّساع مجاله، وعمق موضوعه، ومكانتِه من نفسِ كُلِّ مسلمٍ، غير أنّ كرم الدعوة ومقامها يَحتِم عليّ أن أفعل شيئًا ما، أشارك به حملة القرآن وخدمته هَمَّهم، لعلِّي أحشر معهم، وهم قومٌ لا يشقى بهم جليسهم، والمرء يحشر مع جليسه ومع من أحبَّ، وأنال شرفًا تسمو إليه هِمّةُ المسلم.
فشرعت في العمل، وليس من سَدَمي أن أقدّم فيه إحصاءً مسرودًا للدواوين المدوّنة، أو المؤلّفات المؤلّفة، أو المصنّفات المصنّفة، أو المقالات
1 / 1
المنشورة، أو التقارير المحفوظة، ولا يَسْمو العمل ليؤرِّخ لعلمٍ من العلوم، ويستوعب الحديثَ عن نشأته، وتاريخه، ومصنفاته، وأصوله وفروعه. كما أنه ليس من هَمِّه أن يستغرق الحديث في فكرةٍ ما، استغراقًا لا يدع لغيره مقالًا، أو يُدّعى فيه الإحاطة والشمول.
بل هو محاولة لبيان تلازم علوم القرآن وعلوم العربيّة، وتآخيهما؛ حتّى إنّه لَيَعْسُرُ فَصْلُ أحدِهما عن الآخر، في النشأة والتاريخ، والتكوين والتأليف، والدوافع والمقاصد، حتّى صار بينهما تزاوج مكين، وتمازج وثيق متين، بحيث لا يستغني طالب علمٍ عن العلم الآخر، ولا يُؤْتي شقٌّ ثمرته - على الوجه المرضيِّ - بدون الشِّقِّ الآخر؛ لافتقار كُلٍّ إلى شِقِّه، وتعذُّر استغنائه عنه. كما توحي بذلك نشأتهما وتاريخهما، وتأكيد أهل العلم ذلك، من خلال كلماتهم، ومؤلفاتهم، وتجاربهم العملية، في الحياة العلمية.
لم يمرّ بالعربيّة حدثُّ أعظم من الإسلام، ونزول القرآن على محمّد ﷺ، فقد صيَّر هذا الحدث العربيَّةَ لغة مرغوبًا فيها، لا لنفوذها السياسيِّ، ولا لسبقها الحضاريّ، وإنّما لمكانتها الدينيّة؛ إذ تسامى أهل البلاد المفتوحة إلى درس العربيّة، والعناية بها، من أجل تحقيق العبادة، ومن أجل تلاوة القرآن، ومن أجل فهم النصوص الشرعية، فكان من جرَّاء ذلك نشأة علوم العربية من نحو وصرف، ولغة ومعجم، وأدب وبلاغة، كُلّ ذلك وُجِدَ ليقومَ عليه درسٌ للعربيّة قويّ.
وصار هذا الأمر في حسِّ المسلم عقيدةً وواجبًا شرعيًّا، لا يختلف في ذلك من لغته العربيّة، ومن لغته غير العربيّة، وصارتْ لغة القرآن وما داناها من لغةٍ لغةً وهدفًا يتسامى إليه أهل الإسلام، وتَشْرَئِبُّ إليه أعناقهم، وتتطاول إليه
1 / 2
هاماتهم، وعدوا القرآن نموذجًا أعلى للبيان العربيّ، فأقبلوا عليه يبحثون عن وجوه بيانه، وأسرار إعجازه، ممّا كان سببًا في نشأة علوم العربيّة.
إنّه لولا القرآن، ولولا الإسلام لم يكن هناك عربيّةٌ كما نرى، أو لبقيَتْ العربيَّةُ لغة فئةٍ معزولةٍ عن العالم، تعيش في صحرائها، يزهد فيها العالم، ويرغب عنها إلى غيرها، غير أنَّ الإسلام نقل العربيّة إلى بُؤْرة الاهتمام العالميّ، وجعل لها الصدارة، اهتمامًا، وتعلّمًا، يطلبها العربيُّ وغَيْره، ويغار عليها كل مسلم، ويتمنّى أن يتقنها كُلّ مُصَلٍّ، ذلك أنّها تحلّ في قلبِ كلّ مسلم في أعلى مكانٍ منه، وهي أجلّ وأكبر لديه من كل لسانٍ، وكل لغة.
دخل الناس في الإسلام، وانقادوا له راغبين أو خاضعين، فتعلّموا لسانه، ورأوا أنه لا يتمُّ لهم دينٌ إلاّ بلغته، فبادروا إلى خدمتها، والعنايةَ بها، كما بادروا إلى حفظ القرآن والسُّنَّة، ودرس التفسير والحديث، ومعرفة أصول الدين والفقه، بل جعلوا اللسان العربيّ بوّابة إلى هذه العلوم،
لا يولج إليها إلاّ به، بل نسي كثيرٌ أن له لغةً غير العربيّة، وانصرف فكره إليها، حتّى إنّ بعضهم ما كان يطيب له أن يذكر لغته الأولى وقد أكرمه الله باللسان العربي، فضلًا عن أن يقارن تلك اللغة بلسانه الجديد.
وفرغت فئاتٌ من المسلمين من غير العرب، من الموالي لخدمة اللسان العربيّ في مستوياته المختلفة: الصوتيّ، والصرفي، والتركيبي، والدلاليّ، لم يقتصر أمره على ما ورد به استعمال القرآن أو السُّنَّة، بل جاوزه إلى جمع اللغة، وإحصاء شاردها ونادرها، وحصر غريبها وشاذّها، في جهدٍ لم يتحقّق للغةِ من اللُّغاتِ، وعملٍ لم يحظ به لسانٌ من الأَلْسِنةِ، حتّى رأينا من مصنّفات العربية الشيء العجاب، ألّفه أو اكتتبه قومٌ ليسوا من أهلها نسبًا، ولكنهم منهم ولاءً وحُبًّا.
1 / 3
أقبلت الأمّة على كتاب ربّها، وأكبّت عليه حفظًا، ودرسًا، وفهمًا لمعانيه، وتقيُّدًا بأحكامه، وميزًا لألفاظه ومبانيه، ومعرفة لطرائق رسمه، وإسناد قراءاته، وكان لعلماء العربيّة اليدُ الطولى في خدمة القرآن، في ميادين متنوّعة، في رسمه وضبطه، ومعانيه وقراءاته، وأبنيته وألفاظه، وبلاغته وإعجازه، بل لا أبالِغُ إذا قلتُ: إنّ علوم العربية لولا القرآن ما كانت، ولا كان للعربية شأن، ولبقيت محصورةً في صحرائها القاحلة، وجزيرتها العازبة عن حياة الحضارة والمدنيّة، ولبقي أهلها على شائهم ونَعَمِهم، يتتبعون من أجلها مواقع القطر، ومنازِلَ الغيث، ويعنون بما يرتبط بهذه الحياة البسيطة، من علمٍ بالأنواء والمنازل، والأفلاك والأبراج، والريح وأوقات هبوبها، لا يجوزون هذا إلاّ إلى معرفة أنسابهم، والفخر بأحسابهم، والتمدّح بفعالهم، وإلا قول الشعر، وارتجال الخطب، وحفظ ما استجادوا من ذلك، وإلاّ نُتفًا من حِكَمٍ وأمثالٍ، تهديهم إليها تجاربهم في الحياة، لا هَمَّ لهم وراء ذلك، ليلٌ ينجلي، ونهارٌ يتجلَّى:
"ليلٌ يكرُّ عليهم ونهارُ"
في دورةٍ فلكيّة مكرورةٍ، فسبحان من غيَّر هذه الأُمَّة لتكون كما قال ابن فارسٍ: " كانت العربُ في جاهليتها على إرثٍ من إرثِ آبائهم في لغاتهم، وآدابهم، ونسائكهم، وقرابينهم، فلمّا جاء الله (جلَّ ثناؤه) بالإسلام حالتْ أحوالٌ، ونُسِخَتْ دياناتٌ، وأُبْطِلت أمورٌ، ونُقِلَتْ من اللُّغة ألفاظٌ عن مواضع إلى مواضع أخر، بِزياداتٍ زيدتْ، وشرائع شُرِعَتْ، وشرائط شُرِطت، فعفَّى الآخِرُ الأوّلَ، وشُغِل القوم - بعد المغاورات والتجاراتِ، وتطلّب الأرباح، والكدح للمعاشِ في رحلة الشتاء والصّيف، وبعد الإغرام بالصيد
1 / 4
والمعاقرة والمياسرة - بتلاوة الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد، وبالتفقُّه في دينِ الله ﷿ وحفظ سُنَنِ رسولِ الله ﷺ مع اجتهادهم في مجاهدة أعداء الإسلام.
فصار الذي نشأ عليه آباؤهم، ونشؤوا هم عليه كأن لم يكن، وحتّى تكلّموا في دقائقِ الفقه، وغوامض أبواب المواريث وغيرها من علم الشريعة، وتأويل الوحي بما دُوّن وحفظ. فسبحان من نقل أولئك في الزمن القريب بتوفيقه عمّا ألفوه، ونشؤوا عليه، وغُذوا به، إلى مثل هذا الذي ذكرناه" (١) .
هذا فِعْل الإسلام بأمَّةِ العرب، أمّا غيرهم فهم كما قال أبو حاتم:
"أقبلتِ الأمم كُلّها إلى العربيّة يتعلّمونها رغبةً فيها، وحرصًا عليها، ومحبَّة لها وفضلًا أبانه الله فيها للناس، ليبيِّن لهم فضلَ محمّد ﷺ على سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وتثبُت نبوَّته عندهم، وتتأكّد الحُجَّة عليهم، وليظهر دين الإسلام على كُلِّ دينٍ؛ تصديقًا لقولِه ﷿ حيثُ يقولُ: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: ٣٣] .
ولو ذهبنا نَصِفُ اللُّغاتِ كُلَّها عجزنا عن تناول ما لم يُعْطَه أَحَدٌ قبلنا، ولكنّا نذكر من ذلك على قدر المعرفة، ومقدار الطاقةِ، ونتكلَّم بما علمنا منه محبَّةً لإيرادِ فَضْلِ لغة العرب؛ إذْ كان فيه إظهار فضيلة الإسلام على سائر الملل، وإبراز فضل محمد ﷺ على جميع الأنبياءِ والرسل عليهم الصلاة والسلام، وإن كان ذلك ظاهرًا بنعمة الله، بارزًا بحمد الله؛ لأن دين الإسلام عربيّ، والقرآن عربيّ، وبيان الشرائع، والأحكام،
_________
(١) أبو الحسن أحمد بن فارس (ت ٣٩٥ هـ) الصاحبي/ تحقيق السيد أحمد صقر / الناشر عيسى البابي الحلبيّ وشركاه / القاهرة / ١٩٧٧ م. ص ٧٨ - ٨٣.
1 / 5
والفرائض، والسنن بالعربية" (١) .
لولا الإسلام، والقرآن لم تحظَ اللُّغةُ العربيَّةُ بما حظيَتْ به من خدمةٍ، بتدوين علومها، وتبويب مسائلها، وتتابع أجيالٍ فأجيالٍ على النظر فيها جمعًا، وتأليفًا، وتقعيدًا، وبحثًا عن أوجه جمالها، وإعجاز قرآنها، وتمجيدًا لها وتعظيمًا، ليس من أبنائها ذوي الأعراق العربيّة، وإنما من أبنائها ذوي الأصول الأعجمية، ممّن كانت لغتهم الأُمّ أو الأولى غير العربيّة؛ إذ من المعروف أن عددًا غير قليل من أبناء الشعوبِ الإسلامية انتحلوا العربيّة، فصارت لغتهم ولسانهم، وتناسوا بل هجروا لغتهم الأُمَّ، وكتبوا في تمجيد العربية، وبيان فضلها، والتعصُّب لها ما لم يكتبه قلمٌ من صليبةٍ عربيَّةٍ، ولنا أن نمثِّل في هذا السياقِ بجمهرةٍ من علماء العربية وغيرهم من مثل أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت ٢٥٥هـ) وأبي حاتم الرازي (ت ٣٢٢ هـ) وأبي علي الفارسي (ت ٣٧٧هـ) وأحمد بن فارسٍ (ت ٣٩٥) وأبي حيَّان التوحيدي (ت ٤١٤هـ) . وكانوا جميعًا من أعراقٍ غير عربيّة، ولم تمنعهم تلك الأعراق عن الإشادة بالعربيّة تمجيدًا لها وتعظيمًا، وتفضيلًا وتقديمًا، ليس لهم دافع إلاّ أنهم مسلمون، قرؤوا القرآن، ورأوا ما فيه من أوجه البيان، وسر النظم، ودلائل الإعجاز، ورأوا أن لُغةً اختيرتْ لهذا الكتاب لم يكن اختيارها عبثًا؛ لأنّ الاختيار من رَبِّ العالمين، ذي الخلق والأمر، اختص بالرحمة وقسمتها، كل شيءٍ عنده بحكمةٍ ومقدار، يخلُقُ ما يشاءُ ويختار ما يشاء، له الحكمة البالغة في ذلك.
_________
(١) أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي (ت ٣٢٢ هـ) كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية / تحقيق حسين بن فيض الله الهمداني / مركز الدراسات والبحوث اليمني / ط الأولى / سنة ١٤١٥ هـ - ١٩٩٤ م / ص ٧٥.
1 / 6
وقد حمل نزول القرآن باللغة العربية طائفةً أن يجعلوه دليل فضلها على سائر اللغات، نجد ذلك في مثل قول أبي حاتمٍ الرَّازيّ (ت ٣٢٢هـ):
"فأفضل ألسنة الأمم كلها أربعة: العربية، والعبرانية، والسريانية، والفارسية؛ لأن الله ﷿ أنزل كتبه على أنبياء ﵈ آدم، ونوح، وإبراهيم، ومن بعدهم من أنبياء بني إسرائيل بالسريانية والعبرانية، وأنزل القرآن على محمد ﷺ بالعربية، وذكر أن المجوس كان لهم نبيٌّ وكتابٌ، وأنّ كتابه بالفارسيّة، هذا ما اتّفق عليه أصحاب الشرائع" (١) .
وقد جعل الرّازي العربيّة أفضل اللغات الأربع، وأفصحها، وأكملها، وأتمّها، وأعذبها، وأبينها، وجعل حرص النّاس على تعلّم العربية علامة فضلها، ونقل الكتب السماوية المنزلة بغير العربية إلى العربية، ونقل حكمة العجم إليها، وما في كتب الفلسفة، والطب، والنجوم، والهندسة، والحساب من اليونانية والهندية إلى العربيّة وجهًا آخر لفضلها، في حين لم يرغب أهل القرآنِ والكتاب العربيّ في نقله إلى شيءٍ من اللُّغات، ولا قدر أحدٌ من الأمم أن يترجمه بشيء من الألسنة ... بل تعذَّر عليهم لكمال العربيّة، ونقصان غيرها من سائر اللغات (٢) .
وقد قال نحوًا من هذا ابن فارس، بل لعلّه اقتفاه في أن الترجمة الحرفية للقرآن متعذّرة، وأنه لا يمكن إلا أن يحال القرآن إلى عبارةٍ سهلة، تخلو من سمات لغة الأدب، ثم يترجم معناها فيما بعد، ومثل لهذا بمثل قوله: ﴿فَانْبِذْ
_________
(١) أبو حاتم، الزينة ص ٧٣.
(٢) السابق ص ٧٣.
1 / 7
إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنفال: ٥٨]» (١) .
ولابن فارس كلامٌ نحو هذا، ينحو إلى تفضيل العربية على غيرها لنزول القرآن بها، في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها)، وهو كتابٌ ينضح بالتمجيد والتعظيم، وبيان فضل العربيّة على غيرها من اللُّغات، ممّا يعدُّه بعضٌ تعصُّبًا غير مقبول، وهو من وجهة نظرنا عمل عظيم، خاصَّةً إذا علمنا حقيقة البيئة المحيطة بابن فارسٍ، وهي بيئةٌ تدعو لإحياءِ المجد الفارسيّ، وإحياء اللّغة الفارسيّة، حتّى إنّ الفارسية الحديثة كان تأسيسها في عصر ابن فارسٍ، وقد سار على نقيض قومه.
وابتدأ هذا التمجيد بتقرير أنّ العربيّة توقيفٌ من عند ربِّ العالمين، ولم يسم لغةً أخرى بهذه السِّمة، وكأنّه يرى أنّ هذه ميزةٌ انفردت بها العربيّة عن لغات العالم، فكانت العربيّة وحيًا حُفِظ حتّى نزل بها القرآن، فانضمَّ الوحي إلى الوحي، وهذا كأنّه يقول فيه كما أنّ للعرب وأتباعهم دينًا امتاز عن غيره بأنه وحيٌّ مصون، لم تمسَّه يد التغيير، فإنّ للعرب أيضًا لغةً مصونةً مرعيَّةً برعاية الله، صانتها عن التغيير والابتذال، ورقت في مراقي المجد والسُّموّ، يحفظها ربُّها ويهيّؤها، وهي أعلى لغةٍ، لنزول أعلى كتابٍ بها، وأعظم دين، وخاتم الأديان، الإسلام، هذا كلام لا يعسُرُ عليك استنباطه من كلامه. وابن فارسٍ يتوسع في التوقيف، فيرى أن العربيّة توقيف في ألفاظها، وأصواتها، وأبنيتها، وتراكيبها، وأساليب بيانها، بل كتابتها وخطها، وعلومها من إعرابٍ، وعروض (٢)، حتى إنّه عدّ ما ذكره من أصول وقياسٍ توقيفًا (٣) .
_________
(١) انظر، أبو حاتم، الزينة ص ٧٤، وابن فارس، الصاحبي ص ١٦ - ١٧.
(٢) انظر ابن فارس، الصاحبي ص ٦ - ١٥.
(٣) السابق ص ١١٢ - ١١٣.
1 / 8
كما عقد بابًا لبيان أنّ «لغة العرب أفضل اللُّغات وأوسعها»، صدّره بقوله تعالى ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٢-١٩٥] فوصفه (جلّ ثناؤه) بأبلغ ما يوصَفُ به الكلام، وهو البيان (١) .
وهو بيانُّ متميِّزٌ لا يقتصر على مجرَّدِ الإبانةِ، وإنّما يتجاوزُ ذلك إلى قيمٍ كلامية وتعبيريّة، قلّ أن تتوافر في غيرِ العربيّة، ممّا يُعْجِزُ النَّقَلة عن نقل القرآنِ إلى لغاتهم بدرجة بيانه العربي. وهذه سمةٌ ليسَتْ مقصورةً على القرآنِ، بل هي في الكلام العربيِّ كُلِّه، جاهليِّه وإسلاميِّه، لكنّها تجلَّت أكثر في كلام ربِّ العالمين، القرآن المجيد، حتى قال ابن فارسٍ: "إنّ كلام الله (جَلَّ ثناؤه) أعلى وأرفع من أن يضاهى، أو يقابل، أو يعارضَ به كلامٌ، وكيف لا يكون كذلك، وهو كلام العليِّ الأعلى، خالق كُلِّ لغةٍ ولسان، لكنّ الشعراء قد يومئون إيماءً، ويأتون بالكلام الّذي لو أراد مُريدٌ نَقْلَه لاعتاص، وما أمكن إلاّ بمبسوطٍ من القولِ، وكثيرٍ من اللّفظ" (٢) . ثمّ ذكر نماذج من الشعر وكلام العرب (٣) . ثمّ ذكر شيئًا ممّا جعله خصائص للعربية من القلب، وعدم الجمع بين الساكنين، والحذف، واختلاس الحركات، والإضمار، والترادف، ثمّ ختمه بقوله: (فأين لسائر الأمم ما للعرب؟!) (٤) .
ولم يقف به الأمر عند تمجيد العربيّة وتفضيلها، بل جاوز إلى بيان ما اختصّت به العربُ كالإعراب الفارق بين المعاني المتكافئةِ في اللّفظ، وعنايتهم
_________
(١) السابق ص ١٦.
(٢) السابق ص ١٦ - ١٩.
(٣) السابق ص ١٩، ٢٢ - ٢٥.
(٤) السابق ص ٢٠ - ٢١.
1 / 9
بالشعر والعروض. مع حفظ الأنساب، والطهارة، والنزاهة عن الأدناس التي استباحها غيرهم من مخالطة ذوات المحارم (١) .
وقد بلغت العربية - كما يرى ابن فارسٍ - غاية كمالها بعد مجيء الإسلام، وتنزُّل القرآن، فجدّت في العربيّة ألفاظ ومعانٍ، وزالت ألفاظ لزوال معانيها، ونقلت ألفاظٌ عن معانيها إلى معانٍ أخرى، كراهةً لأصل معناها، أو تأدُّبًا، أو اقتفاءً لأمر الشرع، وقد هذَّب الإسلام ألفاظ العربيّة، ووجَّه العربَ لاختيار أسماء أولادهم (٢) .
وقد ارتبطت العربية بالقرآن بأوثق رباط، حتى إنه ليعسر على الدارس الفصل بينهما، قال الرافعي: "إنّ هذه العربية، لغة دينٍ قائم على أصلٍ خالدٍ، هو القرآنُ الكريم، وقد أجمع الأوّلون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلاّ من حَفلَ به من زنديقٍ يتجاهل، أو جاهلٍ يتزندَقُ" (٣) .
والقرآن هو الذي أخرج فصحاء الأدب العربيّ وبلغاءه من أمثال ابن المقفّع، ولولا القرآن والحديث، وكتب السلف وآدابهم لم يخرج أمثاله (٤) .
ويحاول غير المسلمين بوعي، ومرضى القلوب بغير وعيٍ أن يعزلوا المسلمين عن قرآنهم ولُغته، حتّى عاب بعضهم على الرافعي أسلوبه، واقترح عليه ترك الجملة القرآنية، ويعنون بها اللغة العالية، والأسلوب الراقي، الذي يسمو بصاحبه إلى لغة القرآن، وأسلوبه، ومنطق رسول الله صلى الله عليه
_________
(١) السابق ص ٧٦ - ٧٧.
(٢) انظر السابق ص ١٠١ - ١١١.
(٣) مصطفى صادق الرافعي، تحت راية القرآن، دار الكتاب العربيّ، بيروت، ط الثامنة، ١٤٠٣ - ١٩٨٣ م ص ١٨.
(٤) انظر الرافعي، تحت راية القرآن ص ٢٢ - ٢٥.
1 / 10
وسلم وأصحابه، وفصحاء العرب، وأدباء العربيّة، فهذا القرآن كما هو نور لعقولنا، وحياة لقلوبنا هو حلاوة على ألسنتنا، شارة كمالٍ في منطقنا وبياننا:
يديرونني عن سالمٍ وأُديرُهُمْ ... وجلدة بين العين والأنف سالمُ
يخاتلوننا ليصرفونا عن لغة القرآن وبيانه، كما خاتلونا ليصرفونا عن العمل به وتلاوته، حتى صار التجديد في اللغة والبيان عند كثيرٍ هو التخلِّي عن لُغةِ القرآن وبيانه، والانسياق وراء الرطانة الأعجمية، واللُّكنة المعوجّة، والدعوة إلى أن نسوّد الصفحات بأحرفٍ عربيّة، ولغةٍ غير عربيّة، وإن تحلّت بزيِّها ورسِمَتْ برسمها (١) . فالقرآن هو سرُّ هذه اللغة، وحياتها، قال الرافعيُّ: "إنّ هذه العربيَّة بُنيَتْ على أصلٍ سحريّ يجعل شبابها خالدًا عليها، فلا تهرم ولا تموتُ؛ لأنّها أُعِدَّتْ من الأَزَلِ فلكًا دائِرًا للنيِّرين الأرضيين العظيمين: كتاب الله، وسنة رسوله ﷺ، ومن ثَمَّ كانت فيها قُوَّةٌ عجيبةٌ من الاستهواء، كأنّها أخذةُ السِّحر، لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع" (٢) .
وكُلُّ حربٍ يديرها أعداؤنا وعملاؤهم للفصاحة والبلاغة، والبيان العالي لا يُقْصَدُ بها حرب اللسان والبيان، وإنما هي حربٌ لأصلهما من قرآنٍ وحديثٍ، وكلام سلف (٣) .
وكان العلم باللغة شرطًا للإمامة في علوم الدّين، وصفةً على غايةٍ من الأهمّية للأئمّةِ المجتهدين، وكان الشافعي خير مثالٍ لذلك، فقد كان له محلٌّ
_________
(١) ينظر نحوٌ من هذا في كتاب الرافعي، تحت راية القرآن ص ٢٦ - ٣٣.
(٢) الرافعي، تحت راية القرآن ص ٣١.
(٣) انظر كلمة الأمير شكيب أرسلان، ضمن كتاب "تحت راية القرآن" ص ٣٤ - ٤٢.
1 / 11
من اللغة، شهد به أهلها (١)، حتى عدّوا قوله حُجّة فيها، وجعلوه كبطنٍ من بطون العرب (٢) . قال ثعلب: يأخذون على الشافعي، وهو من بيت اللغة، يجب أن يؤخذ عنه (٣) . وقد قرأ عليه الأصمعيُّ، واستفاد منه مع كبر سنِّه، وتقدُّمه في العلم والأدب (٤) .
وأثنى عليه أهل اللغة الأوائل كابن قتيبة (٥) (ت ٢٧٦ هـ) وأبي القاسم الخوافي (٦) (ت ٤٥٠ هـ) وأبي بكر بن دريد (٧) (٣٢١ هـ) وأبي منصور الأزهريّ (ت ٣٧٠ هـ) بقوله "وألفيت أبا عبد الله محمد ابن إدريس الشافعيّ (أنار الله برهانه، ولقّاه رضوانه) أثقبهم بصيرةً، وأبرعهم بيانًا، وأغزرهم علمًا، وأفصحهم لسانًا، وأجزلهم ألفاظًا، وأوسعهم خاطرًا فسمِعْتُ مبسوطَ كتبه، وأمّهاتِ أصوله من بعض مشايخنا، وأقبلْتُ على دراستها دهرًا، وأسنفْتُ بما استكثْرتُه من علم اللغة على تفهُّمها؛ إذْ كانت ألفاظه عربيَّةً محضة، ومن عجمة المولَّدين مصونة" (٨) .
وقد جرتِ الأُمَّة على تفضيل المقدّمين في علم العربية في طلب القراءة،
_________
(١) أبو بكرٍ أحمد بن الحسن البيهقي (ت ٤٥٨ هـ) كتاب الرّد على الانتقاد على الشافعيّ في اللُّغة، تحقيق عبد الكريم بكّار، دار البخاريّ، بريدة،
ص ٣٢.
(٢) البيهقي، الردّ على انتقاد الشافعي ص ٢٩.
(٣) البيهقي، الردّ على انتقاد الشافعي ص ٣٠.
(٤) السابق ص ٣٠.
(٥) السابق ص ٣٠.
(٦) السابق ص ٣١.
(٧) السابق ص ٣١.
(٨) الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد (ت ٣٧٠) / الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي الذي أودعه المُزَنيّ في مختصره/ ط الأولى/ سنة ١٣٩٩ - ١٩٧٩ م، وزارة الأوقاف / الكويت ص ٣٣ - ٣٤. وقد نقله البيهقي في الردّ على انتقادات الشافعي ص ٣٢.
1 / 12
والسنة، وعلوم الشريعة. قال أبو حاتم: "من أراد السُّنَّة والأمر العتيق في الدين وقراءة القرآن، فليكن ميله إلى الحرمين وأهل البصرة، فإنّهم أصحاب اقتصادٍ في القراءة، وعلم بها وبعللها، ومذاهبها، ومجاري كلام العرب ومخارجها، وكان منهم علماء الناس بالعربيّة وكلام العرب، وكان منهم أبو الأسود الدُّؤليّ، وأبو الحارث ابنه، ويحيى بن يعمر العدواني، وعبد الله بن أبي إسحاق من بعد، وأبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، ويونس بن حبيبَ، والخليل بن أحمد، وأبو زيدٍ، وسيبويه، والأخفش، فهؤلاء الأئمةُ في هذا الشأن، ثمّ بنى على ذلك من جاء بعدهم من علماء اللغة، وتفتَّقَتْ لهم الفِطَنُ، وصرف إليه كثير من النّاسِ هممهم، حتّى جعلوا له ديوانًا يفزع إليه، ويعتمد عليه، وجعلوه للغة العرب معيارًا، فإذا وجدوا اللّحن في كلامهم وزنوه به فقوَّموه، لأنَّ اللحنَ يزيل الحرفَ عن معناه، ويحيد به عن سننه، وليس هذا لسائر
الأمم، وهو علمٌ جسيم، له خطرٌ عظيم" (١) .
والحاجة إلى علوم العربية في علوم الدين كانت هي الدافع لحفظ لغة العرب، وشعرها، وكلامها، وأمثالها، وأنسابها، وسائر علومها، قال أبو حاتم: "ولولا ما بالناس من الحاجة إلى معرفة لغة العرب، والاستعانة بالشعر على العلم بغريب القرآن وأحاديث رسول الله ﷺ، والصحابة، والتابعين، والأئمّة الماضين، لبطل الشعر، وانقرض ذكر الشعراء، ولعفَّى الدّهرُ على آثارهم، ونسي النَّاسُ أيَّامَهم، ولكنّ الحاجة بالمسلمين ماسَّةٌ إلى تعلُّم اللغة العربيّة، ومعاني الألفاظ الغريبة في القرآن والحديث، والأحكام والسُّنن، إذْ كانَ الإسلام قد ظهر - بحمد الله - في جميع أقطار الأرض، وأكثر أهل
_________
(١) أبو حاتم، الزينة ص ٨٦ - ٨٧.
1 / 13
الإسلام من الأمم هم عجمٌ، وقد دعتهمُ الضرورةُ إلى تعلُّم لغة العرب، إذْ كانتِ الأحكام والسُّنن مُبَيَّنةً بلسان العرب " (١) .
ولم تكن هذه الحاجة ظاهرةً في عهد النبوّة وصدر الإسلام، لاستغنائهم بسلائقهم وما يسمعونه من كلام العرب؛ إذ كان الكلام مدركًا مفهومًا، وسنن العرب في كلامها ظاهرة معلومة: "قال أبو عبيدة: إنّما أنزل القرآن بلسانٍ عربى مبين، وتصديق ذلك في آيةٍ من القرآن ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٥] وفي آيةٍ أخرى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤] قال: ولم يحتجِ السلف ولا الّذين أدركوا وحْيَه إلى أن يسألوا النّبيَّ ﷺ عن معانيه؛ لأنّهم كانوا عرب الألسُنِ، فاستغنوا بعلمهم عن معانيه، وعمّا فيه ممّا في كلام العرب مثله من الوجوه والتخليص، قال الزُّهْريُّ: إنّما أخطأَ النّاسُ في كثيرٍ من تأويل القرآن لجهلهم بلغة العرب. قال أبو عبيدٍ: سمعْتُ الأصمعيّ يقولُ: سمعْتُ الخليل بن أحمد يقولُ: سمعْتُ أبا أيُّوبَ السِّخْتياني يقول: عامَّةُ من تزندقَ بالعراق لقلَّةِ علمهم بالعربيّة" (٢) .
وقد قام علماء العربية بواجبهم نحو الدين والقرآن، فجمعوا ما الحاجة داعية إلى جمعه، ودوّنوا ما علوم الشريعة مفتقرة إليه، ونظّموه بطرق تيسّر الوصول إليه، قال أبو حاتم: "ورأينا العلماء باللغة العربيّة قد كفوا النّاسَ مئونة هذا الشأن، وأحكموه إحكامًا بيّنًا، لما دوّنوه من أشعار الشعراء، وألَّفوه من المصنّفاتِ، ووصفوه من الصفات في كُلِّ ما قدروا عليه، ممّا يحتاج النّاس إلى استدراكه، حّتى لعلّه لم تفتهم كلمةٌ غريبةٌ، ولا حرفٌ نادر إلاّ وقد
_________
(١) السابق ص ١٢٣.
(٢) السابق ص ١٢٣ - ١٢٤.
1 / 14
ربطوه بأوثقِ رباطٍ، وعقلوه بأحكم عقالٍ، ورسموا في ذلك رسومًا، وعوّلوا في ذلك كلّه على الشعر، والاحتجاج به، وهذا للغة العرب خصوصًا ليس هو لسائر لُغاتِ الأمم، وذلك كُلُّه لشدّة حاجة الناسِ إلى معرفة لغة العرب، ليصلوا به إلى ما ذكرنا من معاني القرآن والألفاظ الغريبة فيه، وفي أحاديث رسول الله ﷺ والصحابة والتابعين، والأئمة الماضين، وما يجيء في الشريعة من الأسامي في أصول الفرائض والسُّنن، ممّا الجهل به نقص ظاهر على المرء المسلم، وشينٌ فاضح على كُلِّ ذي دين ومروءة " (١) .
وأمّا عامة المسلمين، وطُلاّب القرآن وعلم الشريعة خاصة، فقد أقبلوا على العربية، يتلقّنونها، ويتعلّمون ما فيها من سنن الكلام وطرائقه، وألفاظه ومعانيه، ويتذوّقون وجوه البلاغة فيه والبيان، امتثالًا لأمر من تجب طاعته، ورغبةً في التفقّه في الدين الذي لا يتمّ إلاّ بمعرفة اللغة. قال أبو حاتم: " وقد حثَّ النبي ﷺ أصحابه على تعلُّم اللغة والإعراب، روى أبو عُبيدٍ بإسنادٍ له عن أبي هريرة قال رسول الله ﷺ: "أعربوا القرآن [والتمسوا غرائبه] (٢) .
وعن ابن مسعودٍ قال: "أعربوا القرآن فإنّه عربيٌّ" وقال عمر بن الخطاب: "تعلّموا إعراب القرآن كما تتعلّمون حفظه" وفي حديثٍ آخر قال عمر: "تعلّموا اللَّحْنَ والفرائض والسُّنَّة كما تتعلّمون القرآن"
وعن يحيى بن عتيق قال: "سألت الحَسَن، فقلت: الرَّجُلُ يتعلّم العربيّة يلتمس بها المنطق، ويقيم بها قراءته، فقال الحَسَنُ: فتعلَّمْها، فإنّ الرجل يقرأ الآية، فيعيا بوجهها، فيهلك فيها.
_________
(١) السابق ص ١٣٤.
(٢) السابق ص ١٢٤ وقد عزا المحقّق الحديث إلى ابن أبي شيبة، والحاكم، والبيهقيّ.
1 / 15
فلمّا كان كذلك راضَ الناسُ أنْفُسَهم بتعلُّم العربيّة، ولم يجدوا إلى ذلك سبيلًا أوضح من الشعر، فحفظوا دواوين الشعراء، وأحكموها ... " (١) .
وقد سبق أبو حاتم إلى تقرير الاحتجاج، وأورد قِصَّة ابن عبّاسٍ مع نافع بن الأزرق، فقال: «وقد احتجَّ العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الفقهاء في غريب القرآن والحديث بالشعر، وقد رُوِيَ ذلك عنهم، روى أبو عُبيدةَ بإسنادٍ له عن عكرمة، قال: رأيْتُ ابْنَ عبّاسٍ وعنده نافعٍ ابن الأزرق، وهو يسأله، ويطلب منه الاحتجاجَ باللُّغة، فسأله عن قول الله ﷿ ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ [الانشقاق: ١٧]، فقال: وما جمع، ألم تسمع:
مُسْتَوْسِقاتٍ لو يَجِدْن سائقًا
قال: وسأله عن قوله: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ [مريم: ٢٤] فقال: هو الجدول، فسأله عن الشاهد، فأنشده:
سلمًا ترى الدّالج منه أْزَوَرا ... إذا يَمُجُّ في السَّرِيِّ هَرْهرا
وسأله عن قوله: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ [القلم: ١٣] قال: هو الدَّعِيُّ المُلْصَقُ، أَما سمعْتَ قولَ حَسَّان:
زنيمٌ تداعاه الرِّجال زيادةً ... كما زيد في عرض الأديم الأكارِعُ
وروي عن أبي عبيدة أنّه سأله عن قول الله تعالى ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ [القيامة: ٢٩] فقال: الشِّدَّة بالشِّدَّة، فسأله عن الشاهد، فأنشده:
أخو الحربِ إنْ عَضَّتْ به الحَرْبُ عَضَّها ... وإن شَمَّرتْ عن ساقها الحربُ شَمَّرا
_________
(١) السابق ص ١٢٤ - ١٢٥.
1 / 16
وروى أبو عبيدة أيضًا عن ابن عبّاسٍ أنّه كان يُسْأَلُ عن قول الله تعالى ﴿فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النازعات: ١٤] قال: الأرض، وأنشد لأمية بن أبي الصَّلْت:
وفيها لحم ساهرةٍ وَبحْرِ
وقال أبو عُبيدةَ: يجوز هذا عندي فيما كان من الغريب والإعراب، فأمّا ما كان من الحلال والحرام، والأمر والنّهي، والنّاسخ والمنسوخ، فليس لبشرٍ أن يتكلّم فيه برأيه إلاّ ما فسَّرته سُنَّةُ رسولِ الله ﷺ وقال فيه الصحابة والتابعون بإحسانٍ بعدهم» (١) .
وشيء آخر يدفع الناس إلى طلب العربية، هو حجيّتها، وكونها دليلًا شرعيًا فيما يرجع فيه إلى اللغة عند الخلاف: "إذا كان التنازُعُ في اسم أوصفةٍ، أو شيءٍ ممّا تستعمله العربُ العربُ من سننها في حقيقةٍ ومجاز، وما أشبه ذلك " (٢) .
وقد رتَّب ابن فارسٍ على هذا أن جعل: " العلم بلغة العرب واجبًا على كُلِّ متعلِّقٍ من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتّى لا غناء بأحدٍ منهم عنه، وذلك أنّ القرآن نازلٌ بلغة العرب، ورسول الله ﷺ عربيٌّ، فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جلّ وعزّ وما في سنة رسول الله ﷺ من كل كلمٍ غريب، أو نظمٍ عجيب، لم يجد من العلم باللُّغة
بُدًّا" (٣) .
وهذا يفسِّر عناية ابن فارسٍ وغيره بعلوم العربيّة؛ لأنّهم ربطوها بأصلٍ
_________
(١) السابق ص ٥٠.
(٢) السابق ص ١٣١ - ١٣٣.
(٣) ابن فارس، الصاحبي ص ٤٩.
1 / 17
من الأصول، وهو أنِّ اللغة لا يتمُّ فهم القرآنِ، وتنزيل الأحكام منازلها إلاّ بها، وما لا يتمُّ الواجب إلاّ به فهو واجبٌ، غير أنَّ ابن فارسٍ رفع إبهام كلامه فحدّد مراده بما يجب من علم اللُّغةِ، فقال: "ولسنا نقولُ: إنّ الذي يلزمه من ذلك الإحاطة بكلِّ ما قالته العربُ؛ لأنّ ذلك غير مقدورٍ عليه، ولا يكون إلاّ لنبيّ، كما قلناه أوّلًا، بل الواجِبُ علم أصولِ اللُّغةِ والسُّنن التي بأكثرها نزل القرآن، وجاءت السُّنَّة، فأمّا أن يكلَّف القارئ أو الفقيه أو المحدّث معرفة أوصاف الإبل، وأسماء السباع، ونعوت الأسلحة، وما قالته العربُ في الفلواتِ والفيافي، وما جاء عنهم من شواذّ الأبنية، وغرائب التصريف فلا" (١) .
وقد أكّد ابن فارسٍ قولَه هذا، وربط إتقان العربيّة ومعرفة علومها وسنن العرب في كلامها بالفقه، والفتيا، والقرآن، فقال: "فلذلك قلنا: إنّ علم اللغة كالواجب على أهل العلم؛ لئلاَّ يحيدوا في تأليفهم أو فتياهم عن سنن الاستواء.
وكذلك الحاجة إلى علم العربيّة، فإنّ الإعراب هو الفارقُ بين المعاني، ألا ترى أنَّ القائل إذا قال: ما أَحْسَن زيد، لم يُفْرَقْ بين التعجُّب، والاستفهام، والذَّمِّ، إلاّ بالإعراب، وكذلك إذا قال: (ضربَ أخوك أخانا) و(وجهُكَ وَجْهُ حُرٍّ) و(وَجْهُكَ وَجْهٌ حُرٌّ) . وما أشبه ذلك من الكلام المشتبه وقد روي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلّم أنّه قال: "أعربوا القرآن " (٢) .
وقد عاب ابن فارسٍ المقصّرين في علم العربية، وهم يطلبون العلوم الشرعيّة، وقارن بين أهل عصره المتساهلين في اللحن، وبين سابقيهم
_________
(١) السابق ص ٥٠.
(٢) السابق ص ٥٥.
1 / 18
المجتهدين في إقامة ألسنتهم على طرائق العرب في الكلام فقال: "وقد كان النّاسُ قديمًا يجتنبون اللّحن فيما يكتبونه أو يقرؤونه اجتنابَهُم بعضَ الذُّنوب، فأمّا الآنَ فقد تجوَّزوا حتَّى إنّ المحدِّث يُحدِّث فيلحن، والفقيه يؤلِّف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب؟ وإنّما نحن محدِّثون وفقهاءُ، فهما يُسَرَّان بما يُساءُ به اللَّبيبُ.
ولقد كلّمْتُ بعض من يذهب بنفسه ويراها من فقه الشافعيّ بالرتبة العليا في القياس، فقلت له: ما حقيقة القياس ومعناه؟ ومن أيِّ شيءٍ
هو؟ فقال: ليس عليّ هذا، وإنّما عليَّ إقامة الدّليل على صِحَّتِه.
فقُلِ الآن في رَجُلٍ يروم إقامةَ الدليل على صِحَّةِ شيءٍ لا يعرِفُ معناه، ولا يَدْري ما هو! ونعوذ بالله من سوء الاختيار! " (١) .
وتعظيم علوم العربية من أجل اتصالها بالقرآن وعلوم الشرع مستفيض منتشر، ذائع مشتهر، تجده في كتبٍ متباينة المنزع، مختلفة المشرب، وفي أقوالٍ لعلماء في علوم مختلفة، من تفسيرٍ وحديث، وفقهٍ وأصول، وأدب ولغة، ونحو وبلاغة، كلهم يجمعون على إعلاء شأن العربية، وأنّها ضرورة لمن يتصل بالقرآن وعلومه بسببٍ، ومن ذلك مقولة ياقوتٍ في مقدمة "معجم الأدباء": (هذه أخبار قومٍ عنهم أُخِذ علمُ القرآن المجيد، والحديث المفيد، وبصناعتهم تنالُ الإمارة، وببضاعتهم يستقيم أمر السلطان والوزارة، وبعلمهم يتمُّ الإسلام، وباستنباطهمُ يُعْرَفُ الحلال من الحرام، ألا ترى أنّ القارئ إذا قرأ: ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٣] بالرفع فقد سلك طريقًا من
_________
(١) السابق ص ٥٦.
1 / 19
الصّواب واضحًا، ورَكِبَ منهجًا من الفضل لائحًا، فإنْ كَسَر اللاّمَ من "رسوله" كان كفرًا بحتًا، وجهلًا قُحًّا.
وقد رُوِيَ أنّ أبا عمرو بن العلاء كان يقولُ العِلْمُ العربيَّةِ هو الدِّين بعينه، فبلغ ذلك عبد الله بن المبارك، فقال: صَدقَ؛ لأنِّي رأيت النصارى قد عبدوا المسيح لجهلهم بذلك، قال الله تعالى: "أنا ولَّدتك من مريم وأنت نبيّي" فحسبوه يقولُ: "أنا ولدتك وأنت بُنَيِّي" فبتخفيف اللام وتقديم الباء، وتعويض الضّمّة بالفتحة كفروا" (١) .
ولا يتحقق فهم صحيح للقرآن، والحديث، والفقه، وسائر علوم الشرع إلاّ بتحقُّقِ فهم صحيح للغة: أوضاعها واستعمالاتها، تراكيبها وأبنيتها، معانيها وأساليبها، ولهذا قيل: "سبيل التفسير أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة" (٢) .
وقال أيضًا: "لابُدَّ في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميّين، وهم العربُ الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرفٌ مستمرٌّ، فلا يصحّ العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثمَّ عُرْفٌ، فلا يصحُّ أن يجريَ في فهمها ما لا تعرفُه، وهذا جارٍ في المعاني، والألفاظ، والأساليب ... ولا يستقيم للمتكلِّم في كتاب الله أو سنة رسول الله أن يتكلَّفَ فيهما فوق ما يَسَعُه لسان العرب، وليكن شأنه الاعتناء بما شأنه أن تعتني العرب به،
_________
(١) ياقوت الحموي (ت ٦٢٦ هـ) معجم الأدباء مكتبة عيسى الحلبي، مصر/ ١ / ٥٣ - ٥٤، وانظر كلام ابن المبارك في ١ / ٧١ - ٧٢.
(٢) القاسمي محمد جمال الدين (ت ١٣٣٢ هـ) محاسن التأويل، الناشر عيسى الحلبيّ، ط الأولى، ١٣٧٦ هـ - ١٩٥٧ م ١ / ١٠.
1 / 20