رجل الأربعين :
قد تكون على كثير من الصواب فيما ذكرته من ضرورة النظر إلى الحقائق من مختلف جوانبها، حتى لا يضيع منها جانب لحساب جانب آخر. على أنني لم أرفض الكتاب القديم على إطلاقه؛ فقد ألحقت بعبارتي المذكورة عبارة أقرر فيها: «إن إخراجه واستنفاد الورق والحبر فيه إذا قام إلى جانبه ألف كتاب، مما ينقل إلينا ثمار المدنية الحاضرة والفكر المعاصر لما كان هناك موضع للشكوى ...»
رجل الثمانين :
نعم قرأت لك ذلك، فأعجبني أن تطالب بنسبة صحيحة في عناصر الغذاء الثقافي الذي نقدمه، ولكني عجبت للنسبة الحسابية التي ذكرتها وهي أن يكون مع كل كتاب ننشره عن القدماء، ألف كتاب ننقل بها فكر الحضارة القائمة. إن الأمر يا أخي ليس مرهونا بعدد ما ننشره من هذا ومن ذاك، بل هو مرهون بما «يوحي» إلى القارئ بانطباع يساعده على نسج الشخصية العربية الجديدة التي نريد لها أن تنتشر، وجوهرها أن يكون العربي عربيا قادرا على مواجهة عصره وتحدياته، فإن جاء هذا الإيحاء من قديم أو جاء من حديث فمرحبا به في الحالتين. أما الذي نرفضه - قديما كان أو حديثا - فهو أن يجيء الكتاب عاملا على الهدم وليس عاملا على البناء.
رجل الأربعين :
عفوا سيدي؛ فأخشى أن يفهم الناس من قولك هذا، أنه إذا عبأ المواطن العربي نفسه من مصادر القدماء وحدهم ففي ذلك ما يكفي إذا كانت المادة المحصلة عاملة كلها على بناء الشخصية العربية الجديدة. وإننا لنرى فيمن حولنا - بالفعل - ألوفا، بل عشرات الألوف وربما مئاتها ممن ملئوا حواصلهم من الزاد الموروث، ثم عاشوا في غيبة تامة عما يعج به عصرهم من أفكار وفنون ومشكلات، فتلك عزلة قاتلة، أدت بنا إلى كوارث متلاحقة تكرثنا؛ لأنها تقتحم علينا حياتنا من حيث لا ندري، ومن أين لنا الدراية إذا أغلقنا دون العالم أبوابنا؟ واسمح لي يا سيدي أن أقرأ لك فقرة أوردتها في مقالتي التي ذكرتها، فقد قلت ما يأتي: «إن كل أنواع العزلة شر على الحياة إذا أرادت أن تكون حياة خصبة مليئة، إلا إذا كانت عزلة مؤقتة فيها استعداد لما بعدها. وشر أنواع العزلة جميعا هي العزلة الفكرية عن سائر العالم؛ فليس الفكر طاحونة تدور في الهواء ولا تطحن شيئا، إنما الفكر يدور في بحوث علمية حول موضوع من الطبيعة أو الكيمياء أو عن نبات وحيوان ونفس واجتماع واقتصاد وتجارة وزراعة وصناعة، وعن حرب وسياسة ونظم في الحكم وفي التربية والتعليم وغير ذلك. وفي كل هذه الأمور يكتب المؤلفون من علماء الغرب عشرات الكتب تلو عشراتها بل مئات وألوف تلو مئاتها وألوفها، فهل نترك هذه الأكداس الفكرية كلها لننطوي على أنفسنا في جب مظلم؟ ... إلخ.»
رجل الثمانين :
إذا عدلت من عبارة «جب مظلم» ما يجعلها تشير إلى غرفة غنية بما فيها، لولا أن نوافذها مغلقة وجدتني على استعداد بأن أوقع معك على صدق ما ذهبت إليه.
هكذا مضى الرجلان؛ رجل الثمانين ورجل الأربعين، في حوار حول ما كتبه ابن الأربعين عن نشر التراث القديم، لكنه حوار جرى هينا لينا هادئا، لما كان بين الرجلين من صلة القربى؛ فلم يكن أكبرهما يتجاهل أن رفيقه هو أخوه الأصغر، كلا، ولا كان أصغرهما يستهين بأن محاوره قد أضاف إلى علمه وخبرته حصيلة جمعها خلال أربعين سنة تفصل بينهما، بل إن رجل الثمانين حين قرأ ما كان قد كتبه ابن الأربعين، أحس كأنه يرى شبابه في مرآة فتذكر كم توهجت فيه حرارة الشباب طموحا وقدرة وجرأة ووضوح هدف، لكن ذلك كله لم يعد يشفع له عند أخيه الأكبر تسرعا في الحكم وبصفة خاصة حين يقيم ذلك الحكم على تشبيهات أخاذة بجمال فكرتها وصياغتها معا، لكنها عند منطلق العقل موضع شك في صوابها، ومن ذلك تشبيهان أجراهما الكاتب الأصغر فيما كتبه عن «نشر القديم» وحقا لقد أجراهما بدقة في التصوير وبقلم يعرف كيف يصوغ العبارة وبنى عليها أحكامه، فهل أصابت الأحكام؟ فقد زعم في التشبيه الأول أن الكتاب القديم هو عندنا - نحن المحدثين - أقرب إلى تحفة نعنى بها ونرعاها، منه إلى كتاب نبحث في صفحاته عما ينفع حياتنا الحاضرة ويثريها، ثم راح يبني على هذا التصوير ما يبنيه، فيقول ما معناه إن النسبة بينه - أي الكتاب القديم - وبين المؤلفات التي تحمل علما جديدا ومشاعر جديدة، يجب أن تتوازى مع النسبة بين متحف الآثار - أو متاحفها مهما بلغ عددها - وبين سائر المباني التي يسكنها الناس، ويتاجرون فيها أو يعلمون فيها أبنائهم. إن هذه الأخيرة إنما أقيمت ليعيش فيها الناس، وأما المتحف فيزار للفرجة أو للعبرة. وما دام الأمر كذلك بين قديم وجديد وجب أن تكون هذه هي نفسها النسبة التي نراعيها فيما نحييه من تراث الصلب وبالقياس إلى ما ننقله عن المحدثين أو ما نؤلفه تأليفا جديدا.
وأما التشبيه الثاني فقد أقامه بين موقفنا العاطف إزاء كتاب قديم ننشره وبين موقف عاطف يوازيه، حين يقع أحدنا في خزائن كتبه وأوراقه، على كراسة قديمة كان يكتب فيها موضوعات الإنشاء وهو صغير. إنه لا يمزق الكراسة ولا يلقي بها في سلة المهملات، بل يبتسم لها ابتسامة إشفاق، ويمسح عنها الغبار، ويتخير لها مكانا ملائما في خزائنه، فهل أصاب كاتب الأربعين في التشبيهين من حيث صلاحيتهما لاستخراج الأحكام على حركة إحيائنا لتراثنا العربي؟ إن أصحاب الفكر المنهجي يعلمون أن اللجوء إلى التشبيه منزلق خطير للوقوع في الخطأ؛ إذ يندر جدا أن يكون التطابق كاملا بين المشبه والمشبه به؛ ومن ثم يجيء خطأ النتائج التي نستدلها، ولذلك تراهم يحذرون الباحثين من إقامة التفكير العلمي على تشبيهات.
ناپیژندل شوی مخ