والحديث عن اللغة وصلتها بأصحابها روحا وعقلا وقلبا ووجودا وعدما، حديث يطول، فماذا - إذن - يمكن أن يخرج الناطق بالعربية عن عروبته؟ إن اللغة العربية - كأية لغة أخرى ولا سيما اللغات التي صحبتها حضارات - ليست عند من يحيونها علما وفكرا وأدبا، مجرد أصوات تلغو بها الألسنة والشفاه نسمعها كما نسمع خشخشة الحصى أو كما نسمع زقزقة العصافير، بل هي أنفس وقلوب وعقول تحولت باللغة من باطن إلى ظاهر، فإذا قرأت علما فأنت إنما تطالع «عقلا» توقد في دماغ صاحبه، وقد سلك نفسه في لغة لتراه. وإذا قرأت شعرا، فإنما هذا الذي تقرؤه هو «قلب» الشاعر وقد وضع نبضاته في كلمات لتسمعها. وماذا تكون «العروبة» إذا لم تكن ضروبا من فكر ومن وجدان تجلت بعد خفائها في صدور أصحابها، تجلت في رموز لغوية خلقت لتحملها ولتعرضها على الأبصار والأسماع؟ وفي اللغة العربية - عند تحليلها - صفات تفرعت عن جذع واحد، وهي ما توحي به الصحراء لساكنيها، ليس فقط في اشتقاق أسرة كبيرة من المفردات تشتق كلها من أصل ثلاثي واحد. تماما كما تتكون في المجتمع الصحراوي عشائر وقبائل تلتقي كلها عند جد واحد، بل إن الأثر الصحراوي في اللغة العربية ليظهر كذلك فيما قد أسلفنا ذكره من نزوع نحو هندسة في بناء الجملة، عندما يرتفع الكلام إلى ذروة الفن الأدبي يشف لنا آخر الأمر عن إيقاع يتضمن شيئا يشبه الأشكال الهندسية، أو المعادلات الرياضية، شأن العربي في نزوعه نحو «التجريد» استلهاما للامتناهي الصحراوي الذي يحيط به ما امتد به البصر إلى أبعد الآفاق. أفيجوز بعد هذا لكاتب أو شاعر أن يتنصل من أصول صحراوية هي ماثلة في كل ما قد أجرى به القلم؟
إن كاتب هذه الكلمات ليشعر بما يشعر به كل مصري واع بمصريته، وعيه في الوقت نفسه بعروبته؛ فهو لا يريد لمصريته أن تمحى بعروبته، كما لا يريد لعروبته أن تتنافى مع مصريته. على أنه في هذا الذي يريده لا يرضى لنفسه أن تؤخذ الأحكام قسرا واعتباطا ويلتزم أمام عقله بأن يبحث عن الأسس القوية التي يستند إليها حين يزعم أن عروبة المصري ليست شيئا طارئا جاء إليه مع الفتح العربي في أوائل القرن السابع الميلادي، اللهم إلا اسم العروبة، وأما الجوهر فهو هو الجوهر الذي بنيت عليه ثقافات الرقعة الجغرافية التي هي الوطن العربي الكبير حيث تمتد الصحراء - بكل ما فيها من أقاليم اخضرت بزرعها - فأوحت طبيعة ذلك الامتداد الصحراوي بما أوحت به من رؤية عامة، هي التي أنتجت لغات المنطقة كلها بأصول مشتركة أو متشابهة، كما أنتجت نمطا عاما مشتركا أو متشابها في البنية الاجتماعية وفي الفكر وفي الأدب وفي الفن جميعا. وإن هذا الكاتب ليود - قبل أن يستطرد به الحديث - أن يذكر القارئ بحقيقة عن نفسه ذكرها في حديثه السابق، وهي أنه لبث عقدين من الزمن - أو قل ما يقرب من ثلاثة عقود - متأثرا بما كان قد قرأه شابا لأعلام الفكر في مصر، بأن المصري إذا أراد عودة إلى أصوله الثقافية وجب عليه أن يرتد إلى العصر الفرعوني - وليس إلى الأصل العربي، وكأن الفكرتين متناقضتان - لكنه أعني هذا الكاتب يحمد الله حمدا كثيرا أن أشرقت عليه الحقيقة فيما بعد ناصعة الوضوح، وهي ألا تناقض من حيث الأساس، بين الوقفة الثقافية التي وقفها المصري القديم، والوقفة التي وقفها بعد ذلك في أي عصر من عصور تاريخه، مع تحفظ ضروري وهو أن ثبات الإطار الواحد المعين، لا ينفي أن ينخرط في هذا الإطار الثابت مضمونات حضارية مختلفة.
إنه لا جدال في أن لكل فرد من الناس هويته التي يجب أن يتحقق لها شرطان ليظل ذلك الفرد هو ما هو على مدى سنوات عمره، مهما تغيرت أحداث حياته وتطوراتها، وإذا لم يكن الأمر كذلك - كما هي الحال مع بعض الأمراض النفسية - وجب أن يعرض الأمر على طبيب مختص. وما يقال عن الفرد الواحد من الناس، يقال مثله على الأمم والشعوب؛ فالأمة المعينة - أو الشعب المعين - لم يكن ليصبح ذا تاريخ إلا إذا ظل الشعب على ثبات في هويته - أو ظلت الأمة المعينة على ذلك الثبات - برغم تكاثر الأحداث وتقلبات العصور. وأما الشرطان اللذان يجب أن يتوافرا للهوية لكي تثبت على وحدانيتها فهما: أولا أن تتألف من كثرة عناصرها وحدة تجعل منها كيانا عضويا موحدا في كل لحظة أو في كل فترة من تاريخها، بمعنى أن يكون لها هدف موحد تتجه إليه بمختلف أعضائها ومختلف مناشطها؛ فالهدف الواحد من شأنه أن يستقطب كثرة الأفراد وكثرة العناصر وكثرة المواهب وكثرة الأعمال بحيث يجعل تلك الكثرة العددية نسيجا متصلا. وأما الشرط الثاني فهو استمرارية تلك الوحدة اللحظية على طول الزمن. وما أكثر ما كتبه الفلاسفة في هذين الشرطين؛ شرط الوحدة اللحظية وشرط الاستمرارية والصمود، عندما تناولوا مشكلة الهوية! ولعلها من أعقد المشكلات التي تستعصي على التعريف والتحديد. وإني لأستغفر الله إن كنت أجاوز الحدود المشروعة حين أشير هنا إلى الآيتين الكريمتين الخاصتين بالذات الإلهية وهما
قل هو الله أحد * الله الصمد
ففيهما تتوافر الصفتان اللازمتان لوحدانية الذات؛ فالأحدية تعني اتساق الصفات الإلهية المتمثل بعضها في أسماء الله الحسنى. ولقد كان مما تناوله المفكرون الإسلاميون منذ القرن الثاني الهجري فصاعدا، التوفيق بين كثرة الصفات الإلهية ووحدانية الذات. وأقل ما يقال في هذا السبيل هو أن يكون بين مجموعة الصفات - على اختلافها - تآلف يوحدها في ذات واحدة. على أن يضاف إلى ذلك التوحد «صمود» يجعله توحدا من الأزل إلى الأبد، وذلك كله إنما يتحقق بالنسبة إلى الذات الإلهية على صورة مطلقة لا استثناء فيها، لكنه كذلك مطلوب له أن يتحقق على صورة نسبية ومحدودة في الذات الإنسانية، فردا كان أم كان شعبا أو جماعة يراد لها أن تكون موحدة الكيان.
وهكذا ننظر إلى الشعب المصري في إطاره التاريخي، فنراه من أكثر شعوب الأرض تحقيقا للشرطين اللذين يكفلان للهوية قيامها؛ فقد كان موحد الروح في كل فترة من فترات تاريخه، ثم كان على صمود في وحدته تلك عبر العصور المتعاقبة. ونقول ذلك استنادا إلى آثاره التي تدل على تعاون؛ فأعماله الخالدة من الصنف الذي لا تنجزه يد واحدة. ومع ذلك ففي أمثال هذه التعميمات الواسعة يكفينا رجحان الصواب إذا امتنع اليقين، وأرجح الظن أنه عندما جاء الإسلام إلى مصر فأسلمت، وجاءت العربية فتعرب لسانها، لم يكن انتقالها من القديم إلى الجديد صدمة نفسية ثقافية، بقدر ما كان انتقالا سهلا ميسرا؛ إذ جاءت العقيدة الدينية إلى شعب متدين تدينا مبرأ من الوثنية منذ آلاف السنين ، وكانت اللغة الوافدة من الأسرة اللغوية نفسها التي تسود هذه المنطقة الجغرافية جميعا، مع اختلافات نوعية بين لغة منها ولغة؛ فاللغة المصرية القديمة (ولا أعني الكتابة - الهيروغليفية) قائمة على الأسس التي تقوم عليها اللغات المجاورة (كما قرأت في نتائج الأبحاث العلمية التي اضطلع بها نفر من علماء «المصريات الفرعونية»). إذن فمن الناحية الدينية كان المصري منذ قديم مؤمنا باليوم الآخر وما فيه من حساب، وكانت الأسس الأخلاقية التي يحيا حياته على هداها والتي يحاسب يوم القيامة على ميزانها، هي الأسس التي تتعلق بها المثل العليا. وأما من الناحية اللغوية، التي لها أبلغ الأثر في صياغة العقل والوجدان معا فالتشابه بين القديم والحديث أشد من أن يغض عنه النظر، فإذا قلنا إن «عروبة» المصري إنما أخذت اسمها هذا منذ كانت فيها «عربية» فلا بد أن نضيف إلى هذا القول استدراكا يؤكد أن «مضمون» العروبة الثقافي كان مصريا منذ عرف التاريخ مصر؛ فحضارتها كانت في المقام الأول حضارة دين وأخلاق وفن، تدور جميعا حول فكرة الحياة الآخرة.
على أن ثبات الهوية لحاملها - فردا كان أم شعبا - وهو الثبات الذي نزعمه للمصري، قبل الفتح العربي وبعده، في امتداد واحد متصل، أقول إن ثبات الهوية هذا لا ينفي أن يكون ثباتا في ركائز البناء. وأما ما يقام على هذه الركائز من مضمون حضاري، فلا بد له أن يتغير مع تغير الحضارات، وإلا فلو جمد المضمون مع الركائز على صورة واحدة فلن يكون بمنجاة من فناء كالفناء الذي محيت به فصائل الديناصور. وقد كان لهذا الحيوان القديم من الضخامة ما ينافس به ضخامة الهرم الأكبر زال بسبب تلك الضخامة نفسها، التي لم تعرف كيف تصطنع خفة الحركة عندما جاء عصر جديد يقتضي الحركة الخفيفة السريعة، فذبل المسكين في مربضه وذوى وأصبح في ذمة التاريخ، تاريخ الحيوان.
3
أراد الله لهذه الرقعة المباركة من الأرض، التي أصبحت في عصرنا الراهن يشار إليها باسم «الشرق الأوسط»، أن تكون مهبط الوحي الديني لكل ما عرفه الإنسان من ديانات ينزل وحيها من السماء على نبي أو رسول، ولا بد أن يكون لذلك معناه ومغزاه. وربما كان ذلك كذلك لأنه لبث حينا من الدهر معمورا وحده بحضارات أو ما يشبه البدايات الأولى لقيام الحضارات، أو ربما كان ذلك لأنه - كما أسلفنا القول في أحاديثنا السابقة - رقعة من الأرض نشأت فيها وديان خصبة اخضرت بزرعها وعمرت بأهلها في وسط صحراوي فسيح الأرجاء، يوحي لسكانه بفكرة اللامتناهي الثابت الدائم، مما هيأ هؤلاء لتقبل الوحي الديني من إله واحد أحد صمد لا تحده حدود. وأيا ما كان التعليل، فهذه حقيقة تاريخية نقبلها ونقيم عليها النتائج، وهي أن أبناء هذه الأرض المباركة «تدينوا» بدين منذ فجر التاريخ، لم يكن عن وحي إلى نبي أو رسول حينا، وكان وحيا إلى نبي أو رسول حينا آخر، لكنه كان في كلتا الحالتين يقيم بنيانه على أسس من «الأخلاق» لينضبط بها سلوك الإنسان في هذه الحياة الدنيا، تمهيدا لمحاسبته يوم الحساب في الحياة الآخرة.
فلئن كان عصر الناس هذا قد جعل «العلم» أساسا للبناء الحضاري، ثم تأتي بعده سائر فروع الحياة الثقافية من دين وأدب وفن، وكأنما أتت تلك الفروع كالتوابع لتخدم العلم وتنتسب إليه، فإن الحضارات السابقة، وفي مقدمتها ما ظهر منها في إقليمنا - إقليم الشرق الأوسط - قد جعلت «الدين» (وإذا قلنا «الدين» فقد قلنا «قواعد الأخلاق») أساسا للبناء الحضاري، ويأتي «العلم» بعد ذلك ليؤدي دوره في ذلك البناء، فلما جاء الإسلام، آخر الديانات التي نزلت على نبي ورسول، جعل العلم جزءا من الدين، ولم يعد في الأمر بينهما تابعا ومتبوعا؛ فجزء من دين الإسلام لا يتجزأ، أن يكون المؤمن ذا علم بما حوله من ظواهر الكون، ما أسعفته في ذلك قدراته. ومثل هذا العلم الذي يستهدف عبادة الله سبحانه وتعالى بمعرفة خلقه معرفة تمكن صاحبها من الإلمام - بقدر المستطاع - بمعجزات هذا الخلق. وانظر إلى آيات القرآن الكريم عن «القراءة» كيف تتابع فيها نوعان من «القراءة» التي أصبحت فرضا مفروضا على المسلم وفق قدرته في ذلك؛ فأولى القراءتين قراءة «المخلوق » كما خلقه خالقه سبحانه وتعالى، وليبدأ الإنسان بدراسة نفسه مخلوقا من مخلوقات الله، ليرى معجزة الخلق متمثلا في الإنسان يخلق من علق، فيصبح هو ذلك الإنسان العالم العامل العابد، الكاتب الفنان الصانع الزارع، منشئ الحضارات التي تعمر كوكب الأرض. وأما ثانية القراءتين فهي أيضا عن الإنسان، لكنها هذه المرة متجهة إلى موروث فيما كتب الأولون، يضاف إليه ما أنتجه أبناء الحاضر، ليتلقى أبناء الغد عن ماضيهم كله ما يتلقونه ليضيفوا بدورهم ما يضيفونه من «علم» بالوجود؛ تقول الآيات الكريمة:
ناپیژندل شوی مخ